بني إسرائيل والموت

قال الله تبارک وتعالى :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ
Wednesday, August 3, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
بني إسرائيل والموت
 بني إسرائيل والموت

 






 

قال الله تبارک وتعالى :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا )(1)
والعبرة الكلية التي تبرز من القصة كلها هي أن هذه الانتفاضة - انتفاضة العقيدة - على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف ، ومن تخلي القوم عنها فوجا بعد فوج في مراحل الطريق - على الرغم من هذا كله فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبني إسرائيل نتائج ضخمة جدا . . فقد كان فيها النصر والعز والتمكين ، بعد الهزيمة المنكرة ، والمهانة الفاضحة ، والتشريد الطويل والذي تحت أقدام المتسلطين . ولقد جاءت لهم بملك داود ، ثم ملك سليمان - وهذه أعلى قمة وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض ، وهي عهدهم الذهبي الذي يتحدثون عنه ؛ والذي لم يبلغوه من قبل في عهد النبوة الكبرى . . وكان هذا النصر كله ثمرة مباشرة لانتفاضة العقيدة من تحت الركام ؛ وثبات حفنة قليلة عليها أمام جحافل جالوت !
وفي خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية ؛ كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين:
من ذلك . . أن الحماسة الجماعية قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها . فيجب أن يضعوها على محك التجربة قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة . . فقد تقدم الملأ من بني إسرائيل - من ذوي الرأي والمكانة فيهم - إلى نبيهم في ذلك الزمان ، يطلبون إليه أن يختار لهم ملكا يقودهم إلى المعركة مع أعداء دينهم ، الذين سلبوا ملكهم وأموالهم ومعها مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون . فلما أراد نبيهم أن يستوثق من صحة عزيمتهم على القتال ،
وقال لهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ! استنكروا عليه هذا القول ، وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون له: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ؟ . . ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها ، وتهاوت على مراحل الطريق كما تذكر القصة ؛ وكما يقول السياق بالإجمال: فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم . . ومع أن لبني إسرائيل طابعا خاصا في النكول عن العهد ، والنكوص عن الوعد ، والتفرق في منتصف الطريق . . إلا أن هذه الظاهرة هي ظاهرة بشرية على كل حال ، في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانية مبلغا عاليا من التدريب . . وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أي جيل . . فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل .
ومن ذلك أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الفائر في نفوس الجماعات ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول . . فإن كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم . ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيها . وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت بعد الحجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة ، ووقوع علامة الله باختياره لهم ، ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة . . . ! ومع هذا فقط سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى .
وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم: فلما فصل طالوت بالجنود قال:إن الله مبتليكم بنهر:فمن شرب منه فليس مني . ومن لم يطعمه فإنه مني - إلا من اغترف غرفة بيده - فشربوا منه إلا قليلا منهم . . وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية . فأمام الهول الحي ، أمام كثرة الأعداء وقوتهم ، تهاوت العزائم وزلزلت القلوب: فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا:لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده . . وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة . . اعتصمت بالله ووثقت ، وقالت: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين . . وهذه هي التي رجحت الكفة ، وتلقت النصر ، واستحقت العز والتمكين .
وفي ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة . . وكلها واضحة في قيادة طالوت . تبرز منها خبرته بالنفوس ؛ وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة ، وعدم اكتفائه بالتجربة الأولى ، ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة ، وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه . . ثم - وهذا هو الأهم - عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة ؛ ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة . فخاض بها المعركة ثقة منه بقوة الإيمان الخالص ، ووعد الله الصادق للمؤمنين .
والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة . . أن القلب الذي يتصل بالله تتغير موازينه وتصوراته ؛ لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل ، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود . فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر ، كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها ما يراه الآخرون الذين قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده . . ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف . إنما حكمت حكما آخر ، فقالت: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين . . ثم اتجهت لربها تدعوه: ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين .
وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين ، إنما هو في يد الله وحده . فطلبت منه النصر ، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه . . وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقا ، وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح . وهكذا يثبت أن التعامل مع وعد الله الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون !
ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة . فالنصوص القرآنية - كما علمتنا التجربة - تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن ؛ وبقدر حاجته الظاهرة فيه . ويبقى لها رصيدها المذخور تتفتح به على القلوب ، في شتى المواقف ، على قدر مقسوم .

إيثار الفاني على الباقي :

قال الله تعالى :( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )(2)
إن هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكا ؛ فإما تجرد لها ، وإما انسلاخ منها . وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة ؛ ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة . .
كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب ، ويخلص لها الحب ، وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة ، وهي المحركة والدافعة . فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة ؛ على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة .
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع ؛ وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الأرض . فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة وبالزوج والعشيرة ؛ ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن ؛ ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق - في غير سرف ولا مخيلة - بل إن المتاع بها حينئذ لمستحب ، باعتباره لونا من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده ، وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب .
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء - إن استحبوا الكفر على الإيمان - . . وهكذا تتقطع أواصر الدم والنسب ، إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة . وتبطل ولاية القرابة في الأسرة إذا بطلت ولاية القرابة في الله . فلله الولاية الأولى ، وفيها ترتبط البشرية جميعا ، فإذا لم تكن فلا ولاية بعد ذلك ، والحبل مقطوع والعروة منقوضة .
ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون . .
و الظالمون هنا تعني المشركين . فولاية الأهل والقوم - إن استحبوا الكفر على الإيمان - شرك لا يتفق مع الإيمان .
ولا يكتفي السياق بتقرير المبدأ ، بل يأخذ في استعراض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ ؛ ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى:الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة [ وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج ] والأموال والتجارة [ مطمع الفطرة ورغبتها ] والمساكن المريحة [ متاع الحياة ولذتها ] . . وفي الكفة الأخرى:حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله . الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته . الجهاد وما يتبعه من تعب ونصب ، وما يتبعه من تضييق وحرمان ، وما يتبعه من ألم وتضحية ، وما يتبعه من جراح واستشهاد . . وهو - بعد هذا كله - "الجهاد في سبيل الله" مجردا من الصيت والذكر
والظهور . مجردا من المباهاة ، والفخر والخيلاء . مجردا من إحساس أهل الأرض به وإشارتهم إليه وإشادتهم بصاحبه . وإلا فلا أجر عليه ولا ثواب . .
قل:إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها ، وتجارة تخشون كسادها ، ومساكن ترضونها ، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله . . فتربصوا حتى يأتي الله بأمره . . .
ألا إنها لشاقة . ألا وإنها لكبيرة . ولكنها هي ذاك . . وإلا:
فتربصوا حتى يأتي الله بأمره .
وإلا فتعرضوا لمصير الفاسقين:
والله لا يهدي القوم الفاسقين . .
وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده ، إنما تطالب به الجماعة المسلمة ، والدولة المسلمة . فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله .
وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف ، إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه - فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها - وإنه لمن رحمة الله بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال ؛ وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها . . لذة الشعور بالاتصال بالله ، ولذة الرجاء في رضوان الله ، ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط ، والخلاص من ثقلة اللحم والدم ، والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء . فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك .

التثاقل إلى الأرض والرضا بالدون:

قال الله سبحانه وتعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ* إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(3)
إنها ثقلة الأرض ، ومطامع الأرض ، وتصورات الأرض . . ثقلة الخوف على الحياة ، والخوف على المال ، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع . . ثقلة الدعة والراحة والاستقرار . . ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب . . . ثقلة اللحم والدم والتراب . . والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه: اثاقلتم . وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل ، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل ! ويلقيها بمعنى ألفاظه: اثاقلتم إلى الأرض . . وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق .
إن النفرة للجهاد في سبيل اللّه انطلاق من قيد الأرض ، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم ؛ وتحقيق للمعنى العلوى في الإنسان ، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة ؛ وتطلع إلى الخلود الممتد ، وخلاص من الفناء المحدود:
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .
وما يحجم ذو عقيدة في اللّه عن النفرة للجهاد في سبيله ، إلا وفي هذه العقيدة دخل ، وفي إيمان صاحبها بها وهن . لذلك يقول الرسول - [ صلى الله عليه وسلم ] - من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق . فالنفاق - وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال - هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل اللّه خشية الموت أو الفقر ، والآجال بيد اللّه ، والرزق من عند اللّه . وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .
ومن ثم يتوجه الخطاب إليهم بالتهديد:
إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ، ولا تضروه شيئاً ، واللّه على كل شيء قدير . .
والخطاب لقوم معينين في موقف معين . ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة في اللّه . والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده ، فهو كذلك عذاب الدنيا . عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح ، والغلبة عليهم للأعداء ، والحرمان من الخيرات واستغلالها للمعادين ؛ وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد ؛ ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء . وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب اللّه عليها الذل ، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء . . ويستبدل قوماً غيركم . .
يقومون على العقيدة ، ويؤدون ثمن العزة ، ويستعلون على أعداء اللّه:
ولا تضروه شيئاً . .
ولا يقام لكم وزن ، ولا تقدمون أو تؤخرون في الحساب !
واللّه على كل شيء قدير . . لا يعجزه أن يذهب بكم ، ويستبدل قوماً غيركم ، ويغفلكم من التقدير والحساب !
