قد یلتبس علی البعض بین الحریة والفوضى قد یثر فی القناعة أن هناک تعارضاً بین التقوى والحریة.
فإذا کان مفهومنا عن الحریة هو ممارسة القناعة ضمن احترام القیم الاجتماعیة فقیم المجتمع المسلم دون شک هی قیم الإسلام، وإذا تبنى المجتمع قیماً غیر قیم الإسلام فلا نقول إنه مجتمع مسلم.
فما هو مفهوم التقوى؟
إن مفهوم التقوى من المفاهیم الواضحة ونستدل على ذلک بآیة من کتاب الله عز وجل، قال تعالى: ﴿لیس البر أن تولوا وجوهکم قبل المشرق والمغرب ولکن البّر من آمن بالله والملائکة والکتاب والنبیین، واتى المال على حبه ذوی القربى والیتامى والمساکین وابن السبیل والسائلین وفی الرقاب، واقام الصلاة واتى الزکاة، والموفون بعهدهم اذا عاهدوا، والصابرین فی البأساء والضراء وحین البأس، اولئک الذی صدقوا واولئک هم المتقون﴾(1) .
ویروى أن الامام علیاً عرّف التقوى فقال: هی مخافة الجلیل، والعمل بالتنزیل، والرضى بالقلیل، والاستعداد لیوم الرحیل.
وهذه الأوصاف الواردة فی الآیة القرآنیة المذکورة وفی قول علی بن أبی طالب هی أوصاف للملتزمین بقیم الإسلام التی ارتضاها الله لعباده.
لذلک تستطیع أن تقول إن التقوى هی سلوک إنسانی یُبتغى به رضى الله وإن لها أبعاداً تطال ذات الإنسان وتطال الإنسان الآخر، فرداً أو مجتمعاً وتطال أیضاً بقیة المخلوقات، وهی تتحقق بهذه الابعاد، وانتقاص بُعدٍ من أبعادها یؤدی إلى تقوى ناقصة مشوهة، وهی بهذه الحالة تساوی لا تقوى، لأن فیها أخذاً لبعض الکتاب وترکاً لبعضه.
فإذا کان هذا هو مفهوم التقوى، فهل هی تتعارض مع الحریة؟
إن الذی نعتقده أن التقوى هی کمال الحریة، لأن المتقی عندما یمتنع عن فعل المعصیة، أو عندما یفعل الطاعة فإنه یمارس قناعته التی یؤمن بها ویؤمن بأنها خیر له من سواها، وهذا هو عین مفهومنا للحریة.
أضف إلى ذلک أن التقوى حریة ذات بعدین، بُعد داخلی وبُعد خارجی: أما البعد الخارجی فهو التزام القناعة وممارستها تجاه الآخرین دون الخضوع لضغوط الخارج أو قیوده المخالقة للقیم.
"وأما البعد الداخلی فهو التزام القناعة وممارستها دون الخضوع للضغط الداخلـی أی دون الخضوع لضغوط النفس من أهواء ورغبات وغرائز ونزوات وشهوات، وهذا ما یطلق علیه مصطلح الفلاح ".(2)
فإذا کانت الحریة کما یراها الآخرون تعنی عدم وضع حد للمیول والغرائز من الخارج، فإن الفلاح هو وضع القیود على المیول والغرائز من الداخل.
قال تعالى: ﴿ونفسٍ وما سواها، فالهمها فجورها وتقوها، قد افلح من زکاها، وقد خاب من دَسّاها﴾(3)
فقد عبَّرت الآیات عن القیام بتزکیة النفس بأنه فلاح. والتقوى والفلاح یشکلان مفهوماً واحداً، یعنی الوصول إلى الحریة، أو التحرر من ضغوط الخارج والداخل، أی من الضغوط التی یمارسها الآخرون ومن الضغوط التی تمارسها النفس على صاحبها.
وأحب أن أختم هذه الفقرة یتبین أن التزام الأمر والنهی نتیجة الإکراه لا یسمى تقوى، ولا یعتبر تقوى إلا الالتزام الناتج عن قناعة ذاتیة للفرد، ولهذا نقول إن التزام سلوک المتقین بغیر قناعة إنما هو رئاء أو تقیة.
