مکارم الشیرازی

ناصر

Saturday, April 12, 2014
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
ناصر

ولد سماحة آیة الله العظمى مکارم الشیرازی فی عام 1305 هجری شمسی فی مدینة شیراز ،وفی أسرة متدینة تتحلى بمکارم الأخلاق، وتعرف بالفضیلة .

فقد کان جدّه الأکبر «الحاج محمد باقر» من تجار مدینة شیراز حیث کان یشتغل بالتجارة فی محلة «سرای نو» فی شیراز وکان یرتدی لباساً شبیهاً بلباس رجال الدین ویشارک باستمرار فی صلاة الجماعة فی مسجد «مولای» فی شیراز حیث کان یتمتع باحترام کبیر من قِبل الناس، وکان جدّه سماحة الاستاذ المرحوم «الحاج محمد کریم» (ابن محمد باقر) یرتدی العمامة أیضاً، ولکنّه فی أثناء عمله فی السوق کان یلبس قبعة على رأسه، وقد اشتغل موظفاً أیضاً فی «سوق الجمارک» فی شیراز ثم فی «سوق وکیل» کتاجر فی مدینة شیراز، وکان ملتزماً بالاشتراک فی صلاة الجماعة فی مسجد «مولای» فی شیراز وکانت له علاقة وطیدة بالمرحوم أیة الله العظمى الحاج الشیخ محمد جعفر المحلاتی(رحمه الله) (والد المرحوم أیة الله العظمى الحاج الشیخ بهاء الدین المحلاتی) وکذلک کانت له علاقة بآیة الله الحاج السید محمد جعفر الطاهری(رحمه الله).
ویتحدث الاستاذ عن هذه العلاقة بالقول:
«کان جدّی الحاج محمد کریم مکارم، رجلاً متدیناً، وکان لی من العمر أربع سنوات عندما جاء الخبر بوفاته فی الحمام العمومی بالسکتة، وأتذکر تلک الفترة جیداً وما کان یحوطنی به من رعایة ومحبّة فی زمان حیاته، وکانت جدّتی لا تعرف القراءة والکتابة ظاهراً ولکنّها على درجة عالیة من الذکاء وقوّة الحافظة، حیث کانت تذهب باستمرار إلى مجالس الوعظ وتستمع إلى أصحاب المنبر وتحفظ ما یقولونه، وعندما تعود إلى البیت تحدثنی بما سمعته من الأحادیث والروایات الشریفة من أصحاب المنبر، وکنت أحفظ مقداراً کبیراً منها منذ أیّام الطفولة بسبب علاقتی العاطفیة الشدیدة معها، فکنت أسمع منها قصص الأنبیاء والأولیاء، وتدریجیاً أصبحت علاقتی شدیدة بالمسائل الدینیة، وکانت جدّتی على اطلاع کبیر بمسائل الطب القدیم وتتحدث معی عنها، بینما کان جدّی الأکبر الحاج محمد باقر الذی لم أره فی حیاتی رجلاً متدیناً ومحبّاً لأهل البیت(علیهم السلام)وللتشیع، وفی الجملة کانت اُسرتی عاشقة لأهل البیت(علیهم السلام( ومتعاطفة بشدّة مع مذهب التشیع رغم کون جدّی ووالده لیسوا من رجال الدین ولا من أبناء الروحانیین.
وأتذکر جیداً أنّ جدّتی کانت تأخذنی دائماً إلى المسجد، وهکذا تعلمت الذهاب إلى المسجد منذ الطفولة، وعندما کان لی من العمر ثمان سنوان کنت أذهب إلى مجالس الوعظ والإرشاد وکنت أشعر بلذة کبیرة فی الاستماع إلى المواضیع الدینیة».
وکذلک یقول الاستاذ:
«کان والدی له علاقة شدیدة بتلاوة القرآن الکریم، فمنذ دخولی إلى المدرسة الابتدائیة کان یدعونی أحیاناً إلى غرفته فی بعض اللیالی ویقول لی: یا ناصر، اقرأ لی من کتاب الآیات المنتخبة وترجمتها «وهذا الکتاب عبارة عن مجموعة من الآیات الکریمة التی اختارها بعض العلماء لغرض تدریسها فی المدارس الدینیة فی زمان الشاه رضا خان» وکنت بدوری أقرأ هذه الآیات وترجمتها له وکان یسرّ بذلک کثیراً».

