فئات الماسون الذين جاءوا المشرق، وكان منهم جماعة في القسطنطينية، فإنهم اكتسبوا شهرةً عظيمةً، وكان يدعوهم الملوك من أنحاء فارس وبلاد العرب وسوريا لبناء المعاقل والمعابد. من ذلك أن الخليفة الوليد بن عبد الملك استعملهم سنة ٨٨ للهجرة في بناء المساجد في المدينة ودمشق وأورشليم.
وقد ذكر مؤرخو العرب ما يشير إلى شيء من ذلك؛ فقد ورد في تاريخ العلامة ابن خلدون قوله يصف بناء مسجد المدينة في إمارة عمر بن عبد العزيز: «ثم كتب إليه (إلى عمر بن عبد العزيز) سنة ثمانٍ أن يدخل حجر أمهات المؤمنين في المسجد، ويشتري ما في نواحيه حتى يجعله مائتي ذراع في مثلها وقدم القبلة، ومَن أبي أن يعطيك ملكه فقومه قيمة عدل وادفع إليه الثمن واهدم عليه الملك، ولك في عمر وعثمان أسوة. فأعطاه أهل الأملاك ما أحب منها بأثمانها، وبعث الوليد إلى ملك الروم (في القسطنطينية) أنه يريد بناء المسجد، فبعث إليه ملك الروم بمائة ألف مثقال من الذهب ومائة من الفَعَلَة، وأربعين حملًا من الفسيفساء، وبعث بذلك كله إلى عمر بن عبد العزيز، واستكثر معهم من فَعَلَة الشام، وشرع عمر في عمارته.» ومثل ذلك فعل عند بناء مسجدي الشام وأورشليم.
وما زالت جمعيات الإخوة البنائين الأحرار تتسع نطاقًا في اسكوتلاندا وغاليا حتى نهاية الجيل السابع وبداية الثامن، إلى أيام الفتوحات الإسلامية سنة ٧١٨، فانحطت وضعفت شوكتها. حتى إذا جاءت أيام الخلفاء العباسيين وبُنِيت بغداد، فازدهت تلك العاصمة وصارت إليها الصناعة برمتها، ولا سيما صناعة البناء، وكأنَّ الماسونية انتقلت في ذلك القرن من أوروبا إلى آسيا على إثر التمدن الإسلامي، وأصبحت جماعات البنائين على جانب من الكثرة والصولة في سوريا والعراق وبلاد العرب، فانتظم في سلكها كثير من العلماء والفقهاء والأمراء. ويُستدَل على شيء من ذلك مما ورد في كُتُب التاريخ عن كيفية بناء مدينة بغداد؛
فقد جاء في تاريخ ابن الأثير عند تكلُّمه عن بناء بغداد ما نصه: «وكتب «المنصور» إلى الشام والجبل والكوفة وواسط والبصرة في معنى إنفاذ الصنَّاع والفَعَلَة، وأمر باختيار قوم من ذوي الفضل والعدالة والفقه، وأمر باختيار قوم من ذوي الفضل والعدالة والفقه، وأمر باختيار قوم من ذوي الأمانة والمعرفة بالهندسة، فكان ممَّن أُحضِر لذلك الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفة، وأمر فخُطَّتِ المدينة وحُفِر الأساس وضُرِب اللبن وطُبِخ الآجُرُّ.» إلى أن قال: «ووكَّل عليها أربعة من القواد، كل قائد بربع، ووكَّل أبا حنيفة بعدد الآجُرِّ واللَّبِن.»
وقد تقدَّمَ فيما مَرَّ أن من عادة الإخوة البنَّائين إذا تألفوا على بناء بلدة أو سور أو ما شاكل، يجعلون منازلهم من الخشب بجوار ذلك البناء، يقيمون فيها للطعام والرقاد وللاجتماعات السرية لتبليغ الإعلامات ومحاسبة العَمَلَة وغير ذلك، وكانوا لا يسمحون لأحد من الخوارج أن يطرقهم أو يطَّلِع على أعمالهم، ولا يزالون كذلك حتى يتم البناء، فينصرفون عنه بعد أن ينال كلٌّ منهم حقوقه.
