خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يوما خطبة بعد العصر، فعجب الناس من حسن صفته وما ذكر من تعظيم الله جل جلاله، قال: أبوإسحاق: فقلت للحارث: أوما حفظتها؟ قال: قد كتبتها، فأملاها علينا من كتابه: الحمد لله الذي لايموت، ولاتنقضي عجائبه، لانه كل يوم في شأن من إحداث بديع لم يكن الذي لم يولد فيكون في العز مشاركا، ولم يلد فيكون موروثا هالكا، ولم يقع عليه الاوهام فتقدره شبحا ماثلا ولم تدركه الابصار فيكون بعد انتقالها، حائلا الذي ليست له في أوليته نهاية، ولا في آخريته حد ولاغاية، الذي لم يسبقه وقت، ولم يتقدمه زمان، ولم يتعاوره(تعاور القوم الشئ: تعاطوه وتداولوه والتعاور: الورود على التناوب) زيادة ولانقصان، ولم يوصف بأين ولابمكان الذي بطن من خفيات الامور، وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير، الذي سئلت الانبياء عنه فلم تصفه بحد ولابنقص بل وصفته بأفعاله، ودلت عليه بآياته ولا تستطيع عقول المتفكرين جحده، لان من كانت السماوات والارض فطرته ومافيهن وما بينهن وهو الصانع لهن، فلا مدفع لقدرته الذي بان من الخلق فلا شئ كمثله، الذي خلق الخلق لعبادته وأقدرهم على طاعته بما جعل فيهم، وقطع عذرهم بالحجج، فعن بينة هلك من هلك وعن بينة نجا من نجا، ولله الفضل مبدئا ومعيدا.
ثم إن الله وله الحمد افتتح الكتاب بالحمد لنفسه، وختم أمر الدنيا ومجئالاخرة بالحمد لنفسه، فقال: (وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين)(1).
الحمد لله اللابس الكبرياء بلا تجسد، والمرتدي بالجلال بلا تمثل، والمستوي على العرش بلا زوال، والمتعالي عن الخلق بلا تباعد منهم، القريب منهم بلا ملامسة منه لهم، ليس له حد ينتهي إلى حده، ولا له مثل فيعرف بمثله، ذل من تجبر غيره، وصغر من تكبر دونه، وتواضعت الاشياء لعظمته، وانقادت لسلطانه و عزته، وكلت عن إدراكه طروف العيون، وقصرت دون بلوغ صفته أوهام الخلائق، الاول قبل كل شئ والاخر بعد كل شئ، ولايعد له شئ، الظاهر على كل شئ بالقهر له، والمشاهد لجميع الاماكن بلا انتقال إليها، ولا تلمسه لامسة ولاتحسه حاسة، وهو الذي في السماء إله وفي الارض إله، وهو الحكيم العليم، أتقن ما أراد خلقه من الاشياء كلها بلا مثال سبق إليه، ولا لغوب دخل عليه في خلق ما خلق لديه، ابتدأ ما أراد ابتداءه، وأنشأ ما أراد إنشاءه على ماأراده من الثقلين الجن والانس لتعرف بذلك ربوبيته، وتمكن فيهم طواعيته.
نحمده بجميع محامده كلها على جميع نعمائه كلها، ونستهديه لمراشد امورنا ونعوذ به من سيئات أعمالنا، ونستغفره للذنوب التي سلفت منا، ونشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، بعثه بالحق دالا عليه وهاديا إليه، فهدانا به من الضلالة، واستنقذنا به من الجهالة، من يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما، ونال ثوابا كريما، ومن يعص الله ورسوله فقد خسر خسرانا مبينا، واستحق عذابا أليما، فانجعوا(الانجاع: الافلاح) بما يحق عليكم من السمع والطاعة وإخلاص النصحية وحسن المؤازرة وأعينوا أنفسكم بلزوم الطريقة المستقيمة، وهجر الامور المكروهة، وتعاطوا الحق بينكم، وتعانوا عليه، وخذوا على يدي الظالم السفيه، مروا بالمعروف، وانهو عن المنكر، واعرفوا لذوي الفضل فضلهم، عصمنا الله وإياكم بالهدي، و ثبتنا وإياكم على التقوى، وأستغفر الله لي ولكم.
حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا محمد بن عمر والكاتب، عن محمد بن زياد القلزمي، عن محمد بن أبي زياد الجدي صاحب الصلاة بجدة، قال: حدثني محمد بن يحيى بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يتكلم بهذا الكلام عند المأمون في التوحيد، قال ابن أبي زياد: ورواه لي أيضا أحمد بن عبدالله العلوي مولى لهم وخالا لبعضهم عن القاسم بن أيوب العلوي أن المأمون لما أراد أن يستعمل الرضا عليه السلام على هذا الامر جمع بني هاشم فقال:
إني اريد أن أستعمل الرضا على هذا الامر من بعدي، فحسده بنو هاشم، وقالوا: أتولي رجلا جاهلا ليس له بص بتدبير الخلافقة؟ ! فابعث إليه رجلا ياتنا فترى من جهله ما يستدل به عليه، فبعث إليه فأتاه، فقال له بنو هاشم: ياأبا الحسن اصعد المنبر وانصب لنا علما نعبد اللهه عليه، فصعد عليه السلام المنبر، فقعد مليا لايتكلم مطرقا، ثم انتفض انتفاضة( نفض الثوب: حركة لينتفض، ونفض المكان نظر جميع ما فيه حتى يتعرفه.و نفض الطريق تتبعها ).
واستوى قائما، وحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه وأهل بيته.
