مخازي الحكّام الطغاة

أنّ الذي يلاحظ صفحات التاريخ يجدها قد ضمّت بين طيّاتها للعديد من الأحداث التي لاتفيد البشرية في حياتها شيئاً. فالكثير من كتب التاريخ ملئت بمخازي الحكّام الطغاة وكيف أنّهم كانوا يحيون لياليهم في اللهو والمجون وإعاثة
Sunday, September 3, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
مخازي الحكّام الطغاة
 مخازي الحكّام الطغاة



 


أنّ الذي يلاحظ صفحات التاريخ يجدها قد ضمّت بين طيّاتها للعديد من الأحداث التي لاتفيد البشرية في حياتها شيئاً. فالكثير من كتب التاريخ ملئت بمخازي الحكّام الطغاة وكيف أنّهم كانوا يحيون لياليهم في اللهو والمجون وإعاثة الفساد في البلاد الإسلامية. بل إنّ بعض مقاطع التاريخ خصّصت حول سيرة المجهولين الذين لم يكن لهم أيّة خدمة للبشرية ، وإنّما لمجرّد أنّهم كانوا من حاشية السلاطين أو من مريديهم.
ومع الأسف الشديد مقابل افراط كهذا في تسليط الأضواء على بعض الشخصيات الذين لا تستفيد البشرية من معرفتهم شيئاً نجد أنّ الكثير من عظماء التاريخ قد بخسوا حقّهم وضاعت سيرتهم المعطاءة التي كانت مركز إشعاع واستفادة للناس. وفي واقع الأمر إنّ المسؤولية في ذلك تعود إلى كتّاب التاريخ الذين خضعوا لأهوائهم واستسلموا لضغوط الحكومات التي ظلّت تدعوهم إلى طمس الحقائق المفيدة التي يمكن أن تخدم الأجيال الصاعدة عبر العصور المختلفة.
ومن الذين بخسوا حقّهم وضاعت تفاصيل سيرتهم الوضّاءة هم أبناء المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام حيث تعمّد الكثير من مؤرخي التاريخ بإيعاز من سلاطين الجور في إقصاء الحقائق المهمّة من حياتهم عملوا جاهدين من أجل تضييع كلّ ما يرتبط بهم من قريب أو بعيد. بحيث إنّ الباحث اليوم لا يجد من تاريخ بعضهم شيئاً يذكر سوى بعض المقتطفات البسيطة التي لا تتجاوز الأسطر القليلة.
قال رسول الله صلى الله عليه واله : «النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأُمّتي» (١).
وقال رسول الله صلى الله عليه واله : «النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أما لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض» (٢).
وقال صلى الله عليه واله : «النجوم أمان لأهل الأُض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف» (٣). وقد عدّ الحاكم الرواية صحيحة وصحّحها آخرون ونقلوها عنه.
وقال الشيخ الصبان في كتاب «إسعاف الراغبين» بعد ذكره لهذه الرواية : قد يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٤) أُقيم أهل بيته مقامه في الأمان لأنّهم منه وهو صلى الله عليه واله منهم عليهم السلام (٥).
ونقل الحاكم عن طريق أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه قال : «النجوم أمان لأهب السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء وإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض» (٦). وعلى هذا الأساس فأهل بيت النبي صلى الله عليه واله في كلّ زمان ومكان نجوم نورانية متألّقة في سماء الفضيلة ينيرون درب الهداية للسائرين.

في حدود عام ٥٦ ـ ٥٧ شمسي الموافق عام ١٩٧٨ م تقريباً مرض أحد أبنائي مرضاً شديداً ألمّ به حتّى أيقنّا بأنه سيُعاق في المستقبل على أقلّ التقادير ، ولكن مع ذلك توسّلنا بعزيزة الحسين عليه السلام صاحبة الهمّ والغمّ السيّدة رقيّة عليها السلام بعدما راجعنا الطبيب وعملنا طبق إرشاداته ، فنذرت لله تعالى نذراً في كتابة كتاب عن هذه الماجدة الصغيرة إن قام ولدي من مرضه بسلام ، والحمد لله فببركة عنايات هذه الكوكبة الماجدة من آل محمّد صلى الله عليه واله شُفي ولدي وكأن شيئاً لم يكن .
