يساق الناس بعد أهوال الحساب والصراط والميزان إلى المستقر الأبدي ، فإمّا إلى نعيم الجنة ، وإمّا إلى عذاب النار.
أوّلاً : صفة الجنة وأهلها ونعيمها
صفة الجنة : وهي الدار التي أعدّها الله سبحانه لمن عرفه وعبده من المتقين والمؤمنين والصالحين ، ونعيمها دائم لا انقطاع له ، وهي دار البقاء ، ودار السلامة ، لا موت فيها ولا هرم ولا سقم ، ولا مرض ولا آفة ، ولا زوال ولا زمانة ، ولا غمّ ولا همّ ، ولا حاجة ولا فقر ، وهي دار الغنى والسعادة ، ودار المقامة والكرامة ، لا يمّس أهلها فيها نصب ، ولا يمسّهم فيها لغوب ، ولهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، وهم فيها خالدون ، وهي دار أهلها جيران الله وأولياؤه وأحبّاؤه ، وأهل كرامته (1).أهل الجنّة : ( أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ).
وصف القرآن الكريم الفائزين بالنعيم المقيم والملك العظيم ، بأنّهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، والذين اتقوا ربهم ، والذين آمنوا بالله ورسله ، وأطاعوا الله ورسوله ، والذين صبروا ابتغاء وجه الله ، وأقاموا الصلاة ، وانفقوا مما رزقهم الله سرّاً وعلانية ، والصديقون والشهداء ، والذين اتّبعوا هدى الله ، والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ، والذين خافوا مقام ربهم ونهوا النفس عن الهوى ، والذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، والذين هاجروا في سبيل الله ثم قُتِلوا أو ماتوا ، وعباد الله المخلصون ، والذين آمنوا بآيات الله وكانوا مسلمين ، ويتبعهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم المؤمنين ، وكلّ أواب حفيظ ، من خشي الرحمن بالغيب ، وجاء بقلب سليم (2).
وجاء عن أمير المؤمنين عليهالسلام في وصف ما كان عليه أهل الجنة في الدنيا ، وذلك فيقوله تعالى : ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا )
قال عليهالسلام : « قد اُمِن العذاب ، وانقطع العتاب ، وزُحزحوا عن النار ، واطمأنّت بهم الدار ، ورضوا المثوى والقرار ، الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية ، وأعينهم باكية ، وكان ليلهم في دنياهم نهاراً ، تخشّعاً واستغفاراً ، وكان نهارهم ليلاً توحّشاً وانقطاعاً ، فجعل الله لهم الجنة مآباً ، والجزاء ثواباً ، وكانوا أحق بها وأهلها ، في ملك دائم ، ونعيم قائم » (3).
أقسام المقيمين فيها : ذكر الشيخ المفيد أن الساكنين في الجنة على ثلاثة أضراب ، وهم :
1 ـ من أخلص لله تعالى ، فذلك الذي يدخلها على أمانٍ من عذاب الله.
2 ـ من خلط عمله الصالح بأعماله السيئة ، وكان يسوّف منها التوبة ، فاخترمته المنية قبل ذلك ، فلحقه خوف من العقاب في عاجله وآجله ، أو في عاجله دون آجله ، ثم سكن الجنة بعد عفو الله أو عقابه.
3 ـ من يتفضّل عليه الله سبحانه بغير عملٍ سلف منه في الدنيا ، وهم الولدان المخلدون ، الذين جعل الله تعالى تصرّفهم لحوائج أهل الجنة ثواباً للعاملين ، وليس في تصرّفهم مشاقّ عليهم ولا كلفة ، لأنّهم مطبوعون إذ ذاك على المسارّ بتصرفهم في حوائج المؤمنين (4).
صفة نعيم الجنة : حُفّت الجنة بأنواع اللذات والنعم ، ولأهلها فيها نعيم مقيم وسرور دائم ، ولهم فيها كلّ ما يشاءون وجميع ما يشتهون ، قال تعالى :
( فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) وقال سبحانه : ( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ).
وفي الجنة ما لا تحيط بوصفه الكلمات وما لم يسمع به بشر مما أعدّه الله سبحانه لعباده المتقين ، قال تعالى : ( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ).
وفي الحديث القدسي : « قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا اُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر » (5).
