
كانت أحداث سقيفة بني ساعدة وما جرى بعدها، أول مواجهة بين المسلمين والواقع الجديد الذي فرضه غياب النبي (صلى الله عليه وآله)، حيث كان وجوده بينهم بمثابة صمام الأمان للمشاكل التي كان يمكن أن تظهر لسبب أو لآخر، إلاّ أن غيابه المفاجئ قد جعلهم وجهاً لوجه أمام قضية هي أخطر وأهم القضايا التي واجهتها الاُمة منذ وفاته (صلى الله عليه وآله) والى يومنا هذا، ألا وهي مسألة الخلافة والإمامة، وهي المسألة التي ظلت مدار الجدل بين المتكلّمين من المسلمين على مرّ العصور، وكل فريق يدلي بحججه ومستنداته لدعم نظريته فيها، لذا كثر اللغط حول هذه القضية، وتضاربت الأخبار والروايات فيها، ومال الجمهور الى اعتماد الروايات التي تدعم نظريته، والتي توحي بأن شيئاً لم يقع سوى خلاف بسيط بين المهاجرين والأنصار، وأن الأنصار سرعان ما انصاعوا للمهاجرين بعد أن قرعهم المهاجرون بالحجة.
وأما علي بن أبي طالب وبنو هاشم وعدد آخر من علية الصحابة، فقد بايعوا جميعاً دون تردد -حسب بعض تلك الروايات- أو بعد تردد بسيط حسب روايات اُخرى، وانتهت المشكلة، وسارت الاُمور على خير ما يرام، حيث يشير الى ما في معنى ذلك، القاضي ابن العربي الذي يلخص الأحداث بقوله: واضطربت الحال، ثم تدارك الله الإسلام ببيعة أبي بكر، فكان موت النبي (صلى الله عليه وآله) قاصمة الظهر، ومصيبة العمر، فأما علي فاستخفى في بيته مع فاطمة، وأما عثمان فسكت، وأما عمر فأهجر وقال: ما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنما واعده ربه كما واعد موسى، وليرجعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فليقطعن أيدي ناس وأرجلهم.
وتعلق بال العباس وعلي بأمر أنفسهما في مرض النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال العباس لعلي: إني أرى الموت في وجوه بني عبدالمطلب، فتعال حتى نسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فان كان الأمر فينا علمناه!
وتعلق بال العباس وعلي بميراثهما فيما تركه النبي (صلى الله عليه وآله) من فدك وبني النضير وخيبر.
واضطرب أمر الأنصار يطلبون الأمر لأنفسهم، أو الشركة فيه مع المهاجرين، وانقطعت قلوب الجيش الذي كان قد برز مع اُسامة بن زيد بالجرف. فتدارك الله الإسلام والأنام -وانجابت الغمة انجياب الغمام، ونفذ وعد الله باستئثار رسول الله، وإقامة دينه على التمام، وإن كان قد أصاب ما أصاب من الرزية الإسلام- بأبي بكر الصدّيق فكشف عن وجهه، وأكب عليه يقبله وقال: بأبي أنت واُمي يا رسول الله، طبت حياً وميتاً، والله لا يجمع الله عليك الموتتين.
واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة يتشاورون، ولا يدرون ما يفعلون، وبلغ ذلك المهاجرين فقالوا: نرسل إليهم يأتوننا، فقال أبو بكر: بل نمشي إليهم، فسار إليهم المهاجرون، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فتراجعوا الكلام، فقال بعض الأنصار: منا أمير ومنكم أمير.. فقال أبو بكر كلاماً كثيراً مصيباً، يكثر ويصيب، منه: نحن الاُمراء وأنتم الوزراء. إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "الأئمة من قريش"، وقال "اُوصيكم بالأنصار خيراً، أن تقبلوا من محسنهم وتتجاوزوا عن مسيئهم". إن الله سمّانا (الصادقين)، وسمّاكم (المفلحين)، وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا، فقال: (يا أُيّها الذينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَكونُوا مَعَ الصادِقينَ)، إلى غير ذلك من الأقوال المصيبة والأدلة القوية، فتذكرت الأنصار ذلك، وانقادت إليه، وبايعوا أبا بكر الصدّيق(1).
