انتهت معركة صفين بعدما كاد جيش علي أن يسحق جيش معاوية، لولا الحيلة التي اهتدى إليها عمرو بن العاص برفع المصاحف، والادعاء بتحكيم القرآن، والتي انطلت على قسم من جيش علي، فأجبروه على الموافقة على التحكيم وإيقاف الحرب، وإرسال حكمين على أن يتحاكما الى كتاب الله.
هذا ملخص ما جرى قبل التحكيم، ولا اُريد الدخول في تفاصيل السياق التاريخي لها، إلاّ أنني أود أن أتعرض أولا الى رأي القاضي ابن العربي حولها، لأنه جاء برأي غريب فيها، حيث قال في إحدى قواصمه:
وقد تحكم الناس في التحكيم، فقالوا فيه مالا يرضي الله، وإذا لاحظتموه بعين المروءة - دون الديانة- رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل بيّن.
والذي يصح في ذلك، ما روى الأئمة كخليفة بن خياط والدارقطني: أنه لما خرج الطائفة العراقية في مائة ألف، والشامية في سبعين أو تسعين ألفاً، نزلوا على الفرات بصفّين، اقتتلوا في أول يوم وهو الثلاثاء على الماء، فغلب أهل العراق عليه، ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة سبع وثلاثين، حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق، فكان من جهة علي الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت، ورفعت المصاحف من أهل الشام، ودعوا الى الصلح، وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها الى رجل، أبو موسى، ومن جهة معاوية عمرو بن العاص.
وكان أبو موسى رجلا تقياً ثقفاً فقيهاً عالماً?
وقالوا إنهما لما اجتمعا بأذرح من دومة الجندل وتفاوضا، اتفقا على أن يخلعا الرجلين، فقال عمرو لأبي موسى: اسبق بالقول فتقدم فقال: إني نظرت فخلعت علياً عن الأمر، ولينظر المسلمون لأنفسهم كما خلعت سيفي هذا من عاتقي - وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض-، وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر كما أثبت سيفي هذا في عاتقي، وتقلده، فأنكره أبو موسى، فقال عمرو: كذلك اتفقنا. وتفرق الجمع على ذلك الاختلاف.
ثم قال ابن عربي في (عاصمة):
هذا كله كذب صراح! ما جرى منه حرف قط! وإنما هو شيء اخترعته المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثته أهل المجانة والجهارة بالمعاصي والبدع، وإنما الذي روى الأئمة الثقات الاثبات: أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر في عصبة كريمة من الناس، منهم ابن عمر ونحوه، عزل عمرو معاوية!
ذكر الدارقطني بسنده الى حصين بن المنذر: لما عزل عمرو معاوية، جاء حصين بن المنذر فضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية، فبلغ ثناه معاوية،فأرسل إليّ فقال: إنه بلغني عن هذا (أي عن عمرو) كذا وكذا، فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه. فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى، كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولكن قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟
قال: أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو عنهم راض. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ قال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. قال: فكانت هي التي قتل معاوية منها نفسه.
فأتيته فأخبرته أن الذي بلغه عنه كما بلغه، فأرسل الى أبي الأعور الذكواني فبعثه في خيله، فخرج يركض فرسه ويقول: أين عدوّ الله، أين هذا الفاسق؟ قال أبو يوسف: أظنه قال: إنّما يريد حوباء نفسه، فخرج عمرو الى فرس تحت فسطاطه فجال في ظهره عرياناً فخرج يركضه نحو فسطاط معاوية وهو يقول: إن الضجور قد تحتلب العلبة، إن الضجور قد تحتلب العلبة، فقال معاوية: أحسبه ويريد الحالب فتدق أنفه وتكفأ إناؤه!(1).
إن القصة التي يوردها ابن العربي مدعياً أنها هي الصحيحة، وأنها قد جاءت عن الائمة الثقات، لتثير من التساؤلات أكثر بكثير مما تشير الرواية التي اتفق المؤرخون عليها، والتي أنكرها ابن العربي! إذ ما هو الأمر الذي قال الناس فيه ما قالوا -كما يقول عمرو بن العاص- وهل هناك مقالة تفشو بهذه السرعة بين الناس دون أن يكون لها أي أصل! وإذا كان عمرو بن العاص وأبو موسى قد اتفقا على خلع معاوية -كما يدعي عمرو- فعن أي شيء خلعاه؟ عن الخلافة وهو ليس بخليفة، أم عن إمارة الشام؟ فإن كانا قد خلعاه عن إمارة الشام، فلماذا لم يرضخ معاوية لحكمهما - وهو الذي طلب التحكيم- فيعزل نفسه نزولا عند حكم الحكمين!
