عن عكرمة ، قال : بينما ابن عباس يحدّث الناس إذ قام إليه نافع بن الأزرق فقال : يابن عباس ، تفتي في النملة والقمّلة ، صف لنا إلهك الذي تعبده؟
فأطرق ابن عبّاس إعظاماً لله (عزّ وجلّ) ، وكان الحسين بن علي عليهالسلام جالساً ناحية ، فقال : «إليَّ يابن الأزرق».
فقال : لست إيّاك أسأل!
فقال ابن عباس : يابن الأزرق ، إنّه من أهل بيت النبوّة ، وهم ورثة العلم.
فأقبل نافع بن الأزرق نحو الحسين عليهالسلام ، فقال له الحسين عليهالسلام : «يا نافعُ ، إنّ مَنْ وضع دينه على القياس لم يزل الدّهر في الارتماس ، مائلاً عن المنهاج ، ظاعناً في الاعوجاج ، ضالاً عن السّبيل ، قائلاً غير الجميل. يابن الأزرق ، أصفُ إلهي بما وصف به نفسه ، وأعرِّفه بما عرّف به نفسه ، لا يُدرك بالحواسّ ، ولا يُقاس بالنّاس ، فهو قريبٌ غير مُلتصق ، وبعيدٌ غيرُ متقصٍّ ، يُوحّد ولا يُبعّض ، معروفٌ بالآيات ، موصوفٌ بالعلامات ، لا إله إلاّ هو الكبيرُ المتعال» (1).
فبكى ابن الأزرق ، وقال : يا حسين ، ما أحسن كلامك؟!
قال له الحسين عليهالسلام : «بلغني أنّك تشهدُ على أبي وعلى أخي وعليّ بالكفر».
قال ابن الأزرق : أما والله يا حسين ، لئن كان ذلك لقد كنتم منار الإسلام ونجوم الأحكام.
فقال له الحسين عليهالسلام : «إنّي سائلك عن مسألةٍ».
قال : اسأل.
فسأله عن هذه الآية : (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) (2) ، يابن الأزرق ، مَنْ حُفظَ في الغُلامين؟
قال : أبوهما.
قال الحسين عليهالسلام : «فأبوهُما خيرٌ أم رسول الله صلىاللهعليهوآله؟».
قال ابن الأزرق : أنبأنا الله أنّكم قوم خصمون (3).
الإمام حياة العلم كما في الرواية ، أي أنّ به يحيا العلم وينمو ويبارك ، ولولا الإمام المعصوم في كلّ عصر لتاه الناس عن دينهم ، وتشتّت بهم الأهواء ، وكثرت التأويلات والاجتهادات في دين الله ، كما فعل المجسّمة وأتباع القياس قديماً وحديثاً ، لا سيما اُولئك الذين يدَّعون التوحيد وهم مشركون مشبّهون ، ويرمون الأُمّة الإسلاميّة بالكفر والشرك ؛ لأنّها تنزّه الله عن التشبيه.
فيا أُمّة الإسلام ويا شعوب الأرض ، تعالوا تعلّموا من الحسين بن علي وسائر أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) العلوم الحقَّة التي لا يمكن أن نجدها عند غيرهم من سكّان المعمورة ، ودعكم من تخرّصات الآخرين.
فكيف لغير أولياء الله أن يعرفوا الله؟! وكيف لأعداء الله أن يعرفوا شيئاً عن الله تعالى في أسمائه وصفاته؟! فمعرفة الله تُؤخذ من أوليائه المقرّبين لا من أعدائه والمشبّهين له بعباده أو مخلوقاته. وهذا الإمام الحسين عليهالسلام يحذّرنا من اُولئك الذين يمرقون من الدين ، (الخوارج قديماً ، والذين يكفّرون المسلمين حديثاً) ، ويصف لنا الله سبحانه بهذا الحديث الرائع :
«أيّها النّاس ، اتّقوا هؤلاء المارقة الذين يُشبّهون الله بأنفسهم ، يُضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب ، بل هو الله ليس كمثله شيءٌ ، وهو السميع البصير ، لا تُدركه الأبصار ، وهو يُدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير. استخلص الوحدانيّة والجبروت ، وأمضى المشيئة والإرادة ، والقدرة والعلم بما هو كائنٌ ، لا منازع له في شيء من أمره ، ولا كفؤ له يُعادله ، ولا ضدّ له يُنازعه ، ولا سميّ له يُشابهه ، ولا مثل له يُشاكله. لا تتداوله الأمور ، ولا تجري عليه الأحوال ، ولا تنزل عليه الأحداث ، ولا يُقدّر الواصفون كُنه عظمته ، ولا يخطُر على القلوب مبلغ جبروته ؛ لأنّه ليس له في الأشياء عديلٌ ، ولا تُدركه العلماء بألبابها ، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلاّ بالتحقيق إيقاناً بالغيب ؛ لأنّه لا يُوصف بشيءٍ من صفات المخلوقين ، وهو الواحد الصّمد ، ما تُصوّر في الأوهام فهو خلافه ، ليس بربٍّ مَنْ طُرح تحت البلاغ ، ومعبودٍ مَنْ وجِدَ في هواء أو غير هواء.
