کان الشيعة في السبعين سنة الأخيرة يرجعون الى الإمام المهدي عليه السلام بواسطة السفراء والوكلاء، فكانوا يكتبون إليه الرسائل والأسئلة، وتأتيهم الأجوبة (التوقيعات) ومعها الدلالات والآيات التي تقنعهم بأنها صادرة منه عليه السلام.
وعندما أخبرهم السفير الرابع علي بن محمد السمري قدس سره بأن الإمام عليه السلام أخبره بأنه سيتوفى بعد أيام وأمره أن لا يعهد الى أحد من بعده ، لأن الغيبة التامة قد وقعت حتى يأذن الله تعالى بالظهور، فكان هذا حدثاً صعباً على الشيعة، بل كان هزة شديدة لجماعتهم، على رغم أن هذه الغيبة موعودة في أحاديث كثيرة، رووها هم وآباؤهم وأجدادهم.. وهنا نهض الفقهاء والرواة وألفوا العديد من الكتب في الغيبة الموعودة، وفيما يجب اعتقاده وعمله في عصر الغيبة.
ومن ناحية أخرى، كانت جماعة الشيعة في عاصمة الخلافة بغداد وفي بقية بلاد المسلمين أقلية مضطهدة، بل كانت تواجه في مناطق عديدة خطر الإبادة الكاملة، فلا يصح القول إنه حدث تقاعس عند الشيعة عن عقيدة الإمامة.
بل الصحيح أنه حدث فراغ كبير بغيبة الإمام عليه السلام وهزة عنيفة لجماعة الشيعة، ورافق ذلك اضطهاد الدولة، وتخطيطها للقضاء على هذه الجماعة وإبادتها نهائياً.
ولكن الشيعة استطاعوا أن يستوعبوا هزة الغيبة واضطهاد السلطة ويواصلوا وجودهم والتزامهم بعقيدتهم.
وكان للفقهاء والرواة دور مؤثر في ذلك.
أما من ناحية عقيدية، فإن من ضرورات مذهب الشيعة أن الأرض لاتخلو من إمام، إما ظاهر مشهور أو خائف مستور، وقد كان علي عليه السلام ينادي بها من على منبر الخلافة.
وانه لو بقي شخصان على وجه الأرض لكان أحدهما إماماً وحجة لله تعالى على الآخر. بل وردت الرواية بأن الأرض لو خليت من إمام لساخت بأهلها.
وهم يحتجون على المذاهب الأخرى بمثل قول النبي صلى الله عليه وآله (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عزوجل وعترتي. كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض، وعترتي أهل بيتي. وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروني بم تخلفوني فيها((1)
فإن لا معنى لإخبار الله تعالى بعدم افتراق القرآن والعترة الى يوم القيامة، إلا أنه تعالى تكفل بوجود إمام من العترة يبين القرآن في كل عصر إلى يوم القيامة.
نعم قد يبتلي الله عباده فيغيّب عنهم حجته الى مدة تقصر أو تطول، لأسباب وحكم لا نحيط بعلمها، كما حدث في خاتم الأئمة المهدي عليه السلام، حيث مد الله تعالى في عمره كما مد في عمر الخضر وغيره. وهنا ياتي دور مرجعية الفقهاء، كما اصطلح الشيعة على تسميته. ويمكن أن نسميه دور الفقهاء وقيادة الفقهاء، لكن لايمكن أن نسميه (إمامة) الفقهاء بالمصطلح الشيعي، لأن الإمامة عند إطلاقها بدون قرينة مخصوصة بالإمام المعصوم المعين من الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وآله.
فينبغي الالتفات الى أن إخواننا السنة قد أطلقوا لقب (الإمام) في القرون المتأخرة على الخليفة، ثم أطلقوه على كبار العلماء، ثم توسعوا في إطلاقة على الخلفاء والعلماء حتى اضطروا الى إضافة وصف آخر معه ليدل على خليفة أو السلطان أو كبير العلماء، فقالوا (الإمام الأكبر) تمييزاً له عن الأئمة الصغار.
