
لم يكن للماسونية أن تظهر وتتأيد في جرمانيا إلا بعد تولية الملك هنوفر في إنكلترا؛ لأن الماسون الجرمانيين لم يكونوا يستطيعون التظاهر بها في جرمانيا لما كان يحول دون ذلك من الاضطهاد والحرمان الشديد، أما بعد تولية هنوفر وما تجدَّد بين الأمتين من العلاقات التجارية وغيرها، تيسَّرَ لهم أن يتظاهروا بعض التظاهر، فكانوا نحو سنة ١٧٣٠ منتشرين في جرمانيا المركزية وأنحائها الشمالية والغربية، وكانوا حيثما اجتمعوا يشكِّلون ما يشبه هيئة المحفل ويتبادلون شعائر الإخاء التي كانت تتوقد في أفئدتهم. أما أعمالهم في تلك الاجتماعات، فكانت مقصورة على تلاوة كتاب الشرائع، والمذاكرة في التعاليم الماسونية.
وفي سنة ١٧٣٣ أجاز الأستاذ الأعظم الأخ اللورد ستراتمور لأحد عشر أخًا من الجرمانيين أن يأسسوا محفلًا ماسونيًّا في همبرج، ولكنا لا نعلم ماذا تم من أمره بعد ذلك الحين، إنما الذي نعلمه أنه في سنة ١٧٣٧ تأسَّس في تلك المدينة محفل دُعِي — في سنة ١٧٤١ — «محفلَ أبي شالوم»، وفي سنة ١٧٤٠ سُمِّي الأخ لوتمان أستاذًا أعظم إقليميًّا ببراءة من المحفل الأعظم الإنكليزي، وترأَّس على ذلك المحفل. ومنذ سنة ١٧٤١ سُمِّي هذا المحفل رسميًّا محفلًا أعظم إقليميًّا في همبرج وسكسونيا السفلى، وهو أول محفل عُرِف بهذه الصفة في جرمانيا.
وكان لفريدريك الثاني رغبةٌ شديدة في الفضيلة والعلم وبثهما في رَعِيَّته، ولم يَرَ وسيلة أفضل من الماسونية لهذه الغاية، أما تكريسه فكان في مدينة برونسويك بحضور لجنة من محفل أبي شالوم المتقدم ذكره.
ولما تولَّى الأحكام سنة ١٧٤٠ زاد رغبةً في نصرة الماسونية، فتولَّى أمر رئاستها في ٢٠ يونيو (حزيران) من تلك السنة في قلعة شارلتنبرج. وفي ١٣ سبتمبر منها أسَّس محفلًا في برلين دعاه «محفل الثلاثة عوالم»، وأصبح ذلك المحفل سنة ١٧٤٤ محفلًا رئيسيًّا.
وما زال فريدريك الأعظم على الرئاسة العظمى حتى أثناء حرب السبع سنين، لكنه لم يكن يستطيع معاطاة الأعمال الماسونية مباشرةً بنفسه، لما كان يتجاذبه من مشاغل الأمة؛ فاضطربت داخلية المحفل يسيرًا، فعيَّن سنة ١٧٤٧ دوك هلستين بك نائبًا للرئاسة، فحوَّر القوانين ونظَّم محل الاجتماع وضبط المالية.
وكانت امرأته ماريَّا تريزا تنظر إلى الماسونية نظر الارتياب، إلا أن ذلك لم يمنع انتشارها، فأُسِّست محافل كثيرة في مدن أوستريا وأماكن أخرى.