ثم قال: أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفة الله توحيده، ونظام توحيد الله تفي الصفات عنه لشهادة العقول أن كل صفة وموصوف مخلوق وشهادة كل مخلوق أن له خالقا ليس بصفة ولا موصوف، وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران، وشهادة الاقتران بالحدث، وشهادة الحدث بالامتناع من الازل الممتنع من الحدث، فليس الله عرف من عرف بالتشبيه ذاته، ولا إياه وحده من اكتنهه ولا حقيقة أصاب من مثله، ولابه صدق من نهاه ولا صمد صمده من أشار إليه ولا إياه عنى من شبهه، ولا له تذلل من بعضه، ولا إياه أراد من توهمه، كل معروف بنفسه مصنوع وكل قائم في سواه معلول، بصنع الله يستدل عليه و بالعقول يعتقد معرفته، وبالفطرة تثبت حجته.
خلق الله حجاب بينه وبينهم ومباينته إياهم مفارقته إنيتهم، وابتداؤه إياهم دليلهم على أن لا ابتداء له لعجز كل مبتدء عن ابتداء غيره، وأدوه إياهم دليل على أن لا أداة فيه لشهادة الادوات بفاقة المتأدين وأسماؤه تعبير، وأفعاله تفهيم، وذاته حقيقة، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه، وغبوره تحديد لما سواه فقد جهل الله من استوصفه، وقد تعداه من اشتمله وقد أخطأه من اكتنهه، ومن قال: كيف فقد شبهه، و من قال: لم فقد علله، ومن قال: متى فقد وقته، ومن قال: فيم فقد ضمنه، ومن قال: إلى م فقدنهاه، ومن قال.
حتى فقد غياه ومن غياه فقد غاياه، ومن غاياه فقد جزأه، ومن جزأه فقد وصفه، ومن وصفه فقد ألحد فيه، لا يتغير الله بانغيار المخلوق، كما لايتحدد بتحديد المحدود، أحد لابتأويل عدد، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، باطن لابمزايلة، مبائن لابمسافة، قريب لابمداناة، لطيف لابتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بحول فكرة مدبر لابحركة، مريد لابهمامة، شاء لابهمة، مدرك لا بمجسة سميع لابآلة، بصير لا بأداة.
لاتصحبه الاوقات، ولاتضمنه الاماكن، ولا تأخذه السنات ولاتحده الصفات، ولاتقيده الادوات سبق الاوقات كونه.
والعدم وجوده، والابتداء أزاله، بتشعيره المشاعر عرف أن لامشعر له وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادته بين الاشياء عرف ان لا ضد له، وبمقارنته بين الامور عرف أن لا قرين له ضاد النور بالظلمة، والجلاية بالبهم، والجسو بالبلل(جسا يجسو جسوا: يبس وصلب.)، والصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلفها، ذلك قوله عزوجل: (ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)(2) ففرق بها بين قبل وبعد ليعلم أن لاقبل له ولا بعد، شاهدة بغرائزها أن لاغريزة لمغرزها، دالة بتفاوتها أن لا تفاوت لمفاوتها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها غيرها له معنى الربوبية إذ لا مربوب وحقيقة الالهية إذ لا مألوه ومعنى العالم ولا معلوم، ومعنى الخالق ولا مخلوق، وتأويل السمع ولا مسموع ليس منذ خلق استحق معنى الخالق، ولا باحداثه البرايا استفاد معنى البارئية كيف ولا تغيبه مذ، ولا تدنيه قد، ولا تحجبه لعل، ولا توقته متى، ولا تشمله حين، ولا تقارنه مع، إنما تحد الادوات أنفسها، وتشير الالة إلى نظائرها وفي الاشياء يوجد فعالها منعتها منذ القدمة، وحمتها قد الازلية، وجبتها لولا التكملة افترقت فدلت على مفرقها، وتباينت فأعربت من مباينها لما تجلى صانعها للعقول وبها احتجب عن الرؤية، وإليها تحاكم الاوهام، وفيها اثبت غيره ومنها انيط الدليل وبها عرفها الاقرار، وبالعقول يعتقد التصديق بالله، وبالاقرار يكمل الايمان به، ولا ديانة إلا بعد المعرفة ولا معرفة إلابالاخلاص، ولا إخلاص مع التشبيه، ولا نفي مع إثبات الصفات للتشبية فكل مافي الخلق لا يوجد في خالقه، وكل ما يمكن فيه يمتنع من صانعه، لا تجري عليه الحركة والسكون، وكيف يجري عليه ماهو أجراه، أو يعود إليه ما هو ابتدأه إذا لتفاوتت ذاته، ولتجز أكنهه، ولا متنع من الازل معناه، ولما كان للبارئ معنى غير المبروء، و لوحد له وراء إذا حد له أمام، ولو التمس له التمام إذا لزمه النقصان، كيف يستحق الازل من لا يمتنع من الحدث، وكيف ينشئ الاشياء من لا يمتنع من الانشاء، إذا لقامت فيه آية المصنوع، ولتحول دليلا بعدما كان مدلولا عليه، ليس في محال القول حجةولا في المسألة عنه جواب، ولا في معناه له تعظيم، ولا في إبانته عن الخلق ضيم، إلا بامتناع الازلي أن يثنى وما لابدأ له أن يبدأ، لا إله إلا الله العلي العظيم، كذب العادلون بالله، وضلوا ضلالا بعيدا، وخسروا خسرانا مبينا، وصلى الله على محمد النبي وآله الطيبين الطاهرين.
المصادر :
بتصرف من کتاب التوحيد للشيخ الصدوق المتوفي سنة 381
1- الزمر: 75.
2- الذاريات: 49
/ج