من أساليب التزييف التي يتّبعها أصحاب الاتجاه المحافظ المعروف، محاولة التقليل من شأن علي بن أبي طالب، بتقليل عدد الصحابة الأوائل -وبخاصة البدريين والرضوانيين- الذين شاركوه حروبه في صفين وغيرها، معتقدين أنهم يسحبون بذلك الشرعية من حروب علي، وأنه لم يكن من بين أنصاره عدد يُعتدّ به من الصحابة، لقناعتهم بأنه لم يكن مصيباً في حروبه، وبعضهم صرّح بذلك علناً، فقد قال ابن كثير:
وهاجت الفتنة وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشرات الاُلوف، فلم يحضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين. وقال الإمام أحمد: حدثنا اُمية بن خلد، قال لشعبة: إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبدالرحمان بن أبي ليلى، قال: شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا، فقال: كذب أبو شيبة، والله لقد ذاكرنا الحكم في ذلك. فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت!
وقد قيل إنه شهدها من أهل بدر سهل بن حنيف، وكذا أبو أيوب الأنصاري، قاله شيخنا العلاّمة ابن تيمية في كتاب الرد على الرافضة، وروى ابن بطة باسناده عن بكير بن الأشج أنه قال: أما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان، فلم يخرجوا إلاّ الى قبورهم!(1)
أما أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا عشرات الاُلوف، ولم يشهد الفتنة منهم إلاّ عدد قليل، فان هذا لا يعني أنهم لم يشتركوا في الفتنة أو يسهموافيها، فإن سكوتهم على ما كان يحدث تحت سمعهم وبصرهم، وخذلانهم عثمان بن عفان ليدل على موقفهم السلبي من عثمان، وقد أثبت ذلك عدد كبير من الصحابة ممن شهدوا الوقائع، منهم على سبيل المثال أحد شهود العيان، معترفاً بذلك أمام معاوية بن أبي سفيان نفسه، فقد ورد أبو الطفيل عامر بن واثلة -وهو آخر الصحابة موتاً- على معاوية بن أبي سفيان، فقال له معاوية: أنت أبو الطفيل عامر بن واثلة؟
قال: نعم. قال معاوية: أكنت ممن قتل عثمان أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكن ممن شهده فلم ينصره. قال: ولم؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار! فقال معاوية: أما والله إن نصرته كانت عليهم وعليك حقاً واجباً وفرضاً لازماً، فإذا ضيعتموه فقد فعل الله بكم ما أنتم أهله، وأصاركم الى ما رأيتم. فقال أبو الطفيل: فما منعك يا أمير المؤمنين إذ تربّصت به ريب المنون أن تنصره ومعك أهل الشام! قال معاوية: أو ما ترى طلبي لدمه نصرة له؟! فضحك أبو الطفيل وقال: بلى، ولكنك وإياه كما قال عبيد بن الأبرص:
لأعرفنك بعد الموت تندبني/وفي حياتي ما زودتني زادي(2)
فأبو الطفيل يعبّر عن موقفه وموقف المهاجرين والأنصار -وهم عشرات الاُلوف- قِبل عثمان وعدم تحرّجهم في خذلانه والامتناع عن نصرته.
أما الادعاء بأنه لم يكن مع علي بن أبي طالب غير نفر قليل من البدريين والرضوانيين، فإن هناك روايات عديدة تثبت عكس ذلك. فعن عبدالرحمان ابن أبزى، قال: شهدنا مع علي ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان، قال: قُتل منهم ثلاثة وستون، منهم عمار بن ياسر(3).
وعن سعيد بن جبير قال: كان مع علي يوم الجمل ثمانمائة من الأنصار وأربعمائة ممن بايع بيعة الرضوان.
وعن الأعمش: والله تعجبت لعلي وأصحابه، إنه كان مع علي أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، وكان مع معاوية أعاريب اليمن ولخم وجذام(4).
وقال السُدّي: شهد مع علي يوم الجمل (130) بدرياً، وسبعمائة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، وقُتل بينهما ثلاثون ألفاً، لم تكن مقتلة أعظم منها. وكان الشعبي يبالغ ويقول: لم يشهدها إلاّ علي وعمار وطلحة والزبير من الصحابة!(5).