فالمسألة -حسب رأي ابن العربي- أن علياً قد اختفى في بيته مع فاطمة زوجته، ويبدو أن ابن العربي يعلل الأمر بأنه بدافع الحزن أو الصدمة لوقع المصيبة ليس إلاّ، ومع ذلك فعلي يبادر مع عمه العباس للاطمئنان على ميراثهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كأن ليس هناك أمر آخر يشغل بالهما، وأما الأنصار فتراجعوا جميعاً عن موقفهم بعد احتجاج أبي بكر عليهم، فليست هناك مشكلة حقيقية ولله الحمد.
أما ابن كثير، فيبدو أكثر عقلانية وموضوعية من ابن العربي، حيث يختار مجموعة من الروايات عن المحدثين في الغالب لدعم وجهة نظره التي يبينها فيما بعد، حيث أورد عن أبي سعيد الخدري، قال: قُبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة وفيهم أبو بكر وعمر. قال: فقام خطيب الأنصار فقال: أتعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان من المهاجرين، وخليفته من المهاجرين، ونحن كنّا أنصار رسول الله، ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره. قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: صدق قائلكم، أما لو قلتم على غير هذا لم نبايعكم، وأخذ بيد أبي بكر وقال: هذا صاحبكم فبايعوه، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصار. قال: فصعد أبو بكر المنبر، فنظر في وجوه القوم ولم ير الزبير، قال: فدعا بالزبير فجاء، فقال: قلت ابن عمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين! قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقام فبايعه، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير علياً، فدعا بعلي بن أبي طالب فجاء، فقال: قلت ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين! قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبايعه. هذا أو معناه.
وقال أبو علي الحافظ: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: جاءني مسلم بن الحجاج فسألني عن هذا الحديث، فكتبته له في رقعة وقرأته عليه، وهذا حديث يسوى بدنة، بل يسوى بدرة! وقد رواه البيهقي، عن الحاكم وأبي محمد بن حامد المقري، كلاهما، عن أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم، عن جعفر بن محمّد بن شاكر بن عفان بن سلم، عن وهيب به، ولكن ذكر أن الصدّيق هو القائل لخطيب الأنصار بدل عمر، وفيه: أن زيد بن ثابت أخذ بيد أبي بكر على المنبر، نظر في وجوه القوم فلم ير علياً. فسأل عنه، فقام ناس من الأنصار فأتوا به، فذكر نحو ما تقدم، ثم ذكر قصة الزبير بعد علي. فالله أعلم.
وقد رواه علي بن عاصم عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، فذكر نحو ما تقدم، وهذا إسناد صحيح محفوظ... وفيه فائدة جليلة وهي مبايعة علي بن أبي طالب إمّا في أول يوم، أو في اليوم الثاني من الوفاة. وهذا حق، فان علي بن أبي طالب لم يفارق الصدّيق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه.... ولكن لما حصل من فاطمة رضي الله عنها عتب على الصدّيق بسبب ما كانت متوهمة من أنها تستحق ميراث رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم تعلم بما أخبرها به الصدّيق(رضي الله عنه) أنه قال: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة"، فحجبها وغيرها من أزواجه وعمه عن الميراث بهذا النص الصريح... فسألته أن ينظر علي في صدقة الأرض التي بخيبر وفدك، فلم يجبها إلى ذلك، لأنه رأى أن حقاً عليه أن يقوم في جميع ما كان يتولاه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو الصادق البار الراشد التابع للحق(رضي الله عنه)، فحصل لها - وهي امرأة من البشر ليست براجية العصمة- عتب وتغضّب، ولم تكلّم الصدّيق حتى ماتت! واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها (صلى الله عليه وآله)، رأى علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر(رضي الله عنه) كما سنذكره من الصحيحين وغيرهما فيما بعد إن شاء الله تعالى، مما تقدم له من البيعة قبل دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ويزيد ذلك صحة، قول موسى بن عقبة في مغازيه، عن سعد بن إبراهيم، حدّثني أبي أن أباه عبدالرحمان بن عوف كان مع عمر، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير، ثم خطب أبو بكر واعتذر الى الناس وقال: ما كنت حريصاً على الامارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتها في سرّ ولا علانية، فقبل المهاجرون مقالته، وقال علي والزبير: ما غضبنا إلاّ لأنا اُخّرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها، وإنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخبره، ولقد أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يصلي بالناس وهو حي! إسناد جيد ولله الحمد والمنّة. ومن تأمل ما ذكرناه، ظهر له إجماع الصحابة -المهاجرين منهم والأنصار- على تقديم أبي بكر، وظهر برهان قوله (عليه السلام): "يأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر"، وظهر له أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم ينص على الخلافة عيناً لأحد من الناس، لا لأبي بكر كما قد زعمه طائفة من أهل السنّة، ولا لعلي كما يقوله طائفة من الرافضة، ولكن أشار إشارة قوية يفهمها كل ذي لب وعقل الى الصدّيق كما قدّمنا...!(2)
رواية الطبري عن سيف
تكاد الروايات التي استعرضها ابن كثير حول موضوع الخلافة، تتطابق مع ما أخرجه الطبري عن سيف بن عمر الذي بدا أكثر حماساً لهذا الاتجاه، فقد أخرج عنه، قال: قال عمرو بن حريث لسعيد بن زيد: أشهدت وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: نعم. قال: فمتى بويع ابو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة! قال: فخالف عليه أحد؟ قال: لا، إلاّ مرتد، أو من قد كاد أن يرتد، لولا أن الله عزّوجل ينقذهم من الأنصار. قال: فهل قعد أحد من المهاجرين؟ قال: لا، تتابع المهاجرون على بيعته من غير أن يدعوهم.وأخرج عنه أيضاً، قال: كان عليٌّ في بيته، إذ اُتي فقيل له: قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء، عجلا كراهية أن يبطئ عنها حتى بايعه، ثم جلس إليه وبعث الى ثوبه فأتاه فتجلله، ولزم مجلسه!(3).