فمن مراجعة كيفية بناء مدينة بغداد يُسْتَنْتَج شيء يدل على ما نحن بصدده، وإن يكن بعبارة غير صريحة، من ذلك ما قاله ابن الأثير أيضًا ونصه: «وكانت الأسواق في المدينة (بغداد)، فجاء رسولٌ لملك الروم، فأمر الربيع فطاف به في المدينة، فقال: كيف رأيتَها؟ قال: رأيت بناء حسنًا، إلا أني رأيت أعداءك معك، وهم السوقة. فلما عاد الرسول عنه أمر بإخراجهم إلى ناحية الكوخ، وقيل إنما أخرجهم لأن العرباء يطرقونها ويبيتون فيها، وربما كان فيهم الجاسوس …» إلى أن قال: «وكان الأستاذ من البنَّائين يعمل يومه بقيراط فضة والروزكاري بحبتين.»
فما معنى قوله «الروزكاري»؟ قد قلبت كثيرًا من القواميس العربية فلم أعثر على هذه الكلمة، ولم أفهم معناها إلا ما يؤخذ من القرينة، فهي إذن كلمة أعجمية، وقد وجدتُ في المعجمات الفارسية كلمة «روزكار»، ومعناها «الروزكاري» الدنيا أو الزمان أو العالَم أو البخت. فإذا كانت نسبةً إلى هذه يكون معناها «العالمي» أو «الزماني»، وهو لقب يُقصَد به «عامة الناس غير الكهنة»، ولا يزال هذا استعماله إلى هذا العهد. فاستعمال هذه الكلمة في معرض التكلم عن البنَّائين يستفاد منها عامة الناس الذين هم غير الإخوة البنَّائين. والماسون إلى هذا اليوم يدعون مَن هو ليس من جمعيتهم بالخارجي أو الأجنبي، وهو يشبه التعبير المتقدم ذكره.٤
فيستنتج من كل ما تقدَّمَ أن البنائين الذين بنوا مدينة بغداد كانوا من الإخوة البنَّائين الأحرار، الذين كانوا منتشرين إذ ذاك في أقاصي المشرق على ما تقدَّمَ.
وفي سنة ٧٧٥ انتقلت صناعة البناء إلى إسبانيا «الأندلس»، وهي إذ ذاك في حكم المسلمين، وكيفية ذلك أن عبد الرحمن الأول لما افتتح قرطبة وجعلها مقامًا له أرسل إلى الأمصار الشرقية، ولا سيما بغداد، يطلب منها البنَّائين لبناء هذه المدينة، فأقام فيها البنايات الشاهقة بين جوامع ومساجد وحصون وما شاكل على شكل البناء القسطنطيني، وأنشأ فيها مدارس للبنَّائين مع المحافظة على ما لهم من الحقوق والامتيازات. واشتهرت بعد ذلك قرطبة بالعلم والصناعة على العموم، ولا سيما صناعة البناء، وكان الطالبون يَقدمون إليها من سائر أنحاء العالم لاكتساب العلوم والصنائع.
وفي سنة ٩٠٠ أوصى إدوار ملك السكسونيين بعد ألفريد أن يكون الملك بعده لأخيه اثلوارد وصهره اثرد، وكانا عارفين بصناعة البناء، وهما من الإخوة البنائين الأحرار، بل من رؤسائهم.
فلم تأتِ سنة ٩٢٥ حتى إنه لم يَعُدْ هناك مدينة واحدة من المدن التي تستحق الذكر في إنكلترا لم تقم فيها مدرسة بنائية حرَّة. إلا أن الحظ لم يتم لما كان يحصل من الانقسامات المتواصلة؛ مما أوجب الخصام وإشهار السلاح وإقامة الحروب الأهليَّة.