أما الشيعة فكلمة الإمام عندهم أولاً وبالذات إسم للإمام المعصوم عليه السلام، وعندما يطلقونها على غيره فمن باب التوسع المجازي ليس إلا، ومن خذا القبيل إطلاقها على المرحوم الإمام الخميني قدس سره، وليس بمعنى أنه أمام ثالث عشر، ولا بمعنى أن الشيعة يعتقدون بإمامة الفقهاء من سنة 255 كما تصور المؤلف، فإن من ضرورات عقيدتهم (ومن الامور التي كان يؤكد عليها الإمام الخميني قدس سره) أن الإمام المهدي عليه السلام هو الإمام الفعلي إمام العصر المفترض الطاعة، غاية الأمر أن الأمة محرومة من نعمة ظهوره وقيادته الفعلية المباشرة.
والفقهاء نواب بالمعنى الأعم للنيابة، وبديل غير معصوم، رغم علو درجاتهم وشامخ مقامهم.
وقد جرى البحث ويجري في شروط الفقيه المرجع في عصر الغيبة وفي مدى صلاحياته، فمن قائل بأنه أعلم الفقهاء في كل عصر، ومن قائل بأن الأعلمية تعني الأقدر(أكاديمياً) على استنباط الأحكام فقط، ولا تعني الأعلم بشؤون العصر والادارة. ومن قائل يجوز تقليد كل مجتهد ولو كان غير الأعلم.
ومن قائل إن صلاحياته الإفتاء والقضاء والأمور الحسبية فقط، ومن قائل تشمل صلاحياته مضافاً الى ما ذكر إجراء الحدود، ومن قائل تشمل كل ما يحتاج اليه إقامة الدولة وإدارتها، بل كل ما يراه مصلحة ولو اقتضى نزع الملكية عن المالك الشرعي وطلاق الزوجة من زوجها الشرعي، وهو ما يعبر عنه أخيراً بولاية الفقيه المطلقة.. وهو رأي المرحوم الإمام الخميني قدس الله نفسه الزكية.
وخلاصة القول: أن الإمام الفعلي عند الشيعة هو الإمام المهدي عليه السلام وان كان غائباً، والفقهاء مراجع الدين نوابه بالمعنى الأعم لا الأخص.
أما شروط الفقيه وحدود ولايته فهما مسألتان فقهيتان يرجع فيها المكلف الى مرجع تقليده.
أطـروحـة الحــل
رأينا ما عندنا وما عند الآخرين من رأي في مشكلة القيادة، واتضحت لنا الصورة بزواياها وأبعادها، وعلينا الآن أن نفكر قليلاً ونتخذ خطى جادة لإصلاح الحال، فعلينا أن نعلن للعالم صراحة أن ديننا الكامل ليس فيه ما يحل مشكلات عصرنا السياسية، ومن ثم فلا حرج في أن نعيش على الفكر المستورد، كما نعيش على الأغذية والمعلبات المستوردة.والواقع أن الحركة الإسلامية في العالم السني تواجه من بين ما تواجه مشكلة أخرى مرتبطة بمشكلة القيادة ارتباطاً قوياً، وأعني بها مشكلة شكل التحرك والتنفيذ.
فالأفكار التي تدور في أذهان كل من تمنى تنفيذ الاسلام واشتاق لرؤيته حياً من شيوخنا وشبابنا لا تخرج عن ثلاثة:
الأول:
الإنقلاب العسكري فذلك مما يؤمن الكثيرون به أسلوباً للتغيير وتنفيذ الإسلام وتطبيق الشريعة.
وهؤلاء لم يفهموا قطعاً طبيعة هذا الدين ونظريته. وتجربة باكستان والسودان في هذا دليلي وسندي.
الثاني:
العمل السري، لكننا إذا سألنا أصحابه: هل يمكن ضم كل الشعب الى العمل السري ؟ ولو فرضنا نجاحه فماذا بعد التفجيرات والإغتيالات هنا وهناك، دون قيادة جامعة ؟ أنا لا أنكر أهمية هذا العمل في المسيرة، لكنه ينبغي أن يكون محدوداً جداً ولا يسمح به إلا في ظروف خاصة للغاية، أما الإعتماد عليه كأساس فهذا لا يفيد.