السيّدة رقيّة في المستندات التأريخية
أقدم المصادر التأريخية حول السيّدة رقيّة عليها السلام :
ذكر المرحوم الحاج آية الله الميرزا هاشم الخراساني (المتوفّى عام ١٣٥٢ ه) في منتخب التواريخ : قال لي العالم الجليل الشيخ محمّد علي الشامي وهو من جملة العلماء العاملين في النجف الأشرف : أنّ جدّ أُمّي السيّد إبراهيم الدمشقي الذي ينتهي نسبه إلى السيّد المرتضى علم الهدى كان في زمانه قد تجاوز عمره التسعين ويُعدّ في عصره من الأشراف والأجلّاء وكان عنده ثلاث بنات فقط وليس له أي ذكر.
وفي واحدة من الليالي رأت ابنته الكبيرة السيّد رقيّة عليها السلام في عالم الرؤيا وقد طلبت منها أن تخبر والدها أنّ الماء قد تسرّب إلى قبرها ولحدها ممّا تسبّب في إحداث ضرراً في بدنها الشريف وطالبتها أن تقول له بضرورة إصلاح القبر طالباً ذلك من والي الشام ، فامتثلت الفتاة لذلك إلّا أنّ السيّد خشي من أهل السنّة فلم يبدِ اعتناءً بهذا المنام.
وفي الليلة الثانية تكرّر الأمر مع ابنته الوسطى وأخبرته بذلك أيضاً إلّا أنّ السيّد بقي متردّداً وخائفاً ، وفي الليلة الثالثة جاءت السيّدة رقيّة عليها السلام لابنته الصغرى في عالم الرؤيا وجرى ما جرى سابقاً ، إلى أن رأى السيّدة رقيّة في المنام في الليلة الرابعة وهي تقول له معاتبة : لماذا لم تخبر الوالي؟!
وفي الصباح انطلق السيّد إلى والي الشام وحدّثه بالرؤيا وما حصل معه ومع بناته ، فأمر الوالي علماء السنّة والشيعة بالغُسل وارتداء أنظف ثيابهم ثمّ قال لهم : إنّا سنعطي مفتاح القبر لكلّ واحد منكم ، وكلّ مَن فُتح القفل بيده فهو الذي ينزل إلى القبر ويُخرج الجسد الطاهر ليتمّ إصلاحه (يحتمل أنّ الوالي قام بذلك لأجل التأكّد من صحّة الرؤيا.)
وفعلاً فقد اغتسلوا كلّهم ولبسوا أنظف ثيابهم وذهبوا برفقة الوالي إلى القبر الطاهر وحينها لم يعمل المفتاح عمله إلّا بيد السيّد إبراهيم ، وحينما حاولوا نبش القبر وحفره لم تعمل الفؤوس إلّا بيد السيّد إبراهيم وفعلاً فقد حفروه بعدما أخرجوا الناس من الحرم الشريف ثمّ شاهدوا جسد هذه الطاهرة طريّاً وهي مكفّنة إلّا أنّ الماء قد تجمّع في لحدها. فحمل السيّد الشريف هذه المخدّرة الطاهرة بيديه وأخرجها من اللحد وحملها على ذراعيه وخرج بها وهكذا بقيت على ذراعيه وهو يهمل عليها الدموع الجاريات على ما نزل بهذه الماجدة الصغيرة ، فاستمرّ الوضع ثلاثة أيّام كان السيّد خلالها لا يترك هذه السيّدة العظيمة إلّا في أوقات الصلاة فكان يضعها على شيء طاهر ونظيف ويؤدّي صلاته ثمّ يعود ليحملها مرّة أُخرى ، ومن العجائب أنّ السيّد طيلة هذه الفترة ما كان بحاجة إلى الأكل والشرب والوضوء ببركة السيّدة رقيّة عليها السلام وهي إحدى كراماتها حتّى انتهوا من إصلاح القبر ، وقام السيّد ليدفنها ولكنّه طلب من الله تعالى متوسّلاً إليه بهذه السيّدة الماجدة أن يرزقه ولداً فحقّق الله له مرامه ورزقه ولداً سمّاه السيّد مصطفى.
