
منذ أن خلق الله ـ تبارك وتعالى ـ آدم عليهالسلام وحواء كانت ثمة فوارق بينهما حيث خلق الله كل لغايته وهو الذي خلق كل شيء فقدر وهدى ....
ومنذ أن هبط آدم عليهالسلام وحواء وكان ثالثهم على الأرض إبليس ـ لعنه الله ـ وأخذ ذرية النبي وزوجه تتكاثر على الأرض سعى إبليس ليفسد بينهم ، ويزين لهم ، ويقلب لهم المفاهيم ، ويريهم المصلحة مفسدة والمفسدة مصلحة ، وابناء آدم وبنات حواء منهم من تبع إبليس عالماً عامداً ، ومنهم من غرته أمانيه فانزلق في صراط الجحيم ، وراح يهوى إلى الحضيض ، ويلتهب كلّ يوم في لظى الأمنيات من جديد ، ويغمس رأسه في ألوان الشهوات يتلذذ بها ، ويأبى أن ينيط الغشاوة عن عينه لئلا تذوب أحلامه التي قد يتصورها برداً يطفى عنه سعير الشهوات.
هكذا انحدر خط الضلال وهو يجرف كلّ ما يجد في طريقه ، ويحاول جرجرت المتفلّتين من خط الهدى ، وصار تلاميذ إبليس يتفوقون على استاذهم أحياناً (فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) حيث أخذوا ينظرون لسقوطهم ويعرضونه في زي الأصالة والضرورة والتجدد والتطور ومماشاة عامل الزمن والانسجام مع الجغرافيا ، وصار الحرام عادة وسنة اجتماعية يستسيغها الطبع المريض ، تماماً كما يستسيغ المعتاد الافيون ، فارتفعت الصرخات تنادي كلّ يوم بجديد ، تحت شعار جديد ، وفي إطار جديد ، تحفه الزخارف والمؤثرات بما يناسب ذلك العصر.
وكانت المرأة منذ اليوم الأول لحركة الضلال سلاحاً وضحية ، ولطالما انخدعت بالكلمات التي تناغي فيها المواقع التي صورها لها المضللون أنها نقاط ضعف وإنها بؤرة حقارة وأنها ... فوثبت لتخلق المستحيل في الفعال ، وتقف أمام التحدي بكل ما أمكن وما لم يمكن! لتثبت للآخرين أنها كما صورها المضللون ... تسحق الذات لتستجيب لللذات ، وتخالف الطبيعة والفطرة التي فطرها الله عليها لتقول : أنا كما أنتم ... ثم ماذا؟
إنها نسيت أنّ الله خلقها وزوّدها بما تحتاج ، وشرع لها من الدين أحكاماً وقوانين ، ووضع لها مناهج كاملة لإعدادها وتربيتها وحفظ مصالحها ورعاية شؤونها ورقيها وبناء كيانها.
ويمكننا مشاهدة المرأة الحرة الكريمة السعيدة من خلال نتاج التربية الإسلامية الرائعة التي قدمها لنا المجتمع في صدر الإسلام من نساء رباهن الوحي وتأدبن بآداب النبوة.
كما أنّ ثم نموذج منحط عاصر عهد الرسول ، بل وعاش في بيت الوحي ومختلف الملائكة إلّا أنّه ظل يصغي بوجوده إلى الشيطان ويأبي الانفعال بمواعظ النبي الكريم ، ولقد ضرب الله مثلاً لكلتا الطائفتين.
فهذه خديجة بنت خويلد أُم المؤمنين الأُولى ـ صلوات الله عليها ـ تعيش مع النبي وتبقى ذكرى حلوة تنهمر لها دموع سيد الكائنات كلما ذكرت عنده فيقول : خديجة ومن مثل خديجة؟! وهكذا دخلت قلب أشرف خلق الله ....