وإن كان أبو موسى قد قال لعمرو: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما، فهو لم يخذل إمامه علي بن أبي طالب ويخلعه، فلماذا هرب إذاً الى مكة استحياء من علي، طالما أنه لم يقبل أو يفعل ما يستوجب غضب الخليفة عليه، ولماذا كان علي بن أبي طالب يلعنه في قنوته! وأين النتيجة في تلك القصة التي يرويها ابن العربي عن الدارقطني، والتي تبدو وكأنها هذيان محموم؟
إن محاولة تبرئة أبي موسى الأشعري من مسؤوليته في قضية التحكيم لا تجدي نفعاً، فإن لهذا الرجل سوابق غير محمودة، فهو بالأمس يخذّل الناس عن علي من على منبر الكوفة الذي جلس عليه بأمر علي نفسه حين عيّنه والياً على الكوفة، ويدَّعي انها فتنة، وأن أصحاب رسول الله أعلم بالأمر، وكأنه هو الصحابي الوحيد الذي بقي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مع أنه لم يدخل الإسلام إلاّ بعد فتح خيبر، وهل نسي أن علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وغيرهما من الصحابة الذين مع علي، هم أقدم منه إسلاماً وأعرف باُمور الدين، وأفهم لسنّة النبي (صلى الله عليه وآله)؟!
وإذا كانت نية الرجل سليمة حقاً، فما باله لم يخذّل الناس عن أصحاب الجمل! فلا بعث كتاباً الى عائشة يرجوها أن تقرّ في بيتها كما أمرها الله ورسوله، -وكما فعل غيره من الصحابة من ذوي البصائر- ولا حذّر طلحة والزبير من عواقب هذه الفتنة! مع العلم أن الواجب كان يحتّم عليه أن ينصر خليفته الذي اختاره المهاجرون والأنصار ممن هم أسبق منه إسلاماً وأكثر بلاءً فيه، وأن يخرج بأهل الكوفة لنصرته. كل هذه الهنات من أبي موسى تجعله موضع شك في نياته تجاه علي بن أبي طالب، وموقفه قبل أن يبدأ التحكيم ينم عن فساد نياته، فقد روى نصر بن مزاحم قال:
وكان آخر من ودّع أبا موسى، الأحنف بن قيس، أخذه بيده ثم قال له: يا أبا موسى اعرف خطب هذا الأمر، واعلم أن له ما بعده، وأنك إن أضعت العراق فلا عراق. اتق الله فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك، وإذا لقيت غداً عمراً فلا تبدأه بالسلام، فإنها وإن كانت سنّة، إلاّ أنه ليس من أهلها، ولا تعطه يدك فإنها أمانة، وإياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعة، ولا تلقه إلاّ وحده، واحذر أن يكلمك في بيت فيه مخدع تخبأ لك فيه الرجال والشهود. ثم أراد أن يُثوّر ما في نفسه لعلي، فقال له: فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي، فليختر أهل العراق من قريش الشام من شاءوا، وليختر أهل الشام من قريش العراق من شاءوا! فقال أبو موسى: قد سمعت ما قلت، ولم ينكر ما قاله من زوال الأمر عن علي!
فرجع الأحنف إلى علي (عليه السلام) فقال له: أخرج أبو موسى والله زبدة سقائه في أوّل محضة! لا أرانا إلاّ قد بعثنا رجلا لا ينكر خلعك! فقال علي: الله غالب على أمره(2).
فأبو موسى قد كشف عن مكنون نفسه قبل أن يرحل الى المكان المتفق عليه، وبدا أنه لا ينكر خلع علي بن أبي طالب، فقد كان مائلا عنه منذ البداية، لأن هواه مع غيره، فقد روى نصر أيضاً قال:
وقد كان الأجناد أبطأت على معاوية، فبعث الى رجال من قريش كانوا كرهوا أن يعينوه في حربه: إن الحرب قد وضعت أوزارها، والتقى هذان الرجلان في دومة الجندل، فأقدموا عليَّ.
