السياسة في عصر الراشدين

بعد أن كان اليمني يفاخر الحجازي، والمضري يفاخر الحميري، ونحو ذلك من مفاخرات القبائل والبطون والأفخاذ، جاء الإسلام فجمع الناس تحت راية واحدة باسم واحد هو «الإسلام»، فقال النبي: «المسلمون إخوة»، وقال في خطبة
Sunday, July 2, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
السياسة في عصر الراشدين
السياسة في عصر الراشدين



 

بعد أن كان اليمني يفاخر الحجازي، والمضري يفاخر الحميري، ونحو ذلك من مفاخرات القبائل والبطون والأفخاذ، جاء الإسلام فجمع الناس تحت راية واحدة باسم واحد هو «الإسلام»، فقال النبي: «المسلمون إخوة»، وقال في خطبة ألقاها يوم فتح مكة: «يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب»،(1)
وقال من خطبة في حجة الوداع: «أيها الناس، إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى».(2)
واقتدى بالنبي خلفاؤه الأولون، لا سيما عمر بن الخطاب، فإن جبلة بن الأيهم ملك غسان بعد أن أسلم، اتفق وهو يطوف بالكعبة أن فزاريًّا وطئ إزاره فانحلَّ، فرفع جبلة يده وهشم الفزاري، فشكاه إلى عمر فأراد أن يهشم أنف جبلة، فقال: «وكيف ذلك يا أمير المؤمنين وهو سوقة وأنا ملك؟» فأجابه عمر: «إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله بشيء إلا بالتقى والعافية»، فلم يحتمل جبلة ذلك فعمد إلى الفرار.(3)
فيؤخذ من ذلك أن الجامعة الكبرى إنما هي الإسلام، ولكنهم كانوا يجعلون للعرب مزية على سواهم من الأمم؛ لأنهم قوام الإسلام، وأوصى عمر بن الخطاب بأهل البادية خيرًا؛ لأنهم أصل العرب ومادة الإسلام(4)
وقال: «إياكم وأخلاق العجم»، والإسلام نهضة عربية جمعت العرب على العجم. وعمر أول خليفة فضل العرب وجعل لهم مزية على سواهم ومنع من سبيهم، ومن أقواله: «قبيح بالعرب أن يملك بعضهم بعضًا، وقد وسع الله — عز وجل — وفتح الأعاجم»، وفدى سبايا العرب من الجاهلية والإسلام إلى أيامه(5) عملًا بالحديث: «لا سبأ في الإسلام».
وكان عمر لا يدع أحدًا من العجم يدخل المدينة(6) وهو الذي قسم خيبر بين المسلمين وأخرج اليهود منها، وقسم وادي القرى وأجلى يهود نجران إلى الكوفة(7) لتخلو جزيرة العرب من غير العرب. وكان كثير العناية بالجامعة العربية يوصي العرب بحفظ أنسابهم لئلا تضيع عصبيتهم، ومن وصاياه: «تعلموا النسب ولا تكونوا كنبط السواد إذا سئل أحدكم عن أصله قال: من قرية كذا …».(8)