الثالث:
إلباس الحركة الإسلامية ثوب الحزبية تنظيماً وتحركاً على غرار الأحزاب السياسية العاملة في النظم الديمقراطية، وهي الحفرة العميقة التي وقعت فيها الجماعة الإسلامية في باكستان فلم تخرج منها منذ عام 1941، بل أوقعت فيها غيرها من التنظيمات كالإخوان المسلمين في مصر وغيرها.
والسالكون لهذا الطريق يعاملون الإسلام كغيره من نظريات حزب العمل والمحافظين والديمقراطيين وليكود وغيرهم، فليس الإسلام نظريةتطبق عن طريق البرلمانات وقنوات الأكثريةوالأقلية، وأبسط ما في هذه الطريقة من إشكال أننا لو فرضنا حصول هذه الجماعة أو تلك في مصر أو باكستان أو السودان أو غيرها على أكثرية مقاعد البرلمان، وهذا في نفسه مستحيل ـ وتمكنت من تطبيق الإسلام أو قوانينه فهل يتم بذلك تغيير النظام نفسه ؟ وإذا قيل نعم وسلمنا بهذا جدلاً، فماذا سيكون مصير هذه القوانين إذا جاء حزب آخر في البرلمان، أو انقلب الجيش بتحريض من الخارج أو الداخل وعطل الحياة الدستورية، وألغى هذه القوانين ؟ هل نسكت على إلغائها، فنكون قد رضينا بالكفر ؟ أم نخرج في ثورة عارمة دموية دفاعاً عنها ؟ فإن كانت الأولى فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإن كانت الثورة فلماذا لا نختارها من البداية، بدلاً من تضييع العقود بل القرون في تجريب الديمقراطية كوسيلة لتطبيق ما لا يمكن تطبيقه بأساليب غيره من النظريات ؟
وقد تناولت هذه النقطة بقدر من التفصيل في كتيب بعنوان (بين أسلوب الدعوة وأسلوب التنفيذ) فليرجع اليه من أراد الاستيضاح، وما أود التأكيد عليه هنا أنني أعتقد أن الإسلام ليس نظرية رجعية، ولا حزبية، بل هو نظرية ثورية شاملة لا يناسبها إلا الأسلوب الثوري في التنفيذ.
ولو افترضنا جدلاً أن جمع الأساليب والطرق الثلاثة المذكورة صالحة لتنفيذ الاسلام وإقامة دولته، فليس أن أسأل ما هو النظام البديل الذي يستلم السلطة: هل يصلح تطبيق الإسلام في ظل نظام غير إسلامي هو الموجود حالياً ؟ فإن قيل نعم، وقعنا في معضلة فقهية ما لنا منها مخرج، وإن قيل لا، قلنا فماذا عندنا من نظام بديل يملأ الفراغ الذي سيوجد بعد إسقاط النظام القديم ؟
أم تقولون نسقطه أولاً وبعد ذلك تفرج ؟
وأكاد أعتقد أن أطروحة الحل ينبغي أن تكون شاملة تتوفر فيها عناصر الشمولية بحيث تحقق ما يلي:
أولاً:
حل مشكلة القيادة.
ثانياً:
تبني الأسلوب الثوري لتطبيق الإسلام، وذلك بقدرتها على السيطرة على رجل الشارع البسيط واجتذابه.
ثالثاً:
القضاء على ظواهر الفشل الحركي كظاهرة أمراء وقادة الشقق والحواري، وزعماء الأحزاب والتنظيمات، وظاهرة تشكيل التنظيمات التي يحركها قادة أموات في قبورهم.
وأظن ـ وبعض الظن اثم ـ أن هذا الشق من الأطروحة والذي قبله سيكونان سبب رفض المستفيدين تجارياً واجتماعياً لها جملة وتفصيلاً، حتى قبل مناقشتها وعرضها على الشرع والعقل والقلب.
رابعاً:
إقامة النظام البديل الذي يتولى مكان النظام الساقط.
وإن كنت أوثر ترك هذه النقطة الآن، مكتفياً بما يمكن أن يفهمه ذهن القاريء اللبيب عن قدرةهذه الأطروحة على ضمان وتحقيق ذلك.
