يقول بعض الحكماء: إنّ للمجتمع بما هو مجتمع روحاً غير روح كلّ فرد فرد، وتلك الروح هي التي تحرّك المجتمع، فقد يكون خاملاً وقد يكون نشطاً، وقد يكون صالحاً وقد يكون طالحاً، وهكذا.
وإنّ للمجتمع بما هو مجتمع ضميراً غير ضمير كل فرد فرد، وذلك الضمير هو الذي يكون له رغبة في بقاء دولة أو هدم دولة، أو تحسين شيء، أو تقبيح شيء، وهكذا …
وهذا الضمير هو الذي يهيمن علي الحكومات الظالمة، ويحرك الأفراد علی مقاومتها، إلی أن ترجع عن غيّها فتكون عادلة، أو إلی أن تزيلها بالوسائل الديمقراطية أو بالوسائل العنيفة.
ولا نريد الآن تصديق هذا الكلام، فإن له مكاناً آخر، وإنمّا أريد أن أقول: لقد لمست بنفسي الضمير الذي يتحرّك لوضع الحدّ لظلم الحكومات الظالمة. فقد عقد (صالح جبر) رئيس وزراء العراق (معاهدة) مع بلاد الغرب، وكانت المعاهدة تمثل عدواناً علی العراق، فتحرّك ضمير الناس، وطالبوا بعزله، فعزل بالوسائل الديمقراطيّة.
ورأيت (نوري السعيد) رئيس وزراء العراق يتنكب الطريق الإسلامي العادل، وقد ملأ العراق بالخمور والفجور والظلم والرشوة، وبدّل قوانين الإسلام إلي القوانين الجاهليّة المستوردة من الشرق والغرب، فتحرّك ضمير المجتمع، وطالبوه بالإصلاح فلم يفعل، وإذا بالسيل يجرفه ويجرف معه الحكومة الملكية كلّها … وقد كان (نوري السعيد) يقول إنّ الرصاصة التي تقتلني لم تخلق بعد، فتبيّن أنهّا كانت خلقت منذ زمان، وأنها كانت أقرب إليه من حرّاسه وحفظته.
فأيّاً كانت الحكومات وأيّاً كان الظالم، فانّ الظلم يأخذ الظالم، مهما تصوّر الظالم أنّه قويّ وأنه مزوّد بالسلاح وبالحرس، فإنّ الذي يحفظ الإنسان هو العدل وحده. أما الظالم فبيته من زجاج، وإن تصور هو أنه من فولاذ.
جزاء من أشار بالظلم
يقال: إنه جاء رجل إلي شخص وقال له: إنيّ ضربت زوجتي، فماتت من أثر الصدمة، بدون اختيار منّي، فماذا أفعل لأبرأ عند الناس وعند أهلها من هذه المشكلة؟قال له ذلك الشخص: إن الأمر سهل، قف علی باب دارك، فإذا رأيت شاباً جميل المنظر، ادعه إلی دارك بحجة، ثم اقتل الشاب فجأةّ وضع الشاب ملاصقاً لزوجتك، ثم اذهب إلی أهل الزوجة وائت بهم، وقل لهم: إني دخلت الدار وإذا بي أري زوجتي والشاب في حالة ممارسة الجنس ولذا قتلتهما، ويكون ذلك عذراً مقبولاً عند أهلها وعند الناس.
عمل الرجل بنصيحة الشخص المذكور، وبعد أن قتل الشاب الذي دعاه إلي داره ذهب وأخبر أهل الزوجة فجاءوا وأعذروه في قتله لهما، وازدحم الناس كلّ يأتي ويذهب إلي دار الرجل، ليسألوه عن القصّة.
وفي ذلك اليوم فقد الشخص الناصح، ولده وأخذ يفحص عنه هنا وهناك، بلا جدوي، إذ لم يظفر له بعين ولا أثر، فجاء إلي هذا الرجل، وقال: هل رأيت ولدي؟
قال الرجل: لا.