فأتاه عبد الله بن الزبير، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وأبو الجهم بن حذيفة العدوي، وعبدالرحمان بن الأسود بن عبد يغوث الزهري، وعبدالله ابن صفوان الجمحي، وأتاه المغيرة بن شعبة -وكان مقيماً بالطائف لم يشهد الحرب- فقال له: يا مغيرة، ما ترى؟ قال: يا معاوية، لو وسعني أن أنصرك لنصرتك، ولكن عليَّ أن آتيك بأمر الرجلين. فرحل حتى أتى دومة الجندل، فدخل على أبي موسى كالزائر له! فقال: يا أبا موسى، ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟ قال: اُولئك خير الناس، خفّت ظهورهم من دمائهم، وخمصت بطونهم من أموالهم، ثم أتى عمراً فقال: يا أبا عبدالله، ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟ قال: اُولئك شرار الناس! لم يعرفوا حقاً ولم ينكروا باطلا.
فرجع المغيرة الى معاوية فقال له: قد ذقتُ الرجلين، أما عبدالله بن قيس، فخالع صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد هذا الأمر، وهواه في عبدالله بن عمر، وأما عمرو بن العاص فهو صاحبك الذي تعرف، وقد ظنّ الناس أنه يرومها لنفسه، وأنه لا يرى أنك أحق بهذا الأمر منه!(3).
فقد كان أبو موسى قد وطّن نفسه منذ البداية على خلع علي من الخلافة، وصرفها الى عبدالله بن عمر بن الخطاب - الذي كان هواه معه- فقد روى نصر أن أبا موسى قال غير مرة:
والله إن استطعت لأحيينّ اسم عمر بن الخطاب. قال: فقال عمرو بن العاص: إن كنت إنّما تريد أن تبايع ابن عمر لدينه، فما يمنعك من ابني عبدالله وأنت تعرف فضله وصلاحه؟ فقال: إن ابنك لرجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة(4).
فلما عجم عمرو بن العاص عود أبي موسى، وأدرك تهاونه في حق خليفته، دبّر له المكيدة التي أردته، وسأله آخر الأمر: أخبرني ما رأيك يا أبا موسى؟ قال: أرى أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، يختارون من شاءوا. فقال عمرو: الرأي والله ما رأيت، فأقبلا الى الناس وهم مجتمعون، فقال: يا أبا موسى، أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع واتفق، فتكلم أبو موسى فقال: إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله عزّوجل به أمر هذه الاُمة.
فقال عمرو: صدق وبرّ; يا أبا موسى، تقدّم فتكلم. فتقدم أبو موسى ليتكلم، فقال له ابن عباس: ويحك! والله إني لأظنه قد خدعك، إن كنتما قد اتفقتما على أمر، فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك ثم تكلم أنت بعده، فإن عمراً رجل غادر، ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت في الناس خالفك -وكان أبو موسى مغفلا- فقال له: إنّا قد اتفقنا.
فتقدم أبو موسى فحمد الله عزّوجل وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنّا قد نظرنا في أمر هذه الاُمة، فلم نر أصلح لأمرها، ولا ألمَّ لشعثها من أمر قد اجتمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع علياً ومعاوية، وتستقبل هذه الاُمة هذا الأمر فيولّوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت علياً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم، وولّوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا، ثم تنحّى. وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فإنه وليّ عثمان بن عفان والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه! فقال أبو موسى: مالك لا وفّقك الله، غدرت وفجرت! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. قال عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنّعه بالسوط، وحمل على شريح إبن لعمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم. وكان شريح بعد ذلك يقول: ما ندمتُ على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ألاّ أكون ضربته بالسيف آتياً به الدهر ما أتى.
والتمس أهل الشام أبا موسى، فركب راحلته ولحق بمكة.
قال ابن عباس: قبّح الله رأي أبا موسى! حذّرته وأمرته بالرأي فما عقل. فكان أبو موسى يقول: حذّرني ابن عباس غدرة الفاسق، ولكني اطمأننت إليه، وظننت أنه لن يؤثر شيئاً على نصيحة الاُمة(5).
ولما جاءت الأخبار الى علي بن أبي طالب، قام فخطب الناس، فكان مما قال:
ألا أن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما قد نبذا حكم الكتاب، وأحييا ما أمات، واتبع كل واحد منهما هواه، وحكم بغير حجة ولا بيّنة ولا سنة ماضية، واختلفا فيما حكما، فكلاهما لم يرشد، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين..
