![أخلاق الطبیب المسلم أخلاق الطبیب المسلم](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/A12751.jpg)
إنّ الله جلّ جلاله هو الطبیب الأوّل ، فهو المعافی والمشافی ، وقد ورد فی نصوص الأدعیة : « یا من اسمه دواء ، وذکره شفاء»(1)، بیده أزمّة الاُمور طرّاً ، وهو القادر علی کلّ شیء ، وهو العلیم الحکیم.
خلق الإنسان وعلّمه البیان ، ورکّبه من روح وجسد ، وابتلاه فی جسده بالأسقام والأمراض ، واختلاف المزاج واعتداله وصحّته ، کما شاءت حکمته أن یبتلیه بالصفات الذمیمة والسجایا الحمیدة ، فهداه النجدین ، إمّا شاکراً وإمّا کفوراً ، فإنّ الدنیا دار الامتحان والابتلاء:
(لِیَبْلُوَکُمْ أ یُّکُمْ أحْسَنُ عَمَلا)(2)
ثمّ من اللطف الرحمانی أنزل إلیه الکتب السماویة ، وبعث إلیه الرسل والأنبیاء لیهتدی إلی ما فیه الخیر والصلاح ، وسعادته فی الدارین.
فعلّمه علم الأدیان وعلم الأبدان ، وقرّر لسلامة روحه من الأمراض النفسیة والأخلاق الذمیمة ، شریعة سمحاء تتمثّل بالصحف الإلهیة ، وبهدایة الأنبیاء (علیهم السلام) ، وورثتهم کعلماء الأخلاق ، کما علّمه ما یعالج به أمراضه الجسدیة من خلال تشخیص الأطباء ، الذین تشرّفوا بمظهریّتهم لاسمه الشافی والمعافی والطبیب والمحیی جلّ جلاله.
قال الله تعالی:
(وَمَنْ أحْیاها فَکَأ نَّما أحْیا النَّاسَ جَمیعاً)(3)
والطبیب إنّما هو مظهر اسم الله المحیی والطبیب الشافی ، وإنّ الطبیب بمنزلة ماء الرحمة لمرضاه ، وهو الوسیط بین الرحمة الخالقیة وافتقار المخلوق.
الإنسان ثمرة شجرة الوجود ، لقد کرّمه الله سبحانه ، وتمدّح بخلقه ، وسخّر له کلّ شیء ، وجعله خلیفته فی أرضه.
هذا الإنسان العظیم الکائن الذی لا یزال مجهولا ، معرّض للأمراض والأسقام ، والمتولّی لمعالجته ومراقبة سلامة بدنه إنّما هو الطبیب.
وقیل فی تعریف علم الطبّ وبیان موضوعه : « موضوع علم الطبّ بدن الإنسان ، ومن البدیهیات أنّ هذا الموضوع فی عالم الکون والفساد أجلّ وأشرف من سائر الکائنات ، فلا جرم العلم به أجلّ وأشرف من سائر العلوم ، لا سیّما إذ ورد به الخبر المأثور عن النبیّ (صلی الله علیه وآله) حیث قال : العلم علمان : علم الأبدان وعلم الأدیان» وقدّم علم الأبدان علی علم الأدیان ضرورة أنّ اکتساب سائر العلوم یحتاج إلی فهم سلیم ومزاج مستقیم ، فاحتجنا ضرورة إلی علم یحفظ به الصحّة وهو علم الطبّ»(4)
والإنسان بطبعه مدنی ، یحتاج إلی تشکیل المدینة الفاضلة التی یسودها العدل والحریة والأمن والسعادة لیتکامل فیها ، ویصل إلی اُنشودته ، وما خلق من أجله.
فهیکل الاجتماع المتکوّن من أفراد المجتمع لسلامته یفتقر إلی حکومة العدل الإلهی ، ولسلامة أبدان أفراده إلی طبیب حاذق ، ولسلامة أرواحهم إلی عالم بصیر متّقی.
قال إمامنا الصادق (علیه السلام) : لا یستغنی أهل کلّ بلد عن ثلاثة یفزع إلیه فی أمر دنیاهم وآخرتهم ، فإن عدموا ذلک کانوا همجاً : فقیه عالم ورع ، وأمیر خیر مطاع ،وطبیب بصیر ثقة.
فهؤلاء عمدة الأرکان واُصول سعادة المجتمع ، وإن کان هناک عوامل اُخری لسعادة المدینة الفاضلة کالتاجر الأمین والعامل المخلص والفلاّح الموفّق وغیرهم.
فسلامة البدن من وسائل التقدّم والازدهار ، ویقول الله سبحانه فی حقّ نبیّه عیسی ویحیی:
(وَالسَّلامُ عَلَیْهِ یَوْمَ وُلِدَ)(5)
أی سلامة المولود ، فهی تعین الإنسان علی سیره وسفره فی أسرار الطبیعة وخزائن الکون.
وکمال الإنسان وطیّ مراحله العقلیّة إنّما من عوامله الهامّة سلامة الجسد ، فإنّ البدن السقیم یشکل علیه الفکر المستقیم ، وإنّه بسفینته السلیمة ومرکبه السالم ـ أعنی بدنه ـ إنّما یمکنه أن یخوض فی بحار الوجود.
والمتکفّل لسلامة البدن وحفظه هو علم الطبّ الشریف . وإنّما أورث الله علم الطبّ الطبیب ، فأیّ نعمة للطبیب أعظم من هذه ، وأیّ موهبة أجمل من هذه.
ألیس شکرها علی الطبیب أن یتواضع لمریضه ، ویحسّ بآلامه وأسقامه ، فیتعامل معه بأخلاقه الحسنة وأنفاسه الطیّبة ، فإنّ نشاطه وانبساطه ونظراته تؤثّر فی أعماق المریض وقلبه ، وکذا انقباضه وسوء خلقه وسریرته ، حتّی ثوبه الأبیض یفرّق بصره ویدخل السرور علیه ، کما أنّ الأسود قابض للبصر ، یجلب الحزن.
وما أکثر علاج الأمراض بخلق الطبیب الحسن ، وتدبیره النفسانی ، وتأثیر کلامه الروحانی ، ولطافة روحه.
ولا یکفی العلم فی إصلاح المجتمع والنفوس البشریة ، بل لا بدّ أیضاً من العمل الصالح ، فإنّما یُحلّق الإنسان فی آفاق السعادة بجناحی العلم النافع والعمل الصالح ، فلا بدّ من تربیة النفس وإصلاحها وتعدیل الغرائز والمیول والعواطف ، ولولا ذلک لکان کالأنعام بل أضلّ سبیلا . ولمثل هذا أنزل الله الکتب وأرسل الرسول وبعث الأنبیاء ، ومن ثمّ الأوصیاء وخلفائهم العلماء الصلحاء ، فمقصودهم تربیة الإنسان تربیة صحیحة لیعیش بمعرفة وحیاة طیّبة وسیر تکاملی نحو الکمال المطلق ومطلق الکمال وهو الله سبحانه ، وإلی الله ترجع الاُمور:
(وَإنَّکَ کادِحٌ إلی رَبِّکَ کَدْحاً فَمُلاقیهِ)(6)
وإلی الله المنتهی وإلیه راجعون.
فلا بدّ من علم الأخلاق والحکمة العملیة ، والأخلاق عبارة عن تزکیة النفس وطهارتها من الرذائل والذمائم والسجایا السیّئة ، وتحلّیها بالأخلاق الحمیدة والمکارم والمحاسن والکمالات الخُلقیة ، وتجلیتها لنیل سعادتها الأبدیة.والأخلاق جمع الخلق وهو بمعنی الفطرة والخلقة والطبیعة:
(فِطْرَةَ اللهِ الَّتی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْها)(7)
وبالفطرة السلیمة یمکن للإنسان أن یطوی مراحل السعادة لولا تأثیر الأبوین والبیئة والمجتمع الفاسد ، فعن النبیّ الأکرم محمّد (صلی الله علیه وآله) : « کلّ مولود یولد علی الفطرة ، إلاّ أبواه یهوّدانه أو ینصّرانه أو یمجّسانه».
