السیستانی

سید علی

Saturday, April 12, 2014
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
سید علی

ولد سماحته فی التاسع من شهر ربیع الأول عام 1349 للهجرة فی المشهد الرضوی الشریف فی أسرة علمیة معروفة ، فوالده هو العالم المقدّس( السید محمد باقر ) ووالدته هی العلویة الجلیلة کریمة العلامة ( المرحوم السید رضا المهربانی السرابی) وجدّه الادنى هو العالم الجلیل ( السید علی ) الذی ترجم له العلامة الشیخ آغا بزرک فی طبقات أعلام الشیعة قائلاً: ( انه کان فی النجف الأشرف من تلامذة الحجّة المؤسس المولى علی النهاوندی وفی سامراء من تلامذة المجدد الشیرازی، ثم اختص بالحجة السید اسماعیل الصدر، وفی حدود سنة 1318 هـ عاد إلى مشهد الرضا ( علیه السلام ) واستقر فیه وحاز مکانة سامیة مع ما کان له من حظ وافر من العلم مقروناً بالتقى والصلاح ) ومن تلامذته المعروفین الفقیه الکبیر الشیخ محمد رضا آل یاسین (قدس سرّه ).

وأسرته  التی هی من الاسر العلویة الحسینیة ــ کانت تقطن مدینة (اصفهان) فی القرن الحادی عشر الهجری ، ومن ابرز اعلامها یومذاک الفیلسوف الشهیر ( محمد باقر الداماد ) صاحب کتاب القبسات، ومن أحفاده العلم الکبیر ( السید محمد ) الذی عیّن فی منصب ( شیخ الاسلام ) فی بلاد ( سیستان ) فی زمن السلطان حسین الصفوی فانتقل الیها وسکنها هو وذریته من بعده، وأول من هاجر منهم إلى مشهد الرضا (ع) هو المرحوم( السید علی ) المار ذکره، حیث استقرّ فیه برهة من الزمن فی مدرسة المرحوم الملا محمد باقر السبزواری ومن ثمّ هاجر الى النجف الأشرف لاکمال دراسته ثم الى سامراء المقدسة للغرض نفسه.

وقد نشأ  ( دام ظلّه ) فی مسقط رأسه المشهد الرضوی نشأة عالیة فتدرج فی الأولیات والمقدمات ، حیث بدأ وهو فی الخامسة من عمره بتعلم القرآن الکریم ثم دخل مدرسة دار التعلیم الدینی لتعلم القراء والکتابة ونحوهما ، فتخرج من هذه المدرسة وقد تعلم أثناء ذلک فن الخط من استاذه ( المیرزا علی اقا ظالم ).وفی أوائل عام (1360 هـ.ق) بدأ بتوجیه من والده بقراءة مقدمات العلوم الحوزویة ، فأتم قراءة جملة من الکتب الأدبیة کشرح الألفیة للسیوطی والمغنی لابن هشام والمطول للتفتازانی ومقامات الحریری وشرح النظام عند المرحوم الادیب النیشابوری وغیره من أساتذة الفن، وقرأ شرح اللمعة والقوانین عند المرحوم السید احمد الیزدی المعروف بـ (نهنگ ) وقرأ جملة من السطوح العالیة کالمکاسب والرسائل والکفایة عند آیة الله المیرزا هاشم القزوینی، وقرأ جملة من الکتب الفلسفیة کشرح منظومة السبزواری وشرح الاشراق والاسفار عند المرحوم الایسی، وقرأ شوارق الالهام عند المرحوم آیة الله الشیخ مجتبى القزوینی ، وحضر فی المعارف الالهیة دروس آیة الله المرحوم المیرزا مهدی الاصفهانی المتوفى أواخر سنة (1365 هـ . ق) کما حضر بحوث الخارج لآیة الله المیرزا مهدی الآشتیانی صاحب التعلیقة على شرح المنظومة وآیة الله المرحوم المیرزا هاشم القزوینی (قدّس سرهما).

وفی أواخر عام 1368 هـ انتقل الى الحوزة العلمیة الدینیة فی قم المقدسة فحضر بحوث المرجع الکبیر السید حسین الطباطبائی البروجردی فی الفقه والاصول، وتلقى عنه الکثیر من خبرته الفقهیة ونظریاته فی علم الرجال والحدیث، کما حضر درس الفقیه الکبیر السید محمد  الحجّة الکوهکمری(قدّس سرّه).