إنّ نبوغ سماحة الاستاذ کان مشهوداً منذ الطفولة وکان یتجلّى على شخصیته أکثر فأکثر طیلة مراحل عمره الشریف.

أقدم قضیة فی الذاکرة
ویحدثنا سماحة الاستاذ عن قضیة تمتد إلى مرحلة الطفولة ویقول:
«إنّ أقدم ما أتذکره من طفولتی هو ما یتعلق بمرضی فی ذلک الوقت حیث أتذکر أننی مرضت مرضاً خفیفاً ونمت فی المهد، وکان الفصل شتاءً وکان سریری یقع فی زاویة من باحة البیت، وفی وسط الباحة هناک حوض نملؤه من ماء البِئر، ولکن بما أنّ ماء الحوض قد تنجس ولم یمکن تطهیره بماء الدلو الذی یستخرج من البئر، وکان حل هذا المشکل أن یتمّ افراغ بعض ماء الحوض ثم یملاؤون ظرفاً کبیراً من الجلد یدعى بالکر «وهو بمقدار کر واقعاً» ثم یتمّ افراغه فی الحوض لیختلط ماؤه بماء الحوض ویطهر الجمیع «وبالطبع فاننی أفهم الحالة هذه ولکننی فی ذلک الوقت کنت اذکرها بصورة ضبابیة» وأخیراً تمّ مل الظرف الجلدی بالماء من البئر وأفرغوه فی الحوض فامتلأ الحوض بالماء وفاض من جوانبه وجرى الماء إلى تحت سریری وکنت أرى کل هذه الاُمور وثبتت فی خاطری بحیث أننی أتذکرها جیداً وکأنّ القضیة حدثت بالأمس».
هذه الواقعة تذکرنا بالقصص والاساطیر لنوابغ من أمثال ابن سینا، وتدلّ بوضوح على وجود نبوغ غیر طبیعی لدى سماحة الاستاذ.

 

الدروس الطفرویة
وقد أشار کذلک سماحة الاستاذ إلى الدروس التی کان یحضرها بشکل قفزات إلى الأمام ویقول:
«عندما کان لی من العمر أربع أو خمس سنوات کنت أذهب إلى المدرسة الابتدائیة، وبما أنّ سنی لم یکن یسمح لی بالدراسة الرسمیة، لذلک کنت أشترک فی دروس مقدّماتیة فی مدرسة تدعى «زینة» فی شیراز، ولکننی فی نفس تلک الدروس کنت أستوعب التعلیمات بصورة جیدة ولذلک تمّ ارتقائی إلى دروس أعلى بدون مراعاة سلسلة المراتب المفروضة».

 

بدایة الدروس الدینیة
هذا النبوغ غیر العادی تجلى أکثر فأکثر بعد الانتهاء من مرحلة الدراسة الابتدائیة والمتوسطة وبعد سقوط رضا شاه والانفتاح والانفراج النسبی حیث تمّ ارسال دعوة من قِبل أحد علماء شیراز الکبار «وهو المرحوم آیة الله الحاج السید نورالدین الشیرازی» لجمیع الراغبین فی تحصیل العلوم الدینیة «وکان سماحة الاستاذ فی الصف الثالث للمرحلة الاعدادیة أو الثانویة وفی نفس الوقت یشترک بهذه الدروس الدینیة بشوق کبیر إلى جانب دروس الثانویة». ویقول الاستاذ:
«فی المرحلة التالیة دخلت مدرسة «خان» فی شیراز وکانت من المدارس القدیمة والکبیرة جدّاً وکانت محل تدریس وتحصیل الفیلسوف الکبیر صدر المتألهین الشیرازی، بدأت بدراسة جامع المقدمات وشرح الأمثلة وکان استاذی فیها المرحوم ربانی الشیرازی، وقلت له إننی لا أمتلک کتاب جامع المقدمات فلو أنّک أعرتنی هذا الکتاب لیوم واحد لأقرأه وأقرأ کذلک الأمثلة وشرح الأمثلة وأتقدم للامتحان، فقدم لی الکتاب وبدأت بقراءته جمیع ساعات اللیل والنهار وتوجهت إلى الامتحان فی الغد ونجحت فیه وتمّ ارتقائی لمرحلة أعلى فودعته واشترکت فی صف آخر».