وموضوع علم الأخلاق نفس الإنسان ، الذی بعث الأنبیاء من أجل تکمیل مکارم أخلاقها ، وهدایتها إلی فلسفة خلقتها ، ومبدئها ومعادها وکلّ واحد من الناس علیه أن یبدأ أوّلا من نفسه وباطنه ، لأنّ الله قد جعل فیه رأس المال الأخلاقی ، کما فی قوله تعالی:
(فَألْهَمَها فُجورَها وَتَقْواها)(8)
ویقول أمیر المؤمنین علیّ (علیه السلام) : « من لم یعن علی نفسه حتّی یکون له منها واعظ وزاجر ، لم یکن له من غیرها زاجر ولا واعظ»(9)
فلا بدّ من إعانة النفس علی إصلاحها بضمیر حیّ ووجدان واع ، ومن توفیقات الله أن یکون للإنسان واعظ من نفسه ، وأنّ وجدان الإنسان خیر محکمة لا یحتاج فیها إلی قاض.
«کفاک أدباً لنفسک اجتناب ما تکرهه من غیرک» ، « أحبب لأخیک ما تحبّ لنفسک».
فالسعادة إنّما تتمّ بتأدیب النفس وإصلاحها ، ومکمّل علم الإنسان عمله ، ولا خیر فی علم لا عمل فیه.
ومن أصلح سریرته فإنّه یفوق الملائکة ، ومن تبع شهوته وغلبه هواه ، فإنّه یکون أضلّ من الحیوانات.
ثمّ بین الطبّ والأخلاق علاقة وثیقة ، فإنّ الطبّ لسلامة البدن وهو المرکوب ، والأخلاق لسلامة الروح وهو الراکب ، فلا بدّ منهما ، وربما لمثل هذه العلاقة الوثیقة ورد فی الخبر « العلم علمان : علم الأبدان وعلم الأدیان».
فالطبّ حافظ الجسم ، والأخلاق تحامی الروح ، والأوّل یلطّف الأجواء الفیزیاویة ، والثانی یساعد علی تحسین الروابط الاجتماعیة . فالتغافل عن أحدهما یساوی التعاسة فی الحیاة.
والأنبیاء وورثتهم کما کانوا یهدون الناس إلی الصراط المستقیم ، کانوا یعالجون الناس فی أجسادهم ، فتوارثنا کتب طبیّة ، کطبّ النبیّ وطبّ الإمام الصادق وطبّ الرضا وطبّ الأئمة (علیهم السلام) . فهی مجموعة دساتیر طبّیة وعلاجیة.
وحینما عنونّا رسالتنا هذه « أخلاق الطبیب فی الإسلام» إنّما نشیر إلی علمین شریفین متقارنین ، أحدهما یتعلّق بجسم الإنسان والآخر بروحه ، وهما علم الطبّ وعلم الأخلاق.
والطبّ من علوم الدنیا والأخلاق من علوم الآخرة ، کما جاء إشارة ذلک فی الحدیث النبویّ الشریف : « إنّما العلم ثلاث : آیة محکمة ، وسنّة قائمة ، وفریضة عادلة» ، أی علم الکلام وعلم الأخلاق وعلم الفقه ، فإنّ الذی یتکفّل تهذیب نفس الإنسان ، وصیقلة روحه ، وتنویر قلبه ، وسلامة فطرته ، هو علم الأخلاق.
والرسول الأعظم خاتم النبیّین محمد (صلی الله علیه وآله) یشیر إلی فلسفة بعثته فی قوله الکریم : « إنّما بُعثت لاُتمّم مکارم الأخلاق» ، وإنّ الله قد مدح خُلقه فی قوله تعالی:
(وَإنَّکَ لَعَلی خُلُق عَظیم)(10)
وإنّ عائشة قالت فی بیان خلق النبیّ : « وکان خلقه القرآن» ، فکان (صلی الله علیه وآله)یجسّم ویمثّل القرآن الکریم ، والله سبحانه قد أعطی المعجون الأوّل لتربیة الإنسان فألهمه الخیر والشرّ بفطرته السلیمة:
(فَألْهَمَها فُجورَها وَتَقْواها)(11)
وهذا الإلهام یُعدّ الرأس المال الأوّل لعلم الأخلاق ، ومن عمل بما علم أورثه الله علم ما لا یعلم ، ومن سار فی آیات الله الآفاقیّة والأنفسیّة یتبیّن له الحقّ ، ویصل إلی قمّة الکمال وذروة السعادة الأبدیّة ، قاب قوسین أو أدنی.
قال الله تعالی:
(یا أ یُّها الَّذینَ آمَنوا هَلْ أدُلُّکُمْ عَلی تِجارَة تُنْجیکُمْ مِنْ عَذاب ألیم تُؤْمِنونَ بِاللهِ وَرَسولِهِ وَتُجاهِدونَ فی سَبیلِ اللهِ بِأمْوالِکُمْ وَأنْفُسِکُمْ ذلِکُمْ خَیْرٌ لَکُمْ إنْ کُنْتُمْ تَعْلَمونَ)(12)
(الَّذینَ یَذْکُرونَ اللهَ قِیاماً وَقُعوداً وَعلی جُنوبِهِمْ وَیَتَفَکَّرونَ فی خَلْقِ السَّماواتِ وَالأرْضَ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلا سُبْحانَکَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ)(13)
(ألا بِذِکْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلوبَ)(14)
فمن یؤمن بالمبدأ والمعاد ویذکر الله علی کلّ حال وفی جمیع الأحوال ، فإنّه یطمئنّ قلبه ویسعد فی حیاته:
(إنَّما الحَیاةُ الدُّنْیا لَعِبٌ وَلَهْوٌ )(15)
(وَما الحَیاةُ الدُّنْیا إلاّ مَتاعُ الغُرورِ)(16)
فمن غفل عن الله ویوم القیامة:
(یَعْلَمونَ ظاهِراً مِنَ الحَیاةِ الدُّنْیا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ غافِلونَ)(17)
فإنّ له معیشة ضنکاً ، وله فی الآخرة عذاب ألیم.
فالإنسان بإمکانه واختیاره أن یتصبّغ بصبغة الله جلّ جلاله ، فیما لو تخلّق بأخلاق الله ، کما قال الإمام الصادق (علیه السلام) : « تخلّقوا بأخلاق الله» ، ومن کان مظهراً لصفات الله وأسمائه الحسنی فإنّه یتخلّد فی مقعد صدق عند ملیک مقتدر.
وأمّا الحیاة البشریة فلا ریب أنّ فیها الخیر والشرّ والصلاح والسوء والحقّ والباطل والعقل والجهل ، ولکلّ منهما جنود کما ورد فی الأخبار المرویة عن أهل البیت (علیهم السلام)(18)
والإنسان قد جعل فی مفترق طرق لینتخب باختیاره معسکر الخیر أو معسکر الشرّ ، فلا جبر ولا تفویض بل أمر بین أمرین.
فکان الخیر والشرّ ، وهذا ما یحکم به العقل ویؤیّده النقل ، فلیس الخیر ما کان خیراً عند الشرع وحسب کما عند الأشاعرة ، بل نعتقد بالحسن والقبح الذاتیین العقلیین ، وإنّ الإنسان علی نفسه بصیرة ، ولو ألقی معاذیره ، کما إنّه لیس للإنسان إلاّ ما سعی ، وإنّ الله خلق النفس وألهمها فجورها وتقواها ، وإنّه یقسم فی قوله:
(وَلا اُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة)(19)
وإنّما النفس تلوم نفسها لعلمها بالخیر والشرّ عقلا ، إلاّ أنّ الإنسان لا یمکنه بعقله أن یطوی مراحل الکمال والهدایة والصعود إلی الدرجات الرفیعة والمقامات العالیة ، بل هلک من لم یکن له حکیم یرشده ، فیحتاج إلی معلّم ومربّی یأخذ بیده لیوصله إلی شاطیء السعادة وسواحل السلامة.