هو في الأشياء كائنٌ لا كينونة محظور بها عليه ، ومن الأشياء بائنٌ لا بينونة غائب عنها. ليس بقادرٍ مَنْ قارنه ضدٌ ، أو ساواه ندٌّ ، ليس عن الدّهر قدمه ، ولا بالنّاحية أُممه ، احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار ، وعمّن في السماء احتجابه كمَنْ في الأرض.
قربه كرامته ، وبعده إهانته ، لا تحلّه في ، ولا توقّته إذ ، ولا تُؤامره إنْ ، علّوه من غير توقّلٍ ، ومجيئه من غير تنقّل ، يُوجد المفقود ، ويُفقد الموجود ، ولا تجتمع لغيره الصفتان في وقت ، يصيب الفكر منه الإيمان به ...» (4).
وأوّل وصف للعباد الكاملين من أئمّة المسلمين العبوديّة لله ؛ لأنّ الكمال المنشود بالعبوديّة الخالصة للمعبود. والعبادة : هي غاية الخلق ، أو العلّة الغائيّة لخلق المخلوقات كما يقول الفلاسفة. وهذا تقرير لما جاء بالآية الشريفة : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) (5).
والإمام الحسين عليهالسلام يقول : «مَنْ عبد الله حقّ عبادته ، آتاه الله فوق أمانيّه وكفايته» (6).
ولكن حقّ العبادة كيف؟ ومَنْ يستطيع أن يعبد الله حقّ العبادة إلاّ الخُلّص من العباد؟ كالإمام ومَنْ هم مثله في الطهارة والكمال من آله الكرام (سلام الله عليهم جميعاً).
وأمّا بالنسبة للتقوى : فللإمام الحسين عليهالسلام كلمات رائعة ، وخطب مدوّية يحض الأُمّة ويحثّها على التقوى التي هي أجلى غايات العبادة ، كخطبته التي يقول فيها :
«أوصيكم بتقوى الله ، وأُحذّركم أيّامه ، وأرفع لكم أعلامه ، فكأنّ المخوف قد أُفد بمهول وروده ، ونكير حلوله ، وبشع مذاقه ، فاعتلق مهجكم ، وحال بين العمل وبينكم.
فبادروا بصحّة الأجسام في مدّة الأعمار ، كأنّكم ببغتات طوارقه فتنقلكم من ظهر الأرض إلى بطنها ، ومن علوِّها إلى أسفلها ، ومن أُنسها إلى وحشتها ، ومن رَوحها وضوئها إلى ظلمتها ، ومن سعتها إلى ضيقها ، حيث لا يُزار حميمٌ ، ولا يُعاد سقيمٌ ، ولا يُجاب صريخٌ.
أعاننا الله وإيّاكم على أهوال ذلك اليوم ، ونجّانا وإيّاكم من عقابه ، وأوجب لنا ولكم الجزيل من ثوابه.
عباد الله ، فلو كان ذلك قصر مرماكم ، ومدى مظعنكم ، كان حسب العامل شغلاً يستفرغ عليه أحزانه ، ويُذهله عن دنياه ، ويكثر نصَبه لطلب الخلاص منه ، فكيف وهو بعد ذلك مرتهنٌ باكتسابه ، مستوقفٌ على حسابه ، لا وزير له يمنعه ، ولا ظهير عنه يدفعه ، ويومئذ (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (7).
