
وُلِد هذا الفیلسوف والأدیب والشاعر والرسّام من أسرة صغیرة فقیرة فی بلدة بشرّی فی لبنان فی 6 کانون الثانی 1883م .کان والدهُ خلیل سعد جبران الزوج الثالث لوالدته کمیلة رحمة التی کان لها ابن اسمه بطرس من زواج سابق ثم أنجبت جبران وشقیقتیه مریانا وسلطانة .
والد جبران ، خلیل سعد جبران ینحدر من أسرةٍ سوریةِ الأصل راعیاً للماشیة، ولکنّه صَرف معظم وقته فی السُکْرِ و لم یهتم بأسرته التی کان على زوجته ( کمیلة ) وهی من عائلة محترمة وذات خلفیة دینیة ، أن تعتنی بها مادیاً ومعنویاً وعاطفیاً . ولذلک لم یُرسل جبران إلى المدرسة ، بل کان یذهب من حینٍ إلى آخر إلى کاهن البلدة الذی سرعان ما أدرک جدّیته وذکاءه فأنفق الساعات فی تعلیمه الأبجدیة والقراءة والکتابة مما فتح أمامه مجال المطالعة والتعرف إلى التاریخ والعلوم والآداب .
وفی العاشرة من عمره وقعَ جبران عن إحدى صخور وادی قادیشا وأصیب بکسر فی کتفه الیسرى عانى منه طوال حیاته .
لم یکفِ العائلة ما کانت تعانیه من فقر وعدم مبالاة من الوالد ، حتى جاء الجنود العثمانیون عام (1890) وألقوا القبض علیه و أودعوه السّجن بتهمة الإختلاس و باعوا منزلهم الوحید ، فاضطرت العائلة إلى النزول عند بعض الأقرباء .
و لکنّ الوالدة قرّرت أنّ الحلّ الوحید لمشاکل العائلة هو الهجرة إلى الولایات المتحدة سعیاً وراء حیاة أفضل .
عام 1894 خرج خلیل جبران من السجن، وکان محتاراً فی شأن الهجرة ، و لکنّ الوالدة کانت قد حزمت أمرها ، فسافرت العائلة تارکة الوالد وراءها و وصلوا إلى نیویورک فی 25 حزیران 1895 ومنها انتقلوا إلى مدینة بوسطن حیث کانت تسکن أکبر جالیة لبنانیة فی الولایات المتحدة و بذلک لم تشعر الوالدة بالغربة ، بل کانت تتکلم اللغة العربیة مع جیرانها ، وتقاسمهم عاداتهم اللبنانیة التی احتفظوا بها .
اهتمت الجمعیات الخیریة بإدخال جبران إلى المدرسة ، فی حین قضت التقالید بأن تبقى شقیقتاه فی المنزل ، فی حین بدأت الوالدة تعمل کبائعةٍ متجولة فی شوارع بوسطن على غرار الکثیرین من أبناء الجالیة ، وقد حصل خطأ فی تسجیل اسم جبران فی المدرسة وأعطی اسم والده ، وبذلک عرف فی الولایات المتحدة باسم " خلیل جبران " ، وقد حاول جبران عدة مرات تصحیح هذا الخطأ فیما بعد إلا أنه فشل .
بدأت أحوال العائلة تتحسن مادیاً ، وعندما جمعت الأم مبلغاً کافیاً من المال أعطته لابنها بطرس الذی یکبر جبران بست سنوات وفتحت العائلة محلاً تجاریاً .
و کان معلمو جبران فی ذلک الوقت یکتشفون مواهبه الأصیلة فی الرسم ویعجبون بها إلى حد إلى أن مدیر المدرسة استدعى الرّسام الشهیر هولاند دای لإعطاء دروس خاصة لجبران مما فتح أمامه أبواب المعرفة الفنیة وزیارة المعارض والاختلاط مع بیئة اجتماعیة مختلفة تماماً عما عرفه فی السّابق .