ولا أحسبن أحداً يتوقع مني طرح كل التفاصيل أو حتى بعضها، لأنني لن أهتم بهذا، إنما سأعرض الخطوط العريضة، والسمات العامة فقط.
ولا يعني توجيه كلامي الى مصر وأهلها، أو صياغة الأطروحة حسب ظروف المجتمع المصري، أنها لا تصلح لغيره بل أظنها تصلح لكثير من المجتمعات بعد شيء من النقص والزيادة هنا أو هناك.
1 ـ تحديد الهوية
الحركات والتيارات التي تسقط أنظمة وتقيم، لابد وأن تتميز بوضوح الرؤيا أياً كانت هذه الرؤيا: وطنية أو دينية أو غير ذلك، وبدون هذا الوضوح تصبح الحركة كالأطرش في الزفة، لا يدري أين هو، ولماذا يجتمع الناس.وتبسيطاً على الطالبين أقول إن عناصر قيام الدول واشتداد الحركات لا تخرج عن (العصبية) بكل نواحيها، عصبية عرقية، أو عصبية مذهبية، أو لغوية أو غيرها.
هذا ما يقوله التاريخ وعلوم السياسة والعمران.
والعصبية والتعصب ليس مذموماً في ذاته بل المذموم الطريق الذي يستخدم فيه، لأن التعصب من حيث هو كذلك إحساس بشري لا ينكر ولا يكبح، ومثله كمثل بقية المشاعر، فالغضب مثلاً إحساس بشري إن كان في الله ولدينه فهو ممدوح يثاب المرء عليه، وإن كان لكرة القدم أو هذا أو ذاك من الأندية، فلا شك مذموم.
والعصبية كذلك.
فإذا نظرنا الى مجتمعنا المصري وجدناه يفتقر الى هوية، فهو مجتمع هلامي غير محدد الأطر والمعالم، فليست فينا عصبية لوطن أو عرق، ولا تحمس للغة أو مذهب، وهذا هو المقتل، لأن مجتمعا بهذا الشكل يصعب على المتحركين فيه تأسيس دولة.
من هنا كان علينا أن نفهم أن أول خطوة نخطوها يجب أن تكون تنمية الحس الوطني والتعصب لهذا الوطن والرغبة في تحريره من الإستعمار بكل ألوانه وأشكاله.
ويجب أن نعرف أننا مستعمرون لا نملك قرارنا في أيدينا، وأن هذا الإستعمار عسكري وسياسي وإقتصادي وإعلامي وثقافي، بل وحتى في مجال الطب والأدوية، ولا أرى هذا الكتاب محلاً لتفصيل ذلك.
والثانية: أن عدم التحمس لفقه معين ومذهب محدد سم قاتل لا تقوم معه دولة، فصيحة التحرر من المذاهب براقة في ظاهرها إذ يقول أصحابها عليكم بالكتاب والسنة، والكتاب معنا والسنة مدونة ولا حاجة لنا بعد ذلك فنتبع هذا أو ذاك.
أي أن كل أحد يستطيع اتباع الكتاب والسنة بنفسه، وهذا أمر جد خطير أدى الى الفوضى الفكرية والتنظيمية والقيادية التي نراها.
كما أن هذه الدعوة تتضمن تقويض ما بين المسلمين وبين الجهود العلمية والإجتهادية التي أنجزها الأجداد، لأن عدم الإنتماء الى هذا أو ذاك يبتر المسلمين عن ماضيهم، ويجعلهم يبدؤون جهود التشريع من جديد إذا قامت لهم دولة.
ثم إن أصحاب هذه النعرة في الوقت الذي ينادون فيه بعدم الإلتزام بأي من الأفقهة، تراهم يلزمون الناس وفيهم البسطاء وانصاف المتعلمين باتباع آراء فلان وفلان.
والنتيجة الطبيعية إذا مشينا وراء هذا التيار أن يصبح في كل شقة فقهاء بعدد أفراد ساكنيها.
ولا أشك ذرة في أن هذه الفكرة أدخلها الإنجليز في الإسلام في وقت معين من أجل تفتيت الكيان الإسلامي في كل بلد، وإدخال المسلمين في طريق شكله جميل لكنه لا يقود الى شيء.