إن الاستعلاء على ثقلة الأرض وعلى ضعف النفس ، إثبات للوجود الإنساني الكريم . فهو حياة بالمعنى العلوي للحياة:وإن التثاقل إلى الأرض والاستسلام للخوف إعدام للوجود الإنساني الكريم . فهو فناء في ميزان اللّه وفي حساب الروح المميزة للإنسان . ويضرب اللّه لهم المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمونه ، على نصرة اللّه لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء ، والنصر من عند اللّه يؤتيه من يشاء
*تخليهم عن دينهم وتفرقهم وتماسك أعدائهم وقوتهم:
فقد تخلى المسلمون عن دينهم في عصرنا هذا فلم يعد الدين هو المهيمن على الحياة وإنما يهيمن على الحياة هو الكفر والفسوق والعصيان ، فعلى أي أساس سينصرنا الله ؟ وقد تخلينا عن مصدر عزتنا ورفعتنا وقوتنا و قيمتنا ؟
فعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ أَتَتْهُ الْجُنُودُ وَعَلَيْهِ إزَارٌ وَخُفَّانِ وَعِمَامَةٌ وَأَخَذَ بِرَأْسِ بَعِيرِهِ يَخُوضُ الْمَاءَ , فَقَالُوا لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , تَلْقَاك الْجُنُودُ وَبِطَارِقَةِ الشَّامِ وَأَنْتَ عَلَى هَذَا الْحَالِ , قَالَ : فَقَالَ عُمَرُ : إنَّا قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ , فَلَنْ نَلْتَمِسُ الْعِزَّ بِغَيْرِهِ . أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم
وفي قصة السعدين مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب عندما أراد أن يعطي بعض القبائل جزء من ثمار المدينة حتى يتركوا القتال فقَدْ صَالَحَ صلى الله عليه وسلم عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَغَيْرَهُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى نِصْفِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ , حَتَّى لَمَّا شَاوَرَ الْأَنْصَارَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهُوَ أَمْرٌ أَمَرَك اللَّهُ بِهِ أَمْ الرَّأْيُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لَا بَلْ هُوَ رَأْيٌ لِأَنِّي رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَأَرَدْت أَنْ أَدْفَعَهُمْ عَنْكُمْ إلَى يَوْمٍ مَا فَقَالَ السَّعْدَانِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَطْمَعُونَ فِيهَا مِنَّا إلَّا قِرًى وَشِرًى وَنَحْنُ كُفَّارٌ , فَكَيْفَ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ ؟ لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ وَشَقَاءَ الصَّحِيفَةِ }
وقال تعالى واصفا المسلمين الصادقين ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )(4)
وقال تعالى ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا )(5)
وقد كان حال المسلمين يوم القادسية هكذا
ففي تاريخ الطبري :
( كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن النضر عن ابن الرفيل عن أبيه قال لما نزل رستم على العتيق وبات به أصبح غاديا على التصفح والحزر فساير العتيق نحو خفان حتى أتى على منقطع عسكر المسلمين ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة فتأمل القوم حتى أتى على شيء يشرف منه عليهم فلما وقف على القنطرة راسل زهرة فخرج إليه حتى واقفه فأراده أن يصالحهم ويجعل له جعلا على أن ينصرفوا عنه وجعل يقول فيما يقول أنتم جيراننا وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا فكنا نحسن جوارهم ونكف الأذى عنهم ونوليهم المرافق الكثيرة نحفظهم في أهل باديتهم فنرعيهم مراعينا ونميرهم من بلادنا ولا نمنعهم من التجارة في شيء من أرضنا وقد كان لهم في ذلك معاش يعرض لهم بالصلح وإنما يخبره بصنيعهم والصلح يريد ولا يصرح فقال له زهرة صدقت قد كان ما تذكر وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا إنا لم نأتكم لطلب الدنيا إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة كنا كما ذكرت يدين لكم من ورد عليكم منا ويضرع إليكم يطلب ما في أيديكم ثم بعث الله تبارك وتعالى إلينا رسولا فدعانا إلى ربه فأجبناه فقال لنبيه إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني فأنا منتقم بهم منهم وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل ولا يعتصم به أحد إلا عز