ثمّ قام الوالي بنقل هذه الاعجوبة إلى السلطان عبد الحميد العثماني فأمرا لأخير بجعل تولية مرقد السيّدة زينب عليها السلام ومرقد السيّدة رقيّة عليها السلام ومرقد السيّدة أُمّ كلثوم عليها السلام مرقد السيّدة سكينة عليها السلام بيد السيّد إبراهيم ومنه انتقلت إلى ولده السيّد مصطفى ومنه إلى ولده السيّد عبّاس.
قال ناقل القصّة آية الله الحاج الميرزا هاشم الخراساني : وكان تأريخ هذه الحادثة الجليلة في حدود عام ١٢٨٠ هـ (7).
وقد نقل المرحوم آية الله السيّد هادي الخراساني هذه القصّة في كتابه «المعجزات والكرامات» ثمّ قال :
لقد كنّا ذات مرّة نياماً مع جماعة وقد لدغت الحيّة أحدنا وكلّما عالجها بالأدوية والمراهم ولكن دون جدوى ، وفي نهاية الأمر جاء عندنا أحد الشباب يدعى بالسيّد عبد الأمير وقال : أين الرجل الذي لدغته الحيّة؟ ثمّ أخذ بيده بعدما عيّنوا له الموضع فأمرّ يده على المكان فشوفي للحال والتفت السيّد إلينا وقال : أنا لا أملك دعاءً ولا دواءً غاية الأمر أنّ لنا كرامة موروثة من جدّنا الأعلى عندما كان في الشام وقد حمل السيّدة رقيّة عليها السلام على ذراعيه ثلاثة أيّام متتالية حتّى أصلحوا قبرها وأبعدوا الماء عنه ومنذ ذلك الحين أُعطيت هذه الكرامة له وهي الشفاء من لسعة الزنبور أو العقرب أو الحيّة السامّة وبقيت في نسله إلى أن وصلت إلينا.
يُعتقد أنّ تأريخ بناء المرقد الشريف يعود في أقلّ التقادير إلى أكثر من ثلاثمائة عام ، (أي قبل أربعة قرون ونصف من تأريخنا الحاضر).
يقول عبدالوهاب بن أحمد الشافعي المصري المشهور بالشعراني (المتوفّى عام ٩٧٣ هـ) في كتاب «المنن» : وأخبرني بعض الخواص أنّ رقيّة بنت الحسين عليه السلام في المشهد القريب من جامع دار الخليفة .. وهو معروف الآن بجامع شجرة الدرّ .. والمكان الذي فيه السيّدة رقيّة عن يمينه ومكتوب على الحجر الذي ببابه : هذا البيت بقعة شرّفت بآل النبي صلى الله عليه واله وببنت الحسين الشهيد ، رقية عليها السلام (8).
ويقول المؤرخ الخبير والناقد البصير عماد الدين الحسن بن علي بن محمّد الطبري المعاصر للخواجة نصير الدين الطوسي في الكتاب الجليل «كامل البهائي» :
إنّ نساء أهل بيت النبوّة أخفين على الأطفال شهادة آبائهم وكن يقلن لهم : أنّ آبائكم قد سافروا إلى كذا وكذا وكان الحال على ذلك المنوال حتّى أمر يزيد أن يدخلن داره وكان للحسين عليه السلام بنت صغيرة لها أربع سنين قامت ليلة من منامها وقالت : أين أبي الحسين فإنّي رأيته في المنام مضطرباً شديداً؟ فلمّا سمع النسوة ذلك بكين وبكى معهنّ سائر الأطفال وارتفع العويل فانتبه يزيد من نومه وقال : ما الخبر؟ ففضحوا عن الواقعة وقصّوها عليه فأمر (لعنه الله) أن يذهبوا برأس أبيها فأتوا بالرأس الشريف وجعلوه في حجرها ، فقالت : ما هذا؟ قالوا : رأس أبيك ففزعت الصبية وصاحت فمرضت وتوفّيت في أيّامها بالشام (9).
ويُعدّ هذا الكتاب (لعماد الدين الطبري) من الكتب النادرة الذي قلّ نظيره وقد كتبه سنة ٦٧٥ ه معتمداً فيه على المصادر المهمّة والكثيرة التي لا وجود لها في عصرنا الحاضر بسبب تلفها وضياعها عبر هذا الزمان الكَلِب وبعضها تمّ إحراقه من قِبل أعداء أهل البيت عليهم السلام.