والخلاصة أن أصحاب هذه النظرية ليس لديهم رؤية واضحة، فلا التصورات الفقهية عندهم واضحة، ولا الفلسفة السياسية خلف دعواهم مؤطرة، ولا طرحهم الإجتماعي ـ إن كان لديهم شيء منه ـ مرسوم.
من أجل هذا علينا أن نتخذ موقفاً ونتبنى فقها معيناً جعفرياً كان أو شافعياً أو غير ذلك، مادام يصلح للقرن العشرين، ثم نتحمس لتطبيقه وإشاعة أحكامه.
2 ـ نظام الإجتهاد
فإن اختارت الأمة لنفسها المذهب الجعفري فلا إشكال إذن لأن قواعد هذا المذهب، وما فيه من مبادئ حركية كفيلة بحل كل مشكلات المسيرة.وإن اختارت مذهباً آخر فعلينا أولاً أن نغرس في نفوس الناس عامتهم وخاصتهم حب العلماء واحترامهم وإجلالهم، كما على العلماء بدورهم التعبير عن مشكلات الشعب وأمانيه ووجهة نظره، وتبني موقفه، والكلام بلسانه، والتصرف في المواقف بأسلوب الأحرار وطريقتهم، لا بطريقة عبيد الحكومة وحاشية السلطان.
وعلينا بعد ذلك أن نشكل مجلساً من مجتهدي المذهب الذي نختاره، ودرجات الإجتهاد، وصفات المجتهدين مشروحة مدونة في مظانها فليرجع اليها من أراد، لكنه لا ينبغي أن يكون المجتهد مجتهداً في الحيض والنفاس وما إليه من الأحكام فحسب، بل يجب أن يكون كذلك في كل جوانب الحياة وما يتعلق بها من أحكام، وأن يكون واعياً بسياسة الدولة وقوانينها، فاهماً للإستراتييجية وعلومها، مستوعباً للقانون الدولي وطرق تسيير الدولة وقيادة الأمم، لأن المعركة التي تخاض في سبيل تأسيس دولة الإسلام لن تكون حول أحكام الحيض والنفاس وأحكام المولود والزكاة والمواريث، بل ستكون معركة نواجه فيها العالم بقواه الكبرى، التي ستجتمع لإبادة هذا الدين.
إذ من السذاجة أن نتصور أن العالم سيستريح لقيام دولة إسلامية في مصر أو في غيرها.
لابد إذن أن يكون المجتهد حياً يعرف ما يدور في زماننا من مشكلات، ويعي حلولها في ضوء أحكام المذهب والقوانين الدولية، لأن الشافعي وأبا حنيفة ومالك وغيرهم يرقدون في قبورهم لا يدرون من أمر دنيانا شيئاً، فإن أردنا إقامة الدولة على أي من مذاهبهم فلابد من إحياء نظام الإجتهاد بأن يكون ثمة مجتهدون أحياء يجدون حلولاً لمشكلات عصرنا، بشرط أن يتوفر فيهم العدالة بشروطها علاوة على الإخلاص وسعة العقل وسلامة الدين وزهد الدنيا وحب الشهادة وشجاعة الفؤاد وحب الوطن، والقدرة على التصدي للشرق والغرب والإكتمال في جوانب القيادة، فيكون الواحد منهم زعيماً روحياً وقيادة سياسية حكيمة ومرجعاً فقهياً عاماً.
ثم علينا إنشاء نظام تعليم ديني توضع مناهجه وأسسه بحيث تضمن إنتاج وتخريج أنماط من هؤلاء المجتهدين يقودون الشارع الإسلامي على طريق الحق.
ولتكن هذه المدارس أهلية ينفق عليها المسلمون أنفسهم بدلاً من إنشاء بنوك إسلامية، وشركات استثمار، وسوبرماركيت، وغير ذلك من المؤسسات التي تخدم في النهاية نظام الكفر المسيطر عليها وعلى المجتمع.
فإذا توفر لدينا ثلاثة أو أربعة مجتهدين من هذا النوع، فعلى أحدهم أن يتصدى لخوض المعركة السياسية لإقامة الدولة الإسلامية وعلى الآخرين تأييده لا منازعته ولا مخالفته، على أن يكون هذا المجتهد المتصدي تقياً زاهداً واعياً فاهماً طاهراً نظيف الجيب شريف اليد عفيف النفس ناصع الماضي واضح الرؤية.