وخلال مدّة اقامته فی قم راسل العلاّمة المرحوم السید علی البهبهانی عالم الأهواز الشهیر ومن اتباع مدرسة المحقق الطهرانی، وکان موضوع المراسلات بعض مسائل القبلة حیث ناقش سیدنا الأستاذ (مدّ ظلّه) بعض نظریات المحقق الطهرانی ووقف السید البهبهانی موقف المدافع عنها ، وبعد تبادل عدّة رسائل کتب المرحوم السید البهبانی لسیدنا الأستاذ (دام ظلّه) رسالة مؤرخة فی ( 7/ رجب /1370 هـ ) ــ وهو شاب فی الواحدة والعشرین من العمر ــ یثنی فیها على مهارته العلمیة واصفاً ایاه بـ (عمدة العلماء المحققین ونخبة الفقهاء المدققین) وموکّلا ﱟ تکمیل البحث إلى حین اللقاء به عند التشرّف بزیارة الإمام الرضا (علیه السلام ).

وفی أوائل عام (1371 هـ ) غادر سیدنا الأستاذ ( مدّ ظلّه ) مدینة قم متجهاً إلى موئل العلم والفضل للحوزات العلمیة النجف الأشرف، فوصل کربلاء المقدسة فی ذکرى أربعین الامام الحسین ( علیه السلام ) ثمّ توجّه إلى النجف الأشرف فسکن ( مدرسة البخارائی العلمیة )، وحضر البحوث الفقهیة والاصولیة للعلمین الکبیرین السید ابو القاسم الموسوی الخوئی (قدّس سرّه ) والشیخ حسین الحلّی (قدّس سرّه ) ولازمهما مدّة طویلة ، وحضر خلال ذلک ایضاً بحوث بعض الأعلام الآخرین منهم السید الحکیم (قدّس سرّه ) والسید الشاهرودی (قدّس سرّه ).

نبوغه العلمی

لقد برز السید السیستانی ( دام ظلّه ) فی بحوث اساتذته بتفوق بالغ على اقرانه وذلک فی قوّة الإشکال وسرعة البدیهة وکثرة التحقیق والتتبع ومواصلة النشاط العلمی وإلمامه بکثیر من النظریات فی مختلف الحقول العلمیة الحوزویة، ومما یشهد على ذلک أنه منح من بین زملاه واقرانه فی عام 1380 هـ وهو فی الحادیة والثلاثین من عمره ـ ( شهادة الاجتهاد المطلق ) من قبل استاذیه السید الخوئی (قدّس سرّه ) والشیخ الحلی (قدّس سرّه ) ولم یمنح السید الخوئی شهادة الاجتهاد الإّ لنادرٍ من تلامذته منهم سیدنا الأستاذ وآیة الله الشیخ علی الفلسفی من مشاهیر علماء مشهد المقدسة کما لم یمنح الشیخ الحلی اجازة الاجتهاد لغیره ( دام ظلّه ) وقد کتب له ایضاً شیخ محدّثی عصره العلاّمة الشیخ آغا برزک الطهرانی (قدّس سرّه ) شهادة یطری فیها على مهارته فی علمی الرجال والحدیث وهی مؤرخة کذلک فی عام 1380 هـ.

عطاؤه الفکری وتألیفاته

اشتغل سیدنا الأستاذ (دام ظلّه) من أوائل عام 1381 هـ بإلقاء محاضراته (البحث الخارج) فی الفقه فی ضوء مکاسب الشیخ الأعظم الأنصاری، وأعقبه بشرح العروة الوثقى ، فتمّ له منه شرح کتاب الطهارة وأکثر کتاب الصلاة وقسم من کتاب الخمس وتمام کتاب الصوم والاعتکاف ثم شرع فی شرح کتاب الزکاة.

وقد کانت له محاضرات فقهیة اخرى خلال هذه السنوات تناولت کتاب القضاء وابحاث الربا وقاعدة الإلزام وقاعدة التقیة وغیرهما من القواعد الفقهیة،کما کانت له محاضرات رجالیة شملت حجیة مراسیل ابن ابی عمیر وشرح مشیخة التهذیبین وغیرهما.

وابتدأ ( دام ظلّه ) بإلقاء محاضراته فی علم الأصول من شعبان عام (1384 هـ ) وقد أکمل دورته الثالثة فی شعبان عام ( 1411 هـ ) ، ویوجد تسجیل صوتی لجمیع محاضراته الفقهیة والأصولیة من عام 1397 هـ وإلى الیوم.

وقد خرّج بحثه الشریف عدّة من الفضلاء البارزین وبعضهم من أساتذة البحث الخارج : کالعلاّمة الشیخ مهدی مروارید ، والعلاّمة السید مرتضى المهری والعلاّمة المرحوم السید حبیب حسینیان والعلاّمة السید أحمد المددی والعلاّمة الشیخ مصطفى الهرندی والعلاّمة السید هاشم الهاشمی وغیرهم من أفاضل أساتذة الحوزات العلمیة.

