وهو النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس بن زيد بن مالك ابن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاريّ ، الخزرجي ، وكنيته : أبو عبد الله المدنيّ ، وقيل أبو محمّد. (1)
ولّاه معاوية بن أبي سفيان إمارة الكوفة سنة 59 للهجرة ، وذلك بعد عزل عبد الرحمن بن أمّ الحكم عنها ، ثمّ أقرّه يزيد بن معاوية سنة 60 للهجرة ، ثمّ عزله ، وبعث بدله عبيد الله بن زياد. (2)
ولد النعمان بن بشير في المدينة ، وهو أوّل مولود في الإسلام ، ولد في المدينة من الأنصار ، وهو ابن أخت الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة (3) ، وله 114 حديثا اتفقا له على خمسة ، وانفرد البخاريّ بحديث واحد ، ومسلم بأربعة أحاديث.
وكان النعمان بن بشير (عثمانيّا) حضر مع معاوية حرب صفّين ، ولم يكن مع معاوية من الأنصار غيره ، وكان من المقربين إلى معاوية ، وكذلك عند يزيد بعده.
والنعمان بن بشير من المعروفين بالشعر سلفا وخلفا ، فجدّه شاعر ، وأبوه شاعر ، وعمّه شاعر ، وأخوه شاعر ، وأولاده وأحفاده شعراء. (4)
وأوّل شعر قاله النعمان (وهو في حداثة سنّه) وذلك عند ذهابه مع أقرانه إلى الأردن ، فأهدت لهم امرأة من بني القين تسمّى (ليلى) هدية فقال : (5)
يا خليلي ودّعا دار ليلى / ليس مثلي يحل دار الهوان
إنّ قينية تحلّ محبّا / وحفيرا فجنبني ترفلان (6)
لا تؤاتيك في المغيب إذا ما / حال من دونها فروع قنان (7)
إن ليلى ولو كلّفت بليلى / عافها عنك عائق غير وان
وبعد سنين طوال ذهبت ليلى القينيّة إلى (حمص) وكان النعمان بن بشير أميرها فدخلت عليه ، فعرفها ، وأنشأ يقول : (8)
ألا استأذنت ليلى فقلنا لها لجي / ومالك لا تدخلين بسلام
فإنّ أناسا زرتهم ثمّ حرّموا / عليك دخول البيت غير كرام
فأكرمها النعمان طيلة بقائها في حمص ، ثمّ رحلت.
وكانت ابنته (حميدة) قد تزوجت من الحارث بن خالد المخزومي ، وقيل المهاجر بن عبد الله بن خالد ، فهجته وقالت : (9)
كهول دمشق وشبّانها / أحبّ إليّ من الجاليه (10)
صماحهم (11) كصماح التيو / س أعيا على المسك والغاليه (12)
وقمل يدبّ دبيب الجراد / أكاريس أعيا على الفاليه
فطلّقها زوجها ، ثمّ تزوّجها روح بن حاتم الجذاميّ ، فهجته أيضا ، وخاطبت أخاها الّذي زوّجها من روح فقالت : (13)
أضلّ الله حلمك من غلام / متّى كانت مناكحنا جذام
أترضى بالأكارع والذنابي / وقد كنّا يقرّ لنا السنام
فطلقها روح ، وقال لها : سلّط الله عليك زوجا يشرب الخمر ، ويتقيء في حجرك ، فتزوجت بعده (الفيض بن أبي عقيل الثقفيّ) ، فكان يسكر ويقيء في حجرها. وكانت تقول : (أجيبت فيّ دعوة روح).