هذا على مستوى القيادة.
فأما على مستوى القاعدة فينبغي إلزام كل من ليس له رتبة الإجتهاد، ولا يستطيع النظر في الأدلة الشرعية بتقليد أحد المجتهدين، وينبغي أن نفهم أن رباط التقليد بين المقلد والمرجع ليس رباطاً واهياً ولا ضعيفاً إنما هو من أقوى الأربطة وأمتن الصلات، إذ يشد القاعدة بالقمة، ويربط الفرد العادي بقيادته.
والناس وفق هذا النظام أحرار في اختيار من يقلدون ولا إجبار لهم في تقليد هذا من المجتهدين أو ذاك.
3 ـ الإستقلال الإقتصادي
استقلال العلماء إقتصادياً أهم أمر من أمور الحركة، وبدونه لا يمكن إقامة دولة ونظام من الطراز الذي نتحدث عنه.وفي غياب الإستقلال الإقتصادي نجد أن العلماء ـ وهذا لفظ أستخدمه هنا مجازاً لأن العالم الحقيقي عف اليد شريف النفس ـ أقول نجد
العلماء يختارون واحداً من الطرق الآتية لسد ضروراتهم واحتياجات عوائلهم:
أما الإنسلاك في وظائف الحكومة وهذا يؤدي بهم الى موافقة الحاكم حفاظاً على الرواتب.
ولما كان الحاكم وحكومته كما نعلم، فإن هؤلاء العلماء يضطرون لإرضائه بما يسخط الرب، وبهذا يخرج كثير منهم عن الجادة.
فإن لم ينسلك العالم في سلك الحكام وأراد أن يلعب في دائرة المعارضين للنظام في الدول التي فيها معارضة إسمية، نراه يحتاج الى المال، إذ لا سياسة بلا مال، ولا نشاط بدون نفقات، فإذا بمثل هذا يتسكعون أمام السفارات، ينتهزون النزاعات الدولية والإقليمية فيعرضون خدماتهم على أحد طرفي النزاع، ويقبضون منه، ويؤيدونه ولو كان موقفه باطلاً لا شك في بطلانه.
وقد كشفة الحرب بين إيران والعراق لنا كثيراً من هؤلاء.
وبهذا يتحول هذا القسم الى تجار دين، مثلهم مثل القسم الأول لأن كليهما يخدم نظاماً مقابل قرش.
فإن لم يفعل العالم هذا أو تلك، خرج في إعارة هنا أو هناك ليجمع قرشين يعدل بهما حاله، ويزوج أبناءه وبناته، وهذا يحافظ على راتبه بارضاء الدولة المعار منها والمعار اليها، فلا فرق أيضاً بين هذا ومن سبقوه.
أو تراه مثلاً افتتح له دكاناً اسلامياً في شكل مدرسة أو جامعة اسلامية، جمع باسمها التبرعات ووجد لها من يمولها، خاضعاً في ذلك لتنفيذ سياسة الممولين.
هكذا نرى أن الإسم الجامع لهذه الأشكال التعايشية كلها مهما اختلفت وسائلها ودوافعها هو (التجارة) ولا شيء غيرها.
وهؤلاء لا يمكن لعاقل أن يتوقع منهم مساندة الحق أو التضحية بما هم عليه في سبيل هذا الدين.
فلابد إذن من تحقيق الإستقلال الإقتصادي للعلماء في ظل نظام المجتهدين الأحياء، ولذلك أرى ضرورة دفع الزكاة والصدقات والكفارات من قبل المقلد الى المجتهد الذي يقلده.
ولا أرى بأساً في الأخذ بنظام الخمس كما في المذهب الجعفري، وهو أن يدفع كل مقلد خمس ماله المتبقى بعد أن يدخر له ولأولاده ما يكفي مؤونة عام.
ثم يقوم المجتهدون بالإنفاق من هذا المال المجتمع لديهم وهو كثير، على أنفسهم بالمعروف، وعلى بقية العلماء وطلاب المدارس الدينية والحركة الإسلامية وما تحتاجه.