 

مسیرة عشر سنوات من التحصیل بأربع سنوات
إنّ ذروة هذا النبوغ للاستاذ تجلّت بصورة أکبر عندما تحرک بخطوات واسعة فی التحصیل العلمی فی الحوزات الدینیة بحیث إنّ ما کان یستغرق من الطالب عشر سنوات من
الدراسة فی الحوزة قد اختزله الاستاذ بأربع سنوات، فعندما کان عمره عند ذلک سبع عشرة سنة کان یکتب حاشیة على متن کفایة الاصول للمرحوم الآخوند الخراسانی، ویقول الاستاذ فی هذا الصدد:
«کنت قد شرعت بالدراسة الحوزویة على ید استاذی الهمام «آیة الله موحد» من أول کتاب السیوطی إلى آخر الکفایة بمدّة أربع سنوات، هذه الدروس التی تستغرق الآن فی الحوزات العلمیة مدّة عشر سنوات، وعندما أتممت درس الکفایة کان لی من العمر سبع عشرة سنة وکنت فی شیراز حینما بدأت بکتابة حاشیة مضغوطة على الکفایة، وأذکر هذه الملاحظة الشیقة وهی أننی بعد اتمام جامع المقدمات فی مدرسة خان جاء المرحوم آیة الله موحد یوماً إلى دکان والدی، وکان الفصل فصل الصیف حیث کنت اشتغل فی دکان والدی الذی کان یعمل فی حیاکة الجوارب، فالتفت إلى والدی وقال له بما مضمونه:
ـ کم ولد لک؟
ـ أربعة أولاد.
فقال له الشیخ موحد: تعال واجعل هذا الولد (ناصر) وقفاً للإمام صاحب الزمان(علیه السلام)، فقبل والدی بالرغم من أننی کنت اُساعده فی کثیر من اُمور المتجر، وبذلک أرسلنی مع الشیخ موحد إلى الحوزة العلمیة فی مدرسة آقاى بابا خان».

 