وقال الزرقاني في نهج المسالك: أتى علي(رضي الله عنه) في أهل العراق في سبعين ألفاً، فيهم تسعون بدرياً وسبعمائة من أهل بيعة الرضوان وأربعمائة من سائر المهاجرين والأنصار، وخرج معاوية في أهل الشام في خمسة وثمانين ألفاً، ليس فيهم من الأنصار إلاّ النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد!
وقد أخرج ابن كثير عن ابن ديزيل من طريق عمرو بن سعد باسناده، أن قرّاء اهل العراق وقرّاء أهل الشام عسكروا ناحية وكانوا قريباً من ثلاثين ألفاً، وأن جماعة من قرّاء العراق منهم: عبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس، وعامر ابن عبد قيس، وعبدالله بن عقبة بن مسعود وغيرهم، جاءوا الى معاوية فقالوا له: ما تطلب؟ قال: أطلب بدم عثمان! قالوا: فمن تطلب به؟ قال: علياً! قالوا: أهو قتله؟ قال: نعم! وآوى قتلته(6).
فانصرفوا إلى علي، فذكروا له ما قال، فقال: كذب! لم أقتله، وأنتم تعلمون أني لم أقتله. فرجعوا الى معاوية فقال: إن لم يكن قتله بيده، فقد أمر رجالا! فرجعوا إلى علي فقال: والله ما قتلت ولا أمرت ولا ماليت. فرجعوا، فقال معاوية: فإن كان صادقاً فليقدنا من قتلة عثمان فإنهم في عسكره وجنده. فرجعوا، فقال علي: تأوّل القوم عليه القرآن في فتنة، ووقعت الفرقة لأجلها، وقتلوه في سلطانه وليس لي عليهم سبيل، فرجعوا الى معاوية فأخبروه.
فقال: إن كان الأمر على ما يقول، فماله أنفذ الأمر دوننا من غير مشورة منا ولا ممّن هاهنا؟! فرجعوا الى علي فقال علي: إنما الناس مع المهاجرين والأنصار، فهم شهود الناس على ولايتهم وأمر دينهم، رضوا بي وبايعوني، ولستُ استحل أن أدع مثل معاوية يحكم على الاُمة ويشق عصاها. فرجعوا الى معاوية فقال: ما بال من هاهنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر؟ فرجعوا فقال علي: إنما هذا للبدريين دون غيرهم، وليس على وجه الأرض بدري إلاّ وهو معي! وقد بايعني وقد رضي، فلا يغرنكم من دينكم وأنفسكم(7).
فها هنا أيضاً نلاحظ أن معاوية يحاول التشبث بأي عذر للتوصل الى غرضه، ومن العجيب أنه يستنكر إنفاذ أمر البيعة دون علمه ومشورته، وهو ليس من المهاجرين ولا الأنصار، ولا سابقة له، بل هو طليق من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة ولا حتى إبداء الرأي فيها!(8).
أما احتجابه بمن معه من المهاجرين والأنصار فهو مدعاة للسخرية، فضلا عن أنه لم يكن معه ولا بدري واحد، إذ أكد علي بن أبي طالب على أن جميع البدريين معه! وقد وصف علي بن أبي طالب الفئة الباغية بقوله لأصحابه:
قاتلوا من حاد الله ورسوله وحاول أن يطفئ نور الله، فقاتلوا الخاطئين الضالّين القاسطين الذين ليسوا بقرّاء قرآن ولا فقهاء في الدين ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل من سابقة الاسلام، والله لو ولّوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل!(9).
والعجيب بعد كل هذه الأدلة التي تكشف عن نوايا معاوية وأغراضه، أن تجد بعض المؤلفين المعاصرين يلوّحون بما يعتمل في أنفسهم، وتنضح أقلامهم بما يحاولون التستر عليه من مكنونهم دون جدوى، فالدكتور امحزون يحاول كسلفه محب الدين الخطيب وغيره من القدماء كابن كثير وغيره أن يبرئ معاوية، ويلقي التبعة على علي بن أبي طالب، إذ يقول:
وقد كان في إمكان علي(رضي الله عنه) اتخاذ وسائل اُخرى غير السيف لتهدئة الأحوال وجمع الكلمة، وللصلح أبواب كثيرة، ولو بالتنازل عن بعض الحق، إذ لا يلزم من كونه إماماً شرعياً أن يكون قتاله لأهل الجمل وصفين صواباً وحقاً باطلاق!!(10).