الجامعة العربية

ثم إن عمر، مع حرصه على الجامعة العربية واختصاص جزيرة العرب بها، قد حرض العرب المسلمين على سكنى العراق والشام فقال: «ليست الحجاز لكم بدار إلا على النجعة … سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها»(9) لعلمه أن في العراق والشام عربًا يتحدون معهم وينصرونهم. وكان عرب العراق ناقمين على الفرس من أيام دولتهم، لما كانوا يسومونهم إياه من الاضطهاد. وكانت ديانة بعض عرب العراق والشام النصرانية، ولكنهم فرحوا بالمسلمين وكانوا ينصرونهم للعصبية العربية وليس للدين. وخصوصًا عرب العراق فإنهم حاربوا مع المسلمين ودلوهم على عورات الفرس — فأبو زبيد الطائي حارب مع المسلمين في واقعة الجسر حتى قتل وهو نصراني، وإنما حارب حمية للعرب. وجاء المسلمين يوم واقعة البويب أنس بن هلال النمري في جمع عظيم من النمر — وهم نصارى — وقالوا: «نقاتل مع قومنا»،(10) وكذلك فعل جماعة من تغلب وغيرهم حمية للجامعة العربية، بقطع النظر عن الدين.
وكثيرًا ما كان عرب الشام والعراق عونًا للمسلمين في حروبهم، يرشدونهم وينصحونهم ويحملون إليهم أخبار أعدائهم. فلما خرج الوليد بن عقبة غازيًا لقيه الروم فقاتلوه، فجاءه رجل من العرب نصراني وقال له: «إني لست من دينكم ولكنني أنصحكم للنسب، فالقوم مقاتلوكم إلى نصف النهار، فإن رأوكم ضعفاء أفنوكم وإن صبرتم هربوا وتركوكم»(11) وقد نفعته هذه النصيحة.
ولم يكن عمر يجهل تلك الرابطة، فحرض المسلمين على فتح الشام والعراق. ولما رأى ما كان من نصرة عرب العراق لهم عرف فضلهم، فلما هم المسلمون بوضع الجزية على أهل الذمة وفي جملتهم عرب تغلب وإياد والنمر — وهم نصارى — أبى هؤلاء الجزية، وبلغ عمر ذلك فاستشار أصحابه فقال له بعضهم: «إنهم عرب يأنفون من الجزية، وهم قوم لهم نكاية فلا تعن عدوك عليك»، فوافق ذلك ما في نفسه ففرض عليهم الصدقة كما تفرض على المسلمين، ولكنه شرط عليهم أن لا ينصروا أولادهم.(12)
كل ذلك محافظة على الجامعة العربية، وكان يُعدُّ ذلك حقًّا واجبًا. فلما سار الوليد بن عقبة لفتح العراق والجزيرة، انضمت إليه عربها النصارى، إلا قبيلة إياد، فإنهم تحملوا إلى بلاد الروم، فكتب الوليد إلى عمر بذلك، فكتب عمر إلى ملك الروم: «بلغني أن حيًّا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك، فوالله لتخرجنه إلينا أو لنخرجن النصارى إليك» فأخرجهم ملك الروم.(13)