فیحتاج الإنسان إلی دین إلهی ، وقوانین رصینة من الشریعة السماویة السمحاء ، فإنّ الشیطان جالس له بالمرصاد لیغویه عن الصراط المستقیم:
(لأغْوِیَنَّهُمْ أجْمَعینَ إلاّ عِبادَکَ مِنْهُمُ الُمخْلِصینَ)(20)
فالرحمة الإلهیة واللطف الربانی اقتضی أن یرسل الله الأنبیاء والمرسلین لهدایة الناس ولیقوموا بالقسط والعدل ، ویعلّموا الناس الأخلاق ویهدوهم إلی الحقّ ویتمّموا لهم مکارم الأخلاق.
لقد تقدّم العلم الحدیث فی الصناعة والتکنولوجیا وازدهر وتطوّر ، إلاّ أنّ البشریة أصابها الانحطاط الخلقی والفساد الاجتماعی ، لتخلّفهم عن الأدیان السماویة واستدبارها ، فتفکّکت الاُسر ، وتهاوت صُرح الإیمان ، وتلاشت أبنیة المعتقدات الدینیة ، واندثرت معالم الأخلاق الإنسانیة ، فتری الناس سکاری وما هم بسکاری ، کلّ یجرّ النار إلی قرصه ، ویتکالب مع بنی نوعه علی حطام الدنیا ، ویوماً بعد یوم تزداد مشاکل البشریة ، والکلّ ینتظر بلهفة وحرقة یوم الخلاص ...
وممّا یعید السعادة الإنسانیة إلی العالم البشری هو رجوعنا إلی الأخلاق والمثل العلیا والحکمة المتعالیة.
والحکمة إمّا نظریة وإمّا عملیّة ، والثانیة التی تعنی ( فلسفة الأخلاق ) قد قسّمها علماء الأخلاق إلی ثلاثة مراحل:
1 ـ تهذیب النفس.
2 ـ تدبیر المنزل.
3 ـ سیاسة المدن.
وبهذا المثلّث یسعد الإنسان ، وربما الآیات القرآنیة تشیر إلیها فی قوله تعالی:
(عَلَیْکُمْ أنْفُسَکُمْ لا یَضُرُّکُمْ مَنْ ضَلَّ إذا اهْتَدَیْتُمْ)(21)
(قُوا أنْفُسَکُمْ وَأهْلیکُمْ ناراً وَقودُها النَّاسُ وَالحِجارَةُ)(22)
(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرْ وَأعْرِضْ عَنِ المُشْرِکینَ إنَّا کَفَیْناکَ المُسْتَهْزِئینَ)(23)
فالإسلام ینظّم حیاة الإنسان ، وإنّ کتابه المقدّس القرآن الکریم ، مصدر تشریعه الذی لا رطب ولا یابس إلاّ فی کتاب مبین ، فیه تبیان کلّ شیء ، فإنّه یدعو إلی سلامة الروح والجسد ، فکما یقول سبحانه:
(قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَکَّاها)(24)
(یُزَکَّیهِمْ وَیُعَلِّمْهُمُ الکِتابَ وَالحِکْمَةَ)(25)
کذلک یشیر إلی أصل طبّی فائق فی قوله تعالی:
(کُلوا وَاشْرَبوا وَلا تُسْرِفوا).
ثمّ النبیّ الأکرم وأهل بیته یفسّرون لنا الآیات القرآنیة ، ویذکرون مصادیق
کلّیاته ، ویشرحون لنا مفهوم الإسراف وجزئیاته ، وإنّ المعدة اُمّ الأمراض.
فالإسلام یدعو معتنقیه إلی الأخلاق الطیّبة ، إلاّ أ نّه تارة یدعو بصورة عامّة ، وربما یصحّ لو أطلقنا علی دعوته الأخلاقیة والإصلاحیة العامّة بـ ( أخلاق عامة ) کالتواضع فإنّه حسن من کلّ أحد ، واُخری یدعو إلی أخلاق خاصّة تتعلّق بطبقات خاصّة من المجتمع ، فإنّه لمکانتهم الاجتماعیة وشریحتهم الخاصّة فی المجتمع یمتازون عن غیرهم بأخلاق خاصّة ، أو یتجلّی فیهم الخلق العامّ أکثر من غیرهم.
فکأ نّما اختصّوا بهذا الخلق ، مثلا : التواضع ، فإنّه حسن من کلّ واحد کما ذکرنا ، ولکنّ التواضع من الأمیر لرعیّته ، ومن العالم للمتعلّمین ومن الطبیب لمرضائه أحسن وأولی ، ولمثل هذا یقال من أخلاق الطبیب التواضع الخاصّ لمعالجیه ومرضائه.
فإنّما نقصد بأخلاق الطبیب بمثل هذه المفاهیم الأخلاقیة ، وذلک من خلال نظرة الإسلام بالخصوص.
وعلی الأطباء أن ینظروا إلی طبّهم وعملهم الطبّی بمنظار العبادة ، لا الحرفة والتجارة ، فإنّما یمارسون الطبّ علی أ نّه من الاُمور العبادیة التی یتقرّب بها الإنسان إلی ربّه ، فمن أحیا نفساً کأ نّما أحیا الناس جمیعاً.
وحینئذ لمّا کان الطبّ أمراً عبادیاً ، ولیس من المهنة والحرفة التجاریة ، فیلزم علی الطبیب أن یراعی الأخلاق العامّة والخاصّة أکثر من غیره . هذا ما یحکم به العقل الرشید والوجدان السلیم والشرع المقدّس.
فالعمل الطبّی وظیفة شرعیة ودینیة ، کما أ نّها وظیفة إنسانیة وعقلائیة.
ویقال : طاء الطبّ عبارة عن الطهارة ، والباء عن الباطن ، وهذا یعنی علی الطبیب أن یطهّر باطنه من الأرجاس والآثام والمعاصی والخبائث ، ویتعلّق قلبه بالله ، ویتمکّن بنوره أن یشخّص الأمراض ویعرف معالجتها ، ویکون مظهراً لاسمه الطبیب المشافی المعافی جلّ جلاله.
وحینئذ کما یستحبّ بناء المساجد والمعابد ، کذلک ینبغی بناء المستشفیات والمستوصفات والمراکز الصحّیة ، ومن هذا المنطلق کان بعض الأخیار یوقف ثروته علی المستشفیات والمرضی.
فالطبیب لا بدّ أن یکون متخلّقاً بأخلاق الله وطاهراً مطهّراً من المعایب والآثام والأمراض الروحیة ، وإلاّ فإنّه یلزم أن یکون من المثل المعروف : « طبیب یداوی الناس وهو علیل» ، ولو تجرّد من الأخلاق الکریمة ، فإنّه یصبح سفّاحاً للدماء ، فضّاحاً للأعراض.
فالطبیب مطالب فی إعمال عقله وقمع هواه وتذلیل شهواته ، بأن یکون قویّ الإرادة فی ترک الملاذ التی تفقد سعادته ، ومن ثمّ یحقّق لغیره جزءاً من الهناء والسعادة بتخفیف آلامه وشفاء أسقامه.
علل الشرائع ، بسنده عن أبی عبد الله (علیه السلام) ، قال : کان یسمّی الطبیب ( المعالج ) ، فقال موسی بن عمران : یا ربّ ، ممّن الداء ؟ قال : منّی . قال : فممّن الدواء ؟ قال : منّی . قال : فما یصنع الناس بالمعالج ؟ قال : یطیّب بذلک أنفسهم ، فسمّی الطبیب لذلک(26)
ومثله عن الکافی ، وقال العلاّمة المجلسی فی بیانه : « یطیّب أنفسهم» فی بعض النسخ بالباء الموحّدة ، وفی بعضها بالیاء المثناة من تحت . قال الفیروزآبادی : طبّ تأنّی للاُمور وتلطّف . أی إنّما سمّوا بالطبیب لرفعهم الهمّ عن النفوس المرضی بالرفق ولطف التدبیر ، ولیس شفاء الأبدان منهم.
وأمّا علی الثانی فلیس المراد أنّ مبدأ اشتقاق الطبیب الطیب والتطبیب ، فإنّ أحدهما من المضاعف ، والآخر من المعتلّ.