أوصيكم بتقوى الله ، فإنّ الله قد ضمن لِمَنْ اتّقاه أن يحوِّله عمّا يكره إلى ما يحبّ (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (8) ، فإيّاك أن تكون ممّن يخاف على العباد من ذنوبهم ، ويأمن العقوبة من ذنبه ؛ فإنّ الله تبارك وتعالى لا يُخدع عن جنّته ، ولا يُنال ما عنده إلاّ بطاعته إن شاء الله» (9).
هل قرأت أو سمعت كهذا الوصف الجميل ، والموعظة البالغة ، وهذا التحذير من الموت الذي تحدّث عنه الإمام في مطلع موعظته النورانيّة هذه؟!
إنّ الموت : هو المخوف الذي يوفد على كلّ منّا بمهول المطلع ، ويأتينا بغتة أو فجأة ، أو على قدر لا يعلمه إلاّ صاحبه ، قال تعالى : (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) (10) ، بشع المذاق ، صعب الحلول ، شنيع الصنيع ، يستلُّ الأرواح ، ويمنع الإنسان من متابعة العمل الصالح.
ولذا فجدير بالإنسان العاقل أن يعدّ العدّة لهذا الضيف الذي لا بدَّ من نزوله وحلوله ، نفسيّاً ومعنويّاً ، وفي الرواية : «موتوا قبل أن تموتوا» ، و «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا».
والإمام الحسين عليهالسلام يخبرنا عن الموت قائلاً : «لو عقلَ الناسُ ، وتصوّروا الموت بصورته لخربت الدُّنيا» (11) ؛ وذلك لأنّ أمر الموت عظيم لا يمكن تصوّره ، ولو تصوّرنا الموت لما عمل أحد للدنيا بشيء ؛ ولذا كانت الدنيا تخرب ، ويصبح الناس جميعاً من أبناء الآخرة وهم في هذه الدنيا ، فسبحان مَنْ قهر عباده بالموت!
ولولا الموت لشمخ الإنسان برأسه وطغى ، وبغى بعضهم على بعض ، ولأظهر كلٌّ بحجمه ما أظهره فرعون لأهل زمانه ودولته.
وفي رواية عن الإمام الحسين عليهالسلام يقول : «لولا ثلاثةٌ ما وضع ابن آدم رأسه لشيءٍ ؛ الفقرُ ، والمرضُ ، والموت» (12).
والفقر : هو ذلّ حاضر للإنسان ، قاتله الله ما أبشعه! وأمّا المرض : فإنّه منبع الألم ، وربما يكون مقدّمة للموت. فالثلاثة يجمعهم الموت قاصم الظهور ، ومذلّ مَنْ في القصور.
وعلى الإنسان أن يعتبر بالماضين قبل أن يصبح عبرة للأجيال الآتية ، ويعمل لعمار آخرته في دنياه ، لا أن يعمل للدنيا وعمارها بخراب الآخرة ونسيانها. وبين يدينا موعظة جميلة جدّاً بهذا المعنى لأبي عبد الحسين عليهالسلام يقول فيها :
«يابن آدم ، تفكّر وقل : أين ملوكُ الدنيا وأربابها الذين عمّروا واحتفروا أنهارها وغرسوا أشجارها ، ومدنوا مدائنها؟ فارقوها وهم كارهون ، وورثها قومٌ آخرون ، ونحن بهم عمّا قليلٍ لاحقون.
يابن آدم ، اذكر مصرعك ، وفي قبرك مضجعك ، وموقفك بين يدي الله تشهد جوارحك عليك يوم تزلُّ فيه الأقدامُ ، وتبلغ القلوب الحناجر ، وتبيضُّ وجوهٌ ، وتسودٌّ وجوهٌ ، وتبدو السرائرُ ، ويوضعُ الميزانُ بالقسط.
يابن آدم ، اذكر مصارع آبائك وأبنائك ، كيف كانوا وحيث حلّوا؟ وكأنّك عن قليلٍ قد حللت محلّهم ، وصرت عبرةً للمعتبر». وأنشد شعراً :
أينَ الملوكُ التي عن حفظها غفلت ***حتّى سقاها بكأسِ الموتِ ساقيها
تلكَ المدائنُ في الآفاقِ خالية ***عادتْ خراباً وذاقَ الموتَ بانيها
أموالُنا لذوي الورّاثِ نجمعها ***ودورُنا لخرابِ الدّهرِ نبنيها (13)
كلمات بسيطة ومعبّرة لا تحتاج إلى تعليق أو توضيح ؛ لأنّ توضيح الواضحات من أشكل المشكلات. والشعر في آخرها يوجز مغزاها ومعناها ، فتبصّر في أمرك يا عزيزي ، واعرف أين أنت ، وإلى أين أنت سائر؟
تيقّظ من غفلتك أيّها العبد السّاهي أو الغافل ؛ حتّى لا تُؤخذ على حين غرّة فتذهب حياتك سُدى ، وأكبر الخسران خسران النفس في الدار الآخرة.