اتمام الصمدیة فی أقل من یومین
ومن عجائب وقاع ذلک الزمان ما تحدث به سماحة الاستاذ حیث قال:
«فی أحد الأیّام سألنی استاذی عن العبارة المعروفة فی کتاب «الصمدیة» (والمبرد إن کان کالخلیل فکالخلیل وإلاّ فکیونس وإلاّ فکالبدل»، وأوصانی بحلّ هذا الإشکال، ولم أکن قرأت کتاب الصمدیة من بین کتاب جامع المقدمات إلى ذلک الوقت فی حین أنّ هذا الکتاب یعتبر من أصعب کتب جامع المقدمات، فعزمت على حلّ الإشکال بمطالعة الصمدیة وانتهیت من مطالعته فی أقل من یومین (36 ساعة) واستطعت أن اُجیب عن سؤال الاستاذ وشرحت له عن قراءتی للکتاب، فتعجّب کثیراً وشوقنی».
إنّ هذا التوهّج وصل إلى الذروة عندما نرى شاباً فی السابعة عشرة أو التاسعة عشرة من العمر یشترک فی درس شیخ الفقهاء واستاذ الاساتذة المرحوم آیة الله العظمى السید البروجردی(قدس سره).
وعندما بلغ من العمر الثامنة عشرة توجه إلى مدینة إصفهان لإدامة تحصیله العلمی، وهناک مضافاً إلى استمراره بتلقی دروس الفقه والاصول والفلسفة والریاضیات قام بتشکیل حوزة تدریسیة بنفسه، ثم إنّه توجه فی سنة 1319 هـ ق إلى النجف الأشرف وحضر فی درس الاُصول للعالم الکبیر الآخوند الخراسانی(رحمه الله)حیث لفت نظر إستاذه الکبیر إلیه.
وبعد أن بقی السید البروجردی مدّة تسع سنوات فی النجف الأشرف عاد إلى ایران وبقی فی مدینة بروجرد مدّة ست وثلاثین سنة مشتغلاً بالنشاطات العلمیة والثقافیة فیها.
ثم إنّ السید البروجردی مرض عام 1323 هـ ش وتوجه إلى طهران لطلب العلاج وبعد أن تحسنت حاله قام ـ بدعوة من أکابر علماء الفضلاء والحوزة العلمیة فی قم ـ بالتوجه إلى هذه المدینة وبتدریس الفقه والاصول فی حوزتها العلمیة حیث تزعم منصب المرجع الأعلى للشیعة فی ذلک الوقت وتخرج على یدیه الکثیر من الطلاّب والمجتهدین واستطاع أن یقدّم خدمات دینیة وثقافیة کثیرة للشیعة، ومن الخصوصیات المعنویة البارزة للسید البروجردی: الإخلاص والتوکل على الله تعالى، حیث ینقل الشهید المطهری هذه الواقعة التی تتحدث بوضوح عن هذه الخصوصیة فی سماحته:
«کان سماحته یتوجه فی فصل الصیف (وکان حدیث العهد بالإقامة فی مدینة قم) إلى زیارة مدینة مشهد، وینقل أحد مراجع التقلید المعاصرین عنه أنّه أبدى عزمه فی جلسة خاصة على التوجه إلى مشهد، ونحن بدرونا قمنا بتشکیل جلسة فی غیابه للمشاورة فی ذلک ولم نر الصلاح فی ذهابه إلى مشهد وکنّا نتصور أنّه وبسبب کونه جدید العهد بمدینة قم أنّ الناس فی ایران وطهران ومشهد لا یعرفون سماحته بصورة جیدة وبالتالی ربّما لا یکون هناک استقبال جید ولائق له فی مشهد، ومن هنا قررنا أن نصرفه عن السفر إلى مشهد بذریعة أنّه قد أجرى حدیثاً عملیة جراحیة جدیدة وأعذار اُخرى.
فی جلسة اُخرى کرر سماحته رغبته فی السفر إلى مشهد، ونحن بدورنا ذکرنا له ذرائع مختلفة لنصرفه عن هذا السفر، ولکن أحد حضّار المجلس أظهر ما کنّا نخفیه فی نفوسنا وفهم السید البروجردی مقصود نا الأصلی من مخالفتنا لهذا السفر، وفجأة تغیرت سحنته وخاطبنا بلحن جدّی ومؤثر:
«لقد منحنی الله تعالى من العمر سبعین سنة، وقد تفضّل علیَّ طیلة هذه المدّة بفضائل ونِعم کثیرة لم یکن لی أی تدبیر فیها، وقد سعیت طیلة هذه المدّة أن أفهم وظیفتی الشرعیة وأعمل بها، والآن وقد بلغت سبعین سنة لا أجد مناسباً أن اُفکر فی نفسی وفی شؤونی الخاصة». (الامدادات الغیبیة فی حیاة البشر; ص 76، بتصرف قلیل).