فقال له رستم وما هو قال أما عموده الذي لا يصلح منه شيء إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم والإقرار بما جاء من عند الله تعالى قال ما أحسن هذا وأي شيء أيضا قال وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى قال حسن وأي شيء أيضا قال والناس بنو آدم وحواء إخوة لأب وأم قال ما أحسن هذا ثم قال له رستم أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر وأجبتكم إليه ومعي قومي كيف يكون أمركم أترجعون قال إي والله ثم لا نقرب بلادكم أبدا إلا في تجارة أو حاجة قال صدقتني والله أما إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة كانوا يقولون إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم فقال له زهرة نحن خير الناس للناس فلا نستطيع أن نكون كما تقولون نطيع الله في السفلة ولا يضرنا من عصى الله فينا فانصرف عنه ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فحموا من ذلك وأنفوا فقال أبعدكم الله وأسحقكم أخزى الله أخرعنا وأجبننا فلما انصرف رستم ملت إلى زهرة فكان إسلامي وكنت له عديدا وفرض لي فرائض أهل القادسية كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة وعمرو وزياد بإسنادهم مثله قالوا وأرسل سعد إلى المغيرة بن شعبة وبسر بن أبي رهم وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محصن وربعي بن عامر وقرفة بن زاهر التيمي ثم الواثلي ومذعور بن عدي العجلي والمضارب بن يزيد العجلي ومعبد بن مرة العجلي وكان من دهاة العرب فقال إني مرسلكم إلى هؤلاء القوم فما عندكم قالوا جميعا نتبع ما تأمرنا به وننتهي إليه فإذا جاء أمر لم يكن منك فيه شيء نظرنا أمثل ما ينبغي وأنفعه للناس فكلمناهم به فقال سعد هذا فعل الحزمة اذهبوا فتهيؤوا فقال ربعي بن عامر إن الأعاجم لهم آراء وآداب ومتى نأتهم جميعا يروا أنا قد احتفلنا بهم فلا تزدهم على رجل فمالؤوه جميعا على ذلك فقال فسرحوني فسرحه فخرج ربعي ليدخل على رستم عسكره فاحتبسه الذين على القنظرة وأرسل إلى رستم لمجيئه فاستشار عظماء أهل فارس فقال ما ترون أنباهي أم نتهاون فأجمع ملؤهم على التهاون فأظهروا الزبرج وبسطوا البسط والنمارق ولم يتركوا شيئا ووضع لرستم سرير الذهب وألبس زينته من الأنماط والوسائد المنسوجة بالذهب وأقبل ربعي يسير على فرس له زباء قصيرة معه سيف له مشوف وغمده لفافة ثوب خلق ورمحه معلوب بقد معه حجفة من جلود البقر على وجهها أديم أحمر مثل الرغيف ومعه قوسه ونبله فلما غشي الملك وانتهى إليه وإلى أدنى البسط قيل له انزل فحملها على البساط فلما استوت عليه نزل عنها وربطها بوسادتين فشقهما ثم أدخل الحبل فيهما فلم يستطيعوا أن ينهوه وإنما أروه التهاون وعرف ما أرادوا فأراد استحراجهم وعليه درع له كأنها أضاة ويلمقه عباءة بعيره قد جابها وتدرعها وشدها على وسطه بسلب وقد شد رأسه بمعجرته وكان أكثر العرب شعرة ومعجرته نسعة بعيره ولرأسه أربع ضفائر قد قمن قياما كأنهن قرون الوعلة فقالوا ضع سلاحك فقال إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم أنتم دعوتموني فإن أبيتم أن آتيكم كما أريد رجعت فأخبروا رستم فقال ائذنوا له هل هو إلا رجل واحد فأقبل يتوكأ على رمحه وزجه نصل يقارب الخطو ويزج النمارق والبسط فما ترك لهم نمرقة ولا بساطا إلا أفسده وتركه منهتكا مخرقا فلما دنا من رستم تعلق به الحرس وجلس على الأرض وركز رمحه بالبسط فقالوا ما حملك على هذا قال إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه فكلمه فقال ما جاء بكم قال الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله قال وما موعود الله قال الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقي فقال رستم قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه
وتنظروا قال نعم كم أحب إليكم أيوما أو يومين قال لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا وأراد مقاربته ومدافعته فقال إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئتمنا ألا نمكن الأعداء من آذاننا ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث فنحن مترددون عنكم ثلاثا فانظر في أمرك وأمرهم واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل اختر الإسلام وندعك وأرضك أو الجزاء فنقبل ونكف عنك وإن كنت عن نصرنا غنيا تركناك منه وإن كنت إليه محتاجا منعناك أو المنابذة في اليوم الرابع ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا أنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى قال أسيدهم أنت قال لا ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض يجير أدناهم على أعلاهم فخلص رستم برؤساء أهل فارس فقال ما ترون هل رأيتم كلاما قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل قالوا معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب أما ترى إلى ثيابه فقال ويحكم لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة إن العرب تستخف باللباس والمأكل ويصونون الأحساب ليسوا مثلكم في اللباس ولا يرون فيه ما ترون وأقبلوا إليه يتناولون سلاحه ويزهدونه فيه فقال لهم هل لكم إلى أن تروني فأريكم فأخرج سيفه من خرقه كأنه شعلة نار فقال القوم اغمده فغمده ثم رمى ترسا ورموا حجفته فخرق ترسهم وسلمت حجفته فقال يا أهل فارس إنك عظمتم الطعام واللباس والشراب وإنا صغرناهن ثم رجع إلى أن ينظروا إلى الأجل فلما كان من الغد بعثوا أن ابعث إلينا ذلك الرجل فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن فأقبل في نحو من ذلك الزي حتى إذا كان على أدنى البساط قيل له انزل قال ذلك لو جئتكم في حاجتي فقوولا لملككم أله الحاجة أم لي فإن قال لي فقد كذب ورجعت وتركتكم فإن قال له لم آتكم إلا على ما أحب فقال دعوه فجاء حتى وقف عليه ورستم على سريره فقال انزل قال لا أفعل فلما أبى سأله ما بالك جئت ولم يجئ
