نعتقد- نحن المتديّنين- أنّ الإنسان بعد أن يموت سوف يُبعث في يوم القيامة يوم الجمع الأكبر. لكن هناك فاصلة زمنيّة طويلة بين الموت والقيامة تمتدّ آلاف بل ربما ملايين السنين، فكيف تكون الحال في هذه الفاصلة؟
هل هي سكونٌ عظيم يشبه السُبات؟ أم هي لون آخر من ألوان الحياة؟
إنّ معرفة ما يدور في هذه الفترة يسوقنا إلى نتيجتين مهمّتين:
1- إنّ هذه المعرفة بذاتها هي تعبير عن جزء من عوالم ما بعد الموت.
2- تشكّل هذه المعرفة إلى حدّ كبير قرينة تساعد على فهم القيامة نفسها.
نظرة القرآن ونظرة الطب
لا ينظر الطبّ إلى الإنسان إلا باعتباره جسماً، ولذا فهو يعتبر الموتَ تلفاً وفساداً للإنسان، فيكون شبيه الآلة إذا عطبت أو الجسم الطبيعيّ إذا تحلّل، حيث يفقد بذلك هويّته وشخصيّته ولا يعود إليها أبداً.
أمّا القرآن الكريم فينظر إلى هذه الأمور بشكل أعمق، ويراها على حقيقتها، فالموت في المنطق القرآنيّ ليس تلفاً وفساداً وصرفَ انهدام، بل هو انتقال إلى مكانٍ جديد يبقى فيه الإنسان حيّاً إلى يوم القيامة، حيث إنبعاث البشر من القبور أحياءً وحيث الحشر. وسنتعرّض إلى تفصيل ذلك في ما يلي.
القرآن والحياة بعد الموت
تشير مجموعة من الآيات القرآنيّة إلى حقيقة الفترة الفاصلة بين الموت والقيامة، وإلى أنّ الإنسان يكون حيّاً في هذه الفترة. وتستمرّ حال الإنسان هذه إلى يوم القيامة، حيث يعيش في عالم أطلق عليه القرآن اسم (البرزخ)، وتبعت القرآن الكريم على ذلك الأحاديث وكلمات العلماء.والبرزخ في اللغة هو الحائل والفاصل بين شيئين. وفي القرآن تشير هذه الكلمة إلى فترة ما بعد الموت إلى يوم البعث: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(1)، وبالطبع فإنّ كلمة (وراء) استعملت بمعنى: (ما هو آتٍ في المستقبل) بقرينة:﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.
ونستعرض في ما يلي الآيات التي أشارت إلى حياة الإنسان في عالم البرزخ:
1- الوفاة:
يعتبر القرآن الموتَ وفاة، يقول تعالى:﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾(2)، وفي آية أخرى:﴿...وَلَكِنْ أَعْبُدُ الله الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين﴾(3).فيستخدم مشتقات مادّة (وفى)، ومعناها: (إستيفاء الشيء وقبضه بتمامه)(4) بإجماع أهل اللغة، فالمعنى أنّ الله يأخذ الأنفس بتمامها وكمالها عندما يحين أجلها.
ولا تعني هذه المادة الفوت والهلاك والزوال- كما قد يتوهّمه البعض- ولا ربط لها بذلك.
والقرآن في إحدى هذه الآيات يردف الموت بالنوم، ويعتبر أنّهما معاً من نوع توفّي النفس وعزلها، ونحو من الإنفصال: ﴿الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾(5)...
نعم! يمسك الله التي قُضي عليها الموت بحيث تكون الوفاة تامّة: ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾، وتؤجَّل الأخرى، بحيث تكون الوفاة مؤقّتة:﴿وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً﴾.
فالنوم الذي لا ندرك من حقيقته سوى ضعف شعور الإنسان بحيث يكون منقطعاً عن واقعنا، يفسّره القرآن على أنّه نوع من عزل النفس المؤقت.
والموت حالة شبيهة بهذه الحالة وليس هو هلاكاً وفساداً وتلفاً.
2- التصريح بالحياة:
من أصرح الآيات الدالّة على عدم الفناء والحياة بعد الموت، قوله تعالى:﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾(6)، كما تَكرّر مفادها في آية ثانية.وهذه الآية واضحة في الدلالة على الحياة بعد الموت، بل لا تدانيها بصراحتها آية أخرى.