درجة الاجتهاد
إنّ هذا النبوغ والذکاء الخارق مع جملة من الصفات والخصوصیات فی شخصیة الاستاذ أدّى إلى أن یحصل الاستاذ على إجازة الاجتهاد وهو فی سن الرابعة والعشرین من العمر:
ویتحدث الاستاذ لنا عن ذلک بقوله:
«بعد مجیئی إلى النجف الأشرف ومن خلال مشارکتی فی بحوث الخارج للأساتذة الکبار فی حوزة النجف وطرح أسئلة متعددة أصبحت یشار إلیّ بالبنان واهتم الأساتذة والعلماء بی ومنحونی حبّهم ورعایتهم بحیث إننی استطعت أن أحصل على إجازة الاجتهاد فی سن الرابعة والعشرین من عمری من مرجعین کبیرین فی ذلک الوقت، أحدهما: آیة الله العظمى الاصطهباناتی الذی یعد من المراجع الکبار ویعتبر شیخ الفقهاء فی ذلک الوقت، وقد بذل لی رعایته ولطفه کثیراً ولذلک کتب لی الاجازة بالاجتهاد الکامل، والآخر آیة الله العظمى الحاج الشیخ محمد حسین کاشف الغطاء، وبما أنّه لم یکن على اطلاع بحالی وتحصیلی الدراسی طلب أن یمتحننی، فقبلت ذلک، فطلب منی أن أکتب له رسالة فی مسألة: هل أنّ التیمم مبیح للصلاة أو رافع للحدث؟ فکتبت له رسالة مفصّلة فی هذا الموضوع وعرضتها علیه، ومضافاً إلى ذلک أجرى لی الشیخ کاشف الغطاء امتحاناً شفویاً أیضاً وسألنی عن أعقد مسألة من مسائل العلم الإجمالی، فعندما أجبته عنها کتب لی إجازة الاجتهاد ومنحنی کل الحبّ والرعایة».
من الاُمور التی تشهد على وجود هذا النبوغ والموهبة الذاتیة لسماحة الاستاذ «وفی نفس الوقت تعتبر شاهداً على الحافظة القویة له» هو أنّ الاستاذ أحیاناً کان یکتب درس آیة الله العظمى السید الخوئی وهو فی النجف الأشرف بعد مضی اسبوعین من تلقی الدرس، فی حین أننا نرى فی هذا العصر أنّ أغلب الطلاب یکتبون درس الاستاذ فی مکان الدرس حتى لا تفلت منهم ملاحظة أو ینسوا شیئاً منه.

تقریظ آیة الله العظمى السید الحکیم(قدس سره)
وفی آخر قصّة یحدثنا سماحة الاستاذ عن حوزة النجف الأشرف، وهی شاهد آخر على نبوغ الاستاذ وبلوغه أوج النضج العلمی، هو ما تفضّل به صاحب مستمسک العروة الوثقى المرحوم آیة الله العظمى السید الحکیم الذی یعد من أساطین فقهاء الشیعة حیث کتب لسماحة الاستاذ تقریظاً وثناءً جمیلاً فی حاشیة دفتر کتاب الطهارة «وهو تقریظ بحث الخارج للفقه للسید الحکیم وبقلم الاستاذ» فقد کتب السید الحکیم ما هذا نصّه:
«بسم الله الرحمن الرحیم وله الحمد والصلاة والسلام على رسوله وآله الطاهرین، قد نظرت فی بعض مواضع هذا التقریر بمقدار ما سمح به الوقت فوجدته متقناً غایة الاتقان ببیان رائق وأسلوب فائق یدلّ على نضوج فی الفکر وتوقّد فی القریحة واعتدال فی السلیقة فشکرت الله سبحانه أهل الشکر على توفیقه لجناب العلاّمة المهذّب الزکی الألمعی الشیخ ناصر الشیرازی سلّمه الله تعالى ودعوته سبحانه أن یسدّده ویرفعه إلى المقام العالی فی العلم والعمل، إنّه ولیّ التسدید وهو حسبنا ونعم الوکیل والحمد لله ربّ العالمین».


محسن الطباطبائی الحکیم
9 / ج1 / 1370 هـ ق

 

خلق الاعتماد لدى الاستاذ

إنّ من جملة الاُمور التی تلعب دوراً أساسیاً (ولعله من أهم الاُمور) فی تکوین شخصیة الطالب ورجل الدین بشکل عام هو السعی لنیل اعتماد الاستاذ وبالتالی کسب محبّته وعطفه الأبوی، بید أنّ أجواء المحافل الدراسیة فی الحوزات التعلیمیة سواء على مستوى الجامعات أوالحوزة ملیء بمعالم الحسد وأشکال التنافس السلبی بین الأفراد ممّا یؤدّی إلى تزریق روحیة الیأس والشعور بالتخلّف عن القافلة فی نفسیة الطالب وبالتالی ینتج أنواع الکآبة والکسل الفکری.
وأهم عامل بإمکانه القضاء على هذه الاُمور السلبیة ویبعث فی الإنسان روح الأمل والتقدم العلمی هو تشویق الاستاذ ونفخه روح الاعتماد على الذات وقوّة الشخصیة لدى الطالب، إنّ أذکى طالب إذا لم یتحرک فی دراسته فی أجواء سلیمة وحول محور الاستاذ المبدع والمتخلّق بالأخلاق الإسلامیة، وما لم یتخلص من عنصر (الأنانیة) والتحرر المطلق من أجواء الدرس والتربیة الأخلاقیة فانّ ذلک من شأنه أن یجر الطالب إلى منزلقات خطیرة وطموحات وهمیة وادّعاءات عجیبة وغریبة.
القلیل من الأشخاص الذین یعیشون الحرمان من عطف الاساتذة وبتعبیر آخر لم یتربوا فی أجواء نورانیة على ید معلمین ربانیین، ومع ذلک لم یواجهوا مشاکل فکریة ونفسیة وحرکة الحیاة والواقع الاجتماعی.