صاحبنا بالأمس قال إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء فهذه نوبتي قال ما جاء بكم قال إن الله عز وجل من علينا بدينه وأرانا آياته حتى عرفناه وكنا له منكرين ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث فأيها أجابوا إليها قبلناها الإسلام وننصرف عنكم أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك أو المنابذة فقال أو الموادعة إلى يوم ما فقال نعم ثلاثا من أمس فلما الم يجد عنده إلا ذلك رده وأقبل على أصحابه فقال ويحكم ألا ترون إلى ما أرى جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا وحقر ما نعظم وأقام فرسه على زبرجنا وربطه به فهو في يمن الطائر ذهب بأرضنا وما فيها إليهم مع فضل عقله وجاءنا هذا اليوم فوقف علينا فهو في يمن الطائر يقوم على أرضنا دوننا حتى أغضبهم وأغضبوه فلما كان من الغد أرسل ابعثوا إلينا رجلا فبعثوا إليهم المغيرة بن شعبة كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن أبي عثمان النهدي قال لما جاء المغيرة إلى القنطرة فعبرها إلى أهل فارس حبسوه واستأذنوا رستم في إجازته ولم يغيروا شيئا من شارتهم تقوية لتهاونهم فأقبل المغيرة بن شعبة والقوم في زيهم عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب وبسطهم على غلوة لا يصل إلى صاحبهم حتى يمشي عليهم غلوة وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى جلس معه على سريره ووسادته فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوه ومغثوه فقال كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قوما أسفه منكم إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا لصاحبه فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى وكان أحسن من
الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه ولم آتكم ولكن دعوتموني اليوم علمت أن أمركم مضمحل وأنكم مغلوبون وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول فقالت السفلة صدق والله العربي وقالت الدهاقين والله لقدرمى بكلام بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه قاتل الله أولينا ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة فمازحه رستم ليمحو ما صنع وقال له يا عربي إن الحاشية قد تصنع ما لا يوافق الملك فيتراخى عنها مخافة أن يكسرها عما ينبغي من ذلك فالأمر على ما تحب من الوفاء وقبول الحق ما هذه المغازل التي معك قال ما ضر الجمرة ألا تكون طويلة ثم راماهم وقال ما بال سيفك رثا قال رث الكسوة حديد المضربة ثم عاطاه سيفه ثم قال له رستم تكلم أم أتكلم فقال المغيرة أنت الذي بعثت إلينا فتكلم فأقام الترجمان بينهما وتكلم رستم فحمد قومه وعظم أمرهم وطوله وقال لم نزل متمكنين في البلاد ظاهرين على الأعداء أشرافا في الأمم فليس لأحد من الملوك مثل عزنا وشرفنا وسلطاننا ننصر على الناس ولا ينصرون علينا إلا اليوم واليومين أو الشهر والشهرين للذنوب فإذا انتقم الله فرضي رد إلينا عزنا وجمعنا لعدونا شر يوم هو آت عليهم ثم إنه لم يكن في الناس أمة أصغر عندنا أمرا منكم كنتم أهل قشف ومعيشة سيئة لا نراكم شيئا ولا نعدكم وكنتم إذا قحطت أرضكم وأصابتكم السنة استغثتم بناحية أرضنا فنأمر لكم بالسيء من التمر والشعير ثم نردكم وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا ما أصابكم من الجهد في بلادكم فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم وآمر لكل رجل منكم بوقر تمر وبثوبين وتنصرفون عنا فإني لست أشتهي أن أقتلكم ولا آسركم فتكلم المغيرة بن شعبة فحمد الله وأثنى عليه وقال إن الله خالق كل شيء ورازقه فمن صنع شيئا فإنما هو الذي يصنعه هو له وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على ا لأعداء والتمكن في