بل المراد أنّ تسمیتهم بالطبیب لیست لتداوی الأبدان عن الأمراض ، بل لتداوی النفوس عن الهموم والأحزان فتطیّب بذلک . قال الفیروزآبادی : الطبّ ـ مثلّة الفاء ـ علاج الجسم والنفس . انتهی کلامه رفع الله مقامه.
قال بعض المحقّقین : الطبیب : هو الحاذق فی کلّ شیء ، وخصّ المعالج به عرفاً ، والطبّ نوعان : نوع طبّ جسد ، وهو المراد هنا ، وطبّ قلب ومعالجته خاصّة بما جاء به رسول الله عن ربّه تعالی : وأمّا طبّ الجسد فمنه ما جاء فی المنقول عنه (صلی الله علیه وآله) ، ومنه ما جاء فی غیره ، وغالبه راجع إلی التجربة.
ثمّ هو نوعان : نوع لا یحتاج إلی فکر ونظر ، بل فطر الله علیه الحیوانات مثل ما یدفع الجوع والعطش ، ونوع یحتاج إلی الفکر والنظر کدفع ما یحدث فی البدن ممّا یخرجه عن الاعتدال ، وهو إمّا إلی حرارة أو برودة ، وکلّ منهما إمّا إلی رطوبة أو یبوسة ، أو إلی ما یترکّب منهما ، والدفع قد یقع من خارج البدن ، وقد یقع من داخله ، وهو أعسرهما ، والطریق إلی معرفته بتحقیق السبب والعلامة.
والطبیب الحاذق هو الذی یسعی فی تفریق ما یضرّ بالبدن جمعه أو عکسه ، وفی تنقیص ما یضرّ بالبدن زیادته أو عکسه.
ومدار ذلک علی ثلاثة أشیاء : حفظ الصحّة ، والاحتماء عن المؤذی ، واستفراغ المادّة الفاسدة.
وقد اُشیر إلی الثلاثة فی القرآن الکریم : فالأوّل من قوله تعالی:
(فَمَنْ کانَ مِنْکُمْ مَریضاً أوْ عَلی سَفَر فَعِدَّهٌ مِنْ أیَّام اُخَر)(27)
وذلک إنّ السفر مظنّة النصب وهو من مغیّرات الصحّة ، فإذا وقع فیه الصیام ازداد فاُبیح الفطر إبقاء علی الجسد ، وکذا القول فی المرض . والثانی وهو الحمیّة من قوله تعالی:
(وَلا تَقْتُلوا أنْفُسَکُمْ )(28)
وإنّه استنبط منه جواز التیمّم عند خوف استعمال الماء البارد ، والثالث عن قوله:
(أوْ بِهِ أذیً مِنْ رَأسِهِ فَفِدْیَةٌ)(29)
وإنّه اُشیر بذلک إلی جواز حلق الرأس ، والذی مُنع منه المحرم ، لاستفراغ الأذی الحاصل من البخار المحتقن فی الرأس(30)
خلاصة الکلام :
وزبدة المخاض أنّ الله سبحانه هو الطبیب الأوّل وبیده الداء والدواء ، وهو المعافی والمشافی ، کما قال فی کتابه الکریم عن لسان إبراهیم الخلیل (علیه السلام):
(وَإذا مَرِضْتُ فَهُوَ یَشْفینِ)(31)
وإنّ الطبیب فی الأرض کان خلیفته فی مظهریّة اسمه المبارک ، ولا بدّ له أن یتخلّق بأخلاق ربّه وخالقه.
باعتقادی أنّ الأطباء خلفاء الله فی أرضه ، وسفرائه علی خلقه ، واُمنائه فی بریّته ، لیتجلّی فیهم صفاته الأفعالیة من الشفاء والمعافاة والطبابة والمداواة والسلامة والقوّة . فإنّه الشافی المعافی الطبیب المداوی السلام القویّ جلّ جلاله ، وعمّ نواله وإحسانه ، وعظم شأنه.
ویقول الرازی فی فضل الأطبّاء أ نّه : « قد اجتمع لهم خمس خصال لم تجتمع لغیرهم:
الاُولی : اتّفاق أهل الملل والأدیان علی تفضیل صناعتهم.
الثانیة : اعتراف الملوک والسوقة بشدّة الحاجة إلیهم ، إذ هم المفزع والغیاث حین لا ینفع عُدّة ولا عشیرة.
الثالثة : مجاهدة ما غاب عن أبصارهم.
الرابعة : اهتمامهم الدائم بإدخال السرور والراحة علی غیرهم.
الخامسة : الاسم المشتقّ من أسماء الله تعالی.
ولو لم یکن من فضل الطبیب ، إلاّ أنّ الإنسان ربما یتشوّق إلیه ، حین یسأم أکرم الناس علیه ، فأخصّهم لدیه ، فإنّه فی العلل الصعبة ربما کره الإنسان لقاء أهله وولده ، ویشتاق إلی الطبیب ، ویتروّح لرؤیته ، وتطیب نفسه بحضوره ومشاهدته ، لکان فیه مندوحة دون غیره»(32)
ثمّ لا ریب أنّ طبّ النفوس والأرواح أسمی وأشرف من طبّ الأبدان ، لأنّ الروح باقیة والبدن ینعدم ، وإنّ طبّ الأبدان مهمّته إصلاح الصور والأعضاء وسلامة الجسد الفانی طیلة الحیاة الدنیویة ، وطبّ النفوس غایته إصلاح المعانی وسلامة الروح الباقیة فی الحیاة الاُخرویّة.
والمتکفّل لطبابة الأبدان هم الأطباء ، وأمّا سلامة الروح ونزاهتها ، فإنّها من الله سبحانه علی لسان أنبیائه ورسله وأوصیائهم ، وما جاء فی کتبه وصحفه.
فإنّ کتاب الإسلام دین الله القویم هو القرآن الکریم فیه تبیان کلّ شیء:
(ما فَرَّطْنا فی الکِتابِ مِنْ شَیْء )(33)
وأنزل فیه من کلّ حکمة ونبأ علی نبیّه الأکرم محمّد (صلی الله علیه وآله):
(یُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الکِتابَ وَالحِکْمَةَ)(34)
وإنّ خلق القرآن والتکلّم به ، إنّما کان قبل خلق الإنسان ، الذی سخّر الله له کلّ شیء بحکمته : « فإنّ مرتبة تکلّم الحقّ بالقرآن سابقة علی خلق الإنسان کما جاء فی قوله تعالی:
(الرَّحْمنُ عَلَّمَ القُرْآنَ خَلَقَ الإنْسانَ عَلَّمَهُ البَیانَ)(35)
فجاءت مرتبة علم القرآن سابقة علی خلق الإنسان ، فتکون مرتبة التکلّم بالقرآن سابقة علی مرتبتی علم القرآن وخلق الإنسان ، وإذا أمعنّا النظر بعنایة وتدبّر فی الآیات ، لوجدنا أنّ خلق الإنسان محاط بعلمین : الأوّل : علم القرآن ، والثانی : علم البیان ، فکأنّ علم القرآن منحة وعطاء من خالق الأرض والسماء حیث أتی بذروة العلوم ، وأرقی صنوف الحکمة فی قوله سبحانه:
(ما فَرَّطْنا فی الکِتابِ مِنْ شَیْء)(36)
وقوله جلّ شأنه:
(وَشِفاءٌ لِما فی الصُّدورِ)(37)
وعلم البیان اختصّ بنعمة النطق والکشف عن أسرار الکون والطبیعة ، وما أودع الله فیهما من الأسرار ، والحقّ جلّ وعلا جعل القرآن محاطاً بسرّه المکنون الذی لا یبلغ منتهاه إلاّ هو ، وأنزل مقترناً بالحکمة فی قوله:
(وَأنْزَلَ اللهُ عَلَیْکَ الکِتابَ وَالحِکْمَةَ وَعَلَّمَکَ)(38) ، الآیة ، وقد جاء القرآن بأعلی مراتب الحکمة وصفوة الشفاء ، ورفع الخالق سبحانه قدر الإنسان وکرمه علی سائر المخلوقات بالعقل ، وبوحی العلم وإدراک العقل ، جعله یأخذ من الطبیعة لکلّ داء دواء.