لكن الذين أنكروا الحياة بعد الموت أوّلوا الآية وحملوها على المجاز، فقالوا إنّها بمعنى أنّ الشهداء يبقون بعد موتهم أحياء في قلوب الناس، أي إنّ ذكر الشهداء وأسمائهم خالدة حيةّ بعد فقدهم، فهي من قبيل التعبير: (أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة)(7)
وفي الواقع هذا الكلام في غير محلّه:
أولاً: إنّ تعبير الآية الكريمة في ذيلها ﴿ولكن لا تشعرون﴾ ينافي تماماً ما ذُكِر، إذ لو كان المعنى أنّه مع عدم حياتهم فإنّهم ما زالوا خالدين في النفوس والقلوب، فيشعر الناس بهم كأنّهم أحياء، فكيف يعود ليخاطبهم القرآن بأنه ﴿ولكن لا تشعرون﴾؟!
ثانياً: إنّ الآية الثانية التي كرّرت مفاد هذه الآية، وهي قوله تعالى:﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(8)، إنّ هذه الآية تتحدّث بصراحة عن أنّ هؤلاء الشهداء بعد موتهم يُرزقون ويفرحون ويستبشرون، وهذا يتنافى مع القول بأنّ حياتهم مجرّد خلود أسمائهم في القلوب.
ثمّ إنّ البعض ادّعى اختصاص هذه الحياة بالشهداء، لأنّ هذه الآية خاصّة بهم.
ولكن نقول: صحيح أنّ تلك الحالة من الرزق والفرح والإستبشار خاصّة بالشهداء، إلا أنّه من غير المحتمل في المقابل أن تكون الأصناف الأخرى من البشر- غير الشهداء- يلفّها سكون وفناء مطلق، بل لا بدّ أنّهم يعيشون حياة تتناسب مع ما يليق بما عملوه في هذه الدنيا، كما استحقّ الشهداء هذا النوع من الحياة.
فالآية حينما تشير إلى الحياة السعيدة التي يحياها الشهداء بعد موتهم، فهي تنبّه إلى أنّ لكل بني البشر حياةً بعد الموت تناسب ما عملوه في الدنيا.
3- حوار الملائكة والأموات:
تشير الآيات القرآنيّة إلى حوار يجري بين الملائكة وبين جماعة من الأشقياء، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾(9)، وهذا الحوار خير دليل على أنّ هؤلاء يعيشون ضرباً من الحياة.كما ورد حوار آخر بين الملائكة وجماعة من الطيّبين بعد الموت مباشرة، ويدلّ على المراد أيضاً بوضوح، جاء في الآيات الشريفة:﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(10).
كما تصرّح مجموعة آيات أخرى بأنّ بعض الأموات عندما يرى وضعه وخيماً، يطلب العودة إلى الدنيا ليعمل الصالحات: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾(11)، وهذا يدلّ على أنّ الإنسان يبقى حيّاً بعد موته، فيكون له شعور وإدراك، بل يكون له أمانٍ وطلبات...
4- مؤمن آل ياسين:
يذكر القرآن في سورة ياسين (يس) قصّة رجل آمن بالرسل الثلاثة الذين أُرسلوا إلى قريته وقام بتبليغ رسالتهم الإلهيّة(﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾....﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾)(12). يتحدّث القرآن عن أنّه وبعد أن قُتل أُدخل مباشرة إلى جنّة في عالم البرزخ: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾(13). وحياتُه في جنّة بعد موته مباشرة، وتأسّفُه على قومه وتمنّيه أن يهتدوا لينالوا مثلها، خيرُ دليل على الحياة بعد الموت وقبل القيامة.وهنا نلفت إلى أنّه ليس من الغريب أن يدخل مؤمن آل ياسين الجنّة قبل يوم القيامة، إذ الآيات القرآنيّة لا تتحدّث عن جنّة واحدة فقط بل عن جنّات متعدّدة، فهناك (جنّة الخلد)، و(جنّة عدن)، و(جنّة الله) التي هي فوق بقيّة الجنان...والذي يفهم من القرآن أنّ الجنّة ليست مكاناً يختصّ بالآخرة. وقد نقل الفريقان، السنّة والشيعة، الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:(القبر إمّا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران)(14)، فالمراد جنّة البرزخ أو ناره لا الآخرة.