وهكذا يتحقق الإستقلال الإقتصادي للعلماء، فإذا تحقق هذا استطاعوا الوقوف في وجه الظالمين، بدلاً من مساندتهم وإرضائهم بما يسخط الله.
4 ـ حركة المتحركين
في ظل هذا النظام يطلق للأفراد المقلدين حرية الإبتكار في الحركة عن طريق تشكيل تنظيمات وأندية وإتحادات وجمعيات ذات أشكال مختلفة وأهداف ومقاصد متباينة، لا تتناقض فيما بينها وإن تعددت.هذه التنظيمات العلنية تنتشر في جسد المجتمع وتمتد الى الحواري في كل مكان لتجذب اليها رجل الشارع.
ففي وجود هذه الأشكال التحركية لا يستطيع الفرد العادي أن يفلت من الإرتباط بالقيادة العامة للحركة، فلا يتعثر جهده خارجها.
فهذا فرد أعجبته جمعية لتحفيظ القرآن شكلها أتباع هذا المجتهد أو ذاك فانضم إليها، وآخر جذبته جمعية ثقافية، وثالث انضم لمنبر سياسي، ورابع الى تنظيم يهتم بحقوق الإنسان، وخامس الى نقابة عمالية أو تجارية، وكل هؤلاء نجد جهودهم تنصب في النهاية في إطار المرجعية العامة، فلا يفلت من التنظيم العام أحد، لأن أي جماعة يختارها المرء للعمل وفق إمكاناته وقدراته ومواهبه ستوصله في النهاية الى نفس الطريق الذي يسلكه غيره، لأن الحركة يسيطر عليها قيادة واحدة.
هكذا نجد أن هذه الأطروحة تحقق ما يلي:
1 ـ وحدة القيادة.
2 ـ سير الحركة وفق الخط السليم وفي إشراف المرجع الأعلى.
3 ـ إذابة كل التنظيمات التي على الساحة في داخل تنظيم واحد.
4 ـ إختفاء ظاهرة أمراء الحواري ومفتيي الشقق.
5 ـ تأسيس دولة داخل الدولة ونظام في قلب النظام.
6 ـ توفير الإستقلال الإقتصادي للعلماء، وبالتالي تشجيعهم على مواجهة الظلم والظالمين.
7 ـ ضمان عدم تأثير أي ضربة توجهها السلطة للمتحركين خشية من رد فعل القيادة.
8 ـ غالباً ما تشل هذه الأطروحة قدرة النظام على التنكيل بالعاملين، لأن القيادة إذا أصدرت أمرها ـ وهو عند المقلدين له احترامه وينبغي أن يطاع ـ أمكنها أن تنزل الى الشارع مليونين من المقلدين وهو كابوس مخيف بالنسبة للنظام، أي نظام.
9 ـ تحويل الحركة الى حركة قوية لها قدرة على التصدي للأمور، والتعامل مع النظام نداً لند.
10 ـ حل مشكلة القيادة، وتنظيم درجاتها لأن التنظيمات المنتشرة في جسد المجتمع ستنتج قيادات حركية متنوعة، منها ما يصلح للصف الثاني ومنها ما ينفع للصف الثالث والرابع عند اقتضاء الضرورة، فتتحول الى مستودع ضخم يدفع الى المجتمع بملايين الأتباع المقلدين، وآلاف القادة، ومئات أساليب التحرك.
وهناك كثير وكثير من الاهداف التي يمكن أن تحققها هذه الأطروحة، أمسكنا عنه خشية الإطالة.
وإن كان لي من قول بعد ذلك، فهو أني على يقين من معارضة طائفة التجار لها، لأنها ستمنع اتجارهم بالدين وبناء الأبهمة الذاتية والأوضاع الإجتماعية الشخصية.
ومع هذا فكلي أمل في أن يستجيب لها المخلصون الذين يشعرون بالأزمة التي تعاني منها الحركة الإسلامية، ويبحثون لها عن حل يخرجها وأصحابها من المستنقع الذي طال رقادها فيه.
المصادر :
1- مسند أحمد ج3 ص17