الانسياح في الأرض

فعمر حرض العرب على فتح الشام والعراق توسيعًا للجامعة العربية، والاستعانة بها على الروم والفرس، ولكنه لم يأذن لهم بفتح ما وراءهما إلا في السنة السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، وهو ما يعبرون عنه بالانسياح في الأرض. فكانوا يتطلبون الفتح وقد طابت لهم الغنائم واستلذوا النصر، فإذا استأذنوه في فتح بلد مما وراء ذلك لم يأذن لهم، كما وقع لعمر بن العاص لما أراد فتح مصر، وكان قد عرفها من أيام الجاهلية، فلما فتحت الشام والعراق جاء إلى الخليفة عمر ورغَّبه في فتحها وقال له: «إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونًا لهم، وهي أكثر الأرض أموالًا وأعجز عن القتال والحرب» فلم يجبه عمر، ولما ألح عليه أطاعه وهو يتردد وقال له: «سر … إني مستخير الله في سيرك، وسيأتيك كتابي إن شاء الله تعالى، فإذا أدرك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها أو شيئًا من أرضها فانصرف، وإلا أن دخلتها قبل أن يأتيك كتابي فامض لوجهك واستعن بالله واستنصره».
فسار عمرو بجنده مسرعًا خوفًا من أن يأتيه كتاب الخليفة بالرجوع. فوصله كتابه في بلد قرب العريش خارج حدود مصر، فلم يفتح الكتاب حتى نزل العريش وهي من مصر، ففضَّ الكتاب وإذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الخليفة عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص عليه سلام الله تعالى وبركاته، أما بعد فإن أدركك كتابي هذا وأنت لم تدخل مصر فارجع عنها، وأما إذا أدركك، وقد دخلتها أو شيئًا في أرضها فامضِ واعلم أني ممدُّك»، فمضى حتى فتح مصر.
ولما فتح المسلمون الأهواز قال عمر: «ليت بيننا وبين فارس جبلًا من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم». ومن هذا القبيل نهيه المسلمين عن اجتياز البحر. وكان إذا هم المسلمون بالنزول في بلد أو إنشاء معسكر في البلاد المفتوحة أوصاهم أن لا يقيموا في مكان يفصل بينه وبين المدينة (مركز الخلافة) ماء، حتى إذا أراد أن يأتيهم أتاهم على راحلته، مما يدل على رغبته في العصبية العربية على أن يكون مركزها في بلاد العرب. ومع ذلك فلما لم ير بدًّا من الانسياح في الأرض أذِنَ لقواده بالفتح، ولكنه ظلَّ على رأيه في القرشيين على الخصوص، فحصرهم في المدينة ومنعهم من الخروج وقال: «أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد»، فإذا جاء الرجل منهم يستأذنه في الغزو أجابه: «قد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يبلغك، وخير لك من غزوك اليوم أن لا ترى الدنيا ولا تراك». كان يفعل ذلك بالمهاجرين من قريش فقط، فلما ولي عثمان خلي عنهم، فلحق معظمهم بمعاوية في الشام وانتشروا في البلاد.(14)
فسياسة عمر بن الخطاب في أوائل دولته كانت تقضي ببقاء العرب محصورين في جزيرة العرب وما يليها من الشام والعراق، وأن يختص قريشًا بالإقامة في المدينة؛ لأنها مركز الإسلام وهم أساسه ومنشأه، على أنه لم يستطع وقف تيار الفتح فلم ير بدًّا من الإذن في الانسياح.
فالعصبية التي قام بها الإسلام هي الجامعة العربية؛ ولذلك كان اللفظان مترادفين في ذلك الحين، وخصوصًا عند الأمم التي خضعت لسلطان المسلمين، فكانوا إذا قالوا: «العرب» أرادوا «المسلمين»، وبالعكس. ولفظ «طيبوتا» عند السريان يدل على العرب والمسلمين على السواء، والفرق بين هذه الجامعة قبل الإسلام وبعده أن العرب كانوا في الجاهلية عصبيات عديدة تختلف باختلاف الأنساب، فأصبحوا بالإسلام عصبية واحدة تجمعها كلمة العرب، وتركوا ذكر الآباء والأجداد عملًا بما يقتضيه روح الإسلام. وكانوا في جاهليتهم يتفاضلون بالأنساب، فأصبحوا في الإسلام يتفاضلون بالتقوى والجهاد في سبيل الدين، فنشأت فيهم جامعات إسلامية فرعية لم يكن لها ذكر من قبل.