وضمن اشتغال سماحته ( دام ظلّه ) بالدرس والبحث خلال هذه المدّة کان مهتمّاً بتألیف کتب مهمّة وجملة من الرسائل بالإضافة إلى ما کتبه من تقریرات بحوث اساتذته فقه وأصولاً، وسیأتی ذکر جملة منها فی موضع آخر.

منهجه فی البحث والتدریس

وهو منهج متمیز على مناهج کثیر من أساتذة الحوزة وأرباب البحث الخارج فعلى صعید الأصول یتجلّى منهجه بعدّة خصائص :

أ‌- التحدث عن تأریخ البحث ومعرفة جذوره التی ربما تکون فلسفیة کمسالة بساطة المشتق وترکیبه أو عقائدیة وسیاسیة کبحث التعادل والتراجح الذی أوضح فیه أن قضیة اختلاف الأحادیث فرضتها الصراعات الفکریة العقائدیة آنذاک والظروف السیاسیة التی احاطت بالأئمة( علیهم السلام ) ومن الواضح أن الإطّلاع على تأریخ البحث یکشف عن زوایا المسألة ویوصلنا إلى واقع الآراء المطروحة فیها .

ب‌- الربط بین الفکر الحوزوی والثقافات المعاصرة ففی بحثه حول المعنى الحرفی فی بیان الفارق بینه وبین المعنى الاسمی وهل هو فارق ذاتی ام لحاظی؟
اختار اتجاه صاحب الکفایة فی أن الفرق باللحاظ لکن بناه على النظریة الفلسفیة الحدیثة وهی نظریة التکثر الادراکی فی فعالیة الذهن البشری وخلاقیته، فیمکن للذهن تصور مطلب واحد بصورتین: تارة بصورة الاستقلال والوضوح فیعبر عنه بالاسم وتارة بالآلیة والانکماش ویعبر عنه بالحرف.
وعندما دخل فی بحث المشتق فی النزاع الدائر بین العلماء حول اسم الزمان، تحدّث عن الزمان بنظرة فلسفیة جدیدة وهی انتزاع الزمان من المکان (زمکان) بلحاظ تعاقب النور والظلام ، وفی بحثه حول مدلول صیغة الأمر ومادته وبحثه فی التجری طرح نظریة بعض علماء الاجتماع من أن تقسیم الطلب بامر والتماس وسؤال نتیجة لتدخل صفة الطالب فی حقیقة طلبه من کونه عالیاً أو مساویاً أو سافلاً.
وکذلک جعل ضابط استحقاق العقوبة عنوان تمرد العبد وطغیانه على المولى مبنی على التقسیم الطبقی للمجتمعات البشریة القدیمة من وجود موالی وعبید وعالی وسافل وما أشبه ذلک. فهذه نظرة من رواسب الثقافات السالفة التی تتحدث باللغة الطبقیة لا باللغة القانونیة المبنیة على المصالح الانسانیة العامة.

ج‌- الاهتمام بالأصول المرتبطة بالفقه : ان الطالب الحوزوی یلاحظ فی کثیر من العلماء اغراقهم واسهابهم فی بحوث اصولیة لا یعدّ الاسهاب فیها الإّ ترفاً فکریّاً لا ینتج ثمرةً علمیةً للفقیه فی مسیرته الفقهیة کبحثه فی الوضع وکونه امراً اعتباریاً أو تکوینیاً وأنّه تعهد أو تخصص ، وبحثهم فی بیان موضوع العلم وبعض العوارض الذاتیة فی تعریف الفلاسفة لموضوع العلم وما شاکل ذلک.
ولکن الملاحظ فی دروس سیدنا الأستاذ ( دام ظلّه ) هو الاغراق وبذل الجهد الشاق فی الخروج بمبنى علمی رصین فی البحوث الأصولیة المرتبطة بعملیة الاستنباط کمباحث الاصول العملیة والتعادل والتراجح والعام والخاص ، وأمّا البحوث الأخرى التی أشرنا لبعض مسمیاتها ، فبحثه فیها إنما هو بمقدار الثمرة العلمیة فی بحوث أخرى أو الثمرة العملیة فی الفقه.