إنها عاشت الرسالة تجسيداً .. قولاً وفعلاً وروحاً ومعنى ، وفي لحظات عمرها الأخيرة ، وهي تشد الرحال إلى المليك المقتدر ، إلى حيث قصرها الذي وعدها الله
من قصب لا لغوب فيه ولا نصب ، يدخل عليها رسول الله صلىاللهعليهوآله ويقول لها : بلغي شريكتك مريم ابنة عمران عني السلام : فتتبسم في وجه النبي صلىاللهعليهوآله وتقول : بالرفاء يا رسول الله صلىاللهعليهوآله.
وكذلك أُم البنين عليهاالسلام حيث كانت تقدّم أبناء الصديقة فاطمة الزهراء عليهاالسلام على أبنائها وهي التي علمتهم أن لا سواء بينكم وبين الحسن والحسين وزينب ، فموتوا دونهم ، ولا تقولوا أن أبانا أمير المؤمنين عليهالسلام ... وقدمتهم بكلّ سخاء لتنال بذلك رضا الله ورضا نبيه ، وتكون مبيضة الوجه غداً يوم القيامة بين يدي فاطمة الزهراء عليهاالسلام ....
فليس للغيرة موضع في حياة هؤلاء النسوة ؛ لأنهن يقطعن رحلة العمر في ظلال الشريعة التي أرادها لهن الله ـ جلّ وعلا ـ وقد حرم عليهن الغيرة وقال على لسان نبيه والأئمة الطاهرين أنّ «غيرة الرجل إيمان» و «غيرة المرأة كفر» وأنّ الغيرة في المرأة من الحسد ... الحسد .. الذي أخرجها من الجنة من قبل وهبط بها وبزوجها إلى دار الابتلاء والامتحان والسعي والكد والكدح في سبيل تأمين العيش في الدنيا وفي الآخرة أمان.
بخلاف الانموذج الآخر حيث عاشت تقول في كلّ مرة : «ما غرت من امرأة كما غرت من خديجة» ولطالما كانت تصايح «فاطمة عليهاالسلام» لإنها كانت ابنة من يحبها زوجها ؛ أو لأن فيها شبهاً من أُمها ، وكان النبي الكريم صلىاللهعليهوآله يتذكر بها أيام أُمها ، ولطالما تنقّصت من «خديجة» أمام النبي صلىاللهعليهوآله ووصفتها بأنها عجوز ، وحاولت أن تلصق بها ما لربما تحسبه يهوّن من شأنها ، والنبي صلىاللهعليهوآله يدافع عنها ويقابلها بما لا ترتاح له ، فيقول لها : «صدقتني حيث كذبني الناس ، وآوتني حيث طردني الناس ، وأعطتني حيث منعني الناس ، ورزقني الله منها الولد وجعلكن عقيماً».
وحاربت أبناء رسول الله صلىاللهعليهوآله ونصبت لهم العداء وقالت : «لا تدخلوا بيتي من لا أحب» تقصد بذلك ريحانة النبي صلىاللهعليهوآله ومن قال في حقه رسول الله صلىاللهعليهوآله :
إني أحبه وأحبّ من يحبه وأبغض من يبغضه ، وقال : إنه سلم لمن سالمه وحرب لمن حاربه وعدو لمن عاداه.
وهتكت ستر رسول الله صلىاللهعليهوآله وخرجت تحارب إمام زمانها لتستريح من لهيب الغيرة الذي كان يصهر كيانها وهي ترى علياً أمير المؤمنين عليهالسلام زوج الصديقة المحبوبة ، والمقدّم على غيره حيث يناجيه زوجها من دونها ومن دون غيرها ... ومن ثم جرتها الغيرة المشؤومة للتشكيك في عدالة سيد المرسلين وأعدل الخلق أجمعين حيث تخرج ـ ليلة النصف من شعبان ـ لتبحث عنه في سواد الليل البهيم وتظن ـ والعياذ بالله ـ أنه تركها في ليلتها وخرج إلى بعض نساءه ، فتجده صلىاللهعليهوآله ساجداً في مسجده الشريف.