آیة الله الاصطهباناتی وکاشف الغطاء
وعلى أیّة حال فانّ الموهبة الاُخرى التی کان یعیشها سماحة الاستاذ هو أنّه کان منذ بدایة شبابه مورداً لألطاف أساتذته وتشویقهم، والشاهد على ذلک ما تقدّم من حکایة فی الفصل الثانی «النبوغ والقابلیة الذاتیة» تحت عنوان «درجة الاجتهاد» ونجد من المناسب إعادة هذه الحکایة:
«بعد مجیئی إلى النجف الأشرف ومن خلال مشارکتی بحوث الخارج للاساتذة الکبار فی حوزة النجف وطرح أسئلة متعددة أصبحت یشار إلیّ بالبنان واهتم الاساتذة والعلماء بی ومنحونی حبّهم ورعایتهم بحیث أننی استطعت أن أحصل على إجازة الاجتهاد فی سن الرابعة والعشرین من عمری من مرجعین کبیرین فی ذلک الوقت: أحدهما: آیة الله العظمى الاصطهباناتی الذی یعد من المراجع الکبار ویعتبر شیخ الفقهاء فی ذلک الوقت، وقد بذل لی رعایته ولطفه کثیراً ولذلک کتب لی الاجازة بالاجتهاد الکامل، والآخر آیة الله العظمى الحاج الشیخ محمد حسین کاشف الغطاء، وبما أنّه لم یکن على اطلاع بحالی وتحصیلی الدراسی طلب أن یمتحننی، فقبلت ذلک، فطلب منی أن أکتب له رسالة فی مسألة: «هل أنّ التیمم مبیح للصلاة أو رافع للحدث؟» فکتبت له رسالة مفصّلة فی هذا الموضوع وعرضتها علیه، ومضافاً إلى ذلک أجرى لی الشیخ کاشف الغطاء امتحاناً شفویاً أیضاً وسألنی عن أعقد مسألة من مسائل العلم الإجمالی، فعندما أجبته عنها کتب لی إجازة الاجتهاد ومنحنی کل الحبّ والرعایة».

آیة الله حجّت(رحمه الله)
والحکایة الاُخرى تتضمن تشویق آیة الله العظمى حجّت(رحمه الله) حیث یحدّثنا الاستاذ عن ذلک بقوله:
«ومرّة اُخرى کنت حاضراً فی درس المرحوم آیة الله العظمى حجّت(رحمه الله)فکان أن طرح سؤالاً وفقاً للمنهج الذی یسیر علیه، وقال: کل من أتانی بجواب هذا السؤال فسوف اُعطیه جائرة بعد الدرس توجّهت إلى المکتبة وبقیت مدّة أبحث فیها عن الجواب حتى عثرت علیه وقدمته للاستاذ، وبعد فترة وجیزة من ذلک تقدّم طالب آخر بذلک الجواب إلى الاستاذ فقال له: لقد سبقک إلى هذا الجواب شخص آخر. وبعدها أعطانی مائة تومان حیث کان یعدّ فی ذلک الوقت مبلغاً کبیراً (لأنّ الحقوق الشهریة لبعض الطلاب لم تکن تتجاوز ثلاث تومانات فی الشهر) بعنوان جائزة تشویقیة».