وتبارک المُنزل:
(وَعَلَّمَک ما لَمْ تَکُنْ تَعْلَمُ وَکانَ فَضْلُ اللهِ عَلَیْکَ عَظیماً)(39)
وصلّی الله علی سیّدنا محمد القائل : تداووا أ یّها الناس فإنّ الذی أنزل الداء أنزل الدواء»(40)
ثمّ الإنسان خلقه الله مختاراً ، وجعله بین مبدء ومعاد ، وصراط متّصل بینهما ، فالمبدأ هو الله سبحانه ، علّة العلل واجب الوجود لذاته ، المستجمع لجمیع صفات الجلال والجمال الکمال ، وهو الهدف فی سیر الإنسان وسلوکه ، فإنّ للإنسان هدفاً ووجهة فی حیاته هو المسؤول عنها ، وهو مولّیها ، وقد أشار الله فی کتابه إلی هذا المعنی فی قوله تعالی:
(وَلِکُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّیها)(41)
فالإنسان ولیّ هذا الهدف وهو المسؤول عن کمّیة وکیفیّة طیّ الطریق ونهجه ، وقد أتمّ الله الحجّة فی کلّ شیء ، وقد سخّر للإنسان کلّ شیء:
(رَبَّنا أعْطی کُلَّ شَیْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدی)(42)
وأمّا المعاد فهو یوم القیامة یوم یبعثون لیری الإنسان ما قدّم من عمل ولیجزَ المطیع بثواب الله ویعاقب العاصی بعذاب الله ، یوم یری الإنسان کلّ شیء محضراً ، ومن یعمل مثقال ذرّة خیراً یره ، ومن یعمل مثقال ذرّة شرّاً یره.
وأمّا الصراط المستقیم فهو عبارة عن النبوّة والإمامة ، والمتمثّلة فی سلوک الإنسان بالعلم والعمل بالإیمان بالله والیوم الآخر وبرسل الله وکتبه ، والعمل الصالح ، وإنّ الإنسان لفی خسر فی دنیاه وآخرته ، إلاّ الذین آمنوا وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر.
وإنّ الآیات القرآنیة والروایات الشریفة وکلمات الحقّ کلّها تدور حول محاور ثلاثة:
1 ـ المبدأ.
2 ـ المعاد.
3 ـ الصراط.
والطبیب الإسلامی من کان یؤمن بالله والمعاد ویکون فی صراط الله ، علماً وعملا ، جوانحاً وجوارحاً ، فکراً وعقیدة ، إیماناً وسلوکاً ، ویکون مظهراً لأسماء الله وصفاته العلیا ، وإنّ قلب الإنسان المؤمن یطمئنّ بذکر الله:
(ألا بِذِکْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلوبُ )(43)
فلا بدّ للطبیب المسلم أن یکون موضعاً للطمأنینة الإلهیة بالنسبة إلی مریضه ، ولا بدّ للمریض أن یطمئن قلبه إلی طبیبه ، وذلک لو وجد طبیبه متحلّیاً بالأخلاق الحمیدة والآداب المجیدة ، وقد ورد فی الخبر الشریف : « لا میراث کالأدب» ، « الآداب حللٌ مجدّدة» ، وإنّ امتیاز الإنسان عن الحیوانات إنّما هو بعقله وناطقیّته ووجدانه وسجایاه الأخلاقیة الفاضلة ، ولولا ذلک لکان الإنسان کالأنعام ، بل أضلّ سبیلا ، وقیمة کلّ امرء ما یحسنه ، وقدر الرجل علی قدر همّته.
وذهب جمع إلی أنّ الأخلاق إنّما هو الحدّ الوسط بین الإفراط والتفریط ، واُصولها أربعة : العفّة والشجاعة والحکمة والعدالة . وقد ورد فی الخبر النبویّ الشریف : « خیر الاُمور أوسطها» ، فالکمال والفضیلة إنّما عبارة عن الحدّ الوسط بین الإفراط والتفریط ، فبین الجبن والتهوّر الخلق الحسن هو الشجاعة ، وبین البخل والإسراف الاقتصاد ، وبین التکبّر والحقارة التواضع ، وبین العصبیة والمداهنة الرفق والمجاملة ، وهکذا باقی الصفات الأخلاقیة ، کما هی مذکورة فی کتب الأخلاق ، کجامع السعادات للمحقّق المولی النراقی (قدس سره) ، فراجع.
وزبدة الکلام کما قال الإمام الصادق (علیه السلام) : « تخلّقوا بأخلاق الله» . وقال الإمام السجّاد فی دعاء مکارم الأخلاق : « وهب لی معالی الأخلاق» ، فصاحب الهمّة العالیة إنّما یطلب من ربّه معالی الأخلاق وسموّها ، وهی أخلاق الله المتجلّیة فی أسماءه الحسنی وصفاته العلیا سبحانه وتعالی.
والکمال المطلق هو الله سبحانه ، وکلّما قرب الإنسان من ربّه زاد فی کماله ، ویکون ذلک برعایة ما وجب علی الإنسان من الحقوق الخاصّة والعامّة ، بتعدیل غرائزه وعواطفه ، ورعایة الحقّ والعدالة ، والمقصود من العدل هو وضع الشیء فی موضعه ، فکلّ شیء فی موضعه یکون من الخلق الحسن.
فإذا کانت الرحمة والشفقة الإلهیة فی نطاق العدل الإلهی ، کذلک غضبه وقهاریّته فی نطاق العدل ، فهو أرحم الراحمین فی موضع العفو والرحمة ، وأشدّ المعاقبین فی موضع النکال والنقمة ، فالعدل هو الأصل الأوّلی فی الأخلاقیات.
والطبیب المتخلّق بأخلاق الله ، من کان یراعی العدالة فی حیاته الطبّیة ، کما علیه أن یراعیها فی کلّ جوانب الحیاة وحقولها ، بإیمان وإخلاص ، مع رعایة حقوق الآخرین ، قال الله تعالی:
(الَّذینَ آمَنوا وَلَمْ یُلْبِسوا إیْمانَهُمْ بِظُلْم اُولئِکَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدونَ)(44)
والإیمان بالله والیوم الآخر هو العامل الأساسی فی تحکیم المبانی الأخلاقیة فی الفرد والمجتمع ، کما لا بدّ من الاعتقاد باختیار الإنسان وخلوده حتّی تتمّ الأخلاق وتحیی ، ویعیش الإنسان فی مدینة فاضلة رغیداً سعیداً.
وعظمة الإنسان بأخلاقه السامیة الرفیعة ، وأولی الناس بالأخلاق الأطباء والعلماء . فهم أطباء الروح والجسد.
وإنّ الطبیب إنّما یعاشر فی حیاته آلاف المرضی الذین یتصارعون مع الموت ، وبان الانکسار علی وجوههم وأصابهم الیأس والخمول ، یتململون کتململ السلیم من شدّة الأوجاع والآلام ، لم یبرحوا عن السریر أیاماً ، شهوراً ، یقضون أیامهم الأخیرة وربما أنفاسهم الأخیرة ، قد غسلوا أیدیهم عن الحیاة وانهارت أعصابهم یتصارعون مع الفقر والحبوب والأقراص والإبر والعملیات ذات القیم الباهضة ، وتکسّرت ضلوعهم بین الأنین والحسرات ، ولیس لهم إلاّ برحمة الله المتجلّیة فی محیّا الطبیب ووجهه الباسم ، وأخلاقه الطیّبة التی تزرع فی وجود المریض روح الأمل وعشق الحیاة.
فلو لم یکن الطبیب خلوقاً ، ولم یحمل بین حنایاه الرحمة واللطف ، ولم یتّصف بالأخلاق الحسنة ، ولم یحبّ الإنسان ، عاریاً من الشفقة والعطوفة ، یرکض وراء المادیات والملاذّ والشهوات ، محبّاً للجاه والمقام ، هلوعاً طمّاعاً سیء الخلق ، کیف یسعد المریض بعلاجه وطبابته ؟ ! !