وفي رواية جميلة عن المولى أبي عبد الله الحسين عليهالسلام يقول فيها :
«وجِدَ لوحٌ تحت حائط مدينة من المدائن مكتوبٌ فيه : أنا الله لا إله إلاّ أنا ، ومحمدٌ نبييّ ، عجبتُ لِمَنْ أيقن بالموت كيف يفرح! وعجبتُ لِمَنْ أيقن بالقدر كيف يحزن! وعجبت لِمَنْ اختبر الدنيا كيف يطمئن إليها! وعجبت لِمَنْ أيقن بالحساب كيف يُذنب!» (14).
المصادر :
1- التوحيد ص 79 ب2 ح35 ، مستدرك الوسائل 17 ص 261 ح260.
2- سورة الكهف : الآية 81.
3- تاريخ ابن عساكر ، ترجمة الإمام الحسين ص 157 ح203.
4- تحف العقول ص 176 ، موسوعة البحار 4 ص 301 ح29.
5- سورة الذاريات : الآية 56.
6- بحار الأنوار 68 ص 184 ، مجموعة ورام 2 ص 108.
7- سورة الأنعام : الآية 158.
8- سورة الطلاق : الآية 3.
9- تحف العقول ص 170 ، موسوعة البحار 78 ص 120 ح3 ، الأنوار البهية ص 145.
10- سورة الزمر : الآية 42.
11- إحقاق الحقّ 11 ص 592.
12- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ص 80 ح4.
13- إرشاد القلوب 1 ص 29.
14- عيون الأخبار 2 ص 48 ح158 ، موسوعة البحار 78 ص 45 ح13 ، و 73 ص 95 ح76.
فأطرق ابن عبّاس إعظاماً لله (عزّ وجلّ) ، وكان الحسين بن علي عليهالسلام جالساً ناحية ، فقال : «إليَّ يابن الأزرق».
فقال : لست إيّاك أسأل!
فقال ابن عباس : يابن الأزرق ، إنّه من أهل بيت النبوّة ، وهم ورثة العلم.
فأقبل نافع بن الأزرق نحو الحسين عليهالسلام ، فقال له الحسين عليهالسلام : «يا نافعُ ، إنّ مَنْ وضع دينه على القياس لم يزل الدّهر في الارتماس ، مائلاً عن المنهاج ، ظاعناً في الاعوجاج ، ضالاً عن السّبيل ، قائلاً غير الجميل. يابن الأزرق ، أصفُ إلهي بما وصف به نفسه ، وأعرِّفه بما عرّف به نفسه ، لا يُدرك بالحواسّ ، ولا يُقاس بالنّاس ، فهو قريبٌ غير مُلتصق ، وبعيدٌ غيرُ متقصٍّ ، يُوحّد ولا يُبعّض ، معروفٌ بالآيات ، موصوفٌ بالعلامات ، لا إله إلاّ هو الكبيرُ المتعال» (1).
فبكى ابن الأزرق ، وقال : يا حسين ، ما أحسن كلامك؟!
قال له الحسين عليهالسلام : «بلغني أنّك تشهدُ على أبي وعلى أخي وعليّ بالكفر».
قال ابن الأزرق : أما والله يا حسين ، لئن كان ذلك لقد كنتم منار الإسلام ونجوم الأحكام.
فقال له الحسين عليهالسلام : «إنّي سائلك عن مسألةٍ».
قال : اسأل.
فسأله عن هذه الآية : (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) (2) ، يابن الأزرق ، مَنْ حُفظَ في الغُلامين؟
قال : أبوهما.
قال الحسين عليهالسلام : «فأبوهُما خيرٌ أم رسول الله صلىاللهعليهوآله؟».
قال ابن الأزرق : أنبأنا الله أنّكم قوم خصمون (3).