التواضع الکبیر وروحیة التشویق لدى آیة الله العظمى المیرزا هاشم الآملی
لا شک أنّ هذا التشویق یبلغ الذروة لدى الإنسان ویتضاعف تأثیره عندما یحظى الإنسان بأستاذ یتمتع بروح قبول الإشکال ویتعامل مع الطلاب من موقع الاهتمام بأسئلتهم وإشکالاتهم ولا یرى ذلک منافیاً لشؤون الاستاذ، ومن حسن الحظ أنّ بعض استاتذة سماحة الاستاذ کانوا یتمتعون بهذه الملکة النورانیة، حیث یحدّثنا الاستاذ عنهم بقوله:
«لقد جذبتنی أخلاق المرحوم آیة الله العظمى المیرزا هاشم الآملی إلى الحضور فی حلقة درسه... إنّ آیة الله العظمى الآملی مضافاً إلى امتلاکه صفة التواضع الشدید فإنّه کان یتعامل مع الطالب بروح التشویق والتقدیر، وکان محیطاً بعلوم اساتذته مثل آیة الله آقا ضیاءالدین العراقی، الذی کان طلاّبه فی ذلک الزمان فی حوزة النجف أفراداً قلائل ولکنهم من الفضلاء، وکان یتمتع بانصاف عجیب فی درسه بحیث إننی لم اُشاهد أحداً مثله فی هذه الخصوصیة، فلو تقدم الطالب بإشکال علیه وکان الإشکال وارداً فانّ الاستاذ لم یکتف بقبوله فحسب بل یتحرک على مستوى شرحه وتقویته بصورة کافیة وینطلق من موقع الدفاع عنه وبالتالی قبول رأى الطالب».


تشجیع آیة الله العظمى البروجردی (رحمه الله) وکتاب (تجلی الحق)

وبالنسبة إلى تشویق المرحوم آیة الله العظمى السید البروجردی(رحمه الله) ولطفه لسماحة الاستاذ یحدّثنا الاستاذ بقوله:
«عندما تمّ طبع کتاب «تجلی الحق» وهو أول کتاب من کتبی قدّمت نسخة منه إلى آیة الله العظمى البروجردی(رحمه الله) وبعد مدّة أرسل إلیَّ یستدعینی فذهبت إلیه، فقال: أنا أشکو من ألم فی رِجلی ولم أحضر الدرس لعدّة أیّام فکانت لی فرصة أکثر للمطالعة، ووقعت عینی على کتابک، فقرأت عنوانه «تجلی الحق» وهو یستخدم کثیراً فی کلمات المتصوفة، وکان ذلک سبباً فی تحرک حس الفضول فیَّ، فتناولت کتابک فقرأته من أوله إلى آخره (وتعجبت کثیراً من روحیة هذا الرجل الکبیر کیف یقرأ کتاب طالب شاب من أوله إلى آخره، وهذا یکون عبرة لأمثالی فی حین أنّ السید کان یتمتع بمقام المرجعیة والزعامة العامة للشیعة)، ثم قال: أنا لم أعثر على أی مورد سلبی فی هذا الکتاب، وقال: (إننی أحسست أنّ الکاتب أراد بیان بعض الحقائق عن طائفة الصوفیة دون أن یرید التظاهر أو یجمع المریدین حوله) فکانت هذه الکلمات من هذا السید الجلیل قد بعثت فی نفسی روح الاعتماد على الله فی مسألة الکتابة، ومن هنا أدرکت جیداً مدى تأثیر تشویق الاساتذة وخاصة الکبار منهم».

یا ناصر: سوف تنتفع من برکاتن
وهذه الحقیقة بلغت أوج النضج والنورانیة عندما نجد أنّ الطالب بغض النظر عن تشویق أساتذته، یقع مورداً لتفقد وتشویق الاستاذ الحقیقی وإمام الاساتیذ أی الإمام المعصوم حین یراه الطالب فی عالم الرؤیا الرحمانیة ویحصل على البشارة من قِبل الإمام المعصوم (سلام الله علیه) حیث یخاطبه بقوله: «یا ناصر: سوف تنتفع من برکاتنا».
ولنستمع إلى هذه القصة من لسان أحد اساتذتنا وهو الاستاذ المرحوم حجّة الإسلام والمسلمین قدوة، حیث قال:
«لقد وجدت سماحة الشیخ مکارم مستبشراً وترتسم على محیاه معالم السرور عندما دخل مجلس الدرس، فسألته عن السبب، فامتنع عن الجواب ولکن مع اصراری أجابنی أنّه کان قد رأى لیلة البارحة الإمام صاحب الزمان (سلام الله علیه) فی عالم الرؤیا فقال لی: «یا ناصر: سوف تنتفع من برکاتنا».
 

