النبوّة هي بعثة من الله لبني البشر ، أمّا الإمامة فهي امتدادٌ رساليٌ وتأويليّ إلهيّ لتلك الرسالة ، وإلاّ لخلت الأرض من الحجّة ، ولو خلت لساخت بأهلها.
وفي رواية عن الإمام محمد الباقر عليهالسلام ، عن أبيه زين العابدين عليهالسلام ، عن جدّه الإمام الحسين عليهالسلام قال :
«خرج رسول الله صلىاللهعليهوآله ذاتَ يومٍ وهو راكبٌ ، وخرج عليٌ عليهالسلام وهو يمشي ، فقال له : يا أبا الحسن ، إمّا أن تركب وإمّا أن تنصرف ؛ فإنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن تركب إذا ركبتُ وتمشي إذا مشيت ، وتجلس إذا جلستُ ، إلاّ أن يكون في حدٍّ من حدود الله لا بدّ لك من القيام والقعود فيه ، وما أكرمني الله بكرامةٍ إلاّ وقد أكرمك بمثلها ، وخصّني الله بالنبوّة والرسالة وجعلك ولييّ في ذلك تقوم في حدوده وصعب أموره ، والذي بعثني بالحقِّ نبيّاً ما آمن بي مَنْ أنكرك ، ولا أقرّ بي مَنْ جحدك ، ولا آمن بالله مَنْ كفر بك ، وإنّ فضلك لَمِن فضلي ، وإنّ فضلي لفضل الله ، وهو قول ربّي عزّ وجلّ :
(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (1).
ففضل الله نبوّة نبيكم ، ورحمته ولاية علي بن أبي طالب عليهالسلام (فَبِذَلِكَ) قال : بالنبوّة والولاية (فَلْيَفْرَحُوا) يعني الشيعة (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) يعني ما يجمع مخالفوهم من الأهل والمال والولد في دار الدنيا ، والله يا عليّ ما خُلقتَ إلاّ ليُعبد ربّك ، ولتُعرف بكَ معالم الدين ، وتُصلح بكَ دار السبيل ، ولقد ضلّ مَنْ ضلّ عنك ، ولن يهتدي إلى الله مَنْ لم يهتد إليك وإلى ولايتك.
وهو قول ربّي عزّ وجلّ : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) (2)
يعني إلى ولايتك ، ولقد أمرني ربّي تبارك وتعالى أن افترض من حقّك ما افترض من حقّي ، وإنّ حقّك لمفروضٌ على مَنْ آمن بي ، ولولاك لم يُعرف حزب الله وبكَ يُعرف عدوّ الله ، ومَنْ لم يلقه بولايتك لم يلقه بشيء.
ولقد أنزل الله عزّ وجلّ إليّ : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)
يعني في ولايتك يا علي (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) (3)
ولو لم اُبلّغ ما أُمرت به من ولايتك لحبط عملي ، ومَنْ لقيَ الله عزّ وجلّ بغير ولايتك فقد حبط عمله وغداً سُحقاً له (سُحقاً) وما أقولُ إلاّ قول ربّي تبارك وتعالى ، وإنّ الذي أقولُ لَمِنَ الله أنزله فيك» (4).
إنّ هذا الحديث الذي يرويه الإمام الحسين عليهالسلام عن جدّه صلىاللهعليهوآله بحقّ أبيه أمير المؤمنين عليهالسلام ليس حديث فكاهة ورواية عابرة ، بل هو حديث ولاء ودين يُدان به بين يدي الله عزّ وجلّ. والذي يُلفت النظر ليس الحديث فقط ، بل الأدب العظيم ، والخُلق العالي ، والاحترام الكبير الذي كان يتعامل به الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله مع وصيه وابن عمّه الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام ، هذا الإمام العظيم الذي تجرّأ عليه الوهابيّة ، لا سيما شيخهم ابن تيميّة وغيره كما سنوضّح فيما بعد بإذن الله.
الحسين عليهالسلام وعلوم القرآن
إنّ ميزة العلم هي الميزة الأساسية للدين الإسلامي ، وبالتالي لقادة المسلمين الربّانيين وأئمّة الدين (سلام الله عليهم أجمعين) ، وإنّ أشرف العلوم علم القرآن الكريم.والقرآن عند الإمام الحسين عليهالسلام فيه أربعة أشياء ، كما كان يقول (سلام الله عليه) :
«كتابُ الله عزّ وجلّ على أربعة أشياء : على العبارة ، والإشارة ، واللطائف ، والحقائق. فالعبارة للعوام ، والإشارة للخواص ، واللطائف للأولياء ، والحقائق للأنبياء» وفي حديث آخر يروى عنه وعن أبيه أمير المؤمنين عليهماالسلام :
«القرآن ظاهره أنيقٌ ، وباطنه عميقٌ» (5).