اللذائذ الحسية : ثواب أهل الجنة الالتذاذ بالمآكل والمشارب ، والمناظر والمناكح ، وما تدركه حواسهم مما يُطبعون على الميل إليه ، ويدركون مرادهم بالظفر به (6).
وفيما يلي وصف لبعض تلك اللذائذ وفقاً لما جاء في الكتاب الكريم :
1 ـ المأكل والمشرب : يُرزَق أهل الجنة بغير حسابٍ رزقاً كريماً واُكلاً وافراً ، ليس له نفاد ، مما تشتهيه أنفسهم من أنواع الطعام والشراب ، ولهم فيها فاكهة كثيرة ممّا يتخيّرون ، لا مقطوعة ولا ممنوعة ، دانية عليهم ظلالها ، وذللت لهم قطوفها تذليلاً (7).
ولهم فيها شراب طهور ، ويسقون خمرةً مختومةً بالمسك ، لا تحدث صداعاً ، ولا تذهب عقلاً ، ولا لغو فيها ولا تأثيم ، ويطاف عليهم بكأسٍ منها بيضاء لذيذة ، ممزوجة بأنواع الطيب كالكافور والزنجبيل ، وفيها أنهار كثيرة وعيون ، منها أنهار من ماءٍ غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه ، وأنهار من خمرٍ لذّة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفّى ، ويشربون من أعذب العيون كالتسنيم والسلسبيل ، ويقال لهم : كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون (8).
2 ـ الملابس والحُليّ : وفي الجنة يرفل المؤمنون بثيابٍ خضرٍ من أرقّ أنواع الحرير والديباج ، كالسندس والاستبرق ، ويُحلّون فيها بأساور من ذهبٍ ولؤلؤ وفضّة (9).
3 ـ التمتّع بالمناظر : ويتمتّعون بالمناظر الخلّابة وهم متكئون على الأرائك المنصوبة على أطراف الأنهار المتصلة الجريان ، وتحت الظلال الوارفة الدائمة ، لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ، ينظرون إلى المياه المسكوبة ، والعيون الجارية ، وحدائق النخل والأعناب والرمان الغنّاء ، وأفنانها المتهدّلة بمختلف الأثمار (10).
4 ـ التمتّع بالقصور وأثاثها : يدخل المؤمنون جناتٍ واسعة عرضها السماوات والأرض ، وأبوابها مشرعة لهم ، وتحرسها الملائكة المتأهّبة لاستقبالهم ، ولهم فيها درجات متفاضلات بعضها فوق بعض ، بحسب خيرية العمل ، في قصور الجنة وغرفها ، وفيها مساكن طيبة في جنات الخُلد العالية ، وغرف من فوقها غرف مبنية ، تجري من تحتها الأنهار ، وهم يفترشون بسطاً حساناً من العبقري ، بطائنها من استبرق ، ومتكئون على وسائد خضر مصفوفة مرفوعة ، حال كونهم متقابلين ، ويطاف عليهم بصحاف من ذهبٍ ، وآنية من فضة ، وأكواب وأباريق وكؤوس بما اشتهت أنفسهم (11).
5 ـ الولدان المخلّدون : ويتمتّع أهل الجنة بالخدمة المتصلة من الغلمان المخلدين الذين جعلهم الله سبحانه في منتهى الجمال والصفاء وحسن المنظر ، قال تعالى : ( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ) .
6 ـ الأزواج والحور العين : ولهم في الجنة أزواج مطهّرة من الحور العين مقصورات في الخيام ، قد جعلهنّ الله عُرباً ؛ متحببات إلى أزواجهنّ ، قاصرات الطرف عليهم دون غيرهم ، كواعبَ أتراباً في العمر ، أبكاراً لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، ساحرات الجمال ، فكأنهنّ الياقوت والمرجان ، أو كأمثال اللؤلؤ أو البيض المكنون (12).
اللذائذ الروحية : وفوق ذلك يتمتع أهل الجنة بنعيم روحي أو عقلي ، يتمثّل برضوان الله تعالى ومغفرته ورحمته بهم ، وإحساسهم بالسرور لترحيب الملائكة بهم ، ولسعادتهم الدائمة ، والشعور بالأمن من خوف العذاب والحزن وكلّ مظاهر اللغو والكذب والتأثيم والتحاسد والتباغض (13).