ومما قاسته الماسونية وخسرته إلى ذلك العهد أوراقها الكثيرة التي كانت محفوظة في مكاتبها، مدوَّنة في لغات شتى من لغات العالم، فإنها فقدتها جميعها حرقًا أثناء الحروب مع الدانوا. وكان في جملة أعضاء الماسونية أولستون حفيد ألفريد الأكبر، ولما تولَّى هذا زمام الملك تعمَّق في أسرارها وارتقى في درجاتها، وقد فعل مثل ذلك بابنه إدون، فإنه رقَّاه في أسرارها حتى انتخب أخيرًا أستاذًا أعظم لها.
ولهذا الرجل «إدون» شأن عظيم في تاريخ الماسونية؛ لأنه جمع إليه في يورك جميع الأوراق التي كانت باقية إلى ذلك العهد مما يتعلق بالماسونية، وجمع إليه رؤساء المحافل من أنحاء العالم بالنيابة عن محافلهم، لكي يستخلصوا مما لديهم من الأوراق والمعلومات قانونًا للماسونية يجمع شتاتها ويوحِّد كلمتها.
فاجتمع ذلك المؤتمر سنة ٩٢٦ تحت رئاسة إدون هذا، وكتبوا لائحة مبنيَّة على ما كان لديهم من الأوراق الماسونية، وأصبحت مدينة يورك في «إنكلترا» من ذلك الحين مركز العالم الماسوني الحر ومرجع المحافل عمومًا. وقد دُعِيت اللائحة التي وضعها ذلك المؤتمر «لائحة يورك»، وثبتها بعد ذلك الملك هنري السادس، ولا تزال تُعرَف إلى الآن بهذا الاسم. وهاكَ نص المواد الأساسية لتلك اللائحة:لائحة يورك
•أول واجباتك أن تُخلِص في احترام الله واتِّبَاع شرائع نوح٥ لأنها الشرائع الإلهية التي يجب أن يتبعها كل البشر، وبناءً عليه يجب أن تجتنب التعاليم الفاسدة، فلا تكون لك معثرة في طريق الله.
• كُنْ مخلصًا لسلطانك وأذعن لأوامر حكَّامك حيثما وُجِدت. لا تَأْتِ خيانة وإذا علمت بمَن نواها أعلن القضاء به.
• كُنْ نافعًا لكل الذين هم حولك، واشدُدْ معهم عرى المحبة والإخلاص والأمانة، بقطع النظر عن معتقداتهم الدينية.
•كُنْ مخلصًا على الخصوص لأخيك الماسوني وعلِّمه وساعده في صناعته، ولا تَسْعَ إلى ضره، بل عامله بما تريد أنت أن يعاملك الآخرون. وإذا رأيت من أخيك عوجًا انصحه، وإذا نصحك أصغ إليه واستفد من مشوراته.
• واظب على حضور اجتماعات المحافل، وساعد في البحث في أشغال إخوانك. واكتم الأسرار عمَّن هم ليسوا من الإخوان الماسونيين.
• الأمانة واجبة على كل أخ؛ إذ بدونها وبدون الاستقامة لا تقوم الإخوة، ولأن الصيت الحسن خير العقار الخصب؛ فيجب عليك أن تلاحظ مصالح أستاذك الذي تخدمه بكل ثبات، وأن تنجز ما يعهد إليك من الشغل بكل ذمة وشرف.
• أَوْفِ ما عليك وبالإجمال لا تَأْتِ أمرًا يحطُّ من قَدْر العشيرة الماسونية.
• يلزم ألَّا يعهد شغل لأستاذ ما لم يكن كُفْئًا لإتمامه، وإلا فإن العار عائد على عموم العشيرة. وعلى الأساتذة أن يطلبوا أجورًا معتدلة، وتكون كافية للقيام باحتياجاتهم وبما يدفعونه للرفقاء.
• لا يجوز لأحد أن يسعى إلى اختلاس الشغل من يد آخَر، بل يجب أن يتركه في شغله، إلا إذا لم يكن كُفْئًا للقيام به حَقَّ القيامِ.