ولكنهم قالوا: "لما أكثر في تخلف علي عن بيعة أبي بكر واشتد أبو بكر وعمر عليه في ذلك، خرجت اُم مسطح بن اُثاثة، فوقفت عند القبر وقالت:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة/ لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها / واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب(4)
فما هي هذه الاُمور وهذه الهنبثة التي ذكرتها اُم مسطح وهي تشكو إلى القبر الشريف؟
الآراء المضادة
لقد كانت الآراء التي استعرضناها -والتي تناولها ابن كثير بشيء من التفصيل- تمثل وجهة نظر قسم من الجمهور في أمر السقيفة وما جرى فيها، وبقي لنا أن نتعرض للآراء الاُخرى التي تمثل وجهة نظر مخالفي عامة الجمهور، وإن كانت في الحقيقة اُمور يعترف بها الكثيرون ممن هم على مذهب الجمهور أيضاً.لقد جمع ابن أبي الحديد الكثير من هذه الروايات واستقاها من مصادرها الرئيسة كتاريخ الطبري وكتاب السقيفة للجوهري إضافة لكتب المحدّثين الذين أوردوا مختلف الروايات فيها، حيث قال:
اختلفت الروايات في قصة السقيفة، فالذي تقوله الشيعة - وقد قال قوم من المحدّثين بعضه ورووا كثيراً منه- أن علياً (عليه السلام) امتنع من البيعة حتى أخرج كرهاً، وأن الزبير بن العوام امتنع من البيعة وقال: لا أُبايع إلاّ علياً (عليه السلام)، وكذلك أبو سفيان بن حرب، وخالد بن سعيد بن العاص بن اُمية بن عبد شمس، والعباس بن عبد المطلب وبنوه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وجميع بني هاشم. وقالوا: إن الزبير شهر سيفه، فلما جاء عمر ومعه جماعة من الأنصار وغيرهم، قال في جملة ما قال: خذوا سيف هذا فاضربوا به الحجر، ويقال إنه أخذ السيف من يد الزبير فضرب به حجراً فكسره، وساقهم كلهم بين يديه الى أبي بكر، فحملهم على بيعته، ولم يتخلف إلاّ علي (عليه السلام) وحده، فانه اعتصم ببيت فاطمة (عليها السلام)، فتحاموا إخراجه منه قسراً، وقامت فاطمة (عليها السلام) الى باب البيت، فأسمعت من جاء بطلبه، فتفرقوا عنه، وعلموا أنه بمفرده لا يضر شيئاً، فتركوه وقيل إنهم أخرجوه فيمن أخرج وحمل الى أبي بكر فبايعه، وقد روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري كثيراً من هذا.