قال الناصح: وهل عملت بما قلت لك في أمر زوجتك؟
قال الرجل: نعم.
قال الشخص: أخاف أن يكون ذلك الشاب الذي قتلته هو ولدي.
قال الرجل: لا أعلم.
قال الشخص: دعني آتي إلي المقتول لأراه.
فأذن الرجل للناصح، فإذا به يري أنّ الشاب المقتول هو ولده بالذات … فأخذ في البكاء والنحيب، قائلاً إنّ المقتول هو ولدي الوحيد، وكان كلّ أملي من الدنيا.
وهكذا أخذ الظالم جزاءه..
وانتشر الخبر بين الناس، وأن الرجل قتل زوجته واحتال بقتل شاب تخّلصاً من الجريمة، حتی وصل الأمر إلي السلطة فأحضروه، وأخيراً اعترف بالأمر، وأنّه هو الذي قتل الزوجة وقتل الشاب، فأمرت السلطة بقتله، ولقي جزاءه في الدنيا مع الفضيحة والعار.
فإذا رأي الإنسان شخصاً أو جماعةً أو سلطة تظلم ولا تلاقي جزاءها، فليعلم انّه سبحانه (إنما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) وذلك لمصلحة وحكمة … وفي الغالب يلاقي الظالم جزاءه في الدنيا، ويفتضح قبل الآخرة أيضاً..
وإن أمهل الله الظالم فربّما ولعلّ..
وفي هذه القصة درس آخر، وهو أنّ الإنسان يجب عليه أن لا يشير علي الناس بالظلم، فإنّ المشير حينئذ يكون أحد الظالمين أيضاً، فيأخذه وبال إشارته.
ومن أشار علي أمر بغير هدي يأتيه ما قال كفلا غير منتقض
من عقاب الظالمين
قال لي أحد الأصدقاء: إنه رأي في خراسان إيران رجلاً كهلاً عابداً زاهداً، يصوم النهار، ويحيي الليل بالعبادة، وحتی في أيام الشتاء التي تطول لياليها، لا ينام إلي الصباح، فإذا بزغت الشمس، نام، وهكذا كان حاله.قال: فتعجبت من أمره، وسألته عن سبب زهده بهذه الدرجة؟ وقلت له: ألا يأخذك النعاس في الليل لتنام فيه؟ ثم أولم يكن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وهو أزهد الزاهدين ينام بعض الليل؟ ثم إنّك لا تقدر علي أن تعمل، لأنك تنام في النهار، وتعبد الله عزوجل بالليل، فمن أين تمرّ معاشك؟
قال الرجل وبعد الإلحاح والإصرار: إني لا أقدر أن أنام الليل أبداً، وقد قال الشاعر:
قد أعجز الهر قذاذ القديد فقال مرّ مالح ما أريد
ثم أردف الرجل قائلاً: إنه كان جندياً في جيش بعض الحكّام الظالمين، وفي مسألة دينية، اصطدم الشعب بالحكومة فألقت الحكومة القبض علي جماعة منهم … قال الرجل: فأمرت أن أقتل نفرين منهم فقتلتهما، ومن ذلك اليوم إلي هذا اليوم بمجرّد أن أنام الليل، أري في المنام أنّ المقتولين يأتياني بصورة مرعبة، ويطالباني: بأنّي لِمَ قتلتهما؟
فأقوم من النوم مرعوباً، بما يوجب توتّر أعصابي، ولذا فقد قررت أن لا أنام الليل، ولا تعتريني هذه الحالة بالنهار.
ويروي مثل هذه القصة عن أحد قتلة أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) فإنه كان جميل الوجه، قبل واقعة كربلاء، ورأوه بعد ذلك قبيح الوجه مسوداً، ولمّا استفسروا عن سبب ذلك؟
قال: إني قتلت شاباً حسن الوجه من أقرباء الإمام الحسين (عليه السلام)، ومنذ ذلك الحين إذا نمت رأيت في المنام: أن الشاب أتاني، وأخذني إلي جهنم وألقاني فيها فاحترق فيها، بكلّ حرها وكربها، إلي أن أقوم من النوم، وهذا السواد والقبح الذي تشاهدون في وجهي من أثر ذلك.