د- الابداع والتجدید : هناک کثیر من الأساتذة الماهرین فی الحوزة لا یملک روح التجدید بل یصب اهتمامه على التعلیق فقط والترکیز على جمالیات البحث لا على جوهره فیطرح الآراء الموجودة ویعلّق على بعضها ویختار الأقوى فی نظره ، الإّ أن سیدنا الأستاذ یختلف فی هذا النهج فیحاول الابداع والتجدید إما بصیاغة المطلب بصیاغة جدیدة تتناسب مع الحاجة للبحث کما صنع ذلک عندما دخل بحث استعمال اللفظ فی عدة معانٍ حیث بحثه الأصولیون من زاویة الإمکان والاستحالة کبحث عقلی فلسفی لا ثمرة عملیة تترتب علیه وبحثه سیدنا الأستاذ من حیث الوقوع وعدمه لانه أقوى دلیل على الإمکان، وبحثه کذلک من حیث الاستظهار وعدمه.
وعندما دخل بحث التعادل والتراجح رأى أن سرّ البحث یکمن فی علّة اختلاف الأحادیث فإذا بحثنا وحدّدنا أسباب اختلاف النصوص الشرعیة انحلّت المشکلة العویصة التی تعترض الفقیه والباحث والمستفید من نصوص أهل البیت ( علیهم السلام ) وذلک یغنینا عن روایات الترجیح والتخییر کما حملها صاحب الکفایة على الاستحباب .
وهذا البحث تناوله غیره ولکنه بشکل عقلی صرف،أما السید الأستاذ فإنه حشد فیه الشواهد التأریخیة والحدیثیة وخرج منه بقواعد مهمّة لحلّ الاختلافات وقام بتطبیقها فی دروسه الفقهیة أیضاً.

هـ  - المقارنة بین المدارس المختلفة : ان المعروف عن الکثیر من الأساتذة حصر البحث فی مدرسة معینة أو اتجاه خاص ولکن السید السیستانی یقارن بحثه بین فکر مدرسة مشهد وفکر مدرسة قم وفکر مدرسة النجف الأشرف فهو یطرح آراء المیرزا مهدی الاصفهانی (قدّس سرّه) من علماء مشهد وآراء السید البروجردی (قدّس سرّه ) کتعبیر عن فکر مدرسة قم وآراء المحققین الثلاثة ( الشیخ النائینی والشیخ العراقی والشیخ الاصفهانی ) والسید الخوئی (قدّس سرّه ) والشیخ حسین الحلّی (قدّس سرّه) کمثال لمدرسة النجف الأشرف.
وتعدّد الاتجاهات هذه یوسع امامنا زوایا البحث والرؤیا الواضحة لواقع المطلب العلمی .

وأمّا منهجه الفقهی فله فیه منهج خاص یتمیز فی تدریس الفقه وطرحه ، ولهذا المنهج عدّة ملامح :

1- المقارنة بین فقه الشیعة وفقه غیرهم من المذاهب الاسلامیة الأخرى ، فإنّ الإطّلاع على الفکر الفقهی السنی المعاصر لزمان النص کالاطلاع على موطأ مالک واخراج ابی یوسف وآراء الفقهاء الآخرین یوضّح أمامنا مقاصد الأئمة ( علیهم السلام ) ونظرهم حین طرح النصوص.

2- الاستفادة من علم القانون الحدیث فی بعض المواضع الفقهیة کمراجعته للقانون العراقی والمصری والفرنسی عند بحثه فی کتاب البیع والخیارات ، والاحاطة بالفکر القانونی المعاصر تزوّد الإنسان خبرة قانونیة یستعین بها على تحلیل القواعد الفقهیة وتوسعة مدارکها وموارد تطبیقها .

3- التجدید فی الأطروحة : إنّ معظم علمائنا الأعلام یتلقون بعض القواعد الفقهیة بنفس الصیاغة التی طرحها السابقون ولا یزیدون فی البحث فیها الإّ عن صلاحیة المدرک لها أو عدمه ووجود مدرک آخر وعدمه ، أما السید السیستانی فإنّه یحاول الإهتمام فی بعض القواعد الفقهیة بتغییر الصیاغة ، مثلاً بالنسبة لقاعدة الإلزام التی یفهمها بعض الفقهاء من الزاویة المصلحیة بمعنى أنّ للمسلم المؤمن الاستفادة فی تحقیق بعض رغباته الشخصیة من بعض القوانین للمذاهب الأخرى وإن کان مذهبه لا یقرّه ، یطرحه السید السیستانی على أساس الاحترام ویسمیّها بقاعدة الاحترام أی احترام آراء الآخرین وقوانینهم ، وانطلاقه من حریّة الرأی وهی على سیاق ( لکلّ قوم نکاح ) و (نکاح أهل الشرک جائز ) وکذلک بالنسبة الى قاعدة التزاحم التی یطرحها الفقهاء والأصولیون کقاعدة عقلیة أو عقلائیة صرفة یدخلها السید الأستاذ تحت قاعدة الاضطرار التی هی قاعدة شرعیة اشارت لها النصوص  نحو ( ما من شیء حرّمه الله الإّ وقد أحلّه لمن اضطر إلیه ) فإنّ مؤدى قاعدة الاضطرار هو مؤدى قاعدة التزاحم بضمیمة متمم الجعل التطبیقی .
وأحیاناً یقوم بتوسعة القاعدة کما فی قاعدة ( لا تعاد ) حیث خصّها الفقهاء بالصلاة لورود النص فی ذلک بینما السید السیستانی جعل صدر الروایة المتضمن لقوله (ع) : ( لا تعاد الصلاة إلا ّ من خمسة ) مصداقاً لکبرى أخرى تعمّ الصلاة وغیرها من الواجبات ، وهذه الکبرى موجودة فی ذیل النص ( ولا تنقض السنّة الفریضة)، فالمناط هو تقدیم الفریضة على السنّة فی الصلاة وغیرها ، ومن مصادیق هذا التقدیم هو تقدیم الوقت والقبلة ...الخ على غیرها من أجزاء الصلاة وشرائطها لأنّ الوقت والقبلة من الفرائض لا من السنن .