ومن هنا یعلم الأهمیة البالغة لدروس الأخلاق فی الجامعات الطبیة ، ومع کلّ الأسف الشدید تفقد جامعاتنا هذا الجانب الأساسی فی حیاة الطبیب.
ثمّ علم الطبّ لیس من العلوم الطبیعیة وحسب کما هو المشهور والمعروف ، بل فی الواقع یعدّ من العلوم الإلهیة أیضاً ، فإنّه من خیر السبل إلی معرفة الله سبحانه وتوحیده ، فإنّ الطبیب عندما یقف علی صنع بدن الإنسان یبقی مندهشاً ومتحیّراً من دقّة النظام والحکمة ولطافة الخلقة والأسرار المودعة فی وجوده ، فیسبّح الله علی حکمته وعظیم صنعه:
(إنَّ فی ذلِکَ لآیات لِقَوْم یَتَفَکَّرونَ)(45)
وفی الحدیث النبویّ والعلویّ الشریف : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه» ،
وقال الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الکریم:
(سَنُریهِمْ آیاتِنا فی الآفاقِ وَفی أنْفُسِهِمْ حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أ نَّهُ الحَقُّ)(46)
کما إنّ الطبّ من الواجبات الکفائیة التوصّلیة فی الفقه الإسلامی ، فلولاه لاختلّ النظام الاجتماعی ، فلا بدّ من ثلّة صالحة أن تقوم بهذا الواجب ، وإلاّ فإنّه یأثم الجمیع ، وهذا یعنی أنّ الطبابة للطبیب لیست وظیفة اجتماعیة وحسب ، بل من الوظائف الإلهیة أیضاً ، وربما یکون الکفائی عینیاً فیما لو انفرد قیام الواجب به ، کما هو مذکور فی علم الفقه ، ولو کان فی بلد من به الکفایة من طبیب ، فعلی الآخر أن یذهب إلی المناطق التی تحتاجه وتفتقر إلیه ، وأن یبذل الطبیب کلّ جهده فی معالجة مرضی البلد.
ولمّا کان موضوع الطبّ هو الإنسان فعلی الطبیب أن یعرفه فی کلّ أبعاده ، لا سیّما فی البعدین الأساسیین ، وهما : الروح والجسد ، فلا بدّ أن یعرف روح الإنسان کما یعرف خفایا بدنه ، لأنّ الطبیب بطبّه ، لیس مع ماکنة متحرّکة من دون روح ، حتّی یهتمّ بالظاهر وبالحرکة الفیزیکیة ، بل لا بدّ أن یطّلع علی العالم المیتافیزیقی أیضاً . فلا بدّ للطبیب أن یکون طبیب الروح والجسد ( الطبیب الروحانی والطبیب الجسمانی ) ( الطبّ الروحانی والطبّ الجسمانی ) والمتکفّل لمعرفة الطبّ الروحانی هو علم الأخلاق ، فیلزم علی الطبیب أن یکون متخلّقاً بالطبّ الروحانی وبالأخلاق الطبّیة الروحیة.
ثمّ هنا روابط وعلائق وثیقة بین الروح والجسد ، فکلّ واحد یؤثّر علی الآخر ، فإنّ العقل السلیم فی الجسم السلیم ، وإنّ الخجل یؤثّر علی احمرار الوجه ، کما أنّ صفعة الوجه توجب احمراره . وربما العقد النفسیة تخلق أمراضاً جسدیة ، تزول العقد ولکن یبقی الأثر من الأمراض والأسقام . والعمدة فی الأخلاق ، لیس الأخلاق الفطریة والحکمة النظریة ، بل الأخلاق العملیة وتطبیق الحکمة النظریة فی مقام العمل ، وربما تکون دروس النظریات سهلة التناول والحفظ ، ولکن ما أصعب العمل . فالأخلاق نور ینفذ فی القلوب المظلمة ، وإفاضات تحیط الروح الإنسانیة الخالدة.
فالأخلاق لا بدّ فیها من وجدان یقظ وضمیر حیّ ، ومن تذوّقها ، لا مَن سمعها ، ومن لمسها ، لا من قرأها . کما قال سبحانه وتعالی:
(إنَّ فی ذلِکَ لَذِکْری لِمَنْ کانَ لَهُ قَلْبٌ وَألْقی السَّمْعَ وَهُوَ شَهید)(47)
فلا بدّ فی حکومة الأخلاق فی وجود الفرد والمجتمع من ضمان ، ألا وهو الإیمان الراسخ فی الصدور بالله ویوم القیامة ، الذی جاء به الشرائع السماویة ، لتعدیل الغرائز البشریة وتهذیب العواطف الإنسانیة ، وتوحید الوجدان المختلف فیه ، کما قاله سبحانه فی فلسفة بعثة الأنبیاء:
(کانَ النَّاسُ اُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرِینَ وَمُنْذِرینَ وَأنْزَلَ مَعَهُمُ الکِتابَ بِالحَقِّ لِیَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ فیما اخْتَلَفوا فیهِ)(48)
فمن آمن بالله والیوم الآخر ، وعلم أن هناک یوماً یحاسب فیه علی کلّ صغیرة وکبیرة:
(وَقِفوهُمْ إنَّهُمْ مَسْؤولون)(49)
فإنّه یراعی الأخلاقیات الحسنة ویلتزم بها ، ویعلم أنّ الوجدان بوحده لا یکفی فی تنفیذ حکومة الأخلاق فی الفرد والمجتمع ، ولمثل هذا نری الأنبیاء یبشّرون الناس بثواب أعمالهم ، کما ینذرونهم بالعقاب وبسوء أفعالهم.
وبعد الإیمان إنّما شرف الإنسان بعلمه ، وإنّ الله سبحانه یقول:
(یَرْفَعِ اللهُ الَّذینَ آمَنوا وَالَّذینَ اُوتوا العِلْمَ دَرَجات)(50)
فالرفعة للمؤمن العالم ، وإنّما فضل آدم (علیه السلام) علی الملائکة لما یحمل من العلم الوسیع:
(وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ کُلَّها)(51)
حتّی صار مسجوداً للملائکة وکان خلیفة الله فی أسمائه وصفاته فی الأرض ، وإنّ الإسلام یدعو الناس إلی العلم والتعلّم ، وإنّ طلب العلم فریضة علی کلّ مسلم ومسلمة ، وإنّ الله یحبّ بغاة العلم ، والعلم فی الإسلام یعمّ کلّ العلوم البشریة ، وإنّ العلماء من عباد الله یخشون الله سبحانه:
(إنَّما یَخْشی اللهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ)(52)
وإنّ العالم هنا لا ینحصر بعلم الشریعة والفقه والأخلاق ، بل حتّی العالم بالطبّ عندما یقف علی حکمة خلق الإنسان وعظمته یخشع أمام خالقه وصانعه.
وقد اهتمّ الإسلام بعلم الطب ، فمن أحیاها ( النفس ) فکأ نّما أحیا الناس
جمیعاً(53) . والإمام الصادق (علیه السلام) یقول : لا یستغنی أهل کلّ بلد عن ثلاثة یفزع إلیه فی أمر دنیاهم وآخرتهم ، فإن عدموا ذلک کانوا همجاً ( أی بمنزلة الحیوانات ) : فقیه بارع ورع ، وأمیر مطاع ، وطبیب بصیر ثقة.
وقال (علیه السلام) : کان المسیح (علیه السلام) یقول : إنّ لتارک شفاء المجروح من جرحه شریک جارحه لا محالة ، وذلک أنّ الجارح أراد فساد المجروح ، والتارک لإشفائه لم یشأ صلاحه ، فإذا لم یشأ صلاحه فقد شاء فساده اضطرارا(54)
وهذه الروایة إن دلّت علی شیء فإنّما تدلّ علی عظمة مسؤولیة الأطباء والجرّاحین تجاه مرضاهم ، فإنّ إهمالهم إیّاهم بمنزلة قتلهم ، ومن قتل نفساً فکأ نّما قتل الناس جمیعاً ، فتدبّر.