البلاد وعظم السلطان في الدنيا فنحن نعرفه ولسنا ننكره فالله صنعه بكم ووضعه فيكم وهو له دونكم وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال وضيق المعيشة واختلاف القلوب فنحن نعرفه ولسنا ننكره والله ابتلانا بذلك وصيرنا إليه والدنيا دول ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه ولم يزل أهل رخائها يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ويصيروا إليها ولو كنتم فيما آتاكم الله ذوي شكر كان شكركم يقصر عما أوتيتم وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر كان عظيم ما تتابع علينا مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه أو كنتم تعرفوننا به إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولا ثم ذكر مثل الكلام الأول حتى انتهى إلى قوله وإن احتجت إلينا أن نمنعك فكن لنا عبدا تؤدي الجزية عن يد وأنت صاغر وإلا فالسيف إن أبيت فنخر نخرة واستشاط غضبا ثم حلف بالشمس لا يرتفع لكم الصبح غدا حتى أقتلكم أجمعين فانصرف المغيرة وخلص رستم تألفا بأهل فارس وقال أين هؤلاء منكم ما بعد هذا ألم يأتكم الأولان فحسراكم واستحرجاكم ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا وسلكوا طريقا واحدا ولزموا أمرا واحدا هؤلاء والله الرجال صادقين كانوا أم كاذبين والله لئن كان بلغ من إربهم وصونهم لسرهم ألا يختلفوا فما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم لئن كانوا صادقين ما يقوم لهؤلاء شيء فلجوا وتجلدوا وقال والله إني لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم وإن هذا منكم رئاء فازداودا لجاجة
كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن النضر عن ابن الرفيل عن أبيه قال فأرسل مع المغيرة رجلا وقال له إذا قطع القنطرة ووصل إلى أصحابه فناد إن الملك كان منجما قد حسب لك ونظر في أمرك فقال إنك غدا تفقأ عينك ففعل الرسول فقال المغيرة بشرتني بخير وأجر ولولا أن أجاهد بعد اليوم أشباهكم من المشركين لتمنيت أن الأخرى ذهبت أيضا فرآهم يضحكون من مقالته ويتعجبون من بصيرته فرجع إلى الملك بذلك فقال أطيعوني يا أهل فارس وإني لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها عن أنفسكم وكانت خيولهم تلتقي على القنطرة لا تلتقي إلا عليها فلا يزالون يبدؤون المسلمين والمسلمون كافون عنهم الثلاثة الأيام لا يبدؤونهم فإذا كان ذلك منهم صدوهم وردعوهم كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر قال كان ترجمان رستم عن أهل الحيرة يدعى عبود كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن مجالد عن الشعبي وسعيد بن المرزبان قالا دعا رستم بالمغيرة فجاء حتى جلس على سريره ودعا رستم ترجمانه وكان عربيا من أهل الحيرة يدعى عبود فقال له المغيرة ويحك يا عبود أنت رجل عربي فأبلغه عني إذا أنا تكلمت كما تبلغني عنه فقال له رستم مثل مقالته وقال له المغيرة مثل مقالته إلى إحدى ثلاث خلال إلى الإسلام ولكم فيه ما لنا وعليكم فيه ما علينا ليس فيه تفاضل بيننا أو الجزية عن يد وأنتم صاغرون قال ما صاغرون قال أن يقوم الرجل منكم على رأس أحدنا بالجزية يحمده أن يقبلها منه إلى آخر الحديث والإسلام أحب إلينا منهما كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن عبيدة عن شقيق قال شهدت القادسية غلاما بعد ما احتلمت فقدم سعد القادسية في اثني عشر ألفا وبها أهل الأيام قدمت علينا مقدمات رستم ثم زحف إلينا في ستين ألفا فلما أشرف رستم على العسكر قال يا معشر العرب ابعثوا إلينا رجلا يكلمنا ونكلمه فبعث إليه المغيرة بن شعبة ونفرا فلما أتوا رستم جلس المغيرة على السرير فنخر أخو رستم
فقال المغيرة لا تنخر فما زادني هذا شرفا ولا نقص أخاك فقال رستم يا مغيرة كنتم أهل شقاء حتى بلغ وإن كان لكم أمر سوى ذلك فأخبرونا ثم أخذ رستم سهما من كنانته وقال لا تروا أن هذه المغازل تغني عنكم شيئا فقال المغيرة مجيبا له فذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال فكان مما رزقنا الله على يديه حبة تنب في أرضكم هذه فلما أذقناها عيالنا قالوا لا صبر لنا عنها فجئنا لنطعمهم أو نموت فقال رستم إذا تموتون أو تقتلون فقال المغيرة إذا يدخل من قتل منا الجنة ويدخل من قتلنا منكم النار ويظفر من بقي منا بمن بقي منكم فنحن نخيرك بين ثلاث خلال إلى آخر الحديث فقال رستم لا صلح بيننا وبينكم كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة وزياد قالوا أرسل إليهم سعد بقية ذوي الرأي جميعا وحبس الثلاثة فخرجوا حتى أتوه ليعظموا عليه استقباحا فقالوا له إن أميرنا يقول لك إن الجوار يحفظ الولاة وإني أدعوك إلى ما هو خير لنا ولك العافية أن تقبل ما دعاك الله إليه ونرجع إلى أرضنا وترجع إلى أرضك وبعضنا من بعض إلا أن داركم لكم وأمركم فيكم وما أصبتم مما وراءكم كان زيادة لكم دوننا وكنا لكم عونا على أحد إن أرادكم أو قوي عليكم واتق الله يا رستم ولا يكونن هلاك قومك على يديك فإنه ليس بينك وبين أن تغبط به إلا أن تدخل فيه وتطرد به الشيطان عنك فقال إني قد كلمت منكم