ثانياً : صفة النار وأهلها وعذابها
صفة النار : النار هي دار الهوان ودار الانتقام من أهل الكفر والعصيان ، وقد وصفها القرآن الكريم بأنها كالسجن ، محيط بالكافرين ، حصير لهم ، ولها سرادق محيط بها ، وأنها مُؤصدة في عمدٍ ممدّدة ، وفيها ظلّ ذو ثلاث شعب ، لكنه غير ظليل ، ولا يقي من شدّة فورانها وتصاعد لظاها ، وأن وقودها الناس والحجارة ، وأوارها لا ينقطع ، فكلما خبت ازدادت سعيراً ، وتحرسها ملائكة غلاظ شداد موكّلون بالعذاب ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، ولها سبعة أبواب ، لكلّ باب منهم جزء مقسوم (14).وعن أمير المؤمنين عليهالسلام : « أن جهنّم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض ... فأسفلها جهنّم ، وفوقها لظى ، وفوقها الحطمة ، وفوقها سقر ، وفوقها الجحيم ، وفوقها السعير ، وفوقها الهاوية ».وفي رواية : « أسفلها الهاوية ، وأعلاها جهنّم » (15).
وقال عليهالسلام في وصفها : « فاحذروا ناراً قعرها بعيد ، وحرّها شديد ،وعذابها جديد ، دار ليس فيها رحمة ، ولا تُسمع فيها دعوة ، ولا تُفرّج فيها كُربه » (16).
أهل النار : ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) .
جاء في الآيات الكريمة أنّ النار اُعدت للذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله وماتوا وهم كفّار ، والمشركين الذين جعلوا مع الله إلهاً آخر ، والمنافقين ، والمتكبرين ، والظالمين ، والطاغين ، والمكذّبين الله سبحانه ورسله ، ومن يعصي الله ورسوله ، ويتولى عن طاعته ، ويتعدى حدوده ، ويستكبر عن عبادته ، ويصدّ عن سبيله ، ويعرض عن ذكره ، ولا يرجو لقاءه ، والمكذبين بيوم الدين ، والذين رضوا بالحياة الدنيا وزينتها واطمأنوا بها وآثروها على الآخرة ، ومن كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ، ومن يرتدّ عن دينه ويموت كافراً ، والذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، أو يأكلون أموال اليتامى ظلماً ، ومن يقتل مؤمناً متعمداً ، والذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله ، وأئمة الجور والضلال ، وتاركي الصلاة (17).
قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « إني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : يُؤتى يوم القيامة بالامام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيُلقى في نار جهنم ، فيدور فيها كما تدور الرحى ، ثمّ يُربَط في قعرها » (18).
وعنه عليهالسلام وهو يعظ أصحابه : « تعاهدوا أمر الصلاة ، وحافظوا عليها ، واستكثروا منها ، وتقرّبوا بها ، فانها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا : ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) ؟! ».
الخالدون فيها : لايخلد في النار إلاّ أهل الكفر والشرك ، وأمّا المذنبون من أهل التوحيد ، فإنهم يخرجون منها بالرحمة التي تدركهم والشفاعة التي تنالهم (19).
قال الامام موسى بن جعفر الكاظم عليهالسلام : « لا يخلد في النار إلّا أهل الكفر والجحود ، وأهل الضلال والشرك » (20).
عذاب النار : يتعرّض أهل النار لأصنافٍ من العذاب الحسي والروحي ، وقد وصف الله تعالى عذابها بالمهين والغليظ والأليم والعظيم والشديد ، فحينما يُساق المجرمون إلى جهنّم زمراً وجماعات ، تتلقّاهم ملائكة العذاب : أدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ، فبئس مثوى المتكبرين ، هذا والنار تنتظرهم من مكانٍ بعيد ، فإذا رأتهم تغيّظت وزفرت وزأرت كالأسد إذا رأى فريسته على بُعد.