يقول المرحوم المحدّث القمّي قدس سره : كتاب «كامل البهائي» تأليف عماد الدين الطبري ذلك الشيخ العالم ، والماهر الخبير ، والمتدرّب النحرير ، والمتكلّم الجليل ، والمحدّث النبيل ، والفاضل الفهّامة فرغ من تأليفه سنة ٦٧٥ ه بعد عناء طويل استغرق ١٢ سنة انعكف فيها على تأليفه ، وهو كتاب مليئ بالفائدة ....
وأضاف المحدّث القمّي قائلاً : ويعلم من الكتاب أنّ الكثير من نسخ الأُصول والكتب القديمة للأصحاب كانت موجودة عند المؤلّف ، ونحن نشير إلى أحد هذه الكتب التي كانت بيد المؤلّف ولم تصلنا إلّا وهو كتاب «الحاوية في مثالب معاوية» تأليف قاسم ابن محمّد بن أحمد المأموني وهو أحد علماء السنّة.
وقد نقل عماد الدين الطبري قصّة السيّدة رقيّة من هذا الكتاب (10).
وعلى ضوء ذلك يمكن القول أنّ تأريخ قصّة السيّدة رقيّة عليها السلام يرجع إلى سبعمائة عام ونصف تقريباً.
وبغضّ النظر عن ذلك فإنّ هناك بعض مصنّفات التاريخ أشارت إلى وجود السيّدة رقيّة عليها السلام منها كتاب «اللهوف» لابن طاووس قدس سره.
يُعدّ كتاب (اللهوف) للسيّد ابن طاووس المتوفّى عام ٦٦٤ ه المعروف بكثرة إحاطته بالنصوص الروائية والأحداث التأريخية الإسلامية الشيعية ، من أقدم الكتب التي جاء فيه ذكر اسم السيّدة رقية عليها السلام ، فقد ذكر السيّد رحمه الله في كتابه هذا عبارة للإمام الحسين عليه السلام حينما دعا أُخته زينب عليها السلام للصبر والتحمّل فقال : «يا أُختاه يا أُمّ كلثوم وأنتِ يا زينب ، وأنتِ يا رقية ، وأنتِ يافاطمة ، وأنتِ يا رباب انظرن إذا أنا قُتلت فلا تشققن عليَّ جيباً ولا تخمشن عليَّ وجهاً ولا تقلن عليَّ هجراً (11).
وهذا يعني أنّ السيّدة رقيّة عليها السلام كانت في كربلاء ، وممّا يؤيّد ذلك أيضاً ما ذكره الشيخ سليمان بن إبراهيم النقدوزي الحنفي (المتوفّى عام ١٢٩٤ ه) في كتابه «ينابيع المودّة» نقلاً عن مقتل أبي مخنف : فبعدما ما ذكر كيفية استشهاد أصغر أولاد الحسين عليه السلام وهو الذي لم يتجاوز الستّة أشهر قال : ثمّ نادى عليه السلام : يا أُمّ كلثوم ويا سكينة ويا رقيّة ويا عاتكة ويا زينب يا أهل بيتي عليكنّ منّي السلام (12).
والسؤال هنا هو : أيمكن أن نجد للسيّدة رقيّة عليها السلام ذكراً في المصادر التي هي أقدم من هذه إذا رجعنا إلى التأريخ أكثر؟ هذا ما سنتناوله وله في البحث القادم.
من الواضح لدى كلّ مَن له إلمامة واطّلاع على التأريخ الإسلامي الشيعي أنّ الشيعة تعرّضوا لجميع أنواع الاستبداد والعنف والقهر من قِبل السلاطين وحكّام الجور على طول التاريخ ، فكم مرّة ومرّة كانوا عرضة لهجوم المستبدّين ووحشيتهم حتّى تعرّض أبرز رجالهم للقتل والاستشهاد ، كما وتعرّضت الآثار العلمية لعلمائهم من كتب ورسائل وموسوعات إلى عمليات إبادة وحرق ، ومنها : المجزرة الشهيرة التي قام بها محمود الغزنوي في عام ٤٢٣ ه وحرقه للكتب ، وحادثة إحراق الكتب التي قام بها طغرل في بغداد في عصر الشيخ الطوسي ، وهكذا حادثة حسَنَك الوزير .. ومجزرة «الجزّار» الحاكم العثماني في الشام وحرقه للكتب في جنوب لبنان و... الخ.