نفرا ولو أنهم فهموا عني رجوت أن تكونوا قد فهمتم وإن الأمثال أوضح من كثير من الكلام وسأضرب لكم مثلكم تبصروا إنكم كنتم أهل جهد في المعيشة وقشف في الهيئة لا تمتنعون ولا تنتصفون فلم نسئ جواركم ولم ندع مواساتكم تقحمون المرة بعد المرة فنميركم ثم نردكم وتأتوننا أجراء وتجارا فنحسن إليكم فلما تطاعمتم بطعامنا وشربتم شرابنا وأظلكم ظلنا وصفتم لقومكم فدعوتموهم ثم أتيتمونا بهم وإنما مثلكم في ذلك ومثلنا كمثل رجل كان له كرم فرأى فيه ثعلبا فقال وما ثعلب فانطلق الثعلب فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم فلما اجتمعن عليه سد عليهن صاحب الكرم الجحر الذي كن يدخلن منه فقتلهن وقد علمت أن الذي حملكم على هذا الحرص والطمع والجهد فارجعوا عنا عامكم هذا وامتاروا حاجتكم ولكم العود كلما احتجتم فإني لا أشتهي أن أقتلكم كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن عمارة بن القعقاع الضبي عن رجل من يربوع شهدها قال وقال وقد أصاب أناس كثير منكم من أرضنا ما أرادوا ثم كان مصيرهم القتل والهرب ومن سن هذا لكم خير منكم وأقوى وقد رأيتم أنتم كلما أصابوا شيئا أصيب بعضهم ونجا بعضهم وخرج مما كان أصاب ومن أمثالكم فيما تصنعون مثل جرذان ألفت جرة فيها حب وفي الجرة ثقب فدخل الأول فأقام فيها وجعل الأخر ينقلن منها ويرجعن ويكلمنه في الرجوع فيأبى فانتهى سمن الذي في الجرة فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله فضاق عليه الحجر ولم يطق الخروج فشكا القلق إلى أصحابه وسألهم المخرج فقلن له ما أنت بخارج منها حتى تعود كما كنت قبل أن تدخل فكف وجوع نفسه وبقي في الخوف حتى إذا عاد كما كان قبل أن يدخلها أتى عليه صاحب الجرة فقتله فاخرجوا ولا يكونن هذا لكم مثلا كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن النضر عن ابن الرفيل عن أبيه قال وقال لم يخلق الله خلقا أولع من ذباب ولا أضر ما خلاكم يا معشر العرب ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع وسأضرب لكم مثلكم إن الذباب إذا رأى العسل طار وقال من يوصلني إليه وله درهما حتى يدخله لا ينهنهه أحد إلا عصاه فإذا دخله غرق ونشب وقال من يخرجني وله أربعة دراهم وقال أيضا إنما مثلكم مثل ثعلب دخل جحرا وهو مهزول ضعيف إلى كرم فكان فيه يأكل ما شاء الله فرآه صاحب الكرم ورأى ما به فرحمه فلما طال مكثه في الكرم وسمن وصلحت حاله وذهب ما كان به من الهزال أشر فجعل يعبث بالكرم ويفسد أكثر مما يأكل فاشتد على صاحب الكرم فقال لا أصبر على هذا من أمر هذا فأخذ له خشبة واستعان عليه غلمانه فطلبوه وجعل يراوغهم في الكرم فلما رأى أنهم غير مقلعين عنه ذهب ليخرج من الجحر الذي دخل منه فنشب اتسع عليه وهو مهزول وضاق عليه وهو سمين فجاءه وهو على تلك الحال صاحب الكرم فلم يزل يضربه حتى قتله وقد جئتم وأنتم مهازيل وقد سمنتم شيئا من سمن فانظروا كيف تخرجون وقال أيضا إن رجلا وضع سلا وجعل طعامه فيه فأتى الجرذان فخرقوا سله فدخلوا فيه فأراد سده فقيل له لا تفعل إذا يخرقنه ولكن انقب بحياله ثم اجعل فيها قصبة مجوفة فإذا جاءت الجرذان دخلن من القصبة وخرجن منها فكلما طلع عليكم جرذ قتلتموه وقد سددت عليكم فإياكم أن تقتحموا القصبة فلا يخرج منها أحد إلا قتل وما دعاكم إلى ما صنعتم ولا أرى عددا ولا عدة كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة بإسنادهما وزياد معهما قالوا فتكلم القوم
فقالوا أما ما ذكرتم من سوء حالنا فيما مضى وانتشار أمرنا فلما تبلغ كنهه يموت الميت منا إلى النار ويبقى الباقي منا في بؤس فبينا نحن في أسوإ ذلك بعث الله فينا رسولا من أنفسنا إلى الإنس والجن رحمة رحم بها من أراد رحمته ونقمة ينتقم بها ممن رد كرامته فبدأ بنا قبيلة قبيلة فلم يكن أحد أشد عليه ولا أشد إنارا لما جاء به ولا أجهد على قتله ورد الذي جاء به من قومه ثم الذين يولنهم حتى طابقناه على ذلك كلنا فنصبنا له جميعا وهووحده فرد ليس معه إلا الله تعالى فأعطي الظفر علينا فدخل بعضنا طوعا وبعضنا كرها ثم عرفنا جميعا الحق والصدق لما أتانا به من الآيات المعجزة وكان مما أتانا به من عند ربنا جهاد الأدنى فالأدنى فسرنا بذلك فيما بيننا نرى أن الذي قال لنا ووعدنا لا يخرم عنه ولا ينقض حتى اجتمعت العرب على هذا وكانوا من اختلاف الرأي فيما لا يطيق الخلائق تأليفهم ثم أتيناكم بأمر ربنا نجاهد في سبيله وننفذ لأمره وننتجز موعوده وندعوكم إلى الإسلام وحكمه فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا وخلفنا فيكم كتاب الله وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزى فإن فعلتم وإلا فإن الله قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم فاقبلوا نصيحتنا فوالله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم ولقتالكم بعد أحب من صلحكم وأما ما ذكرت من رثاثتنا وقلتنا فإن أداتنا الطاعة وقتالنا الصبر وأما ما ضربتم لنا من الأمثال فإنك مضربتم للرجال والأمور الجسام وللجد الهزل ولكنا سنضرب مثلكم إنما مثلكم مثل رجل غرس أرضا واختار لها الشجر والحب وأجرى إليها الأنهار وزينها بالقصور وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ويقومون على جناتها فخلا الفلاحون في القصور على ما لا يحب وفي الجنان بمثل ذلك فأطال نظرتهم فلما لم يستحيوا من تلقاء أنفسهم استعتبهم فكابروه فدعا إليها غيرهم وأخرجهم منها فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس وإن أقاموا فيها صاروا خولا لهؤلاء يملكونهم
