قال تعالى في كتابه المجيد واصفاً النبيّ الأعظم صلى الله عليه واله في مدحة ما كانت ولن تكون لأحدٍ غيره صلى الله عليه واله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم﴾. ثمّ أمرنا سبحانه وتعالى بطاعته والاقتداء به والأخذ من سيرته والتحلّي بفضائله ومحاسن أخلاقه فقال عزَّ من قائل: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.
رسول الله صلى الله عليه واله الّذي يقول: "إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق". هذه المكارم الّتي لا بدّ للمؤمن أن يتحلّى بها، وأن تتجلّى في صفاته الشخصيّة ومعاملاته مع الناس. هذه الأخلاق الّتي تمهّد للفلاح والنجاة ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.
عندما يتأمّل الإنسان في مجرى أغلب الناس في أمور حياتهم يجد أنّ أغلبهم منهمك في تأمين قوت الأجساد من طعام وشراب، وما يطلبه الجسد من رغبات أخرى، غافلين عن كلّ ما من شأنه أن يغذّي أرواحهم ويقوّي نفوسهم، وقد يؤول الأمر بالبعض إلى أن يُخرج همّ غذاء روحه من فكره نهائيّاً، وحتّى لو أنّ دينه وخُلُقه قد تعرَّضا لهزّات عنيفة لكنّه لا يشعر بها، فينطبق عليه الشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه السلام:
أبنيَّ إنَّ - من الرجال بهيمةً / في صورة الرجُل السميع المبصرِ
فطنٌ لكلِّ رزيّةٍ في مالِهِ / وإذا أصيبَ بدينهِ لمْ يشعر
نعم، فهذا الصنف من الناس لن يلتفت إلّا إلى دنياه وما أصابها, لأنّ الدنيا أمست أكبر همّه، وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همّه، جعل الله تعالى الفقر بين عينيه، وشتّت أمره، ولم ينل من الدنيا إلّا ما قسم الله له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همّه، جعل الله الغنى في قلبه، وجمع له أمره".1
ومن هنا فلا بدّ من أن يتنبّه الإنسان إلى همّ الآخرة، ولا يكون ذلك إلّا بالتصميم على تهذيب النفس, لأنّ تهذيبها هو الّذي يحقّق الهدف الأسمى لخلق الإنسان وبعثة الأنبياء "إنّما بُعِثْتُ لأتمّم مكارم الأخلاق"2.
وإنّ أفضل طريقة لبيان أهميّة علم الأخلاق ومعرفتها، الرجوع إلى الآيات القرآنيّة والروايات الصادرة عن المعصومين عليهم السلام.
الأخلاق ومصير الإنسان
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم آياته: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾3ويُستفاد من الآيات الشريفة أهميّة الأخلاق، حيث ورد الحديث عنها كجواب للأقسام الّتي أقسم الله تعالى فأتى قوله تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ جواباً للقسم.ويشير قوله تعالى ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾4 إلى الحجّة الباطنيّة على الإنسان، فإنّ لله تعالى حجّتين على عباده, الأولى حجّة ظاهرية وهي الأنبياء والأئمّة عليهم السلام والعلماء والصالحون، والثانية باطنيّة وهي العقل، فإنّ الإنسان بفطرته يُدرك الحسن والقبيح من الأمور. رُوي عن الإمام الكاظم عليه السلام: "يا هشام، إنّ لله حجّتين، حجّة ظاهرة، وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة، وأمّا الباطنة فالعقول"5.
وقد أكّدت الكثير من الروايات عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه واله وأهل بيته عليهم السلام على أهميّة حُسْنِ الخُلُق فعن رسول الله صلى الله عليه واله: "إنّ أحبّكم إلى الله أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون"6.وعنه صلى الله عليه واله: "إنّ العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنّه لضعيف العبادة"7.وعنه صلى الله عليه واله قال: "إنّ أثقل ما يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خُلُقٌ حسن"8.
ما هو علم الأخلاق؟
الأخلاق هي مجموعة الصفات النفسيّة والباطنيّة الّتي يتّصف بها الإنسان، كالتواضع والشجاعة... ويُطلق كذلك على الأعمال الّتي تُعتبر آثاراً لهذه الصفات كالتصدّق على الفقير ومساعدة المحتاج، والصدق وفعل الكرم...، ومن هنا يمكن تقسيم الأخلاق إلى قسمين أساسَيْن هما: صفات نفسيّة وأعمال.وسيكون كلامنا في البداية في جانب الصفات النفسيّة، ثمّ بعد ذلك في جانب الأعمال.
قوى النفس الإنسانيّة
إنّ المحور الأساس لصفات الإنسان النفسيّة يكمن في قوى أربع تعود إليها جميع الملكات والتوجّهات النفسيّة، وهذه القوى الأربع هي:1- القوّة العقليّة: هذه القوّة من شأنها أن تُدرك الحسن من القبيح وتميّز الخير من الشر، ثمّ تأمر بفعل الحسن منها وترك القبيح.