4- النظرة الاجتماعیة للنص : إنّ من الفقهاء من هو حرفی الفهم بمعنى أنّه جامد على حدود حروف النص من دون محاولة التصرف فی سعة دلالات النص وهناک من الفقهاء من یقرأ أجواء النص والظروف المحیطة به لیتعرف على سائر الملابسات التی تؤثر على دلالته ، فمثلاً فی ما ورد من أنّ رسول الله (صلى الله علیه وآله ) حرّم أکل لحم الحمر الأهلیة یوم خیبر ، أخذنا بالفهم الحرفی لقلنا بالحرمة أو الکراهة لأکل لحم الحمر الاهلیة ولو اتبعنا الفهم الاجتماعی لرأینا أنّ النص ناظر لظروف حرجة وهی ظروف الحرب مع الیهود فی خیبر والحرب تحتاج لنقل السلاح والمؤنة ولم تکن هناک وسائل نقل إلاّ الدواب ومنها الحمیر ، فالنهی فی الواقع نهی إداری لمصلحة موضوعیة اقتضتها الظروف آنذاک ولا یستفاد منه تشریع الحرمة ولا الکراهة ، وسیدنا الأستاذ من النمط الثانی من العلماء فی التعامل مع النص.

5- توفیر الخبرة بمواد الاستنباط : إنّ السید السیستانی یرکّز دائماً على انّ الفقیه لا یکون فقیهاً بالمعنى الأتم حتى یتوفر لدیه خبرة وافیة بکلام العرب وخطبهم واشعارهم ومجازاتهم کی یکون قادراً على تشخیص ظهور النص تشخیصاً موضوعیّا لا ذاتیا وأن یکون على اطلاع تام بکتب اللغة وأحوال مؤلفیها ومناهج الکتابة فیها فإنّ ذلک دخیل فی الاعتماد على قول اللغوی أو عدم الاعتماد علیه وأن یکون على احاطة باحادیث أهل البیت ( علیهم السلام ) ورواتها بالتفصیل ، فإنّ علم الرجال فن ضروری للمجتهد لتحصیل الوثوق الموضوعی التام بصلاحیة المدرک ، وله آراء خاصّة یخالف بها المشهور فی هذا العصر مثلاً ما اشتهر من عدم الاعتداد بقدح این الغضائری اما لکثرة قدحه أو لعدم ثبوت نسبة الکتاب إلیه مما لا یرتضیه سیدا الأستاذ بل یرى ثبوت الکتاب وان ابن الغضائری هو المعتمد فی مقام الجرح والتعدیل اکثر من النجاشی والشیخ وامثالهما ویرى الاعتماد على منهج الطبقات فی تعیین الراوی وتوثیقه ومعرفة کون الحدیث مسنداً أو مرسلاً على ما قرّره السید البروجردی (قدّس سرّه ).

ویرى أیضاً ضرورة الإلمام بکتب الحدیث واختلاف النسخ ومعرفة حال المؤلف من حیث الضبط والتثبت ومنهج التألیف ، وأما ما یشاع فی هذا المجال من کون الصدوق اضبط من الشیخ فلا یرتضیه، بل یرى الشیخ ناقلاً أمیناً لما وجده من الکتب الحاضرة عنده بقرائن یستند الیها.

فهذه الجهات الخبریة قد لا یعتمد علیها کثیر من الفقهاء فی مقام الاستنباط بل یکتفی بعضهم بالظهور الشخصی من دون أن یجمع القرائن المختلفة لتحقیق الظهور الموضوعی بل قد یعتمد على کلام بعض اللغویین بدون التحقیق فی المؤلف ومنهج التألیف ولا یکون لبعض آخر أی رصید فی علم الرجال والخبرة بکتب الحدیث.