فيما نرى أُم البنين عليهاالسلام تزف أولادها الأربعة إلى أعراس المنية وهي تعلم أنهم سيسبحون كالأقمار في غدير الدماء ، وتودّع الحسين عليهالسلام وزينب عليهاالسلام الذين قدمتهما على نفسها وأولادها امتثالاً لأمر الله ، وتتعامل مع الحسين باعتباره الإمام المفروض عليها طاعته ، ومع أنها سرحت قلبها معهم وبقيت ترفرف بروحها على ساحة المعركة وتتسقط أخبارهم من القادمين ، ويا ليتها كانت حاضرة فترى مفاخرهم وبطولاتهم فيهون عليها الخطب ، ولربما كان أهون عليها من تحمل الفراق ... وتحمل معاناة الانتظار ومناشدة الركبان.
لقد خرجت عائشة بعد وفاة النبي وهتكت حرمته وخالفت أمر ربه وكابرت صريح القرآن ، وقعدت أُم البنين عليهاالسلام عن الخروج مع الإمام المعصوم عليهالسلام لأنها أصغت بإذن المؤمن المطيع لقوله تعالى : (وقرن في بيوتكنّ) وهي تعتقد أنّ الله أمرها من خلال هذه الآية باعتبارها زوجة سيد الوصيين بما أمر به نساء سيد المرسلين ، ولعل هذا هو السبب أو جزء السبب من وراء بقاءها في المدينة وصبرها على مضض وتركها الخروج مع الركب الحسيني ....
إنها لم تخرج بجسدها إلى كربلاء إلّا أنها أخرجت أفلاذ كبدها واقترن اسمها من خلال موقف أبناءها بقضية الطف ، وصار اسمها مقروناً باسم الحسين وثورته ، ومن اقترن اسمه باسم الحسين عليهالسلام بأي شكل من الأشكال ولأي سبب من الأسباب كتب له الخلود حتى أنك لا تكاد تسمع لباقي نساء أمير المؤمنين عليهالسلام ذكر إلّا في ظلال ذكر أُم البنين عليهاالسلام ....
وليس ثمة «صدفة» تتحكم في الكون والحياة ، فكلّ شيء عنده بمقدار ، وقد ورد في الحديث ـ كما في الخصال ـ أنّ الأسماء تنزل من السماء ، فلا شك أنّ لهذه السيدة العظيمة خصيصة خصها الله بها حتى اختار لها هذا الاسم المبارك وجعلها تشارك الصديقة في اسمها ، قال الكجوري في الخصائص الفاطمية :
«الحمد لله الذي جعل اسم فاطمة في كلّ بيت من بيوت هذه الأُمة سبباً للبركة ونزول الرحمة ، وستبعث الفواطم ـ غداً يوم القيامة ـ من التراب رافعات الرؤوس فخراً ومباهاة ، لأنهن أُمهات السيد المختار صلىاللهعليهوآله وسيمات فاطمة الزهراء عليهاالسلام فيقلن فاطمة أفضل منّا ، ونحن أفضل من باقي النساء لشبه اسمنا باسمها ، وفي هذا الاشتراك الاسمي مزية فوق المزايا ورتبة فوق الرتب ... فإذا نودي يوم القيامة «فاطمة» قام ما لا يحصى عدداً من النساء ، ولما كان الاسم الشريف «فاطمة» يتضمن معنى الشفاعة ، فكيف ترضى السيدة أن تحترق المرأة وهي في عصمتها وسمّيتها ، فتكرم لاسمها وتنال الشفاعة وتنجو من أهوال المحشر ...».
لقد جعل الله سميت فاطمة الزهراء وأُم أشبال أمير المؤمنين عليهالسلام باباً من أبواب رحمته ، ما قصدها أحد إلّا ونال قصده ، وما توجه بها إلى الله ـ عزّ وجل ـ متوجه إلّا أعطى سؤله ، ومن شاء فليتوسل إلى الله بها ليعلم صدق ذلك.