وعلى كلّ فقد عانى الشيعة الكثير من الآلام والمآسي والاضطهاد في التأريخ ممّا أدّى إلى أمرين :
أوّلاً : عدم توفّر الفرص المناسبة لتدوين هذه الحوادث التأريخية.
ثانياً : عدم القدرة على حفظ ما تمّ تدوينه لا سيّما تلك المطالب التي لها صلة في إثبات مظلومية الشيعة ، أو عن جرم وقساوة أعدائهم من حكّام الجور. فقد أدّت الحوادث العصبية إلى ضياع أكثر هذه المدوّنات ولم يبق إلّا القليل القليل ، أو ما هو يتناول شفهياً بين رجال الشيعة من جيل إلى جيل فبقى شاخصاً في الذهنية الشيعية ولكن من دون سند بل هي مشهورات تأريخية.
ولهذا لا ينقضي العجب حينما نرى الوثائق التأريخية حول السيّدة زينب الكبرى عليها السلام مثلاً قليلة جدّاً مع جلالتها وعظمتها ودورها الكبير في ثورة الإمام الحسين عليه السلام ، بل يمكن القول : أنّ ما هو موجود عن هذه السيّدة الجليلة يُعدّ صفراً على الشمال إذا قيس مع دورها التأريخي المهمّ ، وعليه فكيف سيكون الحال مع غيرها كالسيّدة أُمّ كلثوم أو السيّدة رقيّة عليها السلام؟!
ففي ظلّ الأوضاع الصعبة كيف سيكون عمل المحقّقين الذين تصل بهم الطرق إلى نقطة مغلقة فلا يحصلون على المستندات التي قد تساهم في إبراز الواقع التاريخي بما هو مطلوب؟
وقد نحى بعض المحقّقين في مثل هذه المطالب منحىً سلبيّاً تمثّل في نفي هذه الحوادث الشهيرة تحت ذريعة «الاستحسان والذوق الشخصي» أو «مجرّد الاستبعاد» القابل للمناقشة والبحث العلمي ، أو قولهم إنّ هذه الحوادث والمطالب لم تستند إلى دليل قوي ، وهذا الطريق من أهل الطرق ـ أعني نفي الحقائق التأريخية المعروفة والشهيرة ـ بلا بذل أي جهد وعناء في الكشف عنها يمحو الحقيقة من الواقع أكثر من أن يحلّ معضلتها.
والطريق الآخر الذي سلكه البعض الآخر من المحقّقين تمثّل في تحمّلهم لعناء البحث العلمي وصبرهم في الوصول إلى الحقيقة وإثباتها بدل نفيها ، وهمّتهم في تجميع أكبر قدر يمكن تحصيله من القرائن والمؤيّدات التي تدعم الحادثة من مراجعة كتب التأريخ ، والتفسير واللغة والحديث بل ومراجعة دواوين الشعراء المعاصرين لتلك الحقبة الزمانية والدقّة في فهم النصوص ومدى دلالتها الالتزامية والمطابقية والبحث في منطوقها ومفهومها وأبعاد السياق اللفظي ومعالجة كلّ ذلك مع الواقع التأريخي آنذاك بكلّ تتبّع وإشراف ، ومن خلال ذلك يصل رويداً رويداً إلى اكتشاف الكثير من الحقائق فمثلاً :
عندما نتأمّل في موضوع إحراق الكتب الشيعية قديماً وعمليات الإبادة التي تعرّض لها رجالات الشيعة ، أو محاكم التفتيش العقائدي ـ إن صحّ التعبير ـ من قِبل سلاطين الجور ووعّاظهم نعرف الحقيقة التالية :
أوّلاً : أنّ عدم الحصول على الدليل التأريخي مع شهرة الحادثة لا يدلّ على عدمها وكما قالوا : عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.
ثانياً : لا يمكن دائماً وأبداً إجراء المقولة : لو كان لبان فننكر المشهورات تحت هذه الذريعة وذلك لأنّ للظروف مدخلية لا يمكن البتّ بدون ملاحظتها.