قال نصر: فكان علي (عليه السلام) بعد الحكومة إذا صلى الغداة والمغرب، وفرغ من الصلاة وسلّم، قال: اللهم العن معاوية، وعمراً، وأبا موسى، وحبيب بن مسلمة، وعبدالرحمان بن خالد، والضحاك بن قيس، والوليد بن عقبة.
فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا صلى لعن علياً وحسناً وحسيناً وابن عباس وقيس بن سعد والأشتر.
وزاد ابن ديزيل في أصحاب معاوية، أبا الأعور السلمي(6).
هذه هي قصة التحكيم كما وردت عند الطبري وتناقلها عنه المؤرخون، ولنا هنا وقفة مع القاضي ابن العربي، فلماذا أنكر هذه الرواية وقال إنها من وضع التاريخية للملوك؟ ومن هم اولئك التاريخية الذين يتهمهم؟ أليس الطبري هو المصدر الرئيسي الذي أورد الرواية، والذي اعتمده ابن العربي دون غيره في معظم الأخبار التي دوّنها في كتابه الذي بين أيدينا! أوليس هو الذي دعانا الى اعتماد الطبري دون سواه من المؤرخين! فما باله قد تنكّر له هذه المرة، بعد أن نقل عنه كل ما يوافق منحاه واتجاهه، ولكنه في هذه القضية انقلب على الطبري واتهمه! وتلك هي الحال مع معظم المؤلفين من القدامى والمعاصرين، فتراهم يمجّدون الطبري في نقل الأخبار التي توافق اتجاهاتهم، ولكنهم ينقلبون عليه إذا روى ما خالف هذه الاتجاهات، حتى أن بعضهم اتهم الطبري بالرفض!
المصادر :
1- العواصم من القواصم: 175.
2- شرح نهج البلاغة 2: 249، كتاب صفين: 616.
3- شرح نهج البلاغة 2: 249، كتاب صفين: 616.
4- المصدران السابقان، تاريخ الطبري 5: 68.
5- تاريخ الطبري 5: 70، شرح نهج البلاغة 2: 255.
6- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 259، تاريخ الطبري 5: 71 ولكنه لم يذكر أبا موسى من بينهم.
هذا ملخص ما جرى قبل التحكيم، ولا اُريد الدخول في تفاصيل السياق التاريخي لها، إلاّ أنني أود أن أتعرض أولا الى رأي القاضي ابن العربي حولها، لأنه جاء برأي غريب فيها، حيث قال في إحدى قواصمه:
وقد تحكم الناس في التحكيم، فقالوا فيه مالا يرضي الله، وإذا لاحظتموه بعين المروءة - دون الديانة- رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل بيّن.
والذي يصح في ذلك، ما روى الأئمة كخليفة بن خياط والدارقطني: أنه لما خرج الطائفة العراقية في مائة ألف، والشامية في سبعين أو تسعين ألفاً، نزلوا على الفرات بصفّين، اقتتلوا في أول يوم وهو الثلاثاء على الماء، فغلب أهل العراق عليه، ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة سبع وثلاثين، حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق، فكان من جهة علي الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت، ورفعت المصاحف من أهل الشام، ودعوا الى الصلح، وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها الى رجل، أبو موسى، ومن جهة معاوية عمرو بن العاص.
وكان أبو موسى رجلا تقياً ثقفاً فقيهاً عالماً?
وقالوا إنهما لما اجتمعا بأذرح من دومة الجندل وتفاوضا، اتفقا على أن يخلعا الرجلين، فقال عمرو لأبي موسى: اسبق بالقول فتقدم فقال: إني نظرت فخلعت علياً عن الأمر، ولينظر المسلمون لأنفسهم كما خلعت سيفي هذا من عاتقي - وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض-، وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر كما أثبت سيفي هذا في عاتقي، وتقلده، فأنكره أبو موسى، فقال عمرو: كذلك اتفقنا. وتفرق الجمع على ذلك الاختلاف.