الإمام حياة العلم كما في الرواية ، أي أنّ به يحيا العلم وينمو ويبارك ، ولولا الإمام المعصوم في كلّ عصر لتاه الناس عن دينهم ، وتشتّت بهم الأهواء ، وكثرت التأويلات والاجتهادات في دين الله ، كما فعل المجسّمة وأتباع القياس قديماً وحديثاً ، لا سيما اُولئك الذين يدَّعون التوحيد وهم مشركون مشبّهون ، ويرمون الأُمّة الإسلاميّة بالكفر والشرك ؛ لأنّها تنزّه الله عن التشبيه.
فيا أُمّة الإسلام ويا شعوب الأرض ، تعالوا تعلّموا من الحسين بن علي وسائر أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) العلوم الحقَّة التي لا يمكن أن نجدها عند غيرهم من سكّان المعمورة ، ودعكم من تخرّصات الآخرين.
فكيف لغير أولياء الله أن يعرفوا الله؟! وكيف لأعداء الله أن يعرفوا شيئاً عن الله تعالى في أسمائه وصفاته؟! فمعرفة الله تُؤخذ من أوليائه المقرّبين لا من أعدائه والمشبّهين له بعباده أو مخلوقاته. وهذا الإمام الحسين عليهالسلام يحذّرنا من اُولئك الذين يمرقون من الدين ، (الخوارج قديماً ، والذين يكفّرون المسلمين حديثاً) ، ويصف لنا الله سبحانه بهذا الحديث الرائع :
«أيّها النّاس ، اتّقوا هؤلاء المارقة الذين يُشبّهون الله بأنفسهم ، يُضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب ، بل هو الله ليس كمثله شيءٌ ، وهو السميع البصير ، لا تُدركه الأبصار ، وهو يُدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير. استخلص الوحدانيّة والجبروت ، وأمضى المشيئة والإرادة ، والقدرة والعلم بما هو كائنٌ ، لا منازع له في شيء من أمره ، ولا كفؤ له يُعادله ، ولا ضدّ له يُنازعه ، ولا سميّ له يُشابهه ، ولا مثل له يُشاكله. لا تتداوله الأمور ، ولا تجري عليه الأحوال ، ولا تنزل عليه الأحداث ، ولا يُقدّر الواصفون كُنه عظمته ، ولا يخطُر على القلوب مبلغ جبروته ؛ لأنّه ليس له في الأشياء عديلٌ ، ولا تُدركه العلماء بألبابها ، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلاّ بالتحقيق إيقاناً بالغيب ؛ لأنّه لا يُوصف بشيءٍ من صفات المخلوقين ، وهو الواحد الصّمد ، ما تُصوّر في الأوهام فهو خلافه ، ليس بربٍّ مَنْ طُرح تحت البلاغ ، ومعبودٍ مَنْ وجِدَ في هواء أو غير هواء.
هو في الأشياء كائنٌ لا كينونة محظور بها عليه ، ومن الأشياء بائنٌ لا بينونة غائب عنها. ليس بقادرٍ مَنْ قارنه ضدٌ ، أو ساواه ندٌّ ، ليس عن الدّهر قدمه ، ولا بالنّاحية أُممه ، احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار ، وعمّن في السماء احتجابه كمَنْ في الأرض.
قربه كرامته ، وبعده إهانته ، لا تحلّه في ، ولا توقّته إذ ، ولا تُؤامره إنْ ، علّوه من غير توقّلٍ ، ومجيئه من غير تنقّل ، يُوجد المفقود ، ويُفقد الموجود ، ولا تجتمع لغيره الصفتان في وقت ، يصيب الفكر منه الإيمان به ...» (4).
سمات العبادة الحسينيّة
إذا كان الخالق بهذه الصفات من الكمال ، لا بدَّ للمخلوق من اتّصافه بصفاته الجميلة ، وأجمل صفة للإنسان أنّه عبد الله ؛ ولهذا نجد أنّه أوّل ما يوصف النبيّ أو الرّسول بأنّه عبد الله ثمّ رسوله.وأوّل وصف للعباد الكاملين من أئمّة المسلمين العبوديّة لله ؛ لأنّ الكمال المنشود بالعبوديّة الخالصة للمعبود. والعبادة : هي غاية الخلق ، أو العلّة الغائيّة لخلق المخلوقات كما يقول الفلاسفة. وهذا تقرير لما جاء بالآية الشريفة : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) (5).
والإمام الحسين عليهالسلام يقول : «مَنْ عبد الله حقّ عبادته ، آتاه الله فوق أمانيّه وكفايته» (6).