طبقات عربية إسلامية

لما قام النبي صلی الله عليه وآله وسلم بالدعوة الإسلامية، احتاج إلى من يسمع دعوته وينصره، فاجتمع حوله جماعة من قبيلته صدقوه ونصروه، وهاجر بعضهم إلى الحبشة وهاجر الآخرون إلى المدينة معه فعُرفوا بالمهاجرين، وهم أقدم الطبقات الإسلامية. ولما جاء المدينة وأقام فيها نصره أهلها وآمنوا بدعوته فسماهم «الأنصار» وهم طبقة أخرى، والطبقتان معًا تسميان «الصحابة» أي: الذين صحبوا النبي أو عرفوه. وتفرع من الصحابة جماعات تعرف كل منها بجامعة خاصة لأحوال خاصة كان لها تأثير في نصرة الإسلام أو نشره. فواقعة بدر كان لها شأن عظيم في تأييد الإسلام، فامتاز الصحابة الذين شهدوها عن سائر المسلمين، ونسبوا إليها فسموا «البدريين» أو «أهل بدر»، وكذلك واقعة القادسية التي كانت عنوان فتح العراق وفارس، فإن الذين شهدوها عرفوا بأهل القادسية. وقد جعل المسلمون لكل من هذه الطبقات أو الجماعات امتيازات خاصة، وفضلوا أهل بدر وأهل القادسية بالعطاء على سائر المسلمين.
ويقال نحو ذلك في من شهد فتح مكة أو سواها من الوقائع الأخرى التي كان لها شأن في الأحزاب الإسلامية، كواقعة الجمل وواقعة صفين، فإن شيعة علي يفضلون من رجالهم الذين شهدوا واقعة الجمل؛ لأنهم انتصروا فيها ويسمونهم «أصحاب الجمل»، وشيعة بني أمية يفضلون «أصحاب صفين» لمثل هذا السبب، وقد زاد معاوية عطاء هؤلاء عن سائر أصحابه.
على أن الصحابة يتفاضلون أيضًا في السبق إلى الهجرة، أو إلى البيعة، ومنهم أصحاب بيعة العقبة وأصحاب الغار. والذين لهم صحبة قبل بيعة الرضوان يفرقون عمن صاحب بعدها، ونحو ذلك مما يطول شرحه. ناهيك بالمناصب التي اقتضتها الأحوال الدينية أو الإدارية، كالحفاظ والقراء والمؤلفة قلوبهم والعمال والقضاة والتابعين وتابعي التابعين وغيرهم.
على أن عصبية النسب لم تذهب بعد الإسلام ذهابًا تامًّا، ولكنها تحولت إلى وجهة دينية، فأصبح أشرف الأنساب عندهم، أقربها إلى قبيلة النبي «قريش» فالنسب القرشي أشرف الأنساب، وللقرشيين التقدم في المناصب والمراتب والعطاء وخصوصًا بعد اشتهار الحديث: «الأئمة من قريش»(15)
فاعتقدوا الفضل للقرشيين على الناس كافة في كل شيء، حتى في أحوال الحياة والولادة فقالوا: «لا تحمل لستين إلا قرشية، ولا تحمل لخمسين إلا عربية»(16)وإنه لا تكون بنت امرأة قرشية أمة(17) وأن القرشي لا يتزندق(18)
وأنه لا ينبغي للقرشي أن يستغرق في شيء من العلم غير الأخبار(19) وظلت الرياسة في قريش لا ينازعهم فيها منازع إلى عهد غير بعيد.
وكان لكل من طبقات الصحابة المهاجرين والأنصار شأن خاص وحزب خاص، ولا سيما في أيام بني أمية، إذ ذهبت دهشة النبوة وعاد الناس إلى عصبية الجاهلية، فاختصم المهاجرون والأنصار وتذكروا ما كان بين العدنانية والقحطانية من التفاخر — والمهاجرون من العدنانية (مضر) والأنصار من القحطانية (الأوس والخزرج) — فعادوا إلى المنافسة وغلب انحياز كل من الطائفتين إلى أحد الأحزاب التي نشأت في ذلك العهد، فكان الأنصار مع علي ومعظم المهاجرين مع معاوية، وعادوا إلى المهاجرة والمفاخرة بالأشعار وغيرها.
وكان الأنصار أهل المدينة من أشجع الناس وهم أهل الشورى، يعقدون الإمامة، وحكمهم جائز على الأمة وهم شيعة علي وسائر أهل البيت. فلما قام معاوية يطلب الخلافة لنفسه كانوا من أقوى مقاوميه، فكان رجاله يكرهونهم ويسعون إلى إذلالهم، وكثيرًا ما كانوا ينكرون عليهم هذا اللقب - يروى أن بعض الأنصار استأذنوا للدخول على معاوية في إبان خلافته، فدخل الحاجب وقال: «هل تأذن للأنصار؟»، وكان عمرو بن العاص حاضرًا فقال: «ما هذا اللقب يا أمير المؤمنين؟ أردد الناس إلى أنسابهم».
المصادر :
1- ابن هشام ٢١٩ ج٢.
2- البيان والتبيين للجاحظ ١٦٤ ج١.
3- الأغاني ٤ ج١٤.
4- ابن الأثير ٢٥ ج٣.
5- ابن الأثير ١٨٦ ج٢.
6- المسعودي ٢٩ ج١.
7- ابن الأثير ٢٨٠ ج٢.
8- ابن خلدون ١٠٩ ج١.
9- ابن خلدون ١٢٢ ج١.
10- ابن الأثير ٢١٥ ج٢.
11- الأغاني ١٨٧ ج٤.
12- المعارف ١٩٣.
13- ابن الأثير ٢٦٢ ج٢.
14- ابن الأثير ٩٠ ج٣.
15- العقد الفريد ٤٠ ج٢.
16- الأغاني ٨٨ ج١٥.
17- الأغاني ١١٠ ج١٤.
18- الأغاني ٦٠ ج١٤.
19- البيان والتبيين للجاحظ ١٥١ ج١.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.