ولا يملكون عليهم فيسومونهم الخسف أبدا ووالله أن لو لم يكن ما نقول لك حقا ولم يكن إلا الدنيا لما كان لنا عما ضرينا به من لذيذ عيشكم ورأينا من زبرجكم من صبر ولقارعناكم حتى نغلبكم عليه فقال رستم أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم فقالوا بل اعبروا إلينا فخرجوا من عنده عشيا وأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم وأرسل إليهم شأنكم والعبور فأرادوا القنطرة فأرسل إليهم لا ولا كرامة أما شيء قد غلبناكم عليه فلن نرده عليكم تكلفوا معبرا غير القناطر فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بأمتعتهم يوم أرماث كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد عن عبيدالله عن نافع وعن الحكم قالا لما أراد رستم العبور أمر بسكر العتيق بحيال قادس وهو يومئذ أسفل منها اليوم مما يلي عين الشمس فباتوا ليلتهم حتى الصباح يسكرون العتيق بالتراب والقصب والبراذع حتى جعلوه طريقا واستتم بعد ما ارتفع النهار من الغد كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن ممد وطلحة وزياد بإسنادهم قالوا ورأى رستم من الليل أن ملكا نزل من السماء فأخذ قسي أصحابه فختم عليها ثم صعد بها إلى السماء فاستيقظ مهموما محزونا فدعا خاصته فقصها عليهم وقال إن الله ليعظنا لو أن فارس تركوني أتعظ أما ترون النصر قد رفع
عنا وترون الريح مع عدونا وأنا لا نقوم لهم في فعل ولا منطق ثم هم يريدون مغالبة بالجبرية فعبروا بأثقالهم حتى نزلوا على ضفة العتيق كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن الأعمش قال لما كان يوم السكر لبس رستم درعين ومغفرا وأخذ سلاحه وأمر بفرسه فأسرج فأتي به فوثب فإذا هو عليه لم يمسه ولم يضع رجله في الركاب ثم قال غدا ندقهم دقا فقال له رجل إن شاء الله فقال وإن لم يشأ كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم قالوا قال رستم إنما ضغا الثعلب حين مات الأسد يذكرهم موت كسرى ثم قال لأصحابه قد خشيت أن تكون هذه سنة القرود ولما عبر أهل فارس أخذوا مصافهم وجلس رستم على سريره وضرب عليه طيارة وعبى في القلب ثمانية عشر فيلا عليها الصناديق والرجال وفي المجنبيتن ثمانية وسبعة عليها الصناديق والرجال وأقام الجالنوس بينه وبين ميمنته والبيرزان بينه وبين ميسرته وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين وخيول المشركين وكان يزدجرد وضع رجلا على باب إيوانه إذ سرح رستم وأمره بلزومه وإخباره وآخر حيث يسمعه من الدار وآخر خارج الدار وكذلك على كل دعوة رجلا فلما نزل رستم قال الذي بساباط قد نزل فقاله الآخر حتى قاله الذي على باب الإيوان وجعل بين كل مرحلتين على كل دعوة رجلا فكلما نزل وارتحل أو حدث أمر قاله فقاله الذي يليه حتى يقوله الذي يلي باب الإيوان فنظم ما بين العتيق والمدائن رجالا وترك البرد وكان ذلك هو الشأن وأخذ المسلمون مصافهم وجعل زهرة وعاصم بين عبدالله وشرحبيل ووكل صاحب الطلائع بالطراد وخلط بين الناس في القلب والمجنبات ونادى مناديه ألا إن الحسد لا يحل إلا على الجهاد في أمر الله يا أيها الناس فتحاسدوا وتغايروا على الجهاد وكان سعد يومئذ لا يستطيع أن يركب ولا يجلس به حبون فإنما هو على وجهه في صدره وسادة هو مكب عليها مشرف على الناس من القصر يرمي بالرقاع فيها أمره ونهيه إلى خالد بن عرفطة وهو أسفل منه وكان الصف إلى جنب القصر وكان خالد كالخليفة لسعد لو لم يكن سعد شاهدا مشرفا كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن القاسم بن الوليد الهمداني عن أبيه عن أبي نمران قال لما عبر رستم تحول زهرة والجالنوس فجعل سعد زهرة مكان ابن السمط وجعل رستم الجالنوس مكان الهرمزان وكان بسعد عرق النسا ودماميل وكان إنما هو مكب واستخلف خالد بن عرفطة على الناس فاختلف عليه الناس فقال احملوني وأشرفوا بي على الناس فارتقو به فأكب مطلعا عليهم والصف في أصل حائط قديس يأمر خالدا فيأمر خالد الناس وكان ممن شغب عليه وجوه من وجوه الناس فهم بهم سعد وشتمهم وقال أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالا لغيركم فحبسهم ومنهم أبو محجن الثقفي وقيدهم في القصر وقال جرير أما إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر وإن كان عبدا حبشيا وقال سعد والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويشاغلهم وهم بإزائهم إلا سنت به سنة يؤخذ بها من بعدي . )(6)
فهل حالنا كذلك ؟
المصادر :
1- النساء / 77 – 79
2- التوبة / 24
3- التوبة / 38 - 39
4- المائدة / 54 - 57
5- الفتح / 29
6- تاريخ الطبري ج: 2 ص: 400 - 407



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.