ولكن حقّ العبادة كيف؟ ومَنْ يستطيع أن يعبد الله حقّ العبادة إلاّ الخُلّص من العباد؟ كالإمام ومَنْ هم مثله في الطهارة والكمال من آله الكرام (سلام الله عليهم جميعاً).
وأمّا بالنسبة للتقوى : فللإمام الحسين عليهالسلام كلمات رائعة ، وخطب مدوّية يحض الأُمّة ويحثّها على التقوى التي هي أجلى غايات العبادة ، كخطبته التي يقول فيها :
«أوصيكم بتقوى الله ، وأُحذّركم أيّامه ، وأرفع لكم أعلامه ، فكأنّ المخوف قد أُفد بمهول وروده ، ونكير حلوله ، وبشع مذاقه ، فاعتلق مهجكم ، وحال بين العمل وبينكم.
فبادروا بصحّة الأجسام في مدّة الأعمار ، كأنّكم ببغتات طوارقه فتنقلكم من ظهر الأرض إلى بطنها ، ومن علوِّها إلى أسفلها ، ومن أُنسها إلى وحشتها ، ومن رَوحها وضوئها إلى ظلمتها ، ومن سعتها إلى ضيقها ، حيث لا يُزار حميمٌ ، ولا يُعاد سقيمٌ ، ولا يُجاب صريخٌ.
أعاننا الله وإيّاكم على أهوال ذلك اليوم ، ونجّانا وإيّاكم من عقابه ، وأوجب لنا ولكم الجزيل من ثوابه.
عباد الله ، فلو كان ذلك قصر مرماكم ، ومدى مظعنكم ، كان حسب العامل شغلاً يستفرغ عليه أحزانه ، ويُذهله عن دنياه ، ويكثر نصَبه لطلب الخلاص منه ، فكيف وهو بعد ذلك مرتهنٌ باكتسابه ، مستوقفٌ على حسابه ، لا وزير له يمنعه ، ولا ظهير عنه يدفعه ، ويومئذ (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (7).
أوصيكم بتقوى الله ، فإنّ الله قد ضمن لِمَنْ اتّقاه أن يحوِّله عمّا يكره إلى ما يحبّ (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (8) ، فإيّاك أن تكون ممّن يخاف على العباد من ذنوبهم ، ويأمن العقوبة من ذنبه ؛ فإنّ الله تبارك وتعالى لا يُخدع عن جنّته ، ولا يُنال ما عنده إلاّ بطاعته إن شاء الله» (9).
هل قرأت أو سمعت كهذا الوصف الجميل ، والموعظة البالغة ، وهذا التحذير من الموت الذي تحدّث عنه الإمام في مطلع موعظته النورانيّة هذه؟!
الحسين عليهالسلام يحذّر من الموت
الموت : هو ذاك الطارئ المهول ، والضيف النزول ، والوارد المجهول.إنّ الموت : هو المخوف الذي يوفد على كلّ منّا بمهول المطلع ، ويأتينا بغتة أو فجأة ، أو على قدر لا يعلمه إلاّ صاحبه ، قال تعالى : (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) (10) ، بشع المذاق ، صعب الحلول ، شنيع الصنيع ، يستلُّ الأرواح ، ويمنع الإنسان من متابعة العمل الصالح.
ولذا فجدير بالإنسان العاقل أن يعدّ العدّة لهذا الضيف الذي لا بدَّ من نزوله وحلوله ، نفسيّاً ومعنويّاً ، وفي الرواية : «موتوا قبل أن تموتوا» ، و «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا».
والإمام الحسين عليهالسلام يخبرنا عن الموت قائلاً : «لو عقلَ الناسُ ، وتصوّروا الموت بصورته لخربت الدُّنيا» (11) ؛ وذلك لأنّ أمر الموت عظيم لا يمكن تصوّره ، ولو تصوّرنا الموت لما عمل أحد للدنيا بشيء ؛ ولذا كانت الدنيا تخرب ، ويصبح الناس جميعاً من أبناء الآخرة وهم في هذه الدنيا ، فسبحان مَنْ قهر عباده بالموت!
ولولا الموت لشمخ الإنسان برأسه وطغى ، وبغى بعضهم على بعض ، ولأظهر كلٌّ بحجمه ما أظهره فرعون لأهل زمانه ودولته.
وفي رواية عن الإمام الحسين عليهالسلام يقول : «لولا ثلاثةٌ ما وضع ابن آدم رأسه لشيءٍ ؛ الفقرُ ، والمرضُ ، والموت» (12).