فتُفتح لهم الأبواب ، ويُدعّون فيها دعّاً مع الشياطين وما كانوا يعبدون من دون الله ، فيكونون حصب جنهم ووقود السعير ، وإذا اُلقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور ، فتكاد تميّز من الغيط ، وتتأجّج نارها ، ويتّقد أوارها ، ويتطاير شررها ، ويتعالى لهيبها ، وهم غرقى فيها ، طعامهم منها ، وشرابهم منها ، ولباسهم منها ، وهي مهادهم وسقفهم ، يلتحفون حممها ، ويفترشون لظاها ، ويتقلقلون بين أطباقها ، فيغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، في مقطّعات النيران وسرابيل القطران ، فتكوي جباههم ، وتلفح وجوههم وتتقلّب في النار ، فتسودّ وجوههم ، وينتزع الشَّوى من رؤوسهم.
وهم خالدون في عذابٍ مقيم ، ويأتيهم الموت من كل مكان وما هم بميتين ، فلا يُقضى عليهم فيموتوا ، ولا يخفّف عنهم من عذابها ، ولا هم يُنْظَرون ، وكلّما نضجت جلودهم بُدّلت باُخرى ليتجدّد عذابهم ، وكلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ اُعيدوا فيها ، وقيل لهم : ذوقوا عذاب الحريق.
هذا وهم مقرّنون بالأغلال والسلاسل في الأعناق ، مصفّدون في مكان ضيق ، ثم يُسحبون في الحميم على وجوههم ، ويُؤخَذون بالنواصي والأقدام ، ثمّ في النار يُسجرون ، وتهشّم جباههم بمقامع الحديد ، وينتظرهم عذاب السّموم وشجر الزقّوم والحميم الذي يُصبّ من فوق رؤوسهم ، فيصهر ما في بطونهم والجلود.
وإن استغاثوا من شدة العطش ، يُغاثوا بماءٍ صديدٍ يتجرعونه ولا يكادون يستسيغونه ، أو بماء الحميم فيقطّع أمعاءهم ، أو بماءٍ كالمهل يشوي الوجوه ويغلي في البطون كغلي الحميم ، فلا يذوقون برداً ولا شراباً إلّا حميماً وغسّاقاً ، وهم مع ذلك يشربون منهما شُرب الهيم.
وإن استطعموا من شدّة الجوع ، اُطعموا غذاءً ذا غصّة من الغسلين والزّقوم ، وهي شجرة تخرج في أصل الجحيم ، طلعها كأنه رؤوس الشياطين ، وهم مع ذلك لآكلون منها ، فمالئون منها البطون ، فشاربون عليه من الحميم.
ولهم من هول العذاب اصطراخ بين أطباقها ، وهي تغلي بهم غلي المراجل ، فيتعالى زفيرهم وبكاؤهم وعويلهم وتخاصمهم ، وهتافهم بالويل والثبور ، ولكن لا يُسمعون (21).
وقال أمير المؤمنين عليهالسلام فيوصف عذابها : « أما أهل المعصية فأنزلهم شرّ دار ، وغلّ الأيدي إلى الأعناق ، وقرن النواصي بالأقدام ، وألبسهم سرابيل القطران ، ومقطّعات النيران ، في عذابٍ قد اشتدّ حرّه ، وبابٍ قد اُطبق على أهله ، في نارٍ لها كَلَبٌ ولَجَبٌ ، ولهبٌ ساطع ، وقصيف هائل ، لا يظعن مقيمها ، ولا يُفادى أسيرها ، ولا تُفصَم كبولها ، لا مُدّة للدار فتفنى ، ولا أجل للقوم فيُقضى » (22).
عذابها الروحي : وله صور عديدة يعرضها القرآن الكريم ، منها الشعور بالخسران والندامة والخزي والخوف والرهبة ، فينادي الظالمون بالحسرة ، حسرة فوت الجنة ونعيمها ، وفوت لقاء الله ورضوانه ، وينتابهم اليأس من الرحمة والمغفرة ، ويصيبهم الذلّ والصغار حين يعرضون على النار خاشعين من الذلّ ينظرون من طرف خفيّ (23).
وحينما يُعرَضون على النار ويرون عذابها تتقطّع أنفسهم حسرات من شدة الندم ، فيظهرون البراءة من كبرائهم وساداتهم ، وتتوارد عليهم الأماني ، فيقولون : ( يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ) ، وكلّ منهم يقول : ( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) و( يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ) وأنّى لهم الندم وهم في محضر اليوم العسير ؟!