ثم قال ابن عربي في (عاصمة):
هذا كله كذب صراح! ما جرى منه حرف قط! وإنما هو شيء اخترعته المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثته أهل المجانة والجهارة بالمعاصي والبدع، وإنما الذي روى الأئمة الثقات الاثبات: أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر في عصبة كريمة من الناس، منهم ابن عمر ونحوه، عزل عمرو معاوية!
ذكر الدارقطني بسنده الى حصين بن المنذر: لما عزل عمرو معاوية، جاء حصين بن المنذر فضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية، فبلغ ثناه معاوية،فأرسل إليّ فقال: إنه بلغني عن هذا (أي عن عمرو) كذا وكذا، فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه. فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى، كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولكن قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟
قال: أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو عنهم راض. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ قال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. قال: فكانت هي التي قتل معاوية منها نفسه.
فأتيته فأخبرته أن الذي بلغه عنه كما بلغه، فأرسل الى أبي الأعور الذكواني فبعثه في خيله، فخرج يركض فرسه ويقول: أين عدوّ الله، أين هذا الفاسق؟ قال أبو يوسف: أظنه قال: إنّما يريد حوباء نفسه، فخرج عمرو الى فرس تحت فسطاطه فجال في ظهره عرياناً فخرج يركضه نحو فسطاط معاوية وهو يقول: إن الضجور قد تحتلب العلبة، إن الضجور قد تحتلب العلبة، فقال معاوية: أحسبه ويريد الحالب فتدق أنفه وتكفأ إناؤه!(1).
إن القصة التي يوردها ابن العربي مدعياً أنها هي الصحيحة، وأنها قد جاءت عن الائمة الثقات، لتثير من التساؤلات أكثر بكثير مما تشير الرواية التي اتفق المؤرخون عليها، والتي أنكرها ابن العربي! إذ ما هو الأمر الذي قال الناس فيه ما قالوا -كما يقول عمرو بن العاص- وهل هناك مقالة تفشو بهذه السرعة بين الناس دون أن يكون لها أي أصل! وإذا كان عمرو بن العاص وأبو موسى قد اتفقا على خلع معاوية -كما يدعي عمرو- فعن أي شيء خلعاه؟ عن الخلافة وهو ليس بخليفة، أم عن إمارة الشام؟ فإن كانا قد خلعاه عن إمارة الشام، فلماذا لم يرضخ معاوية لحكمهما - وهو الذي طلب التحكيم- فيعزل نفسه نزولا عند حكم الحكمين!
وإن كان أبو موسى قد قال لعمرو: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما، فهو لم يخذل إمامه علي بن أبي طالب ويخلعه، فلماذا هرب إذاً الى مكة استحياء من علي، طالما أنه لم يقبل أو يفعل ما يستوجب غضب الخليفة عليه، ولماذا كان علي بن أبي طالب يلعنه في قنوته! وأين النتيجة في تلك القصة التي يرويها ابن العربي عن الدارقطني، والتي تبدو وكأنها هذيان محموم؟
إن محاولة تبرئة أبي موسى الأشعري من مسؤوليته في قضية التحكيم لا تجدي نفعاً، فإن لهذا الرجل سوابق غير محمودة، فهو بالأمس يخذّل الناس عن علي من على منبر الكوفة الذي جلس عليه بأمر علي نفسه حين عيّنه والياً على الكوفة، ويدَّعي انها فتنة، وأن أصحاب رسول الله أعلم بالأمر، وكأنه هو الصحابي الوحيد الذي بقي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مع أنه لم يدخل الإسلام إلاّ بعد فتح خيبر، وهل نسي أن علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وغيرهما من الصحابة الذين مع علي، هم أقدم منه إسلاماً وأعرف باُمور الدين، وأفهم لسنّة النبي (صلى الله عليه وآله)؟!