وما ذاك على الله بعزيز فإن الله ـ تعالى ـ خلق الخلق من أجل محمد وآل محمد «صلوات الله عليهم أجمعين» وقد ذابت هذه المخدرة المكرمة في ولائها لهم ، وتمسكت بهداهم ، وأقتدت بآثارهم حتى صارت من أولياء الله المقربين عنده وعندهم ، فارتفعت إلى أعلى عليين من خلال سبيل الكمال الذي رسمه الله لها ولجميه خلقه ، فكانت أُم البنين عليهاالسلام من السابقين في هذا الميدان حتى صارت ذا جاء عريض عند أهل البيت عليهمالسلام وعند بارئهم.
وبالرغم من أنها كانت ولا زالت من أبواب الله ، وأنها كانت ولا زالت من أبرز أعلام نساء التاريخ ، إلّا أنّ من المؤسف له ، فإن التاريخ لم يعطها حقها ـ كما هو شأنه مع الأبرار ـ فإنك لا تكاد تعثر في المصادر عن شيء فيه تفصيل عن حياة هذه الكريمة عن تاريخ ولادتها ... طفولتها ... شبابها ... كم هو عمرها يوم دخلت بيت أمير المؤمنين عليهالسلام ... تفاصيل حياتها مع زوجها ومع أبناء رسول الله ... فإنها لا شك كانت زوجة مثالية رغم أنها لم تكن معصومة كفاطمة عليهاالسلام ، ولا ريب أنها كانت من أبرز مصاديق «عمال الله في الأرض» وفق روايات أهل البيت عليهمالسلام وأدبياتهم الخاصة بالحياة الزوجية ... فكيف عاشت مع أمير المؤمنين عليهالسلام؟!
وهكذا تفاصيل حياتها مع أبنائها ـ كأُم ـ ربت أفضل نموذج يمكن أن يقدمه القرآن والعترة الطاهرة من الذرية الصالحة ... وكيف عاشت بعد أمير المؤمنين عليهالسلام وبعد واقعة الطف؟!
تغافل المؤرخون والرواة عن متابعة تفاصيل حياة امرأة تعد لوحدها «أمة» و «مدرسة» متكاملة للأجيال ، وخاضوا في جزئيات حياة حفنة من السفلة والأوغاد ... ولعل من جملة الأسباب الكامنة وراء ذلك :
أنها كانت زوجة أمير المؤمنين عليهالسلام ... عاشت في كنفه وفي ظل بيت ضم من قبلها فاطمة عليهاالسلام ومن ثم ضم الحسن والحسين وزينب ، ومن غمرته أنوار الشمس تضاءل شعاعه مهما كان نيّراً ...
وأنها كانت من المخدرات المستورات ولا يمكن للراوي والمؤرخ أن يخرق خدرها ويتصيد أخبارها ، فكيف يروى لنا التاريخ قصة محجوبة لا تصل العيون إلى ظلها وأشباح شخصها؟!
أضف إلى أنها لم تكن من بنات الطواغيت الذين يطبل لهم المؤرخ المتملق أو الراوي المتزلّف ، ودخلت بيت أمير المؤمنين عليهالسلام الذي ظلمه التاريخ في كلّ تفاصيل حياته وبكلّ ما يمت إليه بصلة من قريب أو بعيد «وقد أخفى العدو فضائله حنقاً وحسداً وأخفاها محبه خوفاً وخرج من بين ذين وذين ما طبق الخافقين» ، وأُم البنين عليهاالسلام وأبناؤها مفردة من المفردات المنسوبة لأمير المؤمنين عليهالسلام.
ونسأل الله الرؤوف الرحيم أن يرزقنا حبّ أُم البنين ، وحبّ أبناءها وزوجها أمير المؤمنين وزوجه البتول وذريتهما المعصومين وجدّهم سيد المرسلين ، ويرزقنا شفاعتهم والبراءة من أعدائهم ويغفر لنا ولوالدينا ومن ولدا ولجميع المؤمنين والمؤمنات ويعجل فرج قائمهم ويجعلنا من جنده وحزبه ألا إن حزب الله هم المفلحون.
سيد علي جمال أشرف