ويضجّون حسرّة على ما فرّطوا في الدنيا ، فيطلبون العودة إليها ، ليعملوا صالحاً ويكونوا من المؤمنين ، ويتعالى هتافهم : ( فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ويصرخون : ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ).
وتلك الأماني لا تعدو كونها سراباً بقيعة ، لأنّهم في عالم الجزاء ، عالم لا تنفع فيه الطاعة والانابة وإظهار الندم ، ولو كانوا صادقين لأنابوا وتابوا وهم في دار التكليف والعمل ( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ).
ومن هنا يأتيهم الجواب : ( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ )
ويقال لهم : ( اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ) وهو مما يزيد من حسرة نفوسهم وشعورهم بالخذلان والخيبة واليأس من الرحمة والمغفرة ،
فيُصلَون جهنم مذمومين مدحورين ملومين.
وممّا يحزّ في نفوسهم هو تبكيت الملائكة وتقريعهم لهم بمجرد أن يدخلوا النار ، قال تعالى : ( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْنَذِيرٌ ) وهم يجيبون بالإقرار والاعتراف : ( بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ ).
وحينما يستسلمون لليأس يقولون لخازن النار : ( يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) فيقول لهم : ( إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ) .
أعاذنا الله جميعاً من شرّ الجحيم ومن أهوال يوم القيامة ، ورزقنا رحمته التي وسعت كل شيء وشفاعة نبيه المصطفى وآله الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين.
المصادر :
1- الاعتقادات / الصدوق : 76 ، تصحيح الاعتقاد / المفيد : 116.
2- راجع : سورة البقرة : 2 / 25 و38 ، سورة آل عمران : 3 / 198 ، سورة النساء : 4 / 13 و69 ، سورة التوبة : 9 / 20 ، سورة الرعد : 13 / 22 ـ 24 ، سورة طه : 20 / 75 ، سورة الحج : 22 / 58 ، سورة الصافات : 37 / 40
3- نهج البلاغة / صبحي الصالح : 282 ـ الخطبة (190).
4- تصحيح الاعتقاد / المفيد : 116 ـ 117.
5- كنز العمال / المتقي الهندي 15 : 778 / 43069 ، بحار الأنوار / المجلسي 8 : 191 / 168.
6- تصحيح الاعتقاد / المفيد : 117.
7- راجع : سورة الرعد : 13 / 35 ، سورة الحج : 22 / 50 ، سورة يس : 36 / 57 ، سورة ص : 38 / 54 ، سورة غافر : 40 / 40 ، سورة فصلت : 41 / 31 ، سورة محمد : 47 / 15 ، سورة الطور : 52 / 22 ، سورة الرحمن : 55 / 52 ، سورة الواقعة : 56 / 21 و28 ـ 33 ، سورة الدهر : 76 / 14 ، سورة المرسلات : 77 / 42.
8- راجع : سورة الصافات : 37 / 45 ـ 47 ، سورة محمد : 47 / 15 ، سورة الطور : 52 / 19 و23 ، سورة الواقعة : 56 / 17 ـ 19 ، سورة الإنسان : 76 / 5 ـ 6 و17 ـ 18 و21 ، سورة المرسلات : 77 / 43 ، سورة المطففين : 83 / 25 ـ 28.
9- راجع : سورة الحج : 22 / 23 ، سورة الكهف : 18 / 31 ، سورة فاطر : 35 / 33 ، سورة الدخان : 44 / 53 ، سورة الدهر : 76 / 12 و21.
10- راجع : سورة الرعد : 13 / 35 ، سورة يس : 36 / 56 ، سورة الرحمن : 55 / 68 ، سورة الواقعة : 56 / 30 ، سورة الدهر : 76/ 13 ، سورة المرسلات : 77 / 41 ، سورة النبأ : 78 / 32.
11- راجع : سورة آل عمران 3 : 133 ، سورة الأنفال : 8 / 4 ، سورة التوبة : 9 / 72 ، سورة المؤمنون : 21 / 103 ، سورة العنكبوت : 29 / 58 ، وسورة الصافات : 37 / 43 ـ 44 ، سورة ص 38 / 50 ـ 51 ، سورة الزمر : 39 / 20 ، سورة الزخرف : 43 / 71 ، سورة الطور : 52 / 20 ، سورة الرحمن : 55 / 54 .