والظالم يكون هكذا، فإنه مهما طال به الزمن لا يهنأ بحياته، بل يكون دائماً متوتر الأعصاب، قلق النفس، شارد الفكر، وهذا أول عقاب يتلَقّاه الظالم في محكمة عدل الله سبحانه في الدنيا، ومن شكّ في ذلك فلينظر إلي المجرمين من قريب.
من يظلم الناس تلقّي الأذي وإن يكن في ذروة السلطة
الدنيا دار مجازاة قبل الآخرة
كان في كربلاء المقدسة رجل مجرم، يشي بالناس إلي السلطة ويوقعهم في المهلكة، مع أنه كان يعلم بأن ذلك عصيان وطغيان وله عواقب سيّئة..وقد نصحه الناصحون بأن ينقلع عن فعلته، لكنه أبي إلاّ السعاية والإفساد.
نقل بعض من كان يعاشره، قال: إنه صار بحيث لا ينام طوال الليل بل كان يمشي ويدخّن ويفكّر ويتقلّب، وإذا أخذته غفوة يقفز من النوم مرعوباً، وكان يكلم نفسه، وإلي غيرها من تلك الحالات القلقة.
ومضي علي هذه الوتيرة زمان، ثم افتقدناه، ولم نعلم أين ذهب؟ وماذا عمل؟
وبعد مدّة أُخبرنا بأن بعض الأعراب وجدوه في مستنقع ماء في بعض الصحاري، رجلاً مقطوعة، ويداً مقطوعة، ورأساً مقطوعاً، وجسماً كلّه قد انتفخ وتعفن، ولمّا فحص في ملابسه وجد صورته وهويته، وإذا به الرجل الآنف الذكر …
عجباً: من قتله؟
وكيف قتله؟
ولماذا قتله؟ و..؟
(إن ربك لبالمرصاد) والدنيا دار مكافاة قبل الآخرة.
وكنت قد رأيت بنفسي أنّ إنساناً كان يظلم أهله بسوء الخلق والغيبة والمقاطعة والاستعلاء وما أشبه ذلك … فلم تمض سنوات إلاّ ورأيت نفس ذلك الشخص، وإذا به قد دارت عليه الدائرة، وقد أصبح ذليلا حقيراً ومهيناً، قد شلّت رجلاه يسترحم الناس ويستعطفهم..
فقلت في نفسي: يا لله؟ لو لم يكن جزاءه إلاّ هذا، لكفي به عبرة، ولكن هل يعتبر الإنسان؟ (ما أكثر العبر وأقلّ المعتبر).
ولعل كل إنسان تقدم به العمر جرّب مثل ما جربت ورأي مثل ما رأيت…
يقال: إن أحد البرامكة بعد ذلتهم، طلب الماء في الحمام من (الدلاّك) فأتي إليه بالماء في ظرف (النورة) استهزاءاً به.
فقال البرمكي: إنّا كنّا نسقي الناس الماء في ظروف الذهب والفضة، ومع ذلك نري هذا الجزاء، فماذا يكون جزاء فعلتك أيها (الدلاّك)؟
والواقع إن هذا لم يكن جزاء البرمكي لسقيهم الناس الماء في ظروف الذهب والفضة، بل هو جزاء ظلمهم للناس (أحصاه الله) تعالی (ونسوه) وكم لآل برمك من ظلم وعدوان؟.
الحكّام مسؤولون عن الرعيّة
ذات يوم كان هارون العباسي، يسعي بين الصفا والمروة، والناس يسعون في أمواج كبيرة، وإذا بهارون يسمع من خلفه من يناديه: (يا هارون) بهذه اللفظة!فاستشاط غضباً والتفت وراءه، ليري من هذا المتجرّي علی مقام الخلافة، وإذا به يري أن المنادي بهلول.
قال هارون: وماذا تريد؟
قال بهلول: ارم ببصرك إلی هذا الخلق، كم تري من أناس؟.