2- القوّة الغضبيّة: وهي الّتي يدفع بها الإنسان الشرور والمخاطر والأذى عن نفسه، وبأيّ صورة مشروعة أو غير مشروعة, لأنّ هذه القوّة نفسَها لا تميّز بين الحسن والقبيح.
3- القوّة الشهويّة: وهي القوّة الّتي يطلب بها الإنسان المنفعة لنفسه، من قبيل المأكل والمشرب والشهوة، من دون أن تلاحظ هذه القوّة فيما تطلبه الحلال من الحرام أم الطاهر من النجس أو الحسن من القبيح, لأنّ ذلك ليس من شأنها، بل كلّ ما تراه هو الرغبة الجامحة لهذه الأمور.
4- القوّة الوهميّة: ووظيفة هذه القوّة أن تتابع التفاصيل الصغيرة من الأمور لتحلّلها وتستخرج منها الحيل لكي تتوصّل بها إلى تحقيق رغبات القوى الثلاث المتقدّمة، وعلى هذا فلو سُخّرت في خدمة القوّة العقليّة لبرع الإنسان في مجالات العلوم والاختراعات المفيدة، ولو سخّرها في خدمة القوّة البهيميّة لبرع في نصب المكائد لتلبية شهواته، ولو سخّرها في خدمة القوّة الغضبيّة، لبرع في العدوان والطمع والجشع.
وبناء على هذا التفصيل فإنّ النفس إذا تبعت القوّة الشهويّة سُمّيت نفساً " بهيميّة" لأنّ البهيمة لا يهمّها سوى علفها وملذّاتها، وإذا تبعت القوّة الغضبيّة سمّيت "سبعيّة" لأنّ فيها طبع السباع الضارية، وإذا تبعت القوّة العقليّة سمّيت "ملكيّة إلهيّة".
التوازن في قوى النفس
إنّ قوى النفس الّتي سبق الحديث عنها لها حدان متراميان, الأوّل حدّ الإفراط والثاني حدّ التفريط. ولا بدّ لسالك درب الأخلاق من أن يلتزم الوسط والاعتدال في القوّة الشهويّة بأن يكون الإنسان عفيفاً عقلاً وشرعاً، لا حدّالإفراط بأن تكون الشهوة شديدة لا ترى أمامها رادعاً في الوصول إلى مآربها، ولا حدّ التفريط في خمودها بحيث تبطل الفائدة منها، فإنّ فائدة شهوة البطن أن يقيم بها الإنسان أودَه ويستمرّ في الحياة، والشهوة الجنسيّة لبقاء النسل، فلو كانتا خامدتين لما عُمِّر العالم وانتفت مظاهر الحياة فيه، ولو كانتا متفجّرتين كبركان يجتاح أمامه كلّ ما يمرّ به لذابت الأرض بجرائم أهلها وفسادهم.
وحدّ الاعتدال في الغضبيّة أن يكون المرء شجاعاً لا يخاف، وحدّ الإفراط في التهوّر والإقدام على المكاره بدون دراسة ونظر، وحدّ التفريط في الجبن والاستسلام والخنوع.
ومن هنا فعلى الإنسان السالك إلى الله تعالى بتهذيب نفسه أن لا يدع أيّاً من قواه يميل به عن الجادّة الوسط إلى حدّي الإفراط والتفريط, لأنّ كلّاً من هذه القوى تسعى لتحقيق رغباتها بغضّ النظر عن مصالح الأخرى، ومن هنا كانت النفس الإنسانيّة ساحةً لأكبر المعارك، وأكبرُ الجهاد أن يجاهد الإنسان هذه القوى الّتي تتصارع يميناً وشمالاً لتخرج من حدّ الوسطيّة والفضيلة، إلى الانحراف والرذيلة، ولذلك ورد في الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله أنّه قال لقوم رجعوا من ساحة المعركة: "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر"9.
الخلاصة
- قوى النفس الإنسانيّة هي:
1- العقليّة.
2- الغضبيّة.
3-الشهويّة.
4- الوهميّة.
- إنّ النفس إذا تبعت القوّة الشهويّة سمّيت نفساً "بهيميّة", لأنّ البهيمة لا يهمّها سوى علفها وملذّاتها، وإذا تبعت القوّة الغضبيّة سمّيت "سبعيّة" لأنّ فيها طبع السباع الضارية، وإذا تبعت القوّة العقليّة سمّيت "ملكيّة إلهيّة".
- إنّ قوى النفس الّتي سبق الحديث عنها لها حدّان متراميان الأوّل حدّ الإفراط والثاني حدّ التفريط، ولا بدّ لسالك درب الأخلاق وتهذيب النفس من أن يسلك بين هذين الحدّين، أي في الوسط، ولأنّ كلّاً من هذه القوى تسعى لتحقيق رغباتها بغضّ النظر عن مصالح الأخرى كانت النفس الإنسانيّة ساحة لأكبر المعارك، وكان الجهاد فيها هو الجهاد الأكبر.