وقالت تهجو الفيض : (14)
وهل أنا إلّا مهرة عربية / سليلة المراس تجللها بغل
فإن نتجت مهرا كريما فبالحرى / وإن كان إقراف فما أنجب الفحل
وعند ما انتخب الإمام عليّ عليهالسلام خليفة للمسلمين ، بعد مقتل عثمان بن عفّان ، بايعته جميع الأنصار ، ما عدا نفر قليل ، كان من جملتهم النعمان بن بشير الأنصاريّ ، امتنعوا عن البيعة ، فقال النعمان : (15)
لقد طلب الخلافة من بعيد / وسارع في الضلال أبو تراب (16)
معاوية الإمام وأنت منها / على وتح بمنقطع السراب
والنعمان ، هو الّذي أخذ قميص عثمان ، وذهب به إلى معاوية في الشام فوضع على المنبر ، وأمر معاوية بمشاهدة القميص (وعليه الدماء) وظل الشاميّون يبكون على القميص سنة كاملة ، ومعاوية كان يلبسه أحيانا ليزيد في حماسهم ، حتّى آلوا على أنفسهم ان لا يناموا على فراش حتّى يقتلوا قتلة عثمان ، أو يموتوا. (17)
وجاءت الأنصار ، ومعهم النعمان بن بشير إلى معاوية ، فمنعوهم من الدخول عليه حتّى يؤذن لهم ، ثمّ جاء عبد الملك بن مروان ودخل على معاوية ، وأخبره بأن الأنصار على الباب ، فقال عمرو بن العاص (وكان جالسا عند معاوية) : ما هذا اللّقب الّذي جعلوه نسبا؟! أرددهم إلى أنسابهم. (18)
فنادى المنادي : من كان بالباب من ولد عمرو بن عامر فليدخل ، فدخلوا. ثمّ نادى مرّة أخرى : من كان ها هنا من الأوس والخزرج فليدخل. فلمّا سمع النعمان بذلك غضب وقال : (19)
يا سعد (20) لا تعد الدعاء فما لنا / نسب نجيب به سوى الأنصار
نسب تخيّره الإله لقومنا / أثقل به نسبا على الكفار
إنّ الّذين ثووا ببدر منكم / يوم القليب هم وقود النار
فرجع النعمان ومن معه من الأنصار ثمّ بعد ذلك أرسل إليه معاوية فرده ، وقضى حوائجه وحوائج جماعته.
وكان يزيد بن معاوية هو الآخر يكره الأنصار ، فطلب من الأخطل (21) أن يهجوهم فقال (22) :
وإذا نسيت ابن الفريعة (23) خلته / كالجحش بين حمارة وحمار
لعن الإله من اليهود عصابة / بالجزع بين صليصل وصدار (24)
قوم اذا هدر العصير / رأيتهم حمر عيونهم المسطار (25)
خلّوا المكارم لستم من أهلها / وخذوا مساحيكم (26) بني النجّار (27)
إنّ الفوارس يعرفون ظهوركم / أولاد كل مقبّح أكّار (28)
ذهبت قريش بالمكارم كلّها / واللؤم تحت عمائم الأنصار
فلمّا سمع النعمان بن بشير بهذه الأبيات ، ذهب إلى معاوية ، فخلع عمامته عن رأسه وقال : يا امير المؤمنين : أترى لؤما؟
فقال معاوية : بل أرى كرما وخيرا ، فماذا دهاك!! قال النعمان : زعم الأخطل بأن اللؤم تحت عمائم الأنصار. فقال له معاوية : (لك لسانه فأقطعه) (29).
وجيء بالأخطل حالا ، فطلب ان يدخلوه على يزيد بن معاوية اولا ، فأدخلوه فطمأنه يزيد ثمّ دخل على أبيه ، وطلب منه إخلاء سبيل الأخطل ، لأنّه شاعرهم الّذي يمدحهم ، فأطلق معاوية سراحه وأسترضى النعمان.
وعند ما كان النعمان بن بشير أميرا على (الكوفة) ، امره معاوية بزيادة رواتب أهل الكوفة عشرة دنانير لكل واحد منهم فلم يدفعها لهم النعمان ، وذلك لأنّه يكرههم لحبهم لعليّ بن أبي طالب.
وخطب النعمان بن بشير ذات يوم فصاح أهل الكوفة : (ننشدك الله والزيادة). فقال لهم النعمان : اسكتوا. فقام إليه عبد الرحمن بن همّام السلوليّ فقال (30) :
زيادتنا نعمان لا تحبسّنها خف الله فينا والكتاب (31) الّذي تتلو فإنك قد حمّلت منّا أمانة بما عجزت عنه الصلاخمة (32) البزل (33)
فلا يك باب الشرّ تحسن فتحه لدينا ، وباب الخير أنت له قفل
وأنت امرؤ حلو اللسان بليغه / فما له عند الزيادة لا يحلو؟!