5- المشاهدة في اللحظات الأخيرة:
ورد في مقطع من آيات سورة الواقعة إشارة إلى الفترة الأخيرة من حياة الإنسان في الدنيا، ولحظات إنتهاء هذه الحياة: ﴿فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾(15).في هذا المقطع يذكر القرآن أنّ الحدّ الفاصل والأخير بين الحياة والموت هو بلوغ الروح الحلقوم، حيث لا يمكن إعادة الحياة للمحتضر عندما تبلغ ذلك المكان- كما يستفاد من الأخبار والروايات- وأنّ الإنسان في هذه الحالة يعيش حالتين: من ناحية هو ينظر إلى هذه الدنيا ومن حوله من الناس، ومن ناحية أخرى يعاين بعضاً من معالم العالم الآخر فيشاهد وضعه هناك، فيرى أعماله والأشياء بصورة مثاليّة، كما يرى الملائكة وأولياء الحقّ.
وفي النتيجة، تشير هذه الآيات إلى خروج النفس أو الروح من البدن تدريجيّاً حتى تصل إلى الحلقوم، المرحلة الحاسمة التي يعاين فيها الميت عالمه القادم فضلاً عن الحالي. وهذه الحالة هي حالة الموت. وعلى ضوئها يتّضح أنّ ماهية الموت قرآنيّاً هي الإنفصال والإنقطاع، وليس الفناء والإندثار.
6- تصنيف البشر:
يصنَّف البشر بعد موتهم مباشرة إلى ثلاثة أصناف:ألف - المقرّبون: وهم الذين سبقوا إلى الخيرات في الحياة الدنيا.
ب- أصحاب اليمين: وهم أدنى درجة من سابقيهم.
ج- أصحاب الشمال: وهم الأشقياء الذين كانوا من المكذّبين الضالين.
والآيات في سورة الواقعة تشير إلى هذا التصنيف: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍوَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾(16).
وتأتي هذه الآيات عقب الآيات التي تحدّثت عن وصول الروح إلى الحلقوم، والتعبير عند التصنيف فيها ب-(أمّا)، التي تدلّ على الإتصال في اللغة، يشير إلى أنّ هذا التصنيف يصار إليه مباشرة بعد الموت بلا أيّ تأخير ولا حالة منتظرة ساكنة، أي قبل يوم القيامة.
كما أنّ هذه الآيات أشارت إلى مرحلتين من الثواب والعقاب، تكون المرحلة الأولى منهما بمنزلة المقدمة للثانية:
بالنسبة للمقربين فهم في(روح وريحان) في مرحلتهم الأولى- أي في عالم البرزخ- وفي الثانية- أي في يوم القيامة- في (جنّة نعيم). أمّا المكذّبون فيُستقبلون أوّلاً في (نُزُل من حميم)(17)، إلى أن يأتي يوم القيامة ليساقوا إلى (تَصْلِيَة جحيم). ولم تشِر الآيات إلى مصير أصحاب اليمين تفصيلاً، سوى أنّهم في مأمن وسلام.
من ذلك كلّه نستفيد وجود حياة بعد الموت مباشرة تستمرّ إلى يوم القيامة، حيث الحساب بالكمال والتمام.
7- النفس المطمئنّة:
في سورة الفجر، يخاطب الله النفس بعد موتها: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾(18). وهذا الخطاب لا يمكن أن يكون إلا مع كائن مدرك وحيّ، وإلا فلا معنى للخطاب مع معدوم قد تلاشى.كما أنّ اطمئنان النفس الذي تشير إليه الآية لا يمكن أن يتمّ إلا بذكرالله: ﴿أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(19)، وهذا الذكر ينطلق على أساس الإيمان والمعرفة التامّة، فلا يكون إلا من كائن حيّ مدرك وعارف.
كذلك طلب الرجوع إلى الله من هذه النفس لا يكون له معنى إذا كانت تذوي وتتلاشى وتسير نحو الفناء والإنتهاء.
8- الموت أمر وجوديّ:
يتعاطى القرآن مع الموت على أنّ له مَلَكاً معيّناً وملائكة مخصّصين، تماماً كما يتعامل مع الحياة. ولو كان الموت نهاية الحياة فلا معنى لبعث رسل وملائكة تقوم بالقبض والتوفّي وما إلى هنالك(20).نعم، يذكر القرآن أنّ الرزق ينعدم بعد الموت مباشرة(أمّا الآيات التي تشير إلى الرزق هناك، كما في الآيات التي ذكرناها في مقام الشهداء: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، فهذا الرزق المذكور في ذلك العالم ليس من قبيل الرزق الذي يقسمه الله في الحياة الدنيا، بل المقصود أنّهم مكرّمون منعمون في ذلك العالم.)، مع أنّ الرزق من خصائص الحياة. إلا أنّ ذلك في الواقع لا يعني أن الميت يفنى، بل ذلك لأن الموت يمثّل حالة أقوى وأشدّ وأكثر نورانيّة من الحياة العاديّة، فهو ليس بحاجة إلى رسل رزق أصلاً، لكونه أسمى من الحياة العاديّة وليس لكونه فناءً وانتهاءً.