ثالثاً : لا يمكن وبكلّ بساطة أن ننكر ما عندنا من بعض الأدلّة والوثائق بدافع الاستبعاد أو الاستحسان الموجّه ، ونعدها من جملة الخرافات أو الموضوعات ، لأنّه من الممكن أن يكون الاستبعاد ناتجاً عن عدم الاطّلاع أو عن الغفلة ببعض جوانب القضيّة التي لو عرفت لتبدّل الاستبعاد إلى حالة من القبول وفقاً للتحليل العلمي ، أو في أقلّ التقادير ينقدح في أُفق الذهن تصوّر جديد.
رابعاً : علينا أن ندرك أنّ دلالة الخبر الواحد أو غير المعتبر لا يستلزم بالضرورة الكذب وما هو خلاف الحقّ ، بل المطلوب هو أن نجعل مثل هذه الأخبار بديلاً عن قراراتنا القطعية في نفي الواقعة التأريخية ، لتكون ـ الأخبار ـ مورداً للبحث والتحقيق الواسع ويمكن الموازنة بينها وبين روايات أُخرى لنعرف الصحيح ، بل يمكن أن تكون هذه الأخبار الآحاد رأس خيط للوصول إلى حقائق كبيرة أو أنّها قد تصلح في حالة تعارض الأدلّة مؤيّداً ومرجّحاً لإحدى الطوائف.
وطبيعياً فإنّ الانكار يحتاج إلى دليل كما أنّ إثبات أي شيء بحاجة إلى دليل ، نعم ما لا يحتاج إلى دليل هو قول : لا أدري بل إنّ النفي يستلزم مؤونة أكثر من الإثبات ، وعلينا أن لا ننسى أنّ الاستحسانات أو الاستبعادات والتحليلات العقلية لها مكانها الخاص بها ولا يمكن أن نغليها تماماً ، كما لا يمكن أن نطرح الأُمور خلافاً للقواعد العقلية المسلّمة ، ولا ننسى أيضاً أنّ الكلمة الأخيرة في هذا الميدان هي : التتبّع والتحقيق التحليل في الأدلّة والوقائق التأريخية بشكل مباشر أو غير مباشر (13).
والبحث الذي نحن بصدده عن السيّدة رقيّة عليها السلام لا يستثنى من هذه الأُصول والقواعد ، فمضاناً لما تقدّم منّا من ذكر المصادر التأريخية القديمة الدالّة على وجود هذه الشخصية ، أيمكن أن نستدلّ بمصادر أُخرى أكثر قدماً من «اللهوف» و «كامل البهائي» على وجود هذه الشخصية الشريفة من خلال التتبّع؟ الجواب بحمد لله هو نعم يمكن أن نجد أكثر من هذه المصادر لإثبات ذلك بالتتبّع والتحقيق.
فمن أقدم النصوص ـ على حسب تتبّعنا ـ الذي أشار إلى وجود هذه السيّدة الشريفة المظلومة المضطهدة بنت سيّد الشهداء عليه السلام في كربلاء المسّاة بـ (رقية) ـ إلى جانب السيّدة سكينة ـ هي القصيدة المؤلمة لسيف بن عميرة أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام.
إنّ سيف بن عميرة النخعي الكوفي هو من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام الأجلّاء ، وهو من رواة الشيعة المتألّقين والمشهورين فقد وثّقه الشيخ الطوسي في كتاب (الفهرست) وكذا النجاشي في كتاب «الرجال» ، والعلّامة الحلّي في كتاب (خلاصة الأقوال) وابن داود في الرجال أيضاً والعلّامة المجلسي في كتاب (الوجيزة) ، وقد عدّه ابن النديم في «الفهرست» من مشايخ الشيعة الذي يروي الفقه عن الأئمّة عليهم السلام وذكر الشيخ الطوسي في رجاله أنّ سيف ابن عميرة له كتاب رواية عن الإمام الصادق عليه السلام ، وقد ذكره المرحوم السيّد بحر العلوم في الفوائد الرجالية مع جملة رواة الشيعة المشهورين أمثال محمّد بن أبي عمير ويونس بن عبد الرحمن اللذين رويا عنه ، وسيف بن عميرة من جملة الذين رووا زيارة عاشوراء المعروفة نقلاً عن الإمام الباقر عليه السلام وهي زيارة مشهورة قد راج قرائتها طوال السنين عند الشيعة.