• لا يجوز لأستاذ من الأساتذة أن يقبل طالبًا أجنبيًّا إلا لمدة سبع سنوات، وألَّا يُدخِله في أسرار الماسونية إلا بعد صرف هذه المدة، وبعد مشورة ومصادقة سائر الإخوان.
•لا يجوز للأستاذ أو الرفيق أن يَقْبَل عوضًا في قبول أحدٍ في الماسونية، إذا لم يكن الطالب حر الولادة وحسن السيرة، ذا أعضاء سليمة وأهلية حسنة.
• (١٢) لا يجوز للماسوني أن يعنِّف أخاه في شغله، إلا إذا كان أرفع منه في مراتب الماسونية.
• إذا عنَّف المهندس (رئيس المحفل) أحد الأساتذة، أو عنَّف الأستاذ أحد الرفقاء، فعلى المعنَّف أن يصغي لما يقال له ويصلح خطأه، ويسير على ما رُسِم له.
• على الماسون عمومًا أن يذعنوا لرؤسائهم وينفذوا كل ما يأمرونهم به بكل نشاط وغيرة.
• وعلى الماسون أن يترحبوا بالرفاق الذين يأتون إليهم من بلاد بعيدة، بعد أن يعطوهم الإشارة الماسونية، وأن يهتموا بمصالحهم، وأن يساعدوا جميع الإخوان عندما يعلمون باحتياجهم إلى المساعدة إذا كانوا على مسافة ربع ساعة.
• لا ينبغي لأحد الإخوة الماسون أن يسمح بدخول أحد إلى المحفل، إذا لم يتأكد كونه ماسونيًّا؛ لكي لا يطلع على صناعة النحت والمربعات والفادن.
هذا وللإخوة البنَّائين الحق في إضافة ما يجدونه مناسبًا من القوانين بإقرار رؤساء المحافل، لكي يكون جميع الإخوان مشتركين بها على السواء.
االمصدر :
راسخون 2017
وقد ذكر مؤرخو العرب ما يشير إلى شيء من ذلك؛ فقد ورد في تاريخ العلامة ابن خلدون قوله يصف بناء مسجد المدينة في إمارة عمر بن عبد العزيز: «ثم كتب إليه (إلى عمر بن عبد العزيز) سنة ثمانٍ أن يدخل حجر أمهات المؤمنين في المسجد، ويشتري ما في نواحيه حتى يجعله مائتي ذراع في مثلها وقدم القبلة، ومَن أبي أن يعطيك ملكه فقومه قيمة عدل وادفع إليه الثمن واهدم عليه الملك، ولك في عمر وعثمان أسوة. فأعطاه أهل الأملاك ما أحب منها بأثمانها، وبعث الوليد إلى ملك الروم (في القسطنطينية) أنه يريد بناء المسجد، فبعث إليه ملك الروم بمائة ألف مثقال من الذهب ومائة من الفَعَلَة، وأربعين حملًا من الفسيفساء، وبعث بذلك كله إلى عمر بن عبد العزيز، واستكثر معهم من فَعَلَة الشام، وشرع عمر في عمارته.» ومثل ذلك فعل عند بناء مسجدي الشام وأورشليم.
وما زالت جمعيات الإخوة البنائين الأحرار تتسع نطاقًا في اسكوتلاندا وغاليا حتى نهاية الجيل السابع وبداية الثامن، إلى أيام الفتوحات الإسلامية سنة ٧١٨، فانحطت وضعفت شوكتها. حتى إذا جاءت أيام الخلفاء العباسيين وبُنِيت بغداد، فازدهت تلك العاصمة وصارت إليها الصناعة برمتها، ولا سيما صناعة البناء، وكأنَّ الماسونية انتقلت في ذلك القرن من أوروبا إلى آسيا على إثر التمدن الإسلامي، وأصبحت جماعات البنائين على جانب من الكثرة والصولة في سوريا والعراق وبلاد العرب، فانتظم في سلكها كثير من العلماء والفقهاء والأمراء. ويُستدَل على شيء من ذلك مما ورد في كُتُب التاريخ عن كيفية بناء مدينة بغداد؛
فقد جاء في تاريخ ابن الأثير عند تكلُّمه عن بناء بغداد ما نصه: «وكتب «المنصور» إلى الشام والجبل والكوفة وواسط والبصرة في معنى إنفاذ الصنَّاع والفَعَلَة، وأمر باختيار قوم من ذوي الفضل والعدالة والفقه، وأمر باختيار قوم من ذوي الفضل والعدالة والفقه، وأمر باختيار قوم من ذوي الأمانة والمعرفة بالهندسة، فكان ممَّن أُحضِر لذلك الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفة، وأمر فخُطَّتِ المدينة وحُفِر الأساس وضُرِب اللبن وطُبِخ الآجُرُّ.» إلى أن قال: «ووكَّل عليها أربعة من القواد، كل قائد بربع، ووكَّل أبا حنيفة بعدد الآجُرِّ واللَّبِن.»