قال هارون: الكثير.
قال بهلول: كل واحد من هؤلاء عمّن يُسأل يوم القيامة؟
قال هارون: يسأل عن نفسه.
قال بهلول: وأنت يا هارون عمن تسأل يوم القيامة؟
فسكت هارون.
فأردف بهلول: لكنك تسأل عن كل هؤلاء، وعن غيرهم ممن شملهم ملكك، فيقول الله تعالی لك: ماذا عملت فيهم؟ هل بالعدل أم بالجور؟ هل بموازين الإسلام أم بغير موازين الإسلام؟.
فتأثر هارون بذلك تأثراً بالغاً …
وأضيف تعليقاً أن هارون كان مسؤولاً عن كل من في ملكه كما قال بهلول ومسؤولاً أيضاً عمن ليس في ملكه ممن كان بإمكانه إرشادهم وهدايتهم إلي الإسلام، ومسؤولاً أيضاً عن الأجيال القادمة التي كان بإمكانه إنقاذهم وهدايتهم لو عمل بالإسلام.
ولو عمل هارون وغير هارون بالإسلام، كان المسلمون هم الذين وصلوا إلي القمر، وهم سادة العلم اليوم وكان الإسلام نشر جناحه اليوم في كل العالم، أو أكثر العالم.
ولولا الأئمة الطاهرين (عليهم أفضل الصلاة والسّلام)، الذين مثّلوا الإسلام أفضل تمثيل، ولولا العلماء من أتباعهم، الذين خطوا مكان خطاهم، لكان ما فعله الأمويون والعباسيون ومن حذا حذوهم كفيلاً بأن يجعل من الإسلام كاليهودية والمسيحية، التي لا تمت إلي دين الله المنزل بصلة.
نعم ذهب هارون..
وذهب غيره من الحكام الظالمين، ولم يخلفوا إلاّ تراثاً أسود من الظلم والخراب والدمار والتأخّر وسوء الذكر.
تلك آثارهم فقد عصروها قطراناً ونكبة وسوادا
فليعتبر بأمثالهم الحكّام الظالمون، وليقلعوا عن الظلم والاستبداد قبل فوات الأوان.
جزاء من يقطع سبيل الخير
روي بعض الثقاة: أن أحد الأخيار مرّ بقبر، فسأل الله أن يريه صاحب القبر، فانفتح له بصره، وإذا به يري نفسه في بستان كبير جميل، تمتدّ فيه الأنهار، وتغرّد فوق أشجارها الطيور، وفيه من كل الثمرات، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر علي قلب بشر …فأخذ يمشي في البستان، حتی انتهي إلي قصر شاهق، ما رأي في عمره أبدع منه، وفي وسط القصر سرير، وعلي السرير رجل جالس كأنّه من أعظم ملوك الأرض، وهو في كمال البهجة والسرور، وحوله عدد كبير من الخدم والحور..
فسلّم عليه وجلس عنده، وسأله عن حاله.
فتبيّن انّه كان رجلاً مؤمناً في الدنيا، وإن الله سبحانه تفضّل عليه بهذا القصر جزاءاً لما فعله في الدنيا من الأعمال الحسنة والأفعال الخيّرة.
قال الرجل: وبينما كنت في ذلك الحال، رأيت أن وجه صاحب القصر قد تغيّر، وأخذته الرعدة واصفر لونه وسمّر نظره إلي طرف من البستان، فإذا بي أری نحلاً يأتي من ذلك الطرف، فجاء النحل وأخرج صاحب القصر لسانه، فلدغ النحل لسانه، مما أوجب أن يغمی علی صاحب القصر، وذهب النحل، وبعد مدة رجع صاحب القصر إلی حاله الأول، من الصحة والبهجة.
قلت له: ما هذا الذي رأيت؟.
قال: هذا جزاء عمل عملته في الحياة الدنيا.
قلت: ما هو؟.
