الإسلام الذي جاء ليقود مسيرة التقدم البشري، ويوجهها في الاتجاه الصحيح والأفضل والأسرع، ما هو علاجه لهذه المشاكل النفسية الخطيرة التي تعترض الطريق وتوقف حركة السير إلى الأمام ؟ إن الإسلام برؤاه ومفاهيمه الحقة يدفع الإنسان للقفز على هذه المشاكل وتخطيها، لتحقيق سيطرة الإنسان على خيرات هذا الكون وثرواته التي لم يخلقها الله تعالى إلا لخدمة الإنسان ومصالحه: ( خلق لكم ما في الأرض جميعا )(1).
( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه )(2).
وبالإضافة إلى ذلك فقد أعد الإسلام مواسم ودورات تربوية تستوعب الأمة كلها، لتنمي فيها روح الثورة وتذكي طموح التقدم وتعالج سلبيات المسير وتدفعها قدما نحو الإمام.
وفي طليعة تلك المواسم: شهر رمضان المبارك الذي يستضيف الله تبارك وتعالى فيه جماهير الأمة ليلهمها الثقة والإرادة والصمود والإقدام، كما يقول الرسول الأعظم- صلى الله عليه وآله-:" هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله".
فرمضان مدرسة التغيير، ودورة التدريب على الثورة والتقدم، ومحطة التأمل في خبايا النفس وحركات السلوك.. ولكنه كأي مدرسة أخرى يحتاج الطالب فيها إلى الالتزام والمواظبة والانتباه والاهتمام، وإلا فسيكون نصيبه السقوط والرسوب ليأتي عليه العام الثاني بموسمه الدراسي وهو يعيش في نفس المستوى السابق.
والمفروض في كل رمضان يأتي على الأمة ثم يغادرها أن تغادر معه السلبيات والأخطاء التي توجد في أجواء الأمة وأن يرتفع بعده مستوى إدراك الأمة ووعيها وتتقوى إرادتها وتتشجع أكثر على الإسراع في المسير، يقول الرسول الأعظم محمد- صلى الله عليه وآله- وهو يتحدث عن دور شهر رمضان في حياة الأمة وتأثيره عليها " إن شهر رمضان شهر عظيم يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، ويرفع فيه الدرجات".
ومما يؤسف له أن الأمة بأغلبيتها الساحقة لا تزال تعيش في مستوى معين، وتكرر الرسوب في كل موسم رمضاني من كل سنة إ! ولذا فإننا نعيش في أسفل درك من الشقاء والتخلف كما حذرنا الرسول الكريم محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- حين قال: إن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم وبالطبع فإن غفران الله إنما يتأتى بالتخلي عن الأخطاء والسلبيات والتصميم على السير في الطريق المستقيم.
أما كيف يمكننا الاستفادة من شهر رمضان المبارك وتحقيق أهدافه السامية في حياتنا؟فذلك عن طريق الالتزام ببرنامج تربوي يمكننا بواسطته استثمار هذا الموسم العظيم وجني ثمار التغيير من أجوائه المباركة.
لا أن يمر علينا هذا الشهر الكريم كما يمر غيره من سائر الشهور دون أي تغيير في برامجنا اليومية وسلوكنا الاجتماعي.. ولا أن يقتصر التغير على الإمساك عن الطعام طيلة النهار ثم ننتقم لأنفسنا بالشره في الليل.
أو يكون هذا الشهر الكريم مرتعا للأكلات الدسمة والموائد الثرية !! وفرصة للنوم الطويل والكسل القاتل !! وموسما لجلسات اللهو والبطالة لقتل الوقت والساعات في هذا الشهر العظيم الذي تعتبر ساعاته من افضل الساعات وأيامه من افضل الأيام ولياليه من افضل الليالي- كما يؤكد الرسول محمد صلى الله عليه وآله..
إن الواجب على كل فرد مسلم قبيل إشراقة هذا الشهر الكريم أن يعيد النظر في برامج حياته، وينظم له برنامجا خاصا يعينه على الارتفاع إلى مستوى ومكانة هذا الشهر العظيم عند الله. ويمكنه من الاستفادة من أيامه ولياليه وساعاته في سبيل إصلاح واقعه وتطوير حياته..
أما ما هو البرنامج الأفضل والأقدر على استثمار هذا الشهر الكريم؟
فهذا ما تكفلت بتحديده أحاديث قادة الإسلام العارفين بأهدافه والمسؤولين عن توجيه الأمة وتربيتها وفي طليعة تلك الأحاديث تلك الخطبة الغراء التي ألقاها الرسول محمد- صلى الله عليه وآله- على أصحابه قبيل شهر رمضان، وركز فيها على أهم مواد برنامج رمضان الرسالي.
( أيا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون )( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) (3)
النداء الحبيب
( أيا أيها الذين أمنوا.... )
كم يرتاح الإنسان، وينتعش نفسيا، حينما يرى نفسه مؤهلا لتلقي خطاب، من جهة ذات مكانة اجتماعية، كمرجع ديني، أو ملك أو رئيس.. وإن إعزازه سيزداد سموا وعظمة، إذا كان الحطاب من قبل الله تعالى.. الذي خلق الكون والإنسان.. وهو مسير نظام الحياة.. وهو الذي بيده الخير.. وهو على كل شيء قدير..
والخطاب من قبل الله تعالى، يحمل في طياته قبسا من الهداية، في صورة تكليف. يقول الإمام الحسن (عليه السلام):
" إذا سمعت الله يقول: ( يا أيها الذين أمنوا ) فارع لها سمعك، فإنها لأمر تؤمر به أو لنهي تنهى عنه"
وكم يلتذ المؤمن ويرتاح، حينما يقرع سمعه، نداء من خالقه، وقد شحنت حروفه، بطاقات من اللذة والسرور، ولