حركة المجتمع ـ اي مجتمع سياسي على الاطلاق ـ تسير وفق ضابطين رئيسيين ، والمجتمع المسلم كواحد من المجتمعات السياسية الانسانية لا يشذ عن هذه القاعدة ، فحركته ايضا محكومة بضابطين :
1 ـ الضابط الاول :
وهو العقيدة أو المنضومة الحقوقية الالهية ، وهي بمثابة القانون النافذ في المجتمع الاسلامي ، وهي عبارة عن مخططات عامة وتفصيلية تعطي بالكامل حركة المجتمع الاسلامي في كل مجالات الحياة بالحال والمآل وان شئت فقل انها الصيدلية الكبرى التي تحوي العلاج الشافي من كل داء قد اصاب المجتمع الاسلامي او سيصيبه .وتحتوي هذه المنظومة على التجذير النظري والعملي والتنظير لكل داء ودواء ، وتقدم ضمانة مؤكدة لفاعلية هذا العلاج ونتائجه . وهذه المنظومة معدة ومصاغة لتغطي حياة الفرد والاسرة والمجتمع والدولة والعالم كله ، وتنظيم علاقات المجتمع وقيادتهم الى التعاون والانسجام ، واشباع حاجاتهم المادية والروحية ايضا .
الضابط الثاني : وهو القيادة السياسية المنبثقة عن هذه العقيدة فهي الجهة المخولة وفق احكام هذه المنظومة الالهية بابقاء حركة المجتمع الاسلامي دائما وفق احكام هذه المنظومة الحقوقية الالهية ، وتوضيحا هو بمثابة المهندس الذي استوعب المخططات العامة والتفصيلية للعقيدة الالهية ، وهو بمثابة الطبيب والصيدلاني الذي يشخص المرض ويصف العلاج ويقدمه لك ويصف كيفية استعماله ، ويتابعك وانت تتناوله حتى يتم الشفاء .
وهو المنظر للمنظومة الحقوقية الالهية ، وهو المشرف العام على تطبيقها ، والمرجع العام لفهم احكامها ومراميها ، لانه هو الاعلم بها ، والافهم لقواعدها وغاياتها ، والافضل من بين اتباعها والانسب من بين كل الموجودين لقيادة اتباع هذه العقيدة .
وهو المبين لها من خلال نقلها وتبليغها بالضبط ، كما تلقاها من ربه ، ومن خلال ترجمتها من النص الى الحركة بعد عملية النقل والتبليغ . وهو الشاهد على عملية البيان بشقيها النظري والعملي ، وهو المبشر للمخصلين للعقيدة ، والمنذر للمعاندين لها ، وهو الداعية الى الله ، وهو السراج المنير الذي ينير درب المجتمع اثناء حركة هذا المجتمع الحياتية .
2 ـ الترابط والتكامل بين العقيدة الالهية والقيادة السياسية
العقيدة الالهية الاسلامية بكليتها واساسها قائمة على ركنين اساسيين ، اولهما كتاب الله المنزل ، وهو القرآن الكريم ، وثانيهما نبي الله المرسل ، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم . محمد هو القيادة السياسية المخولة إلهيا بقيادة الدعوة الى العقيدة والمعينة إلهيا لتقود الدولة بعد ان تسفر الدعوة عن الدولة .بمعنى ان القيادة السياسية لدعوة العقيدة ودولتها هي جزء لا يتجزأ من هذه العقيدة ، وهي اصل من اصولها ، فالايمان بقيادة محمد السياسية وولايته هي جزء من الايمان بالعقيدة الالهية ، كذلك فان الايمان بقيادة طالوت السياسية كان جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الالهية الناقدة آنذاك ، وكذلك الايمان بقيادة داود ، وسليمان عليهما السلام .
لانه ليس بالامكان وفق نواميس الحياة تبليغ العقيدة الالهية وبيان احكامها وتطبيق هذه الاحكام دون القيادة السياسية لمحمد بالذات ، فهو نفسه المخول بترجمة نصوصها من الكلمات الى الحركات وهكذا فعل عبر دعوة قادها بنفسه ، وعبر دولة ترأسها بنفسه ، لانه هو بالذات محور واساس القيادة السياسية التي اسندت اليها مهمة قيادة الدعوة والدولة معا .
ويؤكد هذا الترابط العضوي والتكامل المحتوم بالضرورة ان الله سبحانه وتعالى وطوال التاريخ البشري لم يرسل رسالة الى بني البشر بدون رسول ، ولم ينزل كتاباً الا على عبد ليقود المؤمنين وفق احكام هذا الكتاب بعد ان بين لهم تلك الاحكام ، ولو كان مجديا فك الترابط بين العقيدة الالهية والقيادة السياسية ، وبين الرسالة والرسول وبين الكتاب والعبد لكان يسيراً على الله ان يرسل نسخا من كل الكتب السماوية الى كل انسان بالغ ، وان يكلفه بفهمها والعمل بها ، ولما كانت هنالك حاجة لارسال عشرات الآلاف من الرسل والانبياء والمهديين .
ففك الارتباط والتكامل بين العقيدة الالهية وبين القيادة السياسيةغير وارد بكل المقاييس العقلية والمنطقية والدينية والفطرية ، ويخرج عن دائرة المعقول تماماً التمسك بالقرآن وحده وتجاهل القيادة السياسية الالهية ، فمن يقول انه يؤمن بالقرآن ولا يؤمن بمحمد كقائد له وكولي هو ليس مؤمناً بالاجماع . ومن يقول انه يوالي محمداً كقيادة سياسية ولا يؤمن بالقرآن هو ايضا ليس مؤمنا بالاجماع لان من مستلزمات الايمان ، الايمان بالعقيدة الالهية كقانون نافذ ، والايمان بمحمد كقائد وكولي يقود حياة المؤمنين ضمن هذا القانون النافذ .
فالقيادة السياسية هي بمثابة الهيئة التأسيسية ، فهي المختصة ببيان العقيدة وبقيادة الاتباع وفق احكام هذه العقيدة .
وعمليات البيان وعمليات القيادة عمليات فنية تماماً كالطب او علم الذرة او علم الهندسة ، ومن المستحيل ان نترك لاهوائنا واجتهاداتنا .
مؤهلات القيادة السياسية الاسلامية الشرعية
اول ولي وقائد سياسي للامة الاسلامية هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو القدوة وهو المثال الذي يقاس عليه ، والذين تولوا الولاية والقيادة ، والمرجعية من بعده ، تولوها بوصفهم خلفاء للنبي ، فالمؤهلات العلمية للنبي كولي وكقائد سياسي وكمرجع للامة هي انه اعلم اهل زمانه بالعقيدة الالهية ، وافهم اهل زمانه بأحكامها وافضل الموجودين من اتباعها ، وانسبهم لقيادة ولايتها ومرجعيتها ، بالاجماع . ودليلا على ذلك ان الله سبحانه وتعالى هو الذي عينه وجمع له الولاية والقيادة والمرجعية ، ولا يعارض بذلك احد من ابناء الملة .واي قيادة وولاية ومرجعية تأتي من بعده يجب ان تكون لها نفس المؤهلات ، فالولي القائد المرجع بعده يجب بالضرورة ان يكون :
1 ـ الاعلم بالعقيدة .
2 ـ الافهم بأحكامها .
3 ـ افضل الموجودين من اتباعها .
4 ـ انسب هؤلاء الاتباع لقيادة الامة .
وهذه معايير موضوعية ، وامنيات مجردة ، وغايات محددة لكل من اراد الحق وجانب الهوى . فمن مصلحة كل المؤمنين ان يتولاهم ويقودهم الاعلم والافهم ، والافضل والانسب ، ولا مصلحة شرعية لاي واحد منهم ، بأن يتولى غير من كانت هذه صفاته .
من هو المختص بالتأكد من توافر المؤهلات
لا يوجد في الدنيا فرد او جماعة او امة تستطيع ان تؤكد لنا على وجه الجزم واليقين ان هذا او ذاك هو : الاعلم والافهم والافضل والانسب ، لان الافراد والجماعات والامم لا يعرفون ذلك على وجه الجزم واليقين ، لان امكانياتهم وطاقاتهم العقلية والفطرية والعلمية لا تمكنهم من ذلك .ولانهم لا يعرفون الا الظاهر ، اما البواطن فهم يجهلونها ، واذا اجتهدوا وحاولوا ان يبحثوا عن الاعلم والافهم والافضل والانسب ، فان النتأئج التي سيتوصلون اليها قائمة على الفرض والتخمين فقد تكون وقد لا تكون ، ولكن المؤكد ان هذه النتائج هي ثمرة مبلغهم من العلم مشبعة بكل نوازع النفس الانسانية .
والمطلب الحقيقي للجميع ليس الفرض والتخمين انما الجزم واليقين .
إذاً ، فان المؤهل والمختص بإعطاء المعلومات اليقينية القائمة على الجزم واليقين هو الله جل وعلا ، فهو نفسه الذي قدم لنا محمداً واكد لنا انه الاعلم والافهم والافضل والانسب وهو نفسه صاحب العقيدة والاحرص على مصلحتها ، وهو المعنى تماماً بأن يقدم لنا من تتوفر فيه هذه الصفات على وجه اليقين وفي كل زمن من الازمان من بعد وفاة النبي وحتى تقوم الساعة .
فمنذ اليوم الذي شرع فيه محمد بالدعوة شرع بأمر من ربه بإعداد هذا الذي سيتولى الولاية والقيادة والمرجعية من بعده ، وبين الطريقة التي ستتم بها عملية استكشاف من كانت هذه صفاته .
والخلاصة ان المختص بالتأكد من توافر هذه الصفات هو الله تبارك وتعالى .
القبول بالتكييف الالهي
اذا قبلت الامة بالتكييف الالهي ووافقت على ان فلاناً هو الاعلم وهو الافضل وهو الافهم وهو الانسب ، فانها تعبر عن هذا القبول بالمبايعة فتتفق ارادة الامة مع ارادة الله ، وغاية الامة مع غاية الله فيكون فلان هذا معيناً من الله ومقبولاً من الامة ، فيستمد شرعية وجوده كولي وكقائد من مصدرين :الاول الله الذي كيف صفاته وعينه على اساسها .
والمصدر الثاني الامة التي قبلت بالتكييف الالهي بأن فلاناً هذا هو الاعلم والافهم بالعقيدة وافضل اتباعها لقيادتها فبايعته على هذا الاساس وقبلت به ولياً وقائداً ومرجعاً .
وبهذه الحالة تستقيم امور الامة وعقيدتها وقيادتها السياسية ويقطف الجميع احلى الثمرات واطيبها وتشق الدعوة والدولة طريقهما الى الله بيسر ورخاء وريح مواتية ويتفيأ الجميع في ظلال النعمة الالهية .
رفض التكييف الالهي
اذا لم تقبل الامة التكييف الالهي بأن فلاناً هوالاعلم والافهم والافضل والانسب لقيادتها على وجه الجزم واليقين ، واجتهدت الامة او هكذا خيل اليها بأن فلاناً هو الانسب لخلافة النبي من فلان . فمعنى ذلك هو رفض التكييف الالهي القائم على الجزم واليقين واستبداله بتكييف بشري قائم على الفرض والتخمين .وهذه العملية ( الرفض والاستبدال ) لا تغير من الحقيقة شيئا ، ولا تجعل فلاناً انسب من فلان لكن تحدث عملية انفكاك واقعية فيتولى الولاية والقيادة والمرجعية شخص آخر غير الشخص الذي عينه الله ، وبما ان الولاية والقيادة والمرجعية اختصاص ، وحيث ان الشخص البديل غير مؤهل لهذا الاختصاص فتحدث تبعاً لذلك انهيارات متلاحقة .
وما تزال تتوالى حتى تعصف بالامة وتفرقها بعد وحدة وتذلها بعد عزة ، وتخرج رويداً رويداً من دائرة المنظومة الحقوقية الالهية الى دائرة العقل او دائرة الفرض ، او دائر الشهوة او مزيج من هذه الدوائر مجتمعة ، وتتوقف العقيدة عن العطاء ويحل غضب الله بالامة ، ولا يزول الا بإعادة الامور الى نصابها ووضع القيادة التي كيفها الله وعينها .
ومن الطبيعي ان الله لا يكره المريض على تناول العلاج ولا يجبر الضال على سلوك طريق الهدى ، فما على الله الا ان يقدم العلاج ويرغب المريض فيه ، ويبين طريق الهدى للضال ويشجعه على السير فيه ، فاذا رفض المريض العلاج مع سبق الاصرار فهو المفرط بحق نفسه ، واذا رفض الضال طريق الهدى فجنايته على نفسه وعلى الذين ساروا خلفه . وهذه حال الذين رفضوا العقائد الالهية ورفضوا موالاة الرسل ، او كانوا على استعداد للنظر في العقائد الالهية لكنهم غير مستعدين لموالاة الرسل .
اشكال رفض التكييف الالهي
1 ـ الشكل الاول :القبول بالعقيدة الالهية وعدم القبول بولاية القيادة السياسية كالايمان بنبي بني اسرائيل ورفض موالاة طالوت لانه ليس الاحق بالقيادة حسب رأيهم ، فبين الله سبحانه وتعالى لهم انه زاده بسطة في العلم والجسم ودعمه بالبينات فقبلوه مكرهين وانتهى الرفض الى القبول .
2 ـ الشكل الثاني :
الايمان بالعقيدة الالهية وعدم القبول بولاية القيادة السياسية من بعد النبي بتأويل مفاده ان الله لم يعين هذه القيادة انما عينها النبي حسب اجتهاده كبشر ، وانه لا حرج من مخالفة هذا الاجتهاد واختبار شخص آخر بدلاً من الذي اختاره النبي ، لان الذي اختاره النبي من بني هاشم ، والله قد اعطى الهاشميين النبوة والافضل لمصلحة الجميع ان يهنأ الهاشميون بالنبوة وان يتولى الخلافة غيرهم .
اضف الى ذلك ان هذا الذي اختاره النبي به دعابة ، وعنده زهو بنفسه ، وما زال فتى ، وهنالك من هو اسن منه ، وهم مشيخة قريش . لكل هذه الاسباب آمنوا بالعقيدة الالهية ورفضوا موالاة الرجل الذي كيفه الله واعده رسوله وعينه خليفة من بعده . وهذا ما حدث لعلي بن ابي طالب .
3 ـ الشكل الثالث :
رفض العقيدة الالهية كقانون نافذ للامة ، ورفض موالاة الذي عينه الله .
وهذا الرفض يدخل صاحبه الكفر من اوسع الابواب والعياذ بالله .
المصدر:
راسخون2017