قال: كانت بنت ذات جمال لبعض جيراني، فخطبتها لكن أهلها أبوا أن يزوجوني، ولذا أردت الانتقام منهم، فترصدت لها، وكلما جاء إنسان إلي خطبتها، صرفته عنها بوجه من الوجوه، فبقيت البنت إلي الآن، وأنا مت منذ سنوات، وأعطاني الله ما رأيت جزاء أعمالي، لكن كلما بكت تلك الفتاة لحظها العاثر، جاء هذا النحل ولدغني كما رأيت، وقد توسلت بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، أن يسأل الله خلاصي من هذا العذاب؟ لكن الإمام (عليه السلام) قال: لا خلاص لك إلاّ بتزويج تلك الفتاة وإرضائها.
قلت: لا أقدر علی ذلك.
قال (عليه السلام): إني استأذنت الله سبحانه، ان أتيح لك فرصة لقاء أحد أهل الدنيا، فاسأله أن يرضيها ويزوّجها، وبذلك يكون لك الخلاص …
وها أنت جئتني ببركة الإمام (عليه السلام)، وإني ألتمس منك أن تسعی في تزويج هذه الفتاة وتطلب رضاها عني لأنجو من العقاب.
قال الرجل الخيّر: وبعد هذا الكلام، وإذا بي أري نفسي في نفس المقبرة، فلا بستان ولا قصر ولا أي شيء مما رأيت …
فجئت إلي البلد، وتعرفت علی الفتاة وسعيت في تزويجها وأرضيتها عن الرجل.
نعم … هناك أناس يصلّون ويصومون ويزكّون ويحجّون، ولكن لا يبالون بمثل هذه الأعمال التي يحسبونها هينة، وهي عند الله عظمية … وكم رأيت أنا من هذا القبيل.
وأتذكر الآن رجلاً ليس متديناً فحسب بل هو عابد ورع اتهم فتاة بأنها تزوجت من رجل خفية، مما أوجب أن يعثر حظها ولا يقدم إلي خطبتها أحد …
وأتذكر امرأة فرّقت بين رجل وزوجته باتهامات باطلة …
وأتذكر امرأة أخری حالت بين بنتها وزوجها سنوات وسنوات حتی ماتت الأم..
وقد رأيت كيف أن الله سبحانه ابتلی كل أولئك بالفقر والأمراض والمشاكل..
ونقل لي أحد الأصدقاء، إنه كان من المقرّر تزويج فتاة بشاب، فحالت دون الزواج احدی عجائز عشيرتهم، مع ان كل شيء قد تمّ، وبعد مدّة ماتت العجوز، وبعد سنة من موتها ورأب بعض المصلحين الصدع، تزوجت الفتاة بالشاب وإذا ببعض ذوي العجوز يراها في المنام، فتقول: إني كنت مبتلية طيلة هذه السنة بالعذاب لأجل حيلولتي دون الزواج، ولما تمّ عرسهما، تخلّصت من العذاب.
وكم لهؤلاء من نظائر ونظائر، مما يفعله من يزعم أنّه متديّن، ولكن لا يهتم بهذه الأمور.. قال تعالي: (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ).
وقال سبحانه: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
إن الدين ليس منحصراً بالصلاة والصيام، والحج والإنفاق، بل هو ألف شيء وشيء، وإذا ترك الإنسان شيئاً منها، دخل في زمرة الذين قالوا: (نؤمن ببعض ونكفر ببعض).
وعلي أي حال، فهذه أقسام من الظلم، يعاقب الإنسان بها في الدنيا قبل الآخرة.
ومن المؤسف أنه قد انحسر الإسلام ككل حتی عن المتدين، فقد كان في السابق يطالع المتدينون الأخبار المربوطة بهذه الشؤون، أمثال كتب (ثواب الأعمال وعقاب الأعمال) و(مكارم الأخلاق) و(جامع السعادات) و(قصص الأنبياء) وغيرها وغيرها، وكانت هذه الكتب ترشدهم إلي معالم الاسلام، في الأخلاق والاجتماع والعائلة والمعاشرة وسائر الشؤون الحيوية.