معالم شخصیته

إنّ من یعاشر السید السیستانی ( دام ظلّه ) ویتصل به یرى فیه شخصیة فذّة تتمتع بالخصائص الروحیة والمثالیة التی حثّ علیها أهل البیت ( علیهم السلام) والتی تجعل منه ومن امثاله من العلماء المخلصین مظهراً جلیّاً لکلمة ( عالم ربانی ) وقوله ( علیه السلام ) ( مجاری الامور بید العلماء امناء الله على حلاله وحرامه ) ومن أجل وضع النقاط على الحروف  اطرح بعض المعالم الفاضلة التی رأیتها بنفسی عند اتصالی به درساً ومعاشرة :

ﺃ-  الانصاف واحترام الرأی : فان السید السیستانی انطلاقاً من عشق العلم والمعرفة ورغبة فی الوصول إلى الحقیقة وتقدیساً لحریة الرأی والکلمة البناءة تجده کثیر القراءة والتتبع للکتب والبحوث ومعرفة الآراء حتى آراء بعض العلماء من غیر اساتذته أو آراء بعض المغمورین فی خضم الحوزة العلمیة فتراه بعض الاحیان قد یشیر فی بحثه لرأی لطیف لأحد الأفاضل مع أنه لیس من أساتذته کالشیخ محمد رضا المظفر فی کتابه اصول الفقه، فطرح هذه الآراء ومناقشتها مع أنها لم تصدر من اساطین اساتذته یمثل لنا صورة حیّة من صور الانصاف واحترام آراء الآخرین .

ب- الأدب فی الحوار : ان بحوث النجف معروفة بالحوار الساخن بین الزملاء او الأستاذ وتلمیذه وذلک مما یصقل ثقافة الطالب وقوته العلمیة وأحیاناً قد یکون الحوار جدلاً فارغاً لا یوصل لهدف علمی بل مضمونه ابراز العضلات فی الجدل وقوة المعارضة وذلک ما یستهلک وقت الطالب الطموح ویبعده عن الجو الروحی للعلم والمذاکرة ویترکه یحوم فی حلقة عقیمة دون الوصول للهدف، أما بحث السید السیستانی (دام ظلّه) فإنّه بعید کل البعد عن الجدل واسالیب الإسکات والتوهین فهو فی النقاش مع أساتذته وآراء الآخرین یستخدم الکلمات المؤدبة التی تحفظ مقام العلماء وعظمتهم حتى ولو کان الرأی المطروح واضح الضعف والاندفاع ، وفی اجابته لاستفهامات الطالب یتحدث بانفتاح وبروح الارشاد والتوجیه ولو صرف التلمیذ الحوار الهادف إلى الجدل الفارغ عن المحتوى فان السید السیستانی یحاول تکرار الجواب بصورة علمیة ومع اصرار الطالب فان السید الأستاذ حینئذ یفضل السکوت على الکلام.

ج ـ خلق التربیة : التدریس لیس وظیفة رسمیة او روتینیة یمارسها الأستاذ فی مقابل مقدار من المال ، فإن هذه النظرة تبعد المدرس عن تقویم التلمیذ والعنایة بتربیته والصعود بمستواه العلمی للتفوق والظهور، کما أن التدریس لا یقتصر على التربیة العلمیة فی محاولة الترشید التربوی لمسیرة الطالب بل التدریس رسالة خطیرة تحتاج مزاولتها لروح الحب والإشفاق على الطالب وحثّه نحو العلم وآداب العلم ایضاً وإذا کان یحصل فی الحوزة أو غیرها احیاناً رجال لا یخلصون لمسؤولیة التدریس والتعلیم فإن فی الحوزات أساتذة مخلصین یرون التدریس رسالة ساویة لابدّ من مزاولتها بروح المحبّة والعنایة التامة بمسیرة التلمیذ العلمیة والعملیة ، وقد کان الإمام الحکیم (قدّس سرّه) مضرب المثل فی خلقه التربوی لتلامذته وطلاّبه وکما کانت علاقة الإمام الخوئی (قدّس سرّه) بتلامذته فقد رأیت هذا الخلق متجسّداً فی شخصیة السید السیستانی (دام ظلّه ) فهو یحثّ دائماً بعد الدرس على سؤاله ونقاشه فیقول : اسألوا ولو على رقم الصفحة لبحث معین او اسم کتاب معین حتى تعتادوا على حوار الأستاذ والصلة العلمیة به وکان یدفعنا لمقارنة بحثه مع البحوث المطبوعة والوقوف عند نقاط الضعف والقوة وکان یؤکد دائماً على احترام العلماء والالتزام بالأدب فی نقاش أقوالهم ویتحدث عن أساتذته بروحیة وهمّة عالیة وأمثال ذلک من شواهد الخلق الرفیع .