ولا بدّ من التخصّص فی علم الطبّ ، لأنّ الله سبحانه یقول:
(وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ)(55)
فکیف یجوّز الدواء من لم یکن عالماً بالداء ، فعلی الطبیب أن یکون حاذقاً بصیراً کما قال الإمام الصادق (علیه السلام) ، فیلزمه أن یکمل علمه حتّی یجوز له الطبابة ، وإلاّ فهو ضامن کما قال الرسول الأکرم محمد (صلی الله علیه وآله) : « من تطبّب ولم یعلم منه الطبّ ( قبل ذلک ) فهو ضامن» ، فیما لو أوجب نقص عضو أو تلف نفس أو ما شابه ذلک . قال (صلی الله علیه وآله) : « من تطبّب ولم یکن بالطبّ معروفاً ، فإذا أصاب نفساً فما دونها فهو ضامن».
وما أروع ما یقوله أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی تعیین وظائف الإمام والسلطان
الفقیه المبسوط الید ، قال (علیه السلام) : « یجب علی الإمام أن یحبس الفسّاق من العلماء والجهّال من الأطباء»(56)
فیلزم الطبیب أن یکمل دراساته الطبیة بجدّ ومثابرة وتواصل ، ولا یقطع المشاورة مع الأطباء ، ویواکب الحضارة الطبیة بمطالعة آخر تطوّراته وحوادثه ، وأن لا یتدخّل بما لا اختصاص له فیه ، فإذا کان طبیب القلب ، فلا یجیز الدواء لمریض الکبد ، بل یرجعه إلی ذوی الاختصاص . وإنّما یجوز الدواء بعد تشخیص المرض والداء ، لا أن یمتحن الدواء علی مریضه ویتصوّره من جرذان التجربة.
فکلّ إنسان ولا سیّما أطباء الروح والجسد ، إنّما هو مسؤول أمام نِعَم وآلاء الله:
(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ یَوْمَئِذ عَنِ النَّعیمِ)(57)
کما إنّه مسؤول أمام خلق الله ، کما إنّ کلّ صاحب حرفة وصنعة مسؤول عن حسن العمل وإخلاصه ، کما إنّ الطبیب مسؤول أمام خالقه وعلمه وشعبه وحرفته وأساتذته والعلماء الذین حفظوا له هذا العلم المقدّس ، وإنّه مسؤول أمام مریضه.
قال أمیر المؤمنین علی (علیه السلام) : ألا وإنّ من البلاء الفاقة ، وأشدّ من الفاقة مرض البدن ، وأشدّ من مرض البدن مرض القلب(58)
فطالب کلیة الطبّ علیه أن یقدّر هذه النعمة العظیمة التی أنعم الله علیه من دون زملائه فی الثانویة ، فلا یضیّع وقته بالبطالة والجهالة ، فإنّ ذلک من الخیانة بشبابه وأهله وشعبه وبیت المال وحکومته ، وبذلک یعدّ جرمه من أعظم الجرائم ، فمن لم یبذل کلّ جهده ، ویستفرغ کلّ وسعه ، فی تکمیل علمه ، فإنّ ضرره أکثر من نفعه ، فالحیاة عقیدة وجهاد من اجل تلک العقیدة ، وسعادة المرء ومجتمعه إنّما مرهونة بهذین العاملین : العقیدة والفکر الصحیح ، والجهاد والعمل المستمرّ . فلا ضجر ولا کسل ، فإنّهما عاملان یهدّمان الحیاة.
یقول الإمام الصادق (علیه السلام) : إیّاک وخصلتین : الضجر والکسل فإنّک إن ضجرت لم تصبر علی حقّ ، وإن کسلت لم تؤدّ حقّاً.
ویقول أمیر المؤمنین علی (علیه السلام) : إیّاک والکسل فإنّه من کسل لم یؤدّ حقّ الله عزّ وجلّ.
وقال لقمان لابنه : للکسلان ثلاث علامات : یتوانی حتّی یفرّط ، ویفرّط حتّی یضیّع ، ویضیّع حتّی یأثم.
والشعب الذی یفقد الفکر السلیم والعمل الدؤوب ، فإنّ الاستعمار یتسحمره وینهب ثرواته ویسمّیه وحشیاً ، ویتعامل معه معاملة الوحوش ، کما نری ذلک فی العالم الثالث ـ علی حدّ تعبیرهم ـ فلا بدّ من إصلاح الفرد والمجتمع وسوقهم إلی السعادة الدنیویة والاُخرویة ، وذلک بالتقوی وتزکیة النفس وبالتعبّد والتقرّب إلی الله سبحانه.
والوقایة خیر من العلاج ، وإنّما حفظ الشیء ممّا یؤذیه ویضرّه ، وجعل النفس فی وقایة ممّا یخاف.
وأوّل قدم فی السیر والسلوک إلی الله سبحانه هو التقوی ، ولا ینفع اجتهاد لا ورع فیه ، وإلاّ فإنّ عاقبة من لم یکن متّقیاً من الذنوب والمعاصی علی سوء وضلالة ، کما قال الله سبحانه:
(ثُمَّ کانَ عاقِبَةُ الَّذینَ أساؤوا السُّوأی أنْ کَذَّبوا بِآیاتِ اللهِ وَکانوا بِها یَسْتَهْزِئونَ)(59)
وفی الحدیث الشریف : « ما من شیء أفسد للقلب من خطیئة ، إنّ القلب لیواقع الخطیئة فلا تزال حتّی تغلب علیه ، فیصیر أعلاه أسفله».
فلو أدرک الإنسان هذه الحقیقة ، أنّ القلب وعاء وخیر القلوب أوعاها ، وإنّها تتقبّل الفیوضات الإلهیة والرحمة الرحمانیة والرحیمیة ، لو کان الإناء صحیحاً فی وضعه ، وأمام الرحمة والفیض ، أمّا إذا انقلب وانعکس ، وکان أعلاه أسفله من أثر الذنوب والمعاصی المتکرّرة من دون التوبة ، فإنّه من المستحیل أن یکون موضعاً للعلم الإلهی ووعاءً للرحمة الإلهیة.
فاتّقوا الله حقّ تقاته:
(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَد وَاتَّقوا اللهَ)(60)
ولا بدّ من برامج ومشارطة مع النفس ، ثمّ مراقبتها ، ثمّ محاسبتها ، ثمّ معاتبتها ولومهاعند التخلّف عن الشرائط والبرامج.
قال الإمام الکاظم (علیه السلام) : لیس منّا من لم یحاسب نفسه فی کلّ یوم ، فإن عمل حسناً استزاد الله ، وإن عمل سیئاً استغفر الله منه وتاب إلیه.
والطبیب فی سیره وسیرته علیه أن یراعی هذه الاُصول الأخلاقیة فی حیاته العامّة والخاصّة ، ویکون طبیباً دوّراً بطبّه ، کما علیه أن یراعی الاُصول الطبیة ، وإن کان حاذقاً.
والإسلام یدعو إلی سلامة الإنسان فی کلّ أبعاده فی حیاته الفردیة والاجتماعیة ، الجسدیة والروحیة ، وبعد مماته.