وقد تقدَّمَ فيما مَرَّ أن من عادة الإخوة البنَّائين إذا تألفوا على بناء بلدة أو سور أو ما شاكل، يجعلون منازلهم من الخشب بجوار ذلك البناء، يقيمون فيها للطعام والرقاد وللاجتماعات السرية لتبليغ الإعلامات ومحاسبة العَمَلَة وغير ذلك، وكانوا لا يسمحون لأحد من الخوارج أن يطرقهم أو يطَّلِع على أعمالهم، ولا يزالون كذلك حتى يتم البناء، فينصرفون عنه بعد أن ينال كلٌّ منهم حقوقه.
فمن مراجعة كيفية بناء مدينة بغداد يُسْتَنْتَج شيء يدل على ما نحن بصدده، وإن يكن بعبارة غير صريحة، من ذلك ما قاله ابن الأثير أيضًا ونصه: «وكانت الأسواق في المدينة (بغداد)، فجاء رسولٌ لملك الروم، فأمر الربيع فطاف به في المدينة، فقال: كيف رأيتَها؟ قال: رأيت بناء حسنًا، إلا أني رأيت أعداءك معك، وهم السوقة. فلما عاد الرسول عنه أمر بإخراجهم إلى ناحية الكوخ، وقيل إنما أخرجهم لأن العرباء يطرقونها ويبيتون فيها، وربما كان فيهم الجاسوس …» إلى أن قال: «وكان الأستاذ من البنَّائين يعمل يومه بقيراط فضة والروزكاري بحبتين.»
فما معنى قوله «الروزكاري»؟ قد قلبت كثيرًا من القواميس العربية فلم أعثر على هذه الكلمة، ولم أفهم معناها إلا ما يؤخذ من القرينة، فهي إذن كلمة أعجمية، وقد وجدتُ في المعجمات الفارسية كلمة «روزكار»، ومعناها «الروزكاري» الدنيا أو الزمان أو العالَم أو البخت. فإذا كانت نسبةً إلى هذه يكون معناها «العالمي» أو «الزماني»، وهو لقب يُقصَد به «عامة الناس غير الكهنة»، ولا يزال هذا استعماله إلى هذا العهد. فاستعمال هذه الكلمة في معرض التكلم عن البنَّائين يستفاد منها عامة الناس الذين هم غير الإخوة البنَّائين. والماسون إلى هذا اليوم يدعون مَن هو ليس من جمعيتهم بالخارجي أو الأجنبي، وهو يشبه التعبير المتقدم ذكره.٤
فيستنتج من كل ما تقدَّمَ أن البنائين الذين بنوا مدينة بغداد كانوا من الإخوة البنَّائين الأحرار، الذين كانوا منتشرين إذ ذاك في أقاصي المشرق على ما تقدَّمَ.