د – الورع : إنّ هناک ظاهرة جلیّة فی کثیر من العلماء والأعاظم وهی ظاهرة البعد عن مواقع الضوضاء والفتن وربما یعتبر هذا البعد عن البعض موقفاً سلبیّاً لأنه هروب من مواجهة الواقع وتسجیل الموقف الصریح المرضی للشرع المقدس ولکنه عند التامل یظهر بانه موقف ایجابی وضروری احیاناً للمصلحة العامة ومواجهة الواقع وتسجیل الموقف الشرعی یحتاج لظروف موضوعیة وارضیة صالحة تتفاعل مع هذا الموقف ، فلو وقعت فی الساحة الإسلامیة أو المجتمع الحوزوی إثارات وملابسات بحیث تؤدی لطمس بعض المفاهیم الأساسیة فی الشریعة الإسلامیة وجب على العلماء بالدرجة الاولى التصدی لإزاحة الشبهات وابراز الحقائق الناصعة فإذا ظهرت البدع وجب على العالم أن یظهر علمه فإن لم یفعل سلب منه نور الإیمان ، کما جاء فی الحدیث .
ولکن لو کان مسار الفتنة مساراً شخصیاً وجواً مفعماً بالمزایدات والتعصبات العرقیة والشخصیة لمرجع معیّن أو خط معیّن او کانت الأجواء تعیش حرباً دعائیة مؤججة بنار الحقد والحسد المتبادل فإنّ علماء الحوزة ومنهم السید السیستانی ( دام ظلّه ) یلتزمون دوماً الصمت والوقار والبعد عن هذه الضوضاء الصاخبة وما یحدث غالباً من التنافس على الألقاب والمناصب والاختلافات الجزئیة کما هو الحال فی یومنا الحاضر ، هذا مضافاً لزهده المتمثّل فی لباسه المتواضع ومسکنه الصغیر الذی لا یملکه وأثاثه البسیط.

هـ ـ الإنتاج الفکری:  السید السیستانی لیس فقیهاً فقط بل هو رجل مثقّف مطّلع على الثقافات المعاصرة ومتفتح على الأفکار الحضاریة المختلفة ویمتلک الرؤیة الثاقبة فی المسیرة العالمیة فی المجال الاقتصادی والسیاسی وعنده نظرات إداریة جیدة وأفکاراً إجتماعیة مواکبة للتطور الملحوظ واستیعاب للأوضاع المعاصرة بحیث تکون الفتوى فی نظره طریقاً صالحاً للخیر فی المجتمع المسلم.

إمامته فی الصلاة

کان الأستاذ (مدّ ظلّه ) فی عیادة استاذه المرحوم الإمام الخوئی ( قدّس سرّه )فی (29/ ربیع الآخر / 1409 هـ ) لوعکة صحیة ألمّت به فطلب منه أن یقیم صلاة الجماعة فی محرابه فی جامع الخضراء فلم یوافق على ذلک فی البدایة فألحّ علیه فی الطلب وقال له ( لو کنت احکم کما کان یفعل ذلک المرحوم الحاج آقا حسین القمّی لحکمت علیکم بلزوم القبول ) فاستمهله بضعة أیّام وفی نهایة الأمر استجاب لطلبه وأمّ المصلین من یوم الجمعة (5/ جمادى الأولى / 1409 هـ ) إلى الجمعة الأخیرة من ذی الحجّة عام 1414 هـ حیث أغلق الجامع من قبل السلطة کما سیأتی .

مسیرته الجهادیة

کان النظام البعثی یسعى بکل وسیلة للقضاء على الحوزة العلمیة فی النجف الأشرف منذ السنین الأولى من تسلمه السلطة فی العراق ، وقد قام بعملیات تسفیر واسعة للعلماء والفضلاء وسائر الطلاب الأجانب، ولاقى الأستاذ ( مدّ ظلّه ) عناءاً بالغاً من جرّاء ذلک وکاد ان یسفّر عدّة مرّات وتمّ تسفیر مجامیع من تلامذته وطلاّب مجلس درسه فی فترات متقاربة ، ثمّ کانت الظروف القاسیة جدّاً أیّام الحرب العراقیة الإیرانیة ، ولکن على الرغم من ذلک فقد أصرّ ( دام ظلّه ) على البقاء فی النجف الأشرف وواصل التدریس فی حوزته العلمیة المقدّسة إیماناً منه بلزوم استمرار المسار الحوزوی المستقل عن الحکومات تفادیاً للسلبیات التی تنجم عن تغییر هذا المسار.