اهتمام وتشویق الإمام الراحل(رحمه الله)
نختم هذا الفصل بذکر أشکال التشویق والاهتمام الذی کان یبذله الإمام الراحل(قدس سره)لسماحة الاستاذ، ویحدّثنا الاستاذ نفسه عن ذلک بقوله:
«إننی بالرغم من عدم التوفیق لحضور درس الإمام الراحل(قدس سره) لأکثر من یوم واحد، ولعل ذلک کان بسبب أنّ درس الإمام کان قد ازدهر واشتدّ فی الحوزة العلمیة فی وقت لم أکن فیه أدرس عند أحد إلاّ قلیلاً بل کنت اُمارس عملیة التدریس غالباً، وعلى أیّة حال کنت ذا علاقة وارتباط کامل بأفکاره من خلال تقریراته وکتبه فکنت مطلعاً على آرائه الفقهیة والاُصولیة وکنت أکن له احتراماً کبیراً وطالما توجهت لزیارته فکان یبذل لی مزید المحبّة والاحترام ولا أنسى أننی کنت قد امتنعت لأسباب معینة عن الذهاب إلى مجمع المدرسین فی الحوزة العلمیة. فأمر الإمام الراحل أحد الأشخاص من أرحامه الذی کان عضواً فی المجمع المذکور وقال له: إذهب إلى فلان وقل له أن یرجع إلى مجمع المدرسین، فجاءنی ذلک الشخص وبلّغنی الرسالة وعدت على أثرها إلى المجمع، وکان ولده المرحوم السید أحمد الخمینی حاضراً فی جلسة لبعض الأفاضل وقال لی: إنّ رسائلک التی تبعثها إلى الإمام فی مناسبات مختلفة یقرأها الإمام کاملاً (لأننی کنت قد ذکرت فی رسائلی أننی لا أعلم ما إذا کان الإمام یقرأ هذه الرسائل أم لا) فقال لی: إنّها تصل إلى الإمام ویقرأها ویکّن احتراماً خاصاً بالنسبة لکم».
وینقل الاستاذ فی هذا المجال حادثة جمیلة اُخرى عن مجلس الخبراء للقانون الأساسی ویقول:
«کنت فی قسم البحوث فی مجلس القانون الاساسی وکنت مع عدّة أشخاص من علماء الشیعة وأهل السنّة والمذاهب الاُخرى، فعندما طرحت مسألة الاعتراف بالمذهب الشیعی، وهو مذهب الأغلبیة بالنسبة إلى الشعب الایرانی على بساط البحث فی مجلس الخبراء ودافعت عن هذه الاطروحة، قام أحد الاخوة من أهل السنة (السید مولوی عبدالعزیز) وخلافاً للمتوقع منه وأظهر مخالفته لمقولتی بعد أن انتهیت من تقریر رأیی، وأنا بدوری أجبته ببیان منطقی وأوضحت له أنّ المفروض فی کل دولة أن تکون القوانین فیها تابعة لمذهب معین ولا یمکن أن تکون على رأی مذهبین أو ثلاثة فی الأحکام العامة، وبالطبع فإنّ سائر المذاهب ینبغی أن تکون محترمة ویتمتع أتباعها بجمیع حقوق المواطنة، ولکن تعدد القوانین الحاکمة فی الدولة غیر ممکن، فالجمیع أحرار فیما یتعلق بشؤونهم الخاصة (من قبیل الزواج والطلاق التی تسمى بالأحوال الشخصیة) ولکن فی الأحوال العامة یجب اتباع قانون واحد، وبعد أن ذهبت لزیارة الإمام قال لی: (لقد رأیت وسمعت دفاعک فی المجلس من خلال التلفزیون وسررت بذلک کثیراً وقد کان دفاعاً جیداً ومنطقیاً وقد أدّیت المسألة حقّها»



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.