وفي سنة ٧٧٥ انتقلت صناعة البناء إلى إسبانيا «الأندلس»، وهي إذ ذاك في حكم المسلمين، وكيفية ذلك أن عبد الرحمن الأول لما افتتح قرطبة وجعلها مقامًا له أرسل إلى الأمصار الشرقية، ولا سيما بغداد، يطلب منها البنَّائين لبناء هذه المدينة، فأقام فيها البنايات الشاهقة بين جوامع ومساجد وحصون وما شاكل على شكل البناء القسطنطيني، وأنشأ فيها مدارس للبنَّائين مع المحافظة على ما لهم من الحقوق والامتيازات. واشتهرت بعد ذلك قرطبة بالعلم والصناعة على العموم، ولا سيما صناعة البناء، وكان الطالبون يَقدمون إليها من سائر أنحاء العالم لاكتساب العلوم والصنائع.
الماسونية في فرنسا
وفي أيام شارلمان ملك فرنسا الشهير سنة ٧٨٠ انتشرت الماسونية في فرنسا انتشارًا حسنًا؛ لأنه كان منشطًا للعلم والصناعة والفضيلة، كما هو مشهور عنه، وكان البنَّاءون الأحرار يُدعَون في أيامه «ناحتي الحجارة». ورمَّموا كثيرًا من الهياكل والتماثيل التي هُدمت بسبب هجمات قبائل الدانوا.الماسونية في بريطانيا
وفي سنة ٨٧٥ في أيام ألفريد الأكبر أشهر ملوك السكسونيين أزهرت الصناعة، ولا سيما البناية، فإنها بلغت شأوًا عظيمًا، فتآلَف البناءون على إقامة البنايات التي تقادم عهدها والتي دمَّرتها يد العدو.وفي سنة ٩٠٠ أوصى إدوار ملك السكسونيين بعد ألفريد أن يكون الملك بعده لأخيه اثلوارد وصهره اثرد، وكانا عارفين بصناعة البناء، وهما من الإخوة البنائين الأحرار، بل من رؤسائهم.
فلم تأتِ سنة ٩٢٥ حتى إنه لم يَعُدْ هناك مدينة واحدة من المدن التي تستحق الذكر في إنكلترا لم تقم فيها مدرسة بنائية حرَّة. إلا أن الحظ لم يتم لما كان يحصل من الانقسامات المتواصلة؛ مما أوجب الخصام وإشهار السلاح وإقامة الحروب الأهليَّة.
ومما قاسته الماسونية وخسرته إلى ذلك العهد أوراقها الكثيرة التي كانت محفوظة في مكاتبها، مدوَّنة في لغات شتى من لغات العالم، فإنها فقدتها جميعها حرقًا أثناء الحروب مع الدانوا. وكان في جملة أعضاء الماسونية أولستون حفيد ألفريد الأكبر، ولما تولَّى هذا زمام الملك تعمَّق في أسرارها وارتقى في درجاتها، وقد فعل مثل ذلك بابنه إدون، فإنه رقَّاه في أسرارها حتى انتخب أخيرًا أستاذًا أعظم لها.
ولهذا الرجل «إدون» شأن عظيم في تاريخ الماسونية؛ لأنه جمع إليه في يورك جميع الأوراق التي كانت باقية إلى ذلك العهد مما يتعلق بالماسونية، وجمع إليه رؤساء المحافل من أنحاء العالم بالنيابة عن محافلهم، لكي يستخلصوا مما لديهم من الأوراق والمعلومات قانونًا للماسونية يجمع شتاتها ويوحِّد كلمتها.
فاجتمع ذلك المؤتمر سنة ٩٢٦ تحت رئاسة إدون هذا، وكتبوا لائحة مبنيَّة على ما كان لديهم من الأوراق الماسونية، وأصبحت مدينة يورك في «إنكلترا» من ذلك الحين مركز العالم الماسوني الحر ومرجع المحافل عمومًا. وقد دُعِيت اللائحة التي وضعها ذلك المؤتمر «لائحة يورك»، وثبتها بعد ذلك الملك هنري السادس، ولا تزال تُعرَف إلى الآن بهذا الاسم. وهاكَ نص المواد الأساسية لتلك اللائحة:لائحة يورك
•أول واجباتك أن تُخلِص في احترام الله واتِّبَاع شرائع نوح٥ لأنها الشرائع الإلهية التي يجب أن يتبعها كل البشر، وبناءً عليه يجب أن تجتنب التعاليم الفاسدة، فلا تكون لك معثرة في طريق الله.
