مفهوم البداء



 

التوحيد قاعدة الإسلام والأساس الّذي تشاد عليه أبنية الفكر والمعرفة والتشريع وقيم الحياة؛ لذا كانت معرفة التوحيد ودراسة مفرداته من أهم مباحث المعرفة في الفكر الإسلامي، ومن أُولى واجبات الإنسان المسلم.
ومن الواضح أن الأساس التوحيدي يتلخص في الإيمان بأن الله واحد أحد له الأسماء الحسنى، منزّه عن النقص متّصف بصفات الكمال من العلم، والقدرة،والإرادة، وغيرها من صفاته المقدسة.
ومن المباحث ذات العلاقة بالفكر التوحيدي هو مفهوم البَداء.
لقد كثر الجدل والحوار حول هذا المفهوم وأُسيء فهمه كمصطلح، ووظِّفت إساءة الفهم كأداة مستَغَلة لإحداث الفرقة والخلاف بين المسلمين، فأصبح من اللازم تجليته للقرّاء، وإيضاح أصله ومحتواه وازالة ما لابسه من غموض وتشويه.
إنّ من المسائل الفكريّة التي أُثير حولها الجدل والحوار بين الفكر الإسلامي الأصيل، والفكر الهيودي المحرّف هي مسألة إمكانية حدوث النسخ في الشرائع الإلهية، سواء باستبدال شريعة مكان شريعة اُخرى، أو باستبدال حكم مكان حكم آخر في الشريعة ذاتها.
وكما وقع الخلاف في مسألة النسخ والتبديل في التشريع والأحكام، وقع الجدال أيضاً في قدرة الله تعالى على التغيير والتبديل في عالم التكوين والخلائق.
فهاتان مسألتان عقيديتان، مسألة النسخ التشريعي والنسخ التكويني (البَداء)، قد دار الحوار والجدل فيهما بين الفكر اليهودي المحرّف، وبين ما جاء به القرآن ونطق به الرسول الأمين (صلى الله عليه وآله) من أن النسخ في الشرائع هو سنّة إلهية، وأنّ التغيير والتبديل في الأحكام ظاهرة طبيعية في الشرائع، كما أنّ التغيير والتبديل كائن في عالم الخلق والتكوين الذي سمي ب (البَداء).
إستُعمل مصطلح (البَداء) في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) للدفاع عن الفهم الإسلامي مقابل الفهم اليهودي، والفكر الفلسفي المتأثر بالفلسفة اليونانية وبعض المدارس الكلامية كمدرسة المعتزلة.
أثار هذا المصطلح شبهة فكرية عقيدية لدى البعض من الكتّاب، وأصحاب الآراء والمذاهب العقيدية في الصف الإسلامي، ولم تقف حدود هذه الشبهة عند الاستفهام والمناقشة والرد العلمي، بل أُسيء فهم المصطلح، واُضيفت إلى إساءة الفهم تصورات ناشئة عن روح الخلاف والمواجهة القَبْلية بين هذه المدرسة وبين مدارس فكريّة اُخرى.
ففُهِم القول بالبداء بأنه قول بتغيّر علم الله لخفاء المصالح عليه، وبالتالي نسبة الجهل إليه سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.
وهكذا تدخّل النزاع والخلاف في تشويه الحقيقة، وتحويل الموقف من خلاف بين الفكر الإسلامي الذي قاده أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وبين الفهم اليهودي المحرّف وبعض الاتجاهات الفلسفية والكلامية المنحرفة إلى تهمة فكريّة تلصق بأتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وفهمها لهذه المسألة.
ولإيضاح هذه المفردة العقيدية، وبيان الفهم التوحيدي في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام). نعرّف، ولو بإيجاز، بمعنى البَداء ونشأته كمصطلح ونتتبّع نسبته الى الله في مصادر الفكر الإسلامي ودراسات العلماء الإسلاميين.
البَداء في اللغة:
بدا الشيء بَدْواً: أي ظهر ظهوراً، قال الله تعالى: {... وَبَدا لَهم مِّنَ اللهِ مَا لَم يَكُونُواْ يَحتسِبُونَ} (1).
«البَداء: ظهور الرأي بعد أن لم يكن، واستصواب شيء عُلِمَ بعد أن لم يعلم. ويقال بَدا لي في هذا الأمر بَداء، أي ظَهر لي فيه رأي آخر» (2).
البَداء في الاصطلاح:
لقد نقل الشارع المقدس ألفاظاً لغوية كثيرة منمعانيها المستعملة فيها عند العرب الى معانٍ اُخر تدل علي مسميات اُخرى، كلفظ الصلاة الذي يدل في لغة العرب على مطلق الدعاء، فاستعمله الشارع في معنى خاص كاسم للعبادة الإسلامية المعروفة، فصار يدل عند الاطلاق على تلك العبادة دون المعنى الّذي وضع له. ومثله لفظ الزكاة الذي يعني في اللغة الطهارة والنماء فاستعمله الشارع اسماً للفريضة المالية المعروفة لما فيها من الطهارة والنماء للمال والنفس.
ولفظ البداء هو أحد هذه المصطلحات الشرعية الّتي استعملها الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله) لتدلّ على معنى معبر عن مقصود إسلامي خاص يختلف في بعض جوانبه عن الاستعمال اللغوي لهذا اللفظ، وسيتضح لدينا ذلك من خلال قراءتنا للحديثين النبويّين الشريفين اللذين أوردناهما في هذا البحث.
وتأسيساً على الاستعمال النبويّ لمصطلح البداء ولما استفيد من معانٍ قرآنية نبوية كثيرة دخل مصطلح البداء في الفكر الإسلامي، وكثر استعماله وتداوله فيما ورد عن أئمة أهل البيت وعلماء مدرستهم.
ولنقرأ بياناً للشيخ المفيد وهو يوضح المعنى الاصطلاحي للبداء ومسوغات استعماله كمصطلح للفكر التوحيدي.
قال: «أقول في معنى البَداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النّسخ وأمثاله من الإِفقار بعد الإغناء والإِمراض بعد الإِعفاء والإِماتة بعد الإِحياء وما يذهب إليه أهل العدل خاصة من الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها بالأعمال. فأما إطلاق لفظ البداء فإنما صرت إليه بالسمع الوارد عن الوسائط بين العباد وبين الله (عزّ وجلّ)، ولو لم يرد به سمع أعلم صحته ما استجزت اطلاقه كما أنه لو لم يرد عليّ سمع بأنّ الله تعالى يغضب ويرضى ويحب ويعجب لما أطلقت ذلك
عليه سبحانه، ولكنه لمّا جاء السمع به صرت إليه على المعاني التي لا تأباها العقول، وليس بيني وبين كافة المسلمين في هذا الباب خلاف، وإنما خالف من خالفهم في اللفظ دون ما سواه، وقد أوضحت من علّتي في إطلاقه بما يقصر معه الكلام، وهذا مذهب الإمامية بأسرها، وكل من فارقها في المذهب ينكره على ما وصفت من الاسم دون المعنى ولا يرضاه» (3).
المصادر :
1- سورة الزمر: آية 47.
2- المعجم الوسيط.
3- الشيخ المفيد / أوائل المقالات: ص 92 - 93.