یقول الاُستاذ محمد الخلیلی فی مقدّمة الطبعة الثالثة لکتابه « طبّ الإمام الصادق (علیه السلام)» : الإنسان مخلوق رکّب من روح وبدن ، ولکلّ من جزئیه صحّة ومرض ، وما یحدث لکلّ منهما یؤثّر فی الآخر ، أمّا الطبیب فهو المطیّب للنفوس بکلامه وأخلاقه والمعالج للروح والبدن والحافظ لصحّتهما بالعقاقیر والإرشادات الصحیة معاً ، بمعنی أنّ الطبیب الحقیقی هو طبیب الروح والبدن . ذلک لأ نّا نری أنّ کثیراً من العوارض النفسیة والروحیة کالغضب والحزن والحبّ والفراق وأمثالها ، تسبّب انحراف صحّة البدن ، کما إنّ انحراف صحّة البدن تغیّر الأخلاق ، وتسیء الطباع وتکدّر الحواسّ ، إلی غیر ذلک ، فإذا لم یکن الطبیب روحیاً عارفاً بالانحرافات النفسیة ، فلا بدّ له أن یعالج هذه العوارض البدنیة الناشئة عن عوارض الروح بالمسهلات أو المشهّیات أو ما أشبه ذلک ، وهذا الطبع لا یوصله إلی الدواء الناجع المفید ، لأنّ العلاج فی الحقیقة هو إزالة السبب ، وکذلک إذا رأی فی مریض أرقاً أو قلقاً ناشئاً عن الفکر المزعج أو الخیالات الفاسدة ، داواه بالحبوب المهدّئة والمنوّمة ، وهذا أیضاً بالطبع لا یغنی ولا یشفی ، إذا لم یدفع السبب ، وهو الخیال والفکر ، لکن الطبیب النطاسی الحکیم الجامع للطبّین ، والعارف بالعلاجین : الروحی والبدنی ، فإنّه ینظر إلی المریض من الوجهتین ، فمن کان محتاجاً إلی العقاقیر الطبیة
عالجه بها ، ومن کان محتاجاً إلی النصح أو التسلیة أو إدخال الطمأنینة والاستقرار إلی قلبه ، وذلک بتهوین المرض أو الأوجاع أو أمثالهما ، ممّا یراه مناسباً للوقت والمرض ، داواه بها ، وأحیاناً بهما معاً.
فمثل هذا هو الطبیب الکامل والمعوّل علیه فی ملاحظة الجسم والروح ومعرفة طرق علاجهما ، وبدیهی أنّ ذلک لا یتیسّر إلاّ لکبار رجال الفنّ ، أو أعاظم أئمة الدین الذین اقتبسوا فنّهم الروحی عن السماء ، وأخذوا علاجهم بالتلقین والتعلیم النبوی والصحف السماویة الحکیمة.
أمّا الإسلام فإنّه یری الإنسان موجوداً ، خلق لیعیش فی عوالم کثیرة ، وکلّها تحتاج إلی صحّة وسلامة واطمئنان ، لیسعد فی حیاته ، ویرغد عیشه لذلک ، فقد ضمن له إصلاح کلّ تلک النواحی بتعالیمه وإرشاداته ، فی فروضه ومستحبّاته ومکروهاته ومباحاته ، کما إنّه یری أنّ الروح والجسم وإن کانا وجودین مستقلّین لکنّهما ممتزجان ومتّصلان اتّصالا یجعل أیّ تغیّر یحصل فی إحداهما فهو فی الآخر صحّة أو مرضاً لذلک ، فهو یطبّهما مادیاً ومعنویاً ، ویعالجهما دنیویاً واُخرویاً.
خذ مثلا : الغسل والوضوء والتیمّم ، وانظر إلی شروطها وترتیبها ، لتعرف منظور الدین الإسلامی الحکیم فی جعلهما تطهیراً عرفیاً وطبیاً فی جنب الطاعة الموجبة لاطمئنان الخاطر ، والأمن فی أداء الواجب الاُخروی ، ومن البدیهی المسلّم أنّ أهمّ ما یلحظه الدین الإسلامی فی العلاج والإصلاح فی کلّ تکالیفه ، هو إدخال الطمأنینة والأمن إلی النفوس ، فإنّهما الحجر الأساس فی مداواة الروح والبدن.
فالأنبیاء علی هذا هم الأطباء الروحیون ، وهم المربّون الأخلاقیون ، فإنّه لم تهبط رسالة سماویة ، ولم یبعث نبیّ أو رسول ، إلاّ بتهذیب الأرواح وصحّة النفوس وتعلیم الأخلاق الفاضلة ، ولکن لمّا کان الجسم قالباً للروح ، وکانت لسلامته وصحّته دخل کبیر فی صحّة الروح وسلامتها ، کان القسم الوافر من تعالیم الأنبیاء لعلاج البدن ومداواة أمراضه وأدوائه.
قال النبی (صلی الله علیه وآله) : إنّ هذه القلوب تعمل کما تعمل الأبدان.
وقال أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (علیه السلام) : إنّ للأبدان حالات ستّ : الصحّة والمرض والنوم والیقظة والموت والحیاة ، وکذلک الأرواح فإنّ صحّتها الیقین ومرضها التردید ، ونومها الغفلة ویقظتها التوجّه ، وموتها الجهل وحیاتها العلم.
ومن هنا نعرف أنّ سلامة الروح وصحّتها تدلّ علی صحّة الجسم ، لذلک قیل : العقل السلیم فی الجسم السلیم ، وإنّ من أعظم دلائل صحّة الروح هی سلامة الأخلاق والاتّصاف بمکارمها ، لذلک قال النبیّ (صلی الله علیه وآله) : « بعثت لاُتمّم مکارم الأخلاق».
إذن فالدین الإسلامی هو ذلک الدین السماوی ، الذی یکفل صحّة الأبدان والأرواح بالأخلاق ، ویعالج أمراضهما بالتعالیم والإرشادات ، والنبیّ (صلی الله علیه وآله) هو ذلک الطبیب العالمی العظیم ، ومنقذ الأرواح والأجسام من الأمراض والآلام بقرآنه الکریم وسننه الشریفة . ولمّا ارتقی (صلی الله علیه وآله) بروحه إلی الرَّوْح والریحان ، خلّف من بعده قرآنه وعترته الأطهار (علیهم السلام) ، الذین هم مبلّغو سنّته ، وموضّحو قانونه ، وحافظو شریعته ، لذلک تجد الأئمة أوصیاء النبیّ (صلی الله علیه وآله) کلّهم یعالجون الأرواح والأبدان ، ویداوون بالعقاقیر وبالکلمات الحکیمة والتعالیم القیّمة والإرشادات النافعة.
هذا وقد حان الوقت لنشیر إلی أهمّ الأخلاق الطبیة التی علی الطبیب أن یراعیها فی حیاته الطبیة ، مع ربّه ومع نفسه ومع مریضه ، وإنّما نذکر أهمّ الأخلاق الحسنة فی هذا الباب ، ونراعی الاختصار ، فإنّ خیر الکلام ما قلّ ودلّ.
والله المستعان ، الموفّق للصواب والرشاد.
المصادر :
1- دعاء أمیر المؤمنین علی (علیه السلام) لکمیل بن زیاد .
2- الملک : 2
3- المائدة : 22
4- کتاب کشّاف اصطلاحات الفنون ( 1 : 61 )
5- مریم : 15
6- الانشقاق : 6
7- الروم : 30
8- الشمس : 8
9- نهج البلاغة ، الخطبة 88
10- القلم : 4
11- الشمس : 8
12- الصفّ : 10
13- آل عمران : 190
14- الرعد : 28.
15- محمد : 36.
16- آل عمران : 185
17- الروم : 7
18- الکافی ، المجلّد الأوّل ، کتاب العقل والجهل.
19- القیامة : 2
20- الحجر : 39
21- المائدة : 105
22- التحریم : 6
23- الحجر : 94
24- الشمس : 9
25- الجمعة : 2
26- البحار 59 : 62 ، طبع بیروت
27- البقرة : 184
28- النساء : 29
29- البقرة : 196
30- البحار 59 : 78
31- الشعراء : 80
32- أخلاق الطبیب : 88
33- الأنعام : 38
34- الجمعة : 2
35- الرحمن : 1 ـ 3
36- الأنعام : 38
37- یونس : 57
38- النساء : 113
39- النساء : 113
40- الطبّ فی القرآن والسنّة ، بقلم محمد محمود عبد الله : 5
41- البقرة : 148
42- طه : 50
43- الرعد : 28
44- الأنعام : 82
45- الروم : 21
46- فصّلت : 53
47- ق : 37
48- البقرة : 214
49- الصافّات : 24.
50- المجادلة : 11
51- البقرة : 31
52- فاطر : 28
53- کما فی سورة المائدة : 22
54- الآداب الطبیة : 87
55- الإسراء : 36
56- الآداب الطبّیة : 92
57- التکاثر : 8
58- نهج البلاغة ، الکلمات القصار ، الرقم 388
59- الروم : 10
60- الحجر : 18