وإذا كانت نية الرجل سليمة حقاً، فما باله لم يخذّل الناس عن أصحاب الجمل! فلا بعث كتاباً الى عائشة يرجوها أن تقرّ في بيتها كما أمرها الله ورسوله، -وكما فعل غيره من الصحابة من ذوي البصائر- ولا حذّر طلحة والزبير من عواقب هذه الفتنة! مع العلم أن الواجب كان يحتّم عليه أن ينصر خليفته الذي اختاره المهاجرون والأنصار ممن هم أسبق منه إسلاماً وأكثر بلاءً فيه، وأن يخرج بأهل الكوفة لنصرته. كل هذه الهنات من أبي موسى تجعله موضع شك في نياته تجاه علي بن أبي طالب، وموقفه قبل أن يبدأ التحكيم ينم عن فساد نياته، فقد روى نصر بن مزاحم قال:
وكان آخر من ودّع أبا موسى، الأحنف بن قيس، أخذه بيده ثم قال له: يا أبا موسى اعرف خطب هذا الأمر، واعلم أن له ما بعده، وأنك إن أضعت العراق فلا عراق. اتق الله فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك، وإذا لقيت غداً عمراً فلا تبدأه بالسلام، فإنها وإن كانت سنّة، إلاّ أنه ليس من أهلها، ولا تعطه يدك فإنها أمانة، وإياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعة، ولا تلقه إلاّ وحده، واحذر أن يكلمك في بيت فيه مخدع تخبأ لك فيه الرجال والشهود. ثم أراد أن يُثوّر ما في نفسه لعلي، فقال له: فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي، فليختر أهل العراق من قريش الشام من شاءوا، وليختر أهل الشام من قريش العراق من شاءوا! فقال أبو موسى: قد سمعت ما قلت، ولم ينكر ما قاله من زوال الأمر عن علي!
فرجع الأحنف إلى علي (عليه السلام) فقال له: أخرج أبو موسى والله زبدة سقائه في أوّل محضة! لا أرانا إلاّ قد بعثنا رجلا لا ينكر خلعك! فقال علي: الله غالب على أمره(2).
فأبو موسى قد كشف عن مكنون نفسه قبل أن يرحل الى المكان المتفق عليه، وبدا أنه لا ينكر خلع علي بن أبي طالب، فقد كان مائلا عنه منذ البداية، لأن هواه مع غيره، فقد روى نصر أيضاً قال:
وقد كان الأجناد أبطأت على معاوية، فبعث الى رجال من قريش كانوا كرهوا أن يعينوه في حربه: إن الحرب قد وضعت أوزارها، والتقى هذان الرجلان في دومة الجندل، فأقدموا عليَّ.
فأتاه عبد الله بن الزبير، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وأبو الجهم بن حذيفة العدوي، وعبدالرحمان بن الأسود بن عبد يغوث الزهري، وعبدالله ابن صفوان الجمحي، وأتاه المغيرة بن شعبة -وكان مقيماً بالطائف لم يشهد الحرب- فقال له: يا مغيرة، ما ترى؟ قال: يا معاوية، لو وسعني أن أنصرك لنصرتك، ولكن عليَّ أن آتيك بأمر الرجلين. فرحل حتى أتى دومة الجندل، فدخل على أبي موسى كالزائر له! فقال: يا أبا موسى، ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟ قال: اُولئك خير الناس، خفّت ظهورهم من دمائهم، وخمصت بطونهم من أموالهم، ثم أتى عمراً فقال: يا أبا عبدالله، ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟ قال: اُولئك شرار الناس! لم يعرفوا حقاً ولم ينكروا باطلا.
فرجع المغيرة الى معاوية فقال له: قد ذقتُ الرجلين، أما عبدالله بن قيس، فخالع صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد هذا الأمر، وهواه في عبدالله بن عمر، وأما عمرو بن العاص فهو صاحبك الذي تعرف، وقد ظنّ الناس أنه يرومها لنفسه، وأنه لا يرى أنك أحق بهذا الأمر منه!(3).
فقد كان أبو موسى قد وطّن نفسه منذ البداية على خلع علي من الخلافة، وصرفها الى عبدالله بن عمر بن الخطاب - الذي كان هواه معه- فقد روى نصر أن أبا موسى قال غير مرة:
والله إن استطعت لأحيينّ اسم عمر بن الخطاب. قال: فقال عمرو بن العاص: إن كنت إنّما تريد أن تبايع ابن عمر لدينه، فما يمنعك من ابني عبدالله وأنت تعرف فضله وصلاحه؟ فقال: إن ابنك لرجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة(4).
فلما عجم عمرو بن العاص عود أبي موسى، وأدرك تهاونه في حق خليفته، دبّر له المكيدة التي أردته، وسأله آخر الأمر: أخبرني ما رأيك يا أبا موسى؟ قال: أرى أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، يختارون من شاءوا. فقال عمرو: الرأي والله ما رأيت، فأقبلا الى الناس وهم مجتمعون، فقال: يا أبا موسى، أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع واتفق، فتكلم أبو موسى فقال: إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله عزّوجل به أمر هذه الاُمة.