أما اليوم فأغلب المتدينين يكتفون بالصلاة والصيام، ولا يعلمون عن سائر الشؤون الإسلامية إلاّ نزراً يسيراً، وبذلك انحسر المدّ الإسلامي الإصلاحي عن النفوس، كما انحسر المدّ الإسلامي القانوني عن المشاكل والقضايا.
والعاقبة: مشاكل الدنيا، وخسران الآخرة.
ظنّ السوء
کتب في مجلة ان هناک رجلاً متهوراً، دخل داره وفقد في الدار زوجته فأساء بها الظن، وأخذ يفتش في أثاث المرأة، وإذا به يجد في بعض أثاثها رسالة غرامية موجهة من رجل إليها.فظن أن للزوجة اتصالاً غير مشروع بصاحب الرسالة، فهيأ للزوجة آلة قتالة، وبمجرد أن جاءت الزوجة إلی الدار حمل عليها بتلك الآلة القتالة وقتلها..
وهي تستغيث وتسأل عن السبب، لكن الرجل كان قد ركبه الشيطان، فلم يمهلها ولم يستنطقها …
ثم أخبر الرجل أهل الزوجة بأنها كانت سيئة ولذا قتلها وإذا علمنا إن في بعض العشائر من المعتاد قتل الزوجة والأخت ومن أشبههما بأمثال هذه الظنون، وإن القانون لا يعاقب أمثال هذا القاتل إلاّ بعقاب يسير، أدركنا كيف يتمكن أن يتخلّص مثل هذا الزوج من ملامة الناس، ومن عقوبة القانون .
وبعد يوم جاء الرجل إلی الرسالة الغرامية، ليري تفصيل ما فيها، وإذا به يفاجئ، بأن الرسالة موجهة إلي فتاة اسمها (فلانة) وليست الرسالة موجهة إلي زوجته..
فقرأ الرجل الرسالة والعنوان مرة ثانية وثالثة، حتی تيقّن أن الرسالة ليست للزوجة، وأخذ يفحص عن (الفتاة) التي وجّهت إليها الرسالة، فعلم أنها صديقة لزوجته وأنها جاءت بالرسالة إلی زوجته لتودعها عندها، كما كانت عادتها، أن تودع عندها رسائلها ونقودها وثيابها لأنها جارة لهم..
وتذكر أن زوجته لا تقرأ ولا تكتب..
فندم الرجل علی فعلته ولما ينفعه الندم …
ولم تمض من الحادث إلاّ أيام قلائل، وإذا به يفاجأ بألم في موضع من ذراع يمناه، وأخذ الألم يشتد ويشتد، ويراجع الأطباء، وكلّما عالجوه لم ينفع، وأخيراً قرروا إجراء عملية جراحية علی نفس الموضع، مع أنه لم يكن له أي أثر من احمرار وورم وما أشبه، وأجروا العملية، وقطعوا قطعة لحم من مكان الوجع، لكن الألم لم يزل، وبقي في المستشفي إلی أن نبت اللحم الصالح لكن الألم بقي علی حاله في كمال الشدّة، ممّا سلب استقراره، وأطار عن عينه حتی النوم في الليل.
وأخيراً احتمل بعض الأطباء أن يكون مرضه نفسيّاً وقال: لعلّه مرض نفسي، لا مرض جسدي …
وبعد أن راجع طبيباً نفسياً، واستنطقه الطبيب عن كل ما اقترفه في حياته، تذكّر إنّه لما قتل زوجته ترشّح من دمها نقطة فأصابت هذا الموضع من اليد.
فقال له الطبيب: إنه عقاب من الله سبحانه، ولا علاج لك عندنا.
وهكذا خرج من عند طبيب النفس يجرّ أذيال الخيبة والخسران.
نداء الضمير
جاءني لص شاب جميل المنظر، لكن عليه آثار الانهماك والشحوب، وأظهر لي: إنه يريد التوبة.وكان ذلك بعد أن أرسل إليّ صديقاً لي يقول: إن هناك لصّاً يريد التوبة علی يديك، لكنه يريد أن يأتيك في وقت لا يوجد معك أحد!.