وقبلك قد كانوا علينا أئمة / يهمهم تقويمنا وهم عصل
إذا نصبوا للقول فقالوا فأحسنوا / ولكن حسن القول خالفه الفعل
يذمّون دنياهم وهم يرضعونها / أفاويق حتّى ما يدر لهم ثعل
وعزل النعمان بن بشير الأنصاريّ عن أمارة الكوفة ، عزله معاوية بن أبي سفيان ، فولّاه القضاء في دمشق ، ثمّ ولّاه إمارة (حمص) فبقى فيها إلى ان قتل. وقيل ذهب أعشى همدان إلى النعمان بن بشير الأنصاريّ عند ما كان أميرا على (حمص) فخطب النعمان في الناس قائلا : (يا أهل حمص ، هذا ابن عمّكم ، من أهل العراق والشرف ، جاء يسترفدكم فماذا ترون)؟. قالوا : (اصلح الله الامير إنّما الأمر اليك). فقال النعمان : قد حكمنا له على أنفسنا بدينارين من كلّ واحد منا ، فأعطاه من بيت المال أربعين ألف دينار ، حيث كان عدد اصحاب النعمان عشرون ألف. وكان النعمان يفتخر ويقول :
ومن ذا يعادينا من الناس معشر / كرام وذو القرنين منّا وحاتم
المصادر :
1- ابن بكار ـ الأخبار الموفقيات. ص ٢٢٨. وتاريخ الطبري. ج ٣ / ٤٩. وابن حبان ـ الثقات. ج ٣ / ٤٠٩. وأبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٢٨. وابن حجر العسقلاني ـ تهذيب التهذيب. ج ٢٩ / ٤١٤.
2- تاريخ الطبري. ج ٥ / ٣٤٨. وابن حبان ـ الثقات. ج ٣ / ٤١٠. والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٤١٢. وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ١٣١.
3- عبد الله بن رواحة : استشهد في معركة اليرموك مع جعفر الطّيار وآخرون وقبره في كرك بالأردن.
4- أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٤١.
5- نفس المصدر السابق.
6- محبّ وحفير وترفلان : أسماء أماكن في الشام.
7- قنان : أسم جبل بأعلى نجد
8- أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٤١.
9- المصدر السابق. ج ١٦ / ٥٣.
10- الجاليه : القوم الّذين رحلوا عن بلادهم (أجلوهم).
11- الصماح : العرق المنتن (الصنان).
12- الغالية : نوع من العطور.
13- أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٥٣.
14- أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٥٤.
15- تاريخ الطبري. ج ٤ / ٥٦٢.
16- أبو تراب : كنية الإمام عليّ عليهالسلام كنّاه بها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان أعداء الإمام عليهالسلام يتصورون بأنّ هذه الكنية انتقاصا له.
17- تاريخ الطبري. ج ٤ / ٥٦٢.
18- طه حسين ـ الآدب الجاهليّ ص / ١٥٥
19- ابو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني ج ١٦ / ٤٨ وطه حسين ـ في الأدب الجاهلي ص ١٥٥
20- سعد : حاجب معاوية ، واسمه سعد بن دره.
21- الأخطل : واسمه غياث بن غوث وهو شاعر هجاء من شعراء الدولة الأموية
22- ابن بكار ـ الأخبار الموفقيات ص ٢٢٨ وابو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني ج ١٦ / ٣٥
23- ابن الفريعة : كنية حسّان بن ثابت (شاعر الرسول) والفريعة : أمّه.
24- صليصل وصدار : أسم مكان قرب المدينة.
25- المسطار : الخمرة الّتي اعتصرت من العنب حديثا.
26- المسحاة : آلة حديد تستعمل للحراثة.
27- بني النجار : إحدى قبائل المدينة يشتغلون بالزراعة والفلاحة.
28- أكار : الزراع ، الحراث.
29- ابو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني ج ١٦ / ٢٩ ، ٣٦.
30- المصدر السابق. ج ١٦ / ٣١.
31- الكتاب : كان النعمان بن البشير إذا خطب على منبر الكوفة يكثر من قراءة القرآن ، كان يقول : لا ترون على منبركم هذا أحدا من بعدي يقول سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال.
32- الصلاخمة : الجمال الصلبة الشديدة.
33- البزل : جمع بازل وهو الجمل الّذي انشق نابه.