فقال عمرو: صدق وبرّ; يا أبا موسى، تقدّم فتكلم. فتقدم أبو موسى ليتكلم، فقال له ابن عباس: ويحك! والله إني لأظنه قد خدعك، إن كنتما قد اتفقتما على أمر، فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك ثم تكلم أنت بعده، فإن عمراً رجل غادر، ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت في الناس خالفك -وكان أبو موسى مغفلا- فقال له: إنّا قد اتفقنا.
فتقدم أبو موسى فحمد الله عزّوجل وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنّا قد نظرنا في أمر هذه الاُمة، فلم نر أصلح لأمرها، ولا ألمَّ لشعثها من أمر قد اجتمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع علياً ومعاوية، وتستقبل هذه الاُمة هذا الأمر فيولّوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت علياً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم، وولّوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا، ثم تنحّى. وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فإنه وليّ عثمان بن عفان والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه! فقال أبو موسى: مالك لا وفّقك الله، غدرت وفجرت! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. قال عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنّعه بالسوط، وحمل على شريح إبن لعمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم. وكان شريح بعد ذلك يقول: ما ندمتُ على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ألاّ أكون ضربته بالسيف آتياً به الدهر ما أتى.
والتمس أهل الشام أبا موسى، فركب راحلته ولحق بمكة.
قال ابن عباس: قبّح الله رأي أبا موسى! حذّرته وأمرته بالرأي فما عقل. فكان أبو موسى يقول: حذّرني ابن عباس غدرة الفاسق، ولكني اطمأننت إليه، وظننت أنه لن يؤثر شيئاً على نصيحة الاُمة(5).
ولما جاءت الأخبار الى علي بن أبي طالب، قام فخطب الناس، فكان مما قال:
ألا أن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما قد نبذا حكم الكتاب، وأحييا ما أمات، واتبع كل واحد منهما هواه، وحكم بغير حجة ولا بيّنة ولا سنة ماضية، واختلفا فيما حكما، فكلاهما لم يرشد، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين..
قال نصر: فكان علي (عليه السلام) بعد الحكومة إذا صلى الغداة والمغرب، وفرغ من الصلاة وسلّم، قال: اللهم العن معاوية، وعمراً، وأبا موسى، وحبيب بن مسلمة، وعبدالرحمان بن خالد، والضحاك بن قيس، والوليد بن عقبة.
فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا صلى لعن علياً وحسناً وحسيناً وابن عباس وقيس بن سعد والأشتر.
وزاد ابن ديزيل في أصحاب معاوية، أبا الأعور السلمي(6).
هذه هي قصة التحكيم كما وردت عند الطبري وتناقلها عنه المؤرخون، ولنا هنا وقفة مع القاضي ابن العربي، فلماذا أنكر هذه الرواية وقال إنها من وضع التاريخية للملوك؟ ومن هم اولئك التاريخية الذين يتهمهم؟ أليس الطبري هو المصدر الرئيسي الذي أورد الرواية، والذي اعتمده ابن العربي دون غيره في معظم الأخبار التي دوّنها في كتابه الذي بين أيدينا! أوليس هو الذي دعانا الى اعتماد الطبري دون سواه من المؤرخين! فما باله قد تنكّر له هذه المرة، بعد أن نقل عنه كل ما يوافق منحاه واتجاهه، ولكنه في هذه القضية انقلب على الطبري واتهمه! وتلك هي الحال مع معظم المؤلفين من القدامى والمعاصرين، فتراهم يمجّدون الطبري في نقل الأخبار التي توافق اتجاهاتهم، ولكنهم ينقلبون عليه إذا روى ما خالف هذه الاتجاهات، حتى أن بعضهم اتهم الطبري بالرفض!
المصادر :
1- العواصم من القواصم: 175.
2- شرح نهج البلاغة 2: 249، كتاب صفين: 616.
3- شرح نهج البلاغة 2: 249، كتاب صفين: 616.
4- المصدران السابقان، تاريخ الطبري 5: 68.
5- تاريخ الطبري 5: 70، شرح نهج البلاغة 2: 255.
6- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 259، تاريخ الطبري 5: 71 ولكنه لم يذكر أبا موسى من بينهم.