سلام الله عليك سيدي ومولاي يا أبا عبد الله ، ما أعظمك وأجمل كلامك هذا الذي تصف فيه القرآن الحكيم ، بكلمات عذبة رقيقة إلاّ أنّها تُعطي بحاراً من العلم القرآني لكافة البشرية!
إنّ الإمام عليهالسلام قد أعطى تقسيماً للبشر جميعاً ، فهذا التصنيف ليس للقرآن فقط ، بل لِمَنْ يقرؤه أيضاً ، والناس على هذه الأوجه الأربعة :
الصنف الأوّل : هم عامّة الناس الذي يحفظون القرآن بالقراءة والتلاوة والتبرّك به في كلّ ذلك ، وليس لهم إلاّ الألفاظ والكلمات بمعناها الظاهر ، ورسمها المتداول.
أمّا الصنف الثاني : فهم الخواصّ من المؤمنين ، وهم كالأشعّة اللامعة ينظرون من بين الحروف ، وما وراء الكلمات ؛ لتضيء لهم فكرة أو علماً لم يكن لغيرهم ، وهؤلاء أندر من الكبريت الأحمر في كلّ زمان ومكان.
أمّا الصنف الثالث : فهم الأولياء من اُولئك المؤمنين الذين جاهدوا في الله حقّ جهاده ، فهداهم وسدّدهم إلى لطائف الكتاب العزيز.
أمّا الصنف الرابع : فهم الأنبياء والرسل فقط ، فحقائق القرآن لهم وليس لغيرهم ، وهي حقائق لأنّها لا تقبل التأويل أو التفسير المخالف لما يقوله المعصوم عليهالسلام.
ويبقى القرآن الكريم في ظاهره أنيقاً جميلاً كالنور يتلألأ على صفحات الوجود العلوي والسفلي ، وأمّا باطنه فإنّه أعمق من أن يتصوّره بشر عادي ؛ لأنّه متّصل بنور الأنوار ، وقدس الأقداس ، بالذّات الإلهية المقدّسة.
وإليك بعض تلك اللطائف الجميلة ، والحقائق الرائعة نستلهمها من الإمام الحسين عليهالسلام عن بعض آيات القرآن الكريم ، وعليك يا عزيزي أن تلحظ أنّنا نأخذ بحجمنا نحن وقدرنا الصغير ، ويبقى الإمام عليهالسلام فوق ما يمكن أن نفهم بكثير ؛ فإنّه يروى أنّ رجلاً جاء إليه وسأله عن معنى (كهيعص) فقال له : «لو فسّرتها لك لمشيت على الماء» (6).
الحسين عليهالسلام وفلسفة التوحيد
فالإمام عليهالسلام يفيض علينا بقدرنا ، وبحسب عقولنا القاصرة ، وإليك ما قاله في تفسير كلمة (الصمد) الشريفة من كلمات سورة الإخلاص المباركة :عن الإمام الباقر عليهالسلام ، عن أبيه عليهالسلام قال : «إنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي عليهماالسلام يسألونه عن (الصمد) ، فكتب إليهم :
بسم الله الرحمن الرحيم
أمّا بعد ، فلا تخوضوا في القرآن ، ولا تُجادلوا فيه ، ولا تتكلّموا فيه بغير علم ؛ فقد سمعت جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : مَنْ قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار ، وإنّ الله سبحانه قد فسّر الصمد فقال : (اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ) ثمّ فسّره فقال : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).
(لَمْ يَلِدْ) : لم يخرج منه شيء كالولد وساير الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ، ولا شيءٌ لطيف كالنفس ، ولا يتشعّب منه البدوات كالسِّنة والنوم ، والخطرة والهمّ ، والحزن والبهجة ، والضحك والبكاء ، والخوف والرجاء ، والرغبة والسأمة ، والجوع والشبع ، تعالى أن يخرج منه شيء ، وأن يتولّد منه شيء كثيفٌ أو لطيفٌ.
(وَلَمْ يُولَدْ) : لم يتولّد من شيءٍ ، ولم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها ، كالشيء من الشيء ، والدابة من الدابة ، والنبات من الأرض ، والماء من الينابيع ، والأثمار من الأشجار ، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها كالبصر من العين ، والسمع من الأذن ، والشمّ من الأنف ، والذوق من الفمّ ، والكلام من اللسان ، والمعرفة والتمييز من القلب ، وكالنّار من الحجر. لا بل هو (اللَّهُ الصَّمَدُ) الذي لا من شيء ولا في شيء ولا على شيء ، مبدع الأشياء وخالقها ، ومنشئ الأشياء بقدرته ، يتلاشى ما خلق للفناء
بمشيته ، ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه ، فذلكم الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» (7).