العبادة الحقّة
من مواعظ الإمام الخمينيّ قدس سره في كتاب "الأربعون حديثاً":حينما تقول ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾10فهل تراك تعبد الله أم تعبد بطنك وفرجك؟ هل أنت تطلب الله أو الحور العين؟ هل تطلب العون من الله فقط؟
إنّ الشيء الّذي لا يؤخذ بعين الاعتبار في الأعمال هو الله، وأنت إذا ذهبت إلى زيارة بيت الله، فهل إنّ مقصدك ومقصودك هو الله، وإنّ مطلبك ومطلوبك هو صاحب البيت؟ وهل قلبك مترنّم بقول الشاعر:
وما حُبُّ الديار شغفنَ قَلبي / ولكنْ حُبُّ من سكنَ الديارا
أباحثٌ أنت عن الله؟ أتطلب آثار جمال الله وجلاله؟ ألأجل سيّد المظلومين تقيم العزاء؟ ألأجله عليه السلام تلطم رأسَك وصدرك، أم لأجل الوصول إلى آمالك وأمانيك؟ أهي بطنك الّتي تدفعك لإقامة مجالس العزاء، وشهوة الظهور هي الّتي تدفعك للذهاب إلى صلاة الجماعة، وهوى النفس هو الّذي يجرّك للمناسك والعبادة؟.
فيا أيّها الأخ، كن حذراً تجاه مكائد النفس والشيطان، واعلم أنّه لن يدعك -أيّها المسكين - تؤدّي عملاً واحداً بإخلاص، وحتّى هذه الأعمال غير الخالصة الّتي تقبّلها الله تعالى منك بفضله، لا يدعك الشيطان أن تصل بها إلى الهدف فتعمل عملاً تحبط به أعمالك كلّها، وتخسر حتّى هذا النفع بسبب هذا العجب والتدلّل في غير موقعه. وبغضّ النظر عن بُعد الوصول إلى الله ورضاه، فإنّك لن تصل إلى الجنّة ولا إلى الحور العين، بل تخلد في العذاب وتُعذَّب بنار الغضب كذلك.
أنت تظنّ أنّك بهذه الأعمال المتفسّخة المتعفّنة الهزيلة الممزوجة بالرياء وطلب السمعة وألف مصيبة أخرى الّتي تحول دون قبول العبادات كلّها، تظنّ أنّك بها تستحقّ الأجر من الحقّ تعالى، أو أنّك أصبحت بها من المحبّين والمحبوبين. أيّها المسكين الجاهل! يا سيّئ الحظّ الّذي لم يطّلع على قلوب المحبّين، وعلى لهب شوقها تجاه الحقّ سبحانه، أيّها المسكين الغافل عن حرقة المخلصين ونور أعمالهم! أوَ تظنّ أنّ أعمالهم أيضاً مثل أعمالي وأعمالك؟ أوَ تتوهّم أنّ ميزة صلاة أمير المؤمنين عليه السلام عن صلاتنا أنّه عليه السلام كان يمدّ " الضالّين" أكثر، أو أنّ قراءته أصحّ، أو أنّ سجوده أطول وأذكاره وأوراده أكثر؟ أو أنّ ميزة ذلك الرجل العظيم في أنّه كان يصلّي عدّة مئات من الركعات ليليّاً؟ أوَ تظنّ أنّ مناجاة سيّد الساجدين عليّ بن الحسين هي مثل مناجاتي ومناجاتك؟ وأنّه كان يتحرّق ويتضرّع بتلك الصورة من أجل الحور العين والكمثرى والرمّان من نِعَمِ الجنّة؟.
أقسم به صلوات الله وسلامة عليه ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾11لو أنّ المحبّين كان بعضهم ظهيراً للبعض الآخر، وأرادوا أن يتفوّهوا بكلمة لا إله إلّا الله مرّة واحدة بمثل ما كان يقولها أمير المؤمنين عليه السلام لما استطاعوا. فكم أكون تعيساً وشقيّاً أن لا أكون على خطى عليّ عليه السلام وأنا من العارفين لمقام ولاية عليّ؟
أقسم بمقام عليّ بن أبي طالب، لو أنّ الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين - عدا الرسول الخاتم صلى الله عليه واله الّذي يكون مولى عليّ وغيره - أرادوا أن يكبّروا مرّة واحدة، تكبيراً على غرار ما كان يكبّر عليّ، لما استطاعوا. وأمّا الوقوف على قلوبهم فلا يعرف أحد شيئاً إلّا حملة تلك القلوب وأصحابها!. فيا أيّها العزيز! لا تتباهَ بقربك من الله...
المصادر :
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 319.
2- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج11، ص187.
3- الشمس:7-10.
4-الشمس:8.
5- الكافي، ج1، ص16.
6- عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج1، ص 100.
7- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج1، ص799.
8- موارد الظمآن، الهيثمي، ص 474.
9- الكافي، الكليني، ج5، ص12.
10- الفاتحة:5.
11- الواقعة:76.