الحریـة السـیاسـیة:
عندما نتحدث عن الحریة السیاسیة فإننا نقصد بها حریة الإنسان فی اتخاذ الموقف السیاسی من أی قضیة من القضایا التی تصنف تحت مسمى الشأن العام، أو بالتعبیر القرآنی "الأمر" کما ورد فی قوله تعالى ﴿وامرهم شورى بینهم﴾فالمتبادر إلى الذهن لدى سماع هذه الآیة أن أمر المسلمین قائم على الشورى ای تبادل الآراء والأفکار ومناقشتها والخلوص إلى النتائج التی تجلب المنافع للأمة وتدفع عنها المفاسد.
والأمر إذن هو ما یهم المجتمع سواءً تعلق بالمسألة السیاسیة کاختیار الحاکم أو النظام العام، وصولاً حتى أدنى المصالح التی تهم المجتمع أو الأمة.
وعندما نتحدث عن الشورى فإننا نفهم منها تداول الرأی فی المسألة، وهذا یعنی حتماً أن الآراء متعددة ولیست رأیاً واحداً، وفی هذا إقرار بوجود الرأی الآخر وبحقه فی التعبیر عن ذاته.
ولقد حاول بعض الإسلامیین التمییز بین الشورى الإسلامیة والدیموقراطیة الغربیة، باعتبار أن مرجعیة الشورى الإسلامیة هی الشرع الإلهی بینما مرجعیة الدیموقراطیة هی الشعب أو الشرائع الوضعیة.
وهذا الالتباس لیس دقیقاً، لیس على إطلاقه. وعلى کل حال فإن الدیموقراطیة بحد ذاتها لیست دیناً، وانما هی نظریة سیاسیة تکفل آلیة تحاکم تظهر من خلالها إرادة المجتمع، وتضمن خضوع السلطة والمجتمع لهذه الإرادة.
ومع الإقرار بأن هذه الآلیة غالباً ما یشوبها خلل فی التطبیق بسبب تدخل المصالح والضغوط المختلفة، إلا أنها إذا سلمت من العیوب فلا تتعارض مع مبادىء الإسلام التی تأمر بالشورى والمساواة والعدالة، کآلیة لتحدید اتجاه الأغلبیة فی کل قضیّة، مع الإشارة إلى أن الأسس الفلسفیة الدیموقراطیة، التی یتعلل بها الرافضون للدیموقراطیة فی رفضهم، لا تشکل خطراً.
فممَّ خوف الخائفین من المسلمین من ترک الإرادة العامة للناس تختار ما یناسبها ضمن الضوابط الإسلامیة فی ظل مجتمع مسلم؟
تختلف دوافع الأفراد وربما الجماعات فی سعیها للإمساک بالسلطة بین دوافع حمیدة وأخرى غیر محمودة، إلا إنه وفی جمیع الحالات لن تجد طالب سلطة إلا ویزعم أنه إنما یرید السلطة من أجل الخیر العام.
ولا بد لکل ذی سلطان من أناس یرفضون وجوده فی السلطة لأسباب
تختلف من جهة لأخرى، وهؤلاء یسمون فی الأنظمة السیاسیة المعاصرة بـ "المعارضة".
ووفقاً للنظریة اللیبرالیة تغدو المعارضة ضروریة، ولو لم تکن موجودة لوجب ایجادها لأنها تمثل الجهة التی تراقب أداء الحاکم وتنتقد هذا الأداء ما یؤدی إلى الاهتداء إلى العیوب والقیام بإصلاحها نظریاً على الأقل. وقدیماً قیل نصف الناس أعداءٌ لمن ولی الأحکام هذا إن عدل.
فما هو موقف الإسلام من المعارض؟ وهل هی مقبولة أم مرفوضة؟
من المعروف أن الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وظیفة کل مسلم بحدود قدرته وطاقته ومعرفته. وقد بین النبی صلى الله علیه وآله وسلمأن الدین هو النصیحة فقیل: لمن یا رسول الله؟ قال: لله ولکتابه ولرسوله ولأئمة المسلمین وعامتهم.
فتضح الأئمة من مهام کل مسلم. وأحادیث الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر کثیرة. وهذا هو جوهر عمل المعارضة حقیقة.
بل إن النبی صلى الله علیه وآله وسلم قال: "سید الشهداء حمزة، ورجل قام إلى ذی سلطان جائر فنصحه، فقتله"
ومع ذلک یزعم بعضهم أن المعارضة مرفوضة فی الإسلام بدلیل قوله علیه السلام "من خلع یداً من طاعة لقی الله یوم القیامة ولا حجة له، ومن مات ولیس فی عنقه بیعة مات میتة جاهلیة". رواه مسلم.