ويمكن تشبيه هذه الحالة بخروج الجنين من رحم أمّه، حيث ينتقل إلى حياته الطبيعيّة التي هي أشدّ من حياته الجنينيّة، وهذا يتمّ دون أن تُسلب منه حياته السابقة.
9- الموت والحياة مرّتين:
ورد في الآية الشريفة على لسان المنتظرين ليوم القيامة: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيل﴾(21). في الآية إشارة ودلالة على الموت والحياة مرّتين، ولو لم يكن هناك برزخ لقالوا: (ربّنا أمتّنا مرّة واحدة، وأحييتنا مرّة واحدة). فالآية تدلّ على وجود عالمين قبل يوم القيامة: عالم الدنيا والطبيعة، وعالم البرزخ، فالإنسان يكون حيّاً ثمّ يغادر هذه الدنيا، فيحيا في البرزخ، وعندما يحين موعد القيامة يغادر البرزخ ليحيا في عالم ثالث جديد،البعض يستدلّ بهذه الآية على الرجعة، فلاحظ!ثمّ إنّ كلّ حياة جديدة تمثّل الموت بالنسبة إلى سابقتها. فعندما يغادر الإنسان هذا العالم إلى البرزخ بالموت، يعدّ ميتاً في هذه الحياة الدنيا وحيّاً حسب البرزخ، وعندما ينهض في القيامة فكأنّه مات في البرزخ وأُحيي فيها. فالحياة في البرزخ موت الدنيا، كما أنّ حياة القيامة موت البرزخ.
10- إشكال الكفّار:
يبيّن القرآن في آياته اشكالاً للكفّار على البعث، وذلك قولهم المحكيّ في القرآن: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾(22).والملاحظ أنّ الله يدعو النبيّ إلى ردّ إشكالهم بالحقيقة التالية: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾(23)، فللوهلة الأولى يظهر أنّ هذا الجواب لا يتسق مع إشكالهم.
لكن مع التأمّل يتّضح أنّ الكفار هنا لا يستشكلون ب-(تفتّت العظام وصيرورتها رميماً)، كما في الآية: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾(24)، ليجيبهم بأنّ الذي خلقها أوّل مرّة هو الذي يجمع ذرّاتها، وهو أهون عليه، وإنّما الإشكال هنا ناشئ عن اعتقادهم فناء شخصيّة الإنسان وذاته وانعدامها بالموت، لا الجسد فقط. وعليه كيف يمكن لهذه الشخصيّة المعدومة أن تعود؟! ولذا جاء الجواب بأنّهم مخطئون في فهم الموت على أنّه انعدام، بل هو انتقال ووفادة يتولاها ملك الموت. فصحيح أنّ جسد الإنسان يفنى ويتلاشى ويهترئ، لكن هذا الجسد لا يعبّر عن الشخصيّة الحقيقيّة للإنسان، إذ شخصيّته محفوظة في روحه التي قبضها ملك الموت. وهكذا يظهر تمام الإنسجام بين السؤال والجواب.
النتيجة:
تدلّ مجموعة الآيات التي رصدناها، على أنّ للإنسان ما بين الموت والقيامة نوعاً من الحياة، أُطلق عليها اسم (الحياة البرزخيّة).المصادر :
1- سورة المؤمنون: 100.
2- سورة السجدة:11.
3- سورة يونس:104.
4- معجم مقاييس اللغة ج6، ص129،
5- سورة الزمر:42
6- سورة البقرة:154.
7- نهج البلاغة، قصار الحكم، الحكمة 147.
8- آل عمران:169- 170.
9- النساء:97. .
10- النحل:32.
11- سورة المؤمنون: 99 و 100.
12- (يّـس:13- 14) و... يّـس:20.
13- سورة يـس: 26-27.
14- بحار الأنوار/ ج6، ص 275.
15- سورة الواقعة:83-84- 85.
16- سورة الواقعة:88 إلى 94.
17- لم تشِر الآيات إلى تفصيل ما يعيشه أصحاب اليمين في المرحلتين، سوى أنّها عبّرت عن أنّهم على خير﴿فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴾.
18- الفجر:27- 28.
19- الرعد: 28.
20- ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ سورة تبارك ـ آية 2.
21- غافر:11.
22- سورة السجدة:10.
23- سورة السجدة: 11.
24- سورة يـس:78.