فأما حديث التحريق وما جرى من الاُمور الفظيعة، وقول من قال إنهم أخذوا علياً (عليه السلام) يُقاد بعمامته والناس حوله، فأمر بعيد، والشيعة تنفرد به، على أن جماعة من أهل الحديث قد رووا نحوه...!(5)
فيتبين من كلام المعتزلي، أن إسراع علي الى البيعة - كما ادعت بعض الروايات التي ذكرناها- تقابلها روايات اُخرى تقول بأنه ومعه عدد آخر من الناس قد امتنعوا عن البيعة، واعترف ابن أبي الحديد بأن المحدّثين قد أخرجوا ذلك أيضاً، ويبقى ادعاؤه حول الروايات الاُخرى في إخراج علي بن أبي طالب قسراً وإحراق بيت فاطمة - التي قال المعتزلي بتفرد الشيعة بروايتها أولا- لكنه يعود فيعترف بأن المحدّثين قد أخرجوا بعضاً منها، وسنحاول التعرض لها على الترتيب محاولين استشفاف الأحداث من مواقف أصحاب الشأن أنفسهم.
رواية عمر بن الخطاب
تعدّ رواية عمر بن الخطاب لبعض أحداث السقيفة من أهم الوثائق التي اُرّخت لهذه القضية، وقد أخرجها المؤرخون وأيدها المحدّثون، ولا يخلو مصدر مهم منها، وسوف أوردها بلفظ البخاري عن ابن عباس، قال: كنتُ أُقرئ رجالا من المهاجرين، منهم عبدالرحمان بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب، في آخر جمعة حجّها، إذ رجع إليَّ عبدالرحمان فقال: لو رأيتَ رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعتُ فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتةً فتمّت! فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم اُمورهم. قال عبدالرحمان: فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل، فان الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فانهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يُطيّرها عنك كل مطيِّر، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فانها دار الهجرة والسُّنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها. فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أوّل مقام أقومه بالمدينة.قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجّلنا الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل الى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولن العشيّة مقالة لم يقلها منذ استخلف! فأنكر عليَّ وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقله قبله؟ فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذنون، قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فاني قائل لكم مقالة قد قُدّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا اُحلّ لأحد أن يكذب عليَّ، إن الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة أو كان الحبل أو الاعتراف، ثم إنّا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو أن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ألا إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "لا تُطروني كما اُطري عيسى بن مريم، وقولوا عبدالله ورسوله"، ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول: والله لو مات عمر بايعتُ فلاناً، فلا يغترنّ امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتةً وتمّت، ألا إنها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرّها، وليس منكم من تُقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين، فلا يبايَع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يُقتلا، وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه (صلى الله عليه وآله)، إلاّ أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنّا عليٌّ والزبير ومن معهما! واجتمع المهاجرون الى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر، انطلق بنا الى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم، لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالى عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم، فقلت: والله لنأتينّهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فاذا رجل مزمّل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة. فقلت: ماله؟ قالوا: يوعك. فلما جلسنا قليلا تشهّد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفّت دافّة من قومكم، فاذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر. فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنتُ زوّرت مقالة أعجبتني أريد أن اقدّمها بين يدي ابي بكر، وكنت اُواري منه بعض الحد. فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن اُغضبه، فتكلّم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاّ قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت، فقال ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن اُقدّم فتضرب عنقي لا يقرّبني ذلك من إثم أحب إليَّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلاّ أن تسوِّل إليّ نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن، فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكَّك، وعُذيقها المرجَّب، منّا أمير ومنكم أمير، يا معشر قريش، فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقتُ من الاختلاف، فقلت: اُبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل الله سعد بن عبادة. قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا، فإمّا بايعناهم على ما لا نرضى، وإما نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين، فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرةً أن يُقتلا(6).
وهذه الوثيقة التاريخية المهمة تحتاج الى تفصيل بعض فقراتها.
المصادر :
1- العواصم من القواصم: 54.
2- البداية والنهاية 5: 245 وما بعدها.
3- تاريخ الطبري 3: 207 حوادث سنة 11.
4- شرح نهج البلاغة 2: 50 عن الجوهري عن عمر بن شبة بسنده.
5- شرح نهج البلاغة 2: 21.
6- صحيح البخاري 8: 208 كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، مسند أحمد 1: 55، تاريخ الطبري 3: 203، البداية والنهاية 5: 245، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 51، تاريخ الإسلام للذهبي عهد الخلفاء الراشدين صفحة 6 وقال: متفق على صحته، سيرة ابن هشام 4: 261، أنساب الاشراف للبلاذري 1: 583، تاريخ اليعقوبى 2: 123، البدء والتاريخ للمقدسي 5: 64، نهاية الأرب للنويري 19: 29، عيون التواريخ للكتبي 1: 485، مناقب عمر لابن الجوزي: 51، الكامل في التاريخ 2: 124 حوادث سنة 11 هـ. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 22.