على كلّ فإنّ لسيف بن عميرة قصيدة مؤلمة في رثاء سيّد الشهداء عليه السلام وهي التي مطلعها :
جلّ المصائب بمن أصبنا فاعذري
يا هذه وعن الملامة فاقصري
وهي قصيدة أليمة ومؤثّرة ، إلّا أنّ العلّامة السيّد محسن الأمين (14) وتبعه الشهيد
السيّد جواد شبّر ـ وهو من خطباء لبنان (15) ـ لم يذكرا إلّا هذا البيت ، وأمّا الشيخ فخر الدين الطريحي ـ الفقيه والرجالي والأديب الألمعي والعالم الشيعي اللغوي الكبير صاحب كتاب مجمع البحرين ـ ذكر كلّ القصيدة في كتابه المنتخب (16) ـ وهو كتاب يتناول رثاء سيّد الشهداء عليه السلام بالنثر والشعر ، إذ يصرّح الشاعر في أواخر القصيدة بهويّته النسبية والولائية فيقول :
وعُبيدكم سيف فتى ابن عميرة / عبدٌ لعبد عبيد حيدر قنبر
أمّا ما يخصّ بحثنا هنا هو ذكر للسيّدة رقيّة في طيّات أبياته حيث قال :
وسكينة عنها السكينة فارقت / لمّا ابتديت بفرقة وتغيّر
ورقيّة رقّ الحسود لضعفها / وغدا ليعذرها الذي لم يعذر
ولأُمّ كلثوم يجد جديدها / لثم عقيب دموعها لم يكرّر
لم أنسها وسكينة ورقيّة / يبكينه بتحسّر وتزفر
يدعون أُمّهم البتولة فاطماً / دعوى الحزين الواله المتحيّر
يا أُمّنا هذا الحسين مجدلاً / ملقى عفيراً مثل بدر مزهر
في تربها متعفّراً ومضخّماً / جثمانه بنجيع دم أحمر (17)

المصادر :
1- انظر ملحقات إحقاق الحقّ للمرجع الكبير آية الله العظمى السيّج شهاب الدين المرعشي (النجفي المتوفّى عام ١٤١١ ه) ج ٣٣ ص ٦١ .
2- بحار الأنوار ج ٢٧ ص ٣٠٩ ح ٦.
3- سيرتنا وسنّتنا للعلّامة الأميني.
4- سورة الأنفال : ٣٣.
5- إسعاف الراغبين وهو هامش على نور الأبصار ص ١٤١.
6- أمالي الطوسي ص ٣٧٩.
7- منتخب التواريخ ص ٣٨٨ الباب ٦ طبع ونشر علمية إسلامية.
8- معاني السبطين ج ٢ ص ١٦٢ ط الشريف الرضي ـ قم.
9- كامل البهائي ج ٢ ص ١٧٩.
10- الفوائد الرضوية ص ١١١.
11- اللهوف في قتلى الطفوف ص ١٤٠ ـ ١٤١ تحقيق الشيخ فارس تبريزيان ط أُسوة ١٤١٤.
12- ينابيع المودّة ص ٣٤٦ ، وإحقاق الحقّ ج ١١ ص ٦٣٣ وانظر مقتل أبي مخنف ص ١٣١ طبع الشريف الرضي وعبارته هذه : ثمّ نادى يا أُمّ كلثوم ويا زينب ويا سكينة ويارقية ويا عاتكة ويا صفية عليكنّ منّي السلام.
13- أُنظر كتاب : الماء في عاشوراء.
14- أعيان الشيعة ج ٧ ص ٣٢٦ ط دار التعارف بيروت عام ١٩٨٣ م.
15- أدب الطفّ أو شعراء الحسين عليه السلام ج ١ ص ١٩٦ ط مؤسّسة البلاغ بيروت ١٩٨٨ م.
16- المنتخب في جمع المراثي والخطب ج ٢ ص ٤٣٦ ط الأعلمي بيروت عام ١٤١٢ ه.
17- لبس السواد في عزاء أئمّة النور ص ٣٢٠ نقلاً عن المنتخب للطريحي.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.