وتدل الوقائع التاریخیة على تهافت هذا الزعم لجهة أن المعارضة محظورة فی الدولة الإسلامیة ومنها:
الخلاف یوم السقیفة، فبعد وفاة الرسول الله صلى الله علیه وآله وسلم اختلف المهاجرون والأنصار حول أحقیة کل منهم فی الخلاقة. کما اختلف المهاجرون فیما بینهم. ولم تنته تلک الخلافات ولا آثارها بتولی أبی بکر الصدیق الخلافة.
فقد رفض علی مبایعة أبی بکر والتف حوله رهط من بنی هاشم یریدونه الخلیفة على المسلمین. واستمر الأمر لمدة ستة أشهر.وقد جرت حوارات عدیدة بین علی وابی بکر والمؤیدین له ولم تفلح فی ثنی علی عن موقفه. وحسم أبو بکر الأمر بتسلیمه بحق علی فی المعارضة وعدم البیعة وذلک عندما قال عمر بن الخطاب لعلی:
لست متروکاً حتى تبایع.
فتدخل أبو بکر قائلاً لعلی:"إن لم تبایع فلا أکرهک". واستمر علی فی معارضته ولم یبایع إلا عندما هدد خطر القبائل المرتدة المدینة ووحدة الدولة الإسلامیة، فکانت بیعته ذات بعد استراتیجی، ینم عن فهم سلیم لمعنى المعارضة وهو حفظ الدولة المسلمة، وقد قال قولته المشهورة:"لأسالمن ما سلم الإسلام". أو "لأسالمن ما سلمت أمور المسلمین".
وإذا کانت معارضة علی انتهت بعد فترة وجیزة فإن من الصحابة من وافاه الأجل ولم یبایع. فهذا هو سعد بن عبادة یرفض إعطاء البیعة لأبی بکر ومن بعده لعمر، ولم یحدث أن أکرهه أحد على البیعة أو حکم بخروجه من ربقة الدین(4).
ولا یمکن إغفال مواقف مثل موقف أبی ذر الغفاری فی معارضته لعثمان بن عفان الذی نفاه إلى الربذة ولکنه لم یحکم علیه بالمروق من الدین.
والمعارضة کما تصح من الأفراد فإنها تصح من الجماعة، فلیس من المحظور قیام الجماعة المعارضة المنظمة بل إن الآیة الکریمة تقول:﴿ولتکن منکم آمةٌ یدعون إلى الخیر ویأمرون بالمعروف وینهون عن المنکر، وأؤلئک هم المفلحون﴾.
وهذا هو مفهوم المعارضة الجادة والهادفة، ولیس المعارضة العبثیة أو الصوریة کالتی نراها ونسمع عنها فی کثیر من بلدان أمتنا، وهی المعارضة التی تهدف إلى إعطاء الشرعیة للأنظمة الحاکمة المستبدة، ولیس إلى الإصلاح والتغییر نحو الأفضل.
وأخیراً، إن ما یزعمه بعضهم من أن تلک هی طریق الفرقة والتنازع فلیس إلا وهماً وتهویلاً، وتقویة لإمکانیة ظهور الظلم والاستبداد. الفرقة فی الدین هی غیر التعددیة فی السیاسة.
وإذا کانت الأولى مذمومة لما تسببه من أذى على مستوى العقیدة والوحدة، فإن شؤون سیاسة الأمة وعمران المجتمعات لا تستقیم عادة بوحدانیة الفکر والفردیة فی الاجتهاد والقرار، وإنما بتلاقح الأفکار وبالحوار والنقاش وتقلیب الرأی وصولاً إلى ما فیه المصلحة العامة.
المصادر :
1- سورة البقرة، الآیة 177.
2- مطالعات فی الدین والإسلام والعصر. د. محمد خاتمی، ص 122.
3- سورة الشمس الآیات 7 – 10
4- راجع کتاب د. محمد عمارة. الإسلام وحقوق الإنسان ضرورات لا حقوق، سلسلة عالم المعرفة، رقم الکتاب 89، رقم الصفحة 87. صادر عن المجلس الوطنی للثقافة والفنون والآداب – الکویت.