کان لـ ( دای ) فضلُ اطّلاع جبران على المیثولوجیا الیونانیة ، الأدب العالمی وفنون الکتابة المعاصرة والتصویر الفوتوغرافی ، ولکنّه شدّد دائماً على أنّ جبران یجب أن یختبر کل تلک الفنون لکی یخلص إلى نهج وأسلوب خاصین به . وقد ساعده على بیع بعض إنتاجه من إحدى دور النشر کغلافات للکتب التی کانت تطبعها. وقد بدا واضحاً انه قد اختط لنفسه أسلوباً وتقنیة خاصین به ، وبدأ یحظى بالشهرة فی أوساط بوسطن الأدبیة والفنیة .
و لکنّ العائلة قررت أنّ الشُهرة المبکرة ستعود علیه بالضرر ، وأنه لا بد أن یعود إلى لبنان لمتابعة دراسته وخصوصاً من أجل إتقان اللغة العربیة .
وصل جبران إلى بیروت عام 1898 وهو یتکلم لغة إنکلیزیة ضعیفة، ویکاد ینسى العربیة أیضاً و التحق بمدرسة الحکمة التی کانت تعطی دروساً خاصة فی اللغة العربیة ، و لکنّ المنهج الذی کانت تتبعه لم یُعجب جبران فطلب من إدارة المدرسة أن تعدّله لیتناسب مع حاجاته، و قد لفت ذلک نظر المسؤولین عن المدرسة ، لما فیه من حجّة وبُعدِ نظر و جرأة لم یشهدوها لدى أیّ تلمیذٍ آخر سابقاً .
وکان لجبران ما أراد ، ولم یخیب أمل أساتذته إذ أُعجبوا بسرعة تلقّیه و ثقته بنفسه و روحه المتمردة على کلّ قدیمٍ وضعیفٍ وبالٍ .
تعرّف جبران على یوسف الحویک وأصدرا معاً مجلة " المنارة " وکانا یحرّرانها سویة فیما وضع جبران رسومها وحده . وبقیا یعملان معاً بها حتى أنهى جبران دروسه بتفوق واضح فی العربیة والفرنسیة والشعر ( 1902) . وقد وصلته أخبار عن مرض أفراد عائلته ، فیما کانت علاقته مع والده تنتقل من سیء إلى أسوأ فغادر لبنان عائداً إلى بوسطن ، ولکنّه لسوء حظه وصل بعد وفاة شقیقته سلطانة . وخلال بضعة أشهر کانت أمه تدخل المستشفى لإجراء عملیة جراحیة لاستئصال بعض الخلایا السرطانیة . فیما قرّر شقیقه بطرس ترک المحل التجاری والسفر إلى کوبا .
وهکذا کان على جبران أن یهتم بشؤون العائلة المادیة والصحیة ، و لکنّ المآسی تتابعت بأسرع مما یمکن احتماله ، فما لبث بطرس أن عاد من کوبا مصاباً بمرضٍ قاتل وقضى نحبه بعد أیام قلیلة (12 آذار 1903 ) فیما فشلت العملیة الجراحیة التی أجرتها الوالدة فی استئصال المرض وقضت نحبها فی 28 حزیران من السنة نفسها .
إضافة إلى کل ذلک کان جبران یعیش أزمة من نوع آخر ، فهو کان راغباً فی إتقان الکتابة باللغة الإنکلیزیة ، لأنها تفتح أمامه مجالاً أرحب کثیرا من مجرد الکتابة فی جریدة تصدر بالعربیة فی أمیرکا ( کالمهاجر ) ولا یقرأها سوى عدد قلیل من الناس و لکنّ انکلیزیته کانت ضعیفة جداً ، ولم یعرف ماذا یفعل ، فکان یترک البیت ویهیم على وجهه هرباً من صورة الموت والعذاب ، وزاد من عذابه أنّ الفتاة الجمیلة التی کانت تربطه بها صلة عاطفیة ، وکانا على وشک الزواج فی ذلک الحین ( جوزیفین بیبادی ) ، عجزت عن مساعدته عملیاً ، فقد کانت تکتفی بنقد کتاباته الإنکلیزیة ثم تترکه لیحاول إیجاد حل لوحده ، فی حین أنّ صدیقه الآخر الرسام هولاند دای لم یکن قادراً على مساعدته فی المجال الأدبی کما ساعده فی المجال الفنی .