وفي رواية أُخرى عنه عليهالسلام أنّه قال : «الصمد : الذي لا جوف له ، والصمد : الذي قد انتهى سؤدده ، والصمد : الذي لا يأكل ولا يشرب ، والصمد : الذي لا ينام ، والصمد : الدائم الذي لم يزل ولا يزال» (8).
هذا عن (الصمد) ، ذاك الاسم الكريم العظيم لله سبحانه وتعالى في لطائف الإمام الحسين عليهالسلام.
وأمّا عن (القدرِ) وما جاء في هذا الباب من اللطائف القرآنية في سورة القدر المباركة ، يحدّثنا الإمام الباقر عليهالسلام عن أبيه زين العابدين عليهالسلام قوله :
«قرأ عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وعنده الحسن والحسين عليهماالسلام ، فقال له الحسين عليهالسلام : يا أبتاه ، كأنّ بها من فيك حلاوةً؟!
فقال له : يابن رسول الله وابني ، إنّي أعلمُ فيها ما لم تعلم ، إنّها لمّا نزلت بعث إليّ جدّك رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقرأها عليّ ثمّ ضرب على كتفي الأيمن وقال : يا أخي ووصيي ، ووالي أُمّتي بعدي ، وحرب أعدائي إلى يوم يبعثون ، هذه السورة لك من بعدي ، ولولدك من بعدك ، إنّ جبرائيل أخي من الملائكة حدَّث إليّ أحداث أُمّتي في سنتها ، وإنّه ليحدث ذلك إليك كأحداث النبوّة.
ولها نورٌ ساطعٌ في قلبكَ وقلوب أوصيائك إلى مطلع فجر القائم عليهالسلام» (9).
اقرأ واستمع واعجب مسبّحاً الخالق تعالى على هذا الأدب الجمّ ، وعلى هذه الأخلاق الفاضلة بين الوالد العظيم والولد الكريم ، ثمّ بين الاثنين وذكر رسول الله صلىاللهعليهوآله.
الإمام الحسين عليهالسلام يقول لوالده عند تلاوته للقرآن (السورة) كأنّ بها من فيك حلاوة ، أدب عظيم ، وأخلاق عالية ، وتوقير واحترام ، فالنظر إلى وجه أمير المؤمنين عليهالسلام عبادة ، والنظر إلى وجه الوالدين عبادة ، والنظر إلى وجه العالم عبادة ، وكلّ هذه الصّفات النورانيّة اجتمعت بالإمام علي عليهالسلام.
والإمام عليّ وليّ الله الأعظم عليهالسلام يبادل ولده باحترام أكبر ، وتبجيل أعظم ، حيث يناديه يابن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ثمّ يردفه (وابني) ؛ إعظاماً للوالدة الشهيدة سيّدة نساء العالمين الزهراء عليهاالسلام ، ويعلّمه بلطف ولين من أسرار السورة وأسباب نزولها.
إنّه لدرسٌ تربويٌ تعليميٌّ أخلاقيٌّ رفيعٌ جدّاً ليتنا نحفظه ، ونعلّمه للآباء قبل الأبناء ، والأساتذة قبل التلاميذ ؛ ليكون لنا نبراساً ومتراساً على طول المدى.
هذه حقائق قرآنيّة ، ولطائف عرفانيّة اقتطفناها من رياض الإمام الحسين عليهالسلام القرآنيّة النورانيّة ، الوارفة الظلال ، البهيّة الجمال التي تميس خضرتها بغنج ودلال ، تسبح الخالق المتعال. وقد رأيت لزاماً عليَّ أن أنقل لكم هذين الحديثين عن توحيد الله ومعنى صفاته ؛ ليعرف المسلمون كافة كيف علّمنا الإمام الحسين عليهالسلام حقائق العلم وخصائص التوحيد ، ودقائق الفهم للأسماء الشريفة ، والصّفات الملازمة للذّات المقدّسة ، لا أن نفهمها بذاك الفهم الساذج الذي يخلو حتّى من التفكير السليم ، والفعل الصحيح ، إذ يجسّمون الخالق ويشبّهونه بخلقه تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
المصادر :
1- سورة يونس : الآية 58.
2- سورة طه : الآية 82.
3- سورة المائدة : الآية 67.
4- كلمة الإمام الحسين ص 48 ـ 49.
5- جامع الأخبار ص 41 فصل 22 ، موسوعة البحار 92 ص 20 ح18.
6- ينابيع المودّة : الآية 484 ، إحقاق الحقّ 11 ص 432.
7- توحيد الصدوق : الآية 90 ، البرهان 4 ص 525 ، موسوعة البحار 3 ص 223.
8- التوحيد ص 90 ، البرهان 4 ص 525 ، موسوعة البحار 3 ص 223.
9- موسوعة البحار 70 : الآية 60 ، موسوعة كلمات الإمام عليهالسلام ص 567.