والفقر : هو ذلّ حاضر للإنسان ، قاتله الله ما أبشعه! وأمّا المرض : فإنّه منبع الألم ، وربما يكون مقدّمة للموت. فالثلاثة يجمعهم الموت قاصم الظهور ، ومذلّ مَنْ في القصور.
وعلى الإنسان أن يعتبر بالماضين قبل أن يصبح عبرة للأجيال الآتية ، ويعمل لعمار آخرته في دنياه ، لا أن يعمل للدنيا وعمارها بخراب الآخرة ونسيانها. وبين يدينا موعظة جميلة جدّاً بهذا المعنى لأبي عبد الحسين عليهالسلام يقول فيها :
«يابن آدم ، تفكّر وقل : أين ملوكُ الدنيا وأربابها الذين عمّروا واحتفروا أنهارها وغرسوا أشجارها ، ومدنوا مدائنها؟ فارقوها وهم كارهون ، وورثها قومٌ آخرون ، ونحن بهم عمّا قليلٍ لاحقون.
يابن آدم ، اذكر مصرعك ، وفي قبرك مضجعك ، وموقفك بين يدي الله تشهد جوارحك عليك يوم تزلُّ فيه الأقدامُ ، وتبلغ القلوب الحناجر ، وتبيضُّ وجوهٌ ، وتسودٌّ وجوهٌ ، وتبدو السرائرُ ، ويوضعُ الميزانُ بالقسط.
يابن آدم ، اذكر مصارع آبائك وأبنائك ، كيف كانوا وحيث حلّوا؟ وكأنّك عن قليلٍ قد حللت محلّهم ، وصرت عبرةً للمعتبر». وأنشد شعراً :
أينَ الملوكُ التي عن حفظها غفلت ***حتّى سقاها بكأسِ الموتِ ساقيها
تلكَ المدائنُ في الآفاقِ خالية ***عادتْ خراباً وذاقَ الموتَ بانيها
أموالُنا لذوي الورّاثِ نجمعها ***ودورُنا لخرابِ الدّهرِ نبنيها (13)
كلمات بسيطة ومعبّرة لا تحتاج إلى تعليق أو توضيح ؛ لأنّ توضيح الواضحات من أشكل المشكلات. والشعر في آخرها يوجز مغزاها ومعناها ، فتبصّر في أمرك يا عزيزي ، واعرف أين أنت ، وإلى أين أنت سائر؟
تيقّظ من غفلتك أيّها العبد السّاهي أو الغافل ؛ حتّى لا تُؤخذ على حين غرّة فتذهب حياتك سُدى ، وأكبر الخسران خسران النفس في الدار الآخرة.
وفي رواية جميلة عن المولى أبي عبد الله الحسين عليهالسلام يقول فيها :
«وجِدَ لوحٌ تحت حائط مدينة من المدائن مكتوبٌ فيه : أنا الله لا إله إلاّ أنا ، ومحمدٌ نبييّ ، عجبتُ لِمَنْ أيقن بالموت كيف يفرح! وعجبتُ لِمَنْ أيقن بالقدر كيف يحزن! وعجبت لِمَنْ اختبر الدنيا كيف يطمئن إليها! وعجبت لِمَنْ أيقن بالحساب كيف يُذنب!» (14).
المصادر :
1- التوحيد ص 79 ب2 ح35 ، مستدرك الوسائل 17 ص 261 ح260.
2- سورة الكهف : الآية 81.
3- تاريخ ابن عساكر ، ترجمة الإمام الحسين ص 157 ح203.
4- تحف العقول ص 176 ، موسوعة البحار 4 ص 301 ح29.
5- سورة الذاريات : الآية 56.
6- بحار الأنوار 68 ص 184 ، مجموعة ورام 2 ص 108.
7- سورة الأنعام : الآية 158.
8- سورة الطلاق : الآية 3.
9- تحف العقول ص 170 ، موسوعة البحار 78 ص 120 ح3 ، الأنوار البهية ص 145.
10- سورة الزمر : الآية 42.
11- إحقاق الحقّ 11 ص 592.
12- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ص 80 ح4.
13- إرشاد القلوب 1 ص 29.
14- عيون الأخبار 2 ص 48 ح158 ، موسوعة البحار 78 ص 45 ح13 ، و 73 ص 95 ح76.