12- راجع : سورة يس : 36 / 56، سورة الصافات : 37 / 48 ـ 49، سورة ص : 38 / 52، سورة الدخان : 44 / 54 ، سورة الطور : 52 / 20 ، سورة الرحمن : 55 / 56 ـ 58 و72 ، سورة الواقعة : 56 / 22 ـ 23 و35 ـ 37 ، سورة النبأ : 78 / 33.
13- راجع : سورة آل عمران : 3 / 15 و136 ، سورة التوبة 9 / 72 ، سورة الحجر :
14- راجع : سورة البقرة : 2 / 24 ، سورة التوبة : 9 / 49 ، سورة الحجر : 15 / 43 ـ 44 ، سورة الإسراء : 17 / 8 و97 ، سورة الكهف : 18 / 29 ، سورة التحريم : 66 / 6 ، سورة المرسلات : 77 / 30 ـ 31 ، سورة الهمزة : 104 / 8 ـ 9.
15- مجمع البيان / الطبرسي 6 : 519.
16- نهج البلاغة / صبحي الصالح : 384 ـ الكتاب (27).
17- راجع سورة البقرة : 2 / 81 و86 و161 ـ 162 و217 ، سورة النساء : 4 / 10 و 14 و 56 و 93 و 145 ، سورة التوبة : 9 / 34 و63 ، سورة يونس : 10 / 7 ـ 8 و52 ، سورة هود : 11 / 15 ـ 16 ، سورة النحل : 16 / 85 ، سورة الكهف : 18 / 102 ـ 106 ، سورة طه : 20 / 74 و 124 ـ 127 ، سورة الفرقان : 25 / 11 ،
18- نهج البلاغة / صبحي الصالح : 235 ـ الخطبة (164).
19- الاعتقادات / الصدوق : 77.
20- التوحيد / الصدوق : 407 / 6. جماعة المدرسين ـ قم.
21- راجع : سورة البقرة : 2 / 90 و104 و114 و162 ، سورة النساء : 4 / 56 ، سورة الأنعام : 6 / 70 ، سورة الأعراف : 7 / 41 ، سورة إبراهيم : 14 / 16 ـ 17 و49 ـ 50 ، سورة الكهف : 18 / 29 ، سورة طه : 20 / 74 ، سورة الأنبياء : 21 / 98 ـ 100 ، سورة الحج : 22 / 19 ـ 22 ، سورة المؤمنون : 23 / 104 ، سورة الفرقان : 25 / 12 ـ 14 ، سورة العنكبوت : 29 / 54 ـ 55 ، سورة الأحزاب : 33 / 64 ـ 68 ، سورة فاطر : 35 / 36 ـ 37 ، سورة الصافات : 37 / 62 ـ 68 ، سورة ص : 38 / 55 ـ 64 ، سورة الزمر : 39 / 71 ، سورة غافر : 40 / 70 ـ 76 ، سورة الدخان : 44 / 43 ـ 50 ، سورة محمد : 47 / 15 ، سورة الطور : 52 / 13 ـ 16 ، سورة القمر : 54 / 47 ـ 48 ، سورة الرحمن : 55 / 41 ـ 44 ،
22- نهج البلاغة / صبحي الصالح : 162 ـ الخطبة (109).
23- راجع : سورة البقرة : 2 / 161 و166 ـ 167 ، سورة الأنعام : 6 / 27 ـ 31 و124 ، سورة الأعراف : 7 / 53 ، سورة إبراهيم : 14 / 44 ، سورة الإسراء : 17 / 18 و39 ، سورة المؤمنون : 23 / 103 ـ 108 ، سورة الشعراء : 26 / 95 ـ 102 ، سورة العنكبوت : 29 / 23 ، سورة الأحزاب : 33 / 66 ـ 68 ، سورة سبأ : 34 / 33 ، سورة فاطر : 35 / 36 ـ 37 ، سورة الزمر : 39 / 71 ، سورة غافر : 40 / 73 ـ 76 ، سورة الشورى : 42 / 45 ، سورة الزخرف : 43 / 77 ، سورة الملك : 67 / 15 ، سورة المطففين : 83 / 15 ـ 17.