وفی عام 1411 هـ عندما قضى النظام على الانتفاضة الشعبانیة اعتقل الأستاذ ( دام ظلّه ) ومعه مجموعة من العلماء کالشهید الشیخ مرتضى البروجردی والشهید المیرزا علی الغروی وقد تعرّضوا للضرب والاستجواب القاسی فی فندق السلام وفی معسکر الرزازة وفی معتقل الرضوانیة إلى أن فرّج الله عنهم ببرکة أهل البیت ( علیهم السلام ).

وفی عام 1413 هـ عندما توفی الإمام السید الخوئی ( رضوان الله علیه ) وتصدّى الأستاذ ( دام ظلّه ) للمرجعیة ـ کما سیأتی ـ حاولت سلطات النظام السابق تغییر مسار المرجعیة الدینیة فی النجف الأشرف وبذلت ما فی وسعها فی الحطّ من موقع السید الأستاذ ( دام ظلّه ) ومکانته المتمیزة بین المراجع وسعت إلى تفرق المؤمنین عنه بأسالیب متعدّدة منها إغلاق جامع الخضراء فی أواخر ذی الحجّة عام 1414 هـ کما تقدّم .

وعندما وجد النظام أنّ محاولاته قد باءت جمیعاً بالفشل خطّط لاغتیال سیدنا الأستاذ وتصفیته ، وقد کشفت وثائق جهاز المخابرات عن عدد من هذه المخطّطات ولکن مکروا ومکر الله والله خیر الماکرین .

وهکذا بقی الأستاذ ( دام ظلّه ) رهین داره منذ أواخر عام 1418 هـ حتى أنّه لم یتشرف بزیارة جدّه الإمام أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) طوال هذه الفترة.
وقد تعرّض لضغوط کثیرة من اجهزة النظام وأزلامه ولکنه قاوم جمیع الضغوطات إلى أن منّ الله على العراقیین بزوال النظام ونسأله تبارک وتعالى ان یمنّ علیهم بالتحرر من الاحتلال ایضاً.

مرجعیته

فی السنوات الاخیرة من حیاة سماحة الخوئی ( رضوان الله علیه ) کان هاجس کثیر من الفضلاء فی النجف الأشرف وخارجها البحث عمن یصلح ان یخلف الخوئی ( قدّس سرّه ) فی مرجعیته للطائفة الإمامیة لیحافظ على کیان الحوزة العلمیة واستقلالیة المرجعیة الدینیة ویتحلى بما یلزم توفره فی شخص المرجع من مؤهلات علمیة وورع وتقوى وحکمة وتدبیر.

وقد توجّه أنظار الکثیر من الفضلاء إلى الأستاذ ( دام ظلّه ) وقد اختاره الإمام الخوئی ( قدّس سرّه ) للصلاة فی محرابه فی جامع الخضراء کما تقدّم فبدأ ینتشر صیته فی أوساط العامة بعد ان کان محصوراً فی الأوساط العلمیة والحوزویة التی عرفته أستاذاً قدیراً فی البحث الخارج طوال ربع قرن من الزمن .
وعندما التحق الإمام الخوئی بالرفیق الأعلى فی (8/ صفر / 1413 هـ ) ارجع الیه فی التقلید جمع من العلماء الأعلام یأتی فی مقدمتهم سماحة آیة الله السید علی البهشتی (قدّس سرّه ) وسماحة آیة الله الشیخ مرتضى البروجردی (قدّس سرّه ) فقلّده کثیر من المؤمنین فی العراق وایران وبلاد الخلیج وباکستان والهند ، وبعد وفاة آیة الله العظمى السید عبد الأعلى السبزواری فی (27/ صفر /1414 هـ ) رجع الیه معظم مقلدیه فی العراق وقسم فی خارجه ، وعندما توفی آیة الله العظمى السید محمد رضا الکلبایکانی (قدّس سرّه ) فی (24 / جمادی الآخرة / 1414 هـ ) عمّ تقلید الأستاذ (دام ظلّه ) وبشکل سریع مختلف الأقطار الإسلامیة ورجع إلیه معظم المؤمنین فی العراق والاحساء والقطیف وایران ولبنان ودول الخلیج وباکستان والهند والمغتربین فی اوربا والامریکیتین واسترالیا وغیرهم، وقد توسع الرجوع إلیه أکثر فأکثر بعد وفاة آیة الله العظمى الشیخ محمد علی الأراکی (قدّس سرّه ) وآیة الله العظمى السید محمد الروحانی (قدّس سرّه ).



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.