• كُنْ مخلصًا لسلطانك وأذعن لأوامر حكَّامك حيثما وُجِدت. لا تَأْتِ خيانة وإذا علمت بمَن نواها أعلن القضاء به.
• كُنْ نافعًا لكل الذين هم حولك، واشدُدْ معهم عرى المحبة والإخلاص والأمانة، بقطع النظر عن معتقداتهم الدينية.
•كُنْ مخلصًا على الخصوص لأخيك الماسوني وعلِّمه وساعده في صناعته، ولا تَسْعَ إلى ضره، بل عامله بما تريد أنت أن يعاملك الآخرون. وإذا رأيت من أخيك عوجًا انصحه، وإذا نصحك أصغ إليه واستفد من مشوراته.
• واظب على حضور اجتماعات المحافل، وساعد في البحث في أشغال إخوانك. واكتم الأسرار عمَّن هم ليسوا من الإخوان الماسونيين.
• الأمانة واجبة على كل أخ؛ إذ بدونها وبدون الاستقامة لا تقوم الإخوة، ولأن الصيت الحسن خير العقار الخصب؛ فيجب عليك أن تلاحظ مصالح أستاذك الذي تخدمه بكل ثبات، وأن تنجز ما يعهد إليك من الشغل بكل ذمة وشرف.
• أَوْفِ ما عليك وبالإجمال لا تَأْتِ أمرًا يحطُّ من قَدْر العشيرة الماسونية.
• يلزم ألَّا يعهد شغل لأستاذ ما لم يكن كُفْئًا لإتمامه، وإلا فإن العار عائد على عموم العشيرة. وعلى الأساتذة أن يطلبوا أجورًا معتدلة، وتكون كافية للقيام باحتياجاتهم وبما يدفعونه للرفقاء.
• لا يجوز لأحد أن يسعى إلى اختلاس الشغل من يد آخَر، بل يجب أن يتركه في شغله، إلا إذا لم يكن كُفْئًا للقيام به حَقَّ القيامِ.
• لا يجوز لأستاذ من الأساتذة أن يقبل طالبًا أجنبيًّا إلا لمدة سبع سنوات، وألَّا يُدخِله في أسرار الماسونية إلا بعد صرف هذه المدة، وبعد مشورة ومصادقة سائر الإخوان.
•لا يجوز للأستاذ أو الرفيق أن يَقْبَل عوضًا في قبول أحدٍ في الماسونية، إذا لم يكن الطالب حر الولادة وحسن السيرة، ذا أعضاء سليمة وأهلية حسنة.
• (١٢) لا يجوز للماسوني أن يعنِّف أخاه في شغله، إلا إذا كان أرفع منه في مراتب الماسونية.
• إذا عنَّف المهندس (رئيس المحفل) أحد الأساتذة، أو عنَّف الأستاذ أحد الرفقاء، فعلى المعنَّف أن يصغي لما يقال له ويصلح خطأه، ويسير على ما رُسِم له.
• على الماسون عمومًا أن يذعنوا لرؤسائهم وينفذوا كل ما يأمرونهم به بكل نشاط وغيرة.
• وعلى الماسون أن يترحبوا بالرفاق الذين يأتون إليهم من بلاد بعيدة، بعد أن يعطوهم الإشارة الماسونية، وأن يهتموا بمصالحهم، وأن يساعدوا جميع الإخوان عندما يعلمون باحتياجهم إلى المساعدة إذا كانوا على مسافة ربع ساعة.
• لا ينبغي لأحد الإخوة الماسون أن يسمح بدخول أحد إلى المحفل، إذا لم يتأكد كونه ماسونيًّا؛ لكي لا يطلع على صناعة النحت والمربعات والفادن.
هذا وللإخوة البنَّائين الحق في إضافة ما يجدونه مناسبًا من القوانين بإقرار رؤساء المحافل، لكي يكون جميع الإخوان مشتركين بها على السواء.
االمصدر :
راسخون 2017