وأخیراً قدمته جوزفین إلى امرأة من معارفها اسمها ماری هاسکل (1904) ، فخطّت بذلک صفحات مرحلة جدیدة من حیاة جبران .
کانت ماری هاسکل امرأة مستقلة فی حیاتها الشخصیة وتکبر جبران بعشر سنوات ، وقد لعبت دوراً هاماً فی حیاته منذ ان إلتقیا ، فقد لاحظت ان جبران لا یحاول الکتابة بالإنکلیزیة ، بل یکتب بالعربیة أولاً ثم یترجم ذلک ، فنصحته وشجّعته کثیراً على الکتابة بالإنکلیزیة مباشرة ، وهکذا راح جبران ینشر کتاباته العربیة فی الصحف أولاً ثم یجمعها و یصدرها بشکل کتب ، و یتدرب فی الوقت نفسه على الکتابة مباشرة بالإنکلیزیة .
عام 1908 غادر جبران إلى باریس لدراسة الفنون وهناک إلتقى مجدداً بزمیله فی الدراسة فی بیروت یوسف الحویک ، و مکث فی باریس ما یقارب السنتین ثم عاد إلى أمیرکا بعد زیارة قصیرة للندن برفقة الکاتب أمین الریحانی .
وصل جبران إلى بوسطن فی کانون الأول عام 1910، حیث اقترح على ماری هاسکل الزواج والانتقال إلى نیویورک هرباً من محیط الجالیة اللبنانیة هناک والتماساً لمجال فکری وأدبی وفنی أرحب ، ولکنّ ماری رفضت الزواج منه بسبب فارق السن ، و إن کانت قد وعدت بالحفاظ على الصداقة بینهما ورعایة شقیقته مریانا العزباء وغیر المثقفة .
وهکذا إنتقل جبران إلى نیویورک ولم یغادرها حتى وفاته ، و هناک عرف نوعاً من الاستقرار مکّنه من الانصراف إلى أعماله الأدبیة والفنیة فقام برسم العدید من اللوحات لکبار المشاهیر مثل رودان وساره برنار وغوستاف یانغ وسواهم .
سنة 1923 نُشر کتاب جبران باللغة الإنکلیزیة ، وطُبع ست مرات قبل نهایة ذلک العام ثم تُرجم فوراً إلى عدد من اللغات الأجنبیة ، ویحظى إلى الیوم بشهرة قل نظیرها بین الکتب .
بقی جبران على علاقة وطیدة مع ماری هاسکال ، فیما کان یراسل أیضا الأدیبة می زیادة التی أرسلت له عام 1912 رسالة معربة عن إعجابها بکتابه " الأجنحة المتکسرة "، وقد دامت مراسلتهما حتى وفاته رغم انهما لم یلتقیا أبداً .
توفی جبران فی 10 نیسان 1931 فی إحدى مستشفیات نیویورک وهو فی الثامنة والأربعین بعد أصابته بمرض السرطان . وقد نقلت شقیقته مریانا وماری هاسکل جثمانه إلى بلدته بشری فی شهر تموز من العام نفسه حیث استقبله الأهالی ، ثم عملت المرأتان على مفاوضة الراهبات الکرملیات و أشترتا منهما دیر مار سرکیس الذی نُقل إلیه جثمان جبران ، وما یزال إلى الآن متحفاً ومقصداً للزائرین .