قلت: لا بأس ليأتيني في وقت متأخر من الليل.. ولما جاء مع الصديق توجست منه خوفاً لعله يريد شرّاً بي.. لكن مع ذلك جمعت شجاعتي ولم أظهر خوفاً، وقد عملت بأصل من الأصول التي قررت في حياتي اتباعها عند الشك، وهو (أصل الشجاعة) وهي من أصول وصلت إليها بعد التفكر والموازنة، مثل (اصل اللين) و(أصل الإعطاء) و(أصل الصفح) و(أصل الإقدام) و(اصل العمل) و.و.و. عندما أشك في أن الأفضل الخشونة أو اللين، المنع أو الإعطاء، المعاقبة أو الصفح، التوقف أو الإقدام، عدم العمل أو العمل؟.
قال الشاب: إنه لص محترف في فنادق بغداد، ولا يسرق إلا من المسافرين الأثرياء، وإنه مضت سنوات علی عمله هذا والآن يريد التوبة. فقلت له: إن تبت تاب الله عليك.
قال: وما هي كيفية التوبة؟
قلت: أن تستغفر الله سبحانه وتتوب إليه توبةً نصوحاً لا تعود معها إلي السرقة أبداً وأن تردّ كل ما تملك من الأموال إلی أصحابها حسب الإمكان، وأن تعطي ما لا تعرف أصحابها من الأموال إلی الحاكم الشرعي بعنوان مجهول المالك، وأن تبدل ملابسك وسائر ما عندك إلي ملابس وأشياء من الحلال، وأن تغتسل من الجنابة لو كنت جنباً وتقضي ما عليك من صلاة وصيام.
قال: كل ذلك بإمكاني إلاّ ردّ ما عندي من الأموال إلی أصحابها، إذ إني لا املك الآن شيئاً، ثم لا أعرف أصحابها، لأني كنت أسرق من المسافرين..
ثم قلت له: وما الذي حملك علی التوبة؟ وهنا محل الشاهد.
قال: تفاهة الحياة في مذاقي، وتأنيب الضمير، وعدم الراحة.
قلت: وكيف؟
قال: إنّي قبل أن اشرع في هذه المهنة الباطلة، كنت صانعاً عند نجّار براتب متواضع، ولكني كنت أجد من اللذّة والبهجة ما تغمر حياتي ليلاً ونهاراً، فكنت آكل الغذاء المتواضع بكل لذّة، وحين أنام أجد لذّة فائقة في النوم، وكان عملي محبّباً إليّ، ولكن بعد أن انزلقت في طريق السرقة، صرت آكل من أحسن الأطعمة وفي أضخم المطاعم ولكن لا أجد للطعام لذّة وإنّما صار الطعام في مذاقي مثل أكل نشارة الخشب، ثم صرت أتمتّع بأجمل مومسة ولكن لا أجد اللذة الجنسية أبداً بل حالي حال من يلامس الحائط أو جسماً من مطاط، وأنام في أغلی الفنادق لكن لا أنام الليل كله، أتقلب يمنة ويسرة، وهكذا، كل ذلك بالإضافة إلی أني في قلق دائم والأشباح تطاردني وأری نفسي علی قاب قوسين من إلقاء القبض عليّ.. وفوق كل ذلك ضميري يهزني ويؤنبني.
وتاب هناك الشاب وذهب، وبعد مدة رأيته وقد تغيّرت ملامحه، فقد استقرت نظراته بعد أن كانت له نظرات شاردة، وذهب الشحوب عن لونه، وزال القلق من وجهه، وظهر عليه سيماء التواضع والإيمان … وقال لي: رجعت إلي دكان النجارة، وآخذ راتباً متواضعاً، ورجعت إليّ سعادتي ولذتي ونومي واستقراري، وقد جمع كمية من المال يريد الزواج بها.
المصادر :
راسخون2017