إن المشكلة تتلخص في أن بعض الباحثين وهم يتمسكون بجزء من القضية ويتشبثون بروايات معينة دون غيرها، ويحاولون أن يجعلوها هي الأساس لمتبنياتهم، لكنهم وللاشكالات المعقدة التي تطرحها هذه الروايات، سرعان ما يجدون أنفسهم مضطرين لمخالفتها دون وعي منهم، فهل نسي الدكتور امحزون أنه حتى روايات سيف بن عمر نفسها حول معركة الجمل -والتي يعتمدها الدكتور امحزون- تقول بأن علياً بذل الصلح لأهل الجمل، ولم يبدأهم بقتال، ولكن السبائية هم الذين انشبوا الحرب كما تدعي الرواية!
أما إذا كان الدكتور امحزون يعلم - في قرارة نفسه- أن تلك الروايات مكذوبة، فإن الروايات التي جاءت عن الثقات، والتي سبق وأن أوردناها حول معركة الجمل، تؤكد أن علياً قد بذل لهم الصلح أيضاً، ووقف ثلاثة أيام يفاوضهم ويعظهم وينصحهم، وأنه دعا طلحة والزبير ووعظهما، وأنه لم يبدأ الحرب حتى دعاهم الى كتاب الله، ولكنهم هم الذين بدأوه القتال! وهلاّ كان الدكتور امحزون يوجّه هذه الملاحظة الى موقف معاوية وينصحه بالتنازل عن بعض حقه - إن كان معه شيء من الحق أصلا- ومع ذلك فإن الدكتور امحزون يعود فيناقض نفسه حيث يقول:
وذكر يحيى بن سليمان الجعفي في (كتاب صفين) بسند جيد عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً في الخلافة; أو أنت مثله! قال: لا، وإني أعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه؟ فأْتوا علياً فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان.
فأتوه فكلّموه، فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي، فامتنع معاوية(11).
فلماذا لم يتنازل معاوية عن شرطه بدفع قتلة عثمان إليه ليقتلهم كما هي عادة الجاهلية التي نهى عنها الإسلام، ولماذا ظل يرفض طلب الخليفة المنسجم مع مبادئ الإسلام، فيدخل في الطاعة أولا، ثم يحتكم الى الخليفة في قتلة عثمان؟ إن السبب واضح تماماً، إذ أن معاوية كان يعلم أنه يراهن على جواد خاسر، ولكن لم تكن لديه ذريعة اُخرى يحقق بها مطامعه.
وأخيراً فإن هؤلاء المؤلفين لو كانوا يبتغون الحقيقة كما هي من دون ميل مع الهوى لوجدوها، ولكنهم غضوا أنظارهم عنها، وحاولوا أن يجعلوا معاوية محقاً في دعواه بأي ثمن، ولو بافتعال ذريعة التأول الخاطئوقد عبّر علي بن أبي طالب عن موقف هؤلاء بقوله: وحزبنا حزب الله، والفئة الباغية حزب الشيطان، ومن ساوى بيننا وبين عدونا فليس منا(12).
1- البداية والنهاية 7: 252.
2- مروج الذهب 3: 26، تاريخ دمشق 26: 116، مختصر تاريخ دمشق 11: 293، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 186.
3- تاريخ خليفة بن خياط: 145، 148، وقال الذهبي: سنده صحيح، ورجاله بين الثقة والصدوق، تاريخ الاسلام 3: 545.
4- التاريخ الصغير: 125 بسند صحيح.
5- سير اعلام النبلاء 3: 484.
6- قال محب الدين الخطيب في الهامش (282) من كتاب العواصم من القواصم "ليس في أهل السنّة رجل واحد يتهم علياً بقتل عثمان، لا في زماننا، ولا في زمانه"!
7- البداية والنهاية 7: 257.
8- 2 الاستيعاب 2: 85، اُسد الغابة 4: 387، الطبقات الكبرى 3 / 1 / 248.
9- الكامل لابن الاثير 3: 339.
10- تحقيق مواقف الصحابة 2: 170.
11- تحقيق مواقف الصحابة 2: 47 عن ابن حجر في الفتح 13: 86.
12- كنز العمال 6: 89.