وكان فرنسيس الأول شديد الميل إلى الفنون الجميلة والكيمياء، فرقَّى شأنها ونشر الفضيلة وأيَّد الدين، وكان محبًّا للفقراء والمساكين، شديدَ الرغبة في إعالتهم، حتى إنه خاطر بحياة زوجته مرارًا لإنقاذ بعض المساكين في حريق ﭬﻴﻨﺎ وفيضان الدانوب. وكان يقدِّر علم التاريخ حقَّ قدره، فقد كتب إلى وصي ابنه الذي عهد إليه تهذيبه ما نصه: «إن ابني هذا ينبغي أن يدرس التاريخ درسًا يكشف له الغطاء عن شرور رؤساء العالم وأغلاطهم، كما يكشف له عن فضائلهم.»
وفي سنة ١٧٣٧ استولى على دوكية توسكانا، فلم يكتفِ بإبطال الاضطهاد الذي كان يتهدد الماسونية في بلاده، ولكنه أخذ جانبها وكان من أقوى نصرائها.
وفي سنة ١٧٤٢ تأسَّس محفل «الوحدة» في فرنكفورت، ولم تكن المحافل الجرمانية تشتغل إلا بالدرجات الثلاث الرمزية، وكان أساس أعمالها كتاب النظامات الإنكليزي، وإليه وحده كان مرجع أحكامها، على أنهم ما لبثوا بعد حين حتى شعروا باحتياجهم إلى قوانين محلية تُسَنُّ على مقتضيات ظروفهم. أما الطريقة التي كانوا يشتغلون عليها فهي طريقة بريتشارد، ولم يكن في عداد أعضاء محافلهم إلا الأساتذة، أما مَن كان دون هذه الدرجة فلم يكن له حق العضوية. وكانت المحافل مستقلة بأعمالها، فيقرر كلٌّ منها بما يتراءى له ويستحسنه، فنتج من ذلك تبايُن في نظاماتها وقوانينها.
وكانت المحافل في نومبرج تفرِض على أعضائه أن يقدِّم الواحد كلَّ سنة مقالة علمية على الأقل. أما في برونسويك فكانت المحافل تنعقد أسبوعيًّا سنة ١٧٦٣ وتبحث في مواضيع مختلفة كلها علمية، وفي نحو هذا الزمن انضمَّ إلى الماسونية كثير من سراة البلاد ووجهائها، ولم يكن يشتغل في المحافل إلا الأغنياء لكثرة ما يحتاج إليه العمل من النفقات الباهظة بين مساعدات وولائم وما شاكل، فآلَ الأمر إلى انحصار الماسونية في الأشراف وذوي الثروة، وحرمان كثيرين ممَّن هم ذوو لياقة ومعارف.
وهذا إجحاف لا يُسامَحون عليه؛ لأن واجبات الماسونية وأعمالها أشرف من ذلك كثيرًا، فضلًا عن أن الصف الأوسط من الناس أقدر على حِفْظ النظام والمحافظة على القوانين من الصف الأعلى.
ثم إن الدرجات الماسونية العليا ما لبثت أن انتشرت في فرنسا حتى انتقلت إلى جرمانيا. وقبل النظر في كيفية دخولها ننظر في كيفية انتشار الماسونية عمومًا في جرمانيا.
وتقدَّمت اقتراحات أخرى لم يقرِّروا شيئًا منها.
وبما أن ملك البلاد لم يَعُدْ يستطيع النظر في أشغال المحافل بنفسه؛ لضيق وقته، ونظرًا لوفاة نائبه أصبح المحفل الأعظم سنة ١٧٥٥ بدون رئيس، فانتخبوا الأخ ﭬﻮن رملسبرج للرئاسة، إلا أن هذا الانتخاب لم يصادف مصادقة كل المحافل، فوقع الخلاف بينها، لكن ذلك لم يمنعه من تعاطي تلك الوظيفة بكل نشاط.
ثم أُسِّست محافل كثيرة في إشرسلبن وهوشبرج ودانسك وستتن وغيرها.
ومثل ذلك الاضطراب حصل في محافل هنوفر وفرنكفورت.
ومما زاد ارتياب القوم فيها شدة حرص الأعضاء على أسرارهم وإخفاء أوراقهم ومحلات اجتماعاتهم. وقد كان المشهور عن الماسونية أنها لا تشترط على الطالب الاعتراف بشيء مخصوص، فتردَّد الناس في حكمهم عليها، على أنهم لم ينفكوا عن اعتقادهم أن الماسونيين جميعهم طبيعيون، وأنهم إنما يتظاهرون بالحيادة عن الدين، ولكنهم يحتقرونه باطنًا، ونسب إليهم آخرون غير ذلك. على أن الماسونية لم تُحرَم من كَتَبَة ذلك الجيل غير الماسون مَن أخذ بناصرها، وبيَّنَ أنها براءٌ من تلك التُّهَم، واستخرج من قواعدها الأساسية ما أثبت أنها لا دَخْلَ لها في أمر الدين على الإطلاق، وبيَّنَ أن ذلك أشرف المقاصد في توحيد الكلمة.
فكان الكيماوي مثلًا يفسرها إلى ما يوافق صنعته، ومثل ذلك الموسيقى واللاهوتي والتاريخي وعالِم الآثار القديمة والفيلسوف العقلي والرياضي والفلكي وغيرهم. ولا غرو؛ فإن العشيرة التي تجهل تاريخها تكون عُرْضة لاختلاف الآراء في أصلها.
المصدر :
من کتاب / تاريخ الماسونية العام / جُرجي زيدان
وفي سنة ١٧٣٣ أجاز الأستاذ الأعظم الأخ اللورد ستراتمور لأحد عشر أخًا من الجرمانيين أن يأسسوا محفلًا ماسونيًّا في همبرج، ولكنا لا نعلم ماذا تم من أمره بعد ذلك الحين، إنما الذي نعلمه أنه في سنة ١٧٣٧ تأسَّس في تلك المدينة محفل دُعِي — في سنة ١٧٤١ — «محفلَ أبي شالوم»، وفي سنة ١٧٤٠ سُمِّي الأخ لوتمان أستاذًا أعظم إقليميًّا ببراءة من المحفل الأعظم الإنكليزي، وترأَّس على ذلك المحفل. ومنذ سنة ١٧٤١ سُمِّي هذا المحفل رسميًّا محفلًا أعظم إقليميًّا في همبرج وسكسونيا السفلى، وهو أول محفل عُرِف بهذه الصفة في جرمانيا.
انضمام فريدريك الأعظم وانتصاره للماسونية
ومما زاد الماسونية شرفًا ومنعة انضمام ولي عهد بروسيا البرنس فريدريك إليها، الذي صار بعد ذلك الملك فريدريك الثاني أو فريدريك الأعظم، ولولاه ما استطاعت الماسونية النهوض من حضيضها في تلك الديار، ولكنه لما انتظم في سلكها اقتدى به أمراء بلاده وتابعهم كثيرون من الأشراف، ولم تنتهِ حرب السبع سنين حتى أصبحت الماسونية شرفًا يتباهى بالانضمام إليها أشرافُ البلاد وسراتها.وكان لفريدريك الثاني رغبةٌ شديدة في الفضيلة والعلم وبثهما في رَعِيَّته، ولم يَرَ وسيلة أفضل من الماسونية لهذه الغاية، أما تكريسه فكان في مدينة برونسويك بحضور لجنة من محفل أبي شالوم المتقدم ذكره.
ولما تولَّى الأحكام سنة ١٧٤٠ زاد رغبةً في نصرة الماسونية، فتولَّى أمر رئاستها في ٢٠ يونيو (حزيران) من تلك السنة في قلعة شارلتنبرج. وفي ١٣ سبتمبر منها أسَّس محفلًا في برلين دعاه «محفل الثلاثة عوالم»، وأصبح ذلك المحفل سنة ١٧٤٤ محفلًا رئيسيًّا.
وما زال فريدريك الأعظم على الرئاسة العظمى حتى أثناء حرب السبع سنين، لكنه لم يكن يستطيع معاطاة الأعمال الماسونية مباشرةً بنفسه، لما كان يتجاذبه من مشاغل الأمة؛ فاضطربت داخلية المحفل يسيرًا، فعيَّن سنة ١٧٤٧ دوك هلستين بك نائبًا للرئاسة، فحوَّر القوانين ونظَّم محل الاجتماع وضبط المالية.
انتصار إمبراطور النمسا للماسونية
وكما كان فريدريك الأعظم في بروسيا، كان الإمبراطور فرنسيس الأول في أوستريا. وُلِد هذا الإمبراطور في ٨ ديسمبر (كانون الأول) سنة ١٧٠٨، وانضم إلى الماسونية سنة ١٧٣١ في «هجيو»، واسمه إذ ذاك دوك لوثر ينجن، وكان على كرسي الرئاسة دوك شسترفيلد، ثم ارتقى إلى درجة الأستاذ في لندرا وسُمِّي من ذلك الحين الأخ لوثر ينجن.وكانت امرأته ماريَّا تريزا تنظر إلى الماسونية نظر الارتياب، إلا أن ذلك لم يمنع انتشارها، فأُسِّست محافل كثيرة في مدن أوستريا وأماكن أخرى.
وكان فرنسيس الأول شديد الميل إلى الفنون الجميلة والكيمياء، فرقَّى شأنها ونشر الفضيلة وأيَّد الدين، وكان محبًّا للفقراء والمساكين، شديدَ الرغبة في إعالتهم، حتى إنه خاطر بحياة زوجته مرارًا لإنقاذ بعض المساكين في حريق ﭬﻴﻨﺎ وفيضان الدانوب. وكان يقدِّر علم التاريخ حقَّ قدره، فقد كتب إلى وصي ابنه الذي عهد إليه تهذيبه ما نصه: «إن ابني هذا ينبغي أن يدرس التاريخ درسًا يكشف له الغطاء عن شرور رؤساء العالم وأغلاطهم، كما يكشف له عن فضائلهم.»
وفي سنة ١٧٣٧ استولى على دوكية توسكانا، فلم يكتفِ بإبطال الاضطهاد الذي كان يتهدد الماسونية في بلاده، ولكنه أخذ جانبها وكان من أقوى نصرائها.
إنشاء محافل أخرى في جرمانيا
أما فيما بقي من بلاد جرمانيا فكانت الماسونية أسرع انتشارًا؛ فإن أمير بيروت٥ وكان متكرسًا في برلين، أسَّس في مدينته محفلًا دعاه «محفل الشمس»، وفي سنة ١٧٤٤ أسَّس محفل «فريدريك» في هنوفر، ثم تأسَّست محافل أخرى كثيرة في دراسدن. وفي سنة ١٧٤١ تأسَّس محفل «مينارﭬﺎ الثلاث نخلات» في ليبسك.وفي سنة ١٧٤٢ تأسَّس محفل «الوحدة» في فرنكفورت، ولم تكن المحافل الجرمانية تشتغل إلا بالدرجات الثلاث الرمزية، وكان أساس أعمالها كتاب النظامات الإنكليزي، وإليه وحده كان مرجع أحكامها، على أنهم ما لبثوا بعد حين حتى شعروا باحتياجهم إلى قوانين محلية تُسَنُّ على مقتضيات ظروفهم. أما الطريقة التي كانوا يشتغلون عليها فهي طريقة بريتشارد، ولم يكن في عداد أعضاء محافلهم إلا الأساتذة، أما مَن كان دون هذه الدرجة فلم يكن له حق العضوية. وكانت المحافل مستقلة بأعمالها، فيقرر كلٌّ منها بما يتراءى له ويستحسنه، فنتج من ذلك تبايُن في نظاماتها وقوانينها.
وكانت المحافل في نومبرج تفرِض على أعضائه أن يقدِّم الواحد كلَّ سنة مقالة علمية على الأقل. أما في برونسويك فكانت المحافل تنعقد أسبوعيًّا سنة ١٧٦٣ وتبحث في مواضيع مختلفة كلها علمية، وفي نحو هذا الزمن انضمَّ إلى الماسونية كثير من سراة البلاد ووجهائها، ولم يكن يشتغل في المحافل إلا الأغنياء لكثرة ما يحتاج إليه العمل من النفقات الباهظة بين مساعدات وولائم وما شاكل، فآلَ الأمر إلى انحصار الماسونية في الأشراف وذوي الثروة، وحرمان كثيرين ممَّن هم ذوو لياقة ومعارف.
وهذا إجحاف لا يُسامَحون عليه؛ لأن واجبات الماسونية وأعمالها أشرف من ذلك كثيرًا، فضلًا عن أن الصف الأوسط من الناس أقدر على حِفْظ النظام والمحافظة على القوانين من الصف الأعلى.
ثم إن الدرجات الماسونية العليا ما لبثت أن انتشرت في فرنسا حتى انتقلت إلى جرمانيا. وقبل النظر في كيفية دخولها ننظر في كيفية انتشار الماسونية عمومًا في جرمانيا.
انتشار الماسونية في جرمانيا
كان المحفل الأعظم الملوكي في برلين واسمه «الثلاث عوالم» متَّبِعًا في أعماله خطة المحفل الأعظم الإنكليزي، فأسَّس محفلًا دعاه «محفل القهارمة» — وكان مثل هذا المحفل في إنكلترا — لأجل النظر في ضبط مالية المحافل وزيادة مداخيلها، فآلَ ذلك إلى البذخ في الولائم فنفدت المالية، فتساهل بعض المحافل في اختيار الطالبين والتحري عنهم. فتخلُّصًا من اختلاط المستحقين بغير المستحقين اجتمعت محافل همبرج وفرنكفورت وغيرها، وتباحثت فيما يجب اتخاذه لملافاة الخطب، فاقترح بعض الأعضاء استحداث علامة تتَّفِق عليها المحافل ولا يبيحون بها إلا للمستحقين، فيتعارفون بها فينفصلون من غير المستحقين، واقترح آخَرون من محافل فرنكفورت أن يُجعَل للمحفل الرئيسي ختمٌ تُختَم به الشهادات، ويجعل على الوجه المخالِف لمحل الختم توقيع الأستاذ الأعظم ومنبهيه.وتقدَّمت اقتراحات أخرى لم يقرِّروا شيئًا منها.
وبما أن ملك البلاد لم يَعُدْ يستطيع النظر في أشغال المحافل بنفسه؛ لضيق وقته، ونظرًا لوفاة نائبه أصبح المحفل الأعظم سنة ١٧٥٥ بدون رئيس، فانتخبوا الأخ ﭬﻮن رملسبرج للرئاسة، إلا أن هذا الانتخاب لم يصادف مصادقة كل المحافل، فوقع الخلاف بينها، لكن ذلك لم يمنعه من تعاطي تلك الوظيفة بكل نشاط.
ثم أُسِّست محافل كثيرة في إشرسلبن وهوشبرج ودانسك وستتن وغيرها.
ومثل ذلك الاضطراب حصل في محافل هنوفر وفرنكفورت.
حالة جرمانيا في أواسط الجيل الثامن عشر
وفي متوسط الجيل الثامن عشر اتخذت المحافل الجرمانية اللغة الفرنساوية في محافلها؛ لأنها كانت لغة الطبقة العليا من الناس، وكانت تسمَّى المحافلُ بأسماء فرنساوية، وكانت اللغة اللاتينية لغة العلماء، أما الجرمانية فكانت لا تزال دونهما من هذا القبيل. وكانت الهيئة الاجتماعية في جرمانيا باحتياج إلى مُصلِح خارجي لعلومها وتجارتها وعمرانها، ولا سيما في أوائل الجيل الثامن عشر، وقد كان للفرنساويين في ترقية شأن الجرمانيين يد بيضاء، ثم ظهر في جرمانيا أفراد تفرَّدوا بالاجتهاد وحب العلم، فعلَّموا الشعب ورقوا أفكارهم، ثم جاء فريدريك الأعظم الذي تشرَّب المبادئ الماسونية، فسعى إلى ترقية شأن أمته بعد أن عرف الداء فوصف الدواء، فأصلح البلاد سياسيًّا وعلميًّا، فأطلق حرية التعليم، ونشَّط الفنون والصنائع، واكتسب ثقة الدول الأجنبية، ويقال بالإجمال إن هذا الرجل العظيم هو الذي أنهض جرمانيا من حضيض الجهل إلى مرتفع من العمران، ونشَّط الماسونية على الخصوص؛ ذلك لما رأى من مبادئها ما هو أكبر مساعد لمشروعاته.اضطهادات
على أن الماسونية في جرمانيا مع ما لاقته من انتصار ملك البلاد لها، وإقبال الفئة العاقلة على الانضمام إليها، فإنها لم تَنْجُ من اضطهاد رجال الدين، فإنهم نظروا إليها نظر الارتياب فطلبوا إلغاءها؛ فالكاثوليك ظنوها من قبيل بروتستانت إنكلترا، والبروتستانت كانوا يعتبرونها مناقضة لعبادة الله وللديانة المسيحية، بل وللديانة على وجه العموم. واختلق عليها عامة الناس أكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان، ونسبوا إليها أعمالًا سحرية وخزعبلات، فأجمع الجميع على اضطهادها.ومما زاد ارتياب القوم فيها شدة حرص الأعضاء على أسرارهم وإخفاء أوراقهم ومحلات اجتماعاتهم. وقد كان المشهور عن الماسونية أنها لا تشترط على الطالب الاعتراف بشيء مخصوص، فتردَّد الناس في حكمهم عليها، على أنهم لم ينفكوا عن اعتقادهم أن الماسونيين جميعهم طبيعيون، وأنهم إنما يتظاهرون بالحيادة عن الدين، ولكنهم يحتقرونه باطنًا، ونسب إليهم آخرون غير ذلك. على أن الماسونية لم تُحرَم من كَتَبَة ذلك الجيل غير الماسون مَن أخذ بناصرها، وبيَّنَ أنها براءٌ من تلك التُّهَم، واستخرج من قواعدها الأساسية ما أثبت أنها لا دَخْلَ لها في أمر الدين على الإطلاق، وبيَّنَ أن ذلك أشرف المقاصد في توحيد الكلمة.
حل الرموز الماسونية
وقد اشتغل الماسون أنفسهم في جرمانيا طويلًا يطلبون حل الرموز الماسونية، ولم يكن لديهم في بادئ الرأي إلا رموز الدرجات الأولى، وقد كانوا في أول أمرهم يجتمعون في المحافل ويستعملون تلك الرموز استعمالًا ميكانيكيًّا، لا يفقهون إلى شيء من غايتها. ثم قام بينهم مَن أجهد فكرته في حلها، ولمَّا لم يكن لديهم معرفة بتاريخ الماسونية، جعل كلٌّ منهم يفسرها على مقتضى ما يقوده إليه عقله، ويبني أقواله على ما اعتاده من الحوادث؛فكان الكيماوي مثلًا يفسرها إلى ما يوافق صنعته، ومثل ذلك الموسيقى واللاهوتي والتاريخي وعالِم الآثار القديمة والفيلسوف العقلي والرياضي والفلكي وغيرهم. ولا غرو؛ فإن العشيرة التي تجهل تاريخها تكون عُرْضة لاختلاف الآراء في أصلها.
المصدر :
من کتاب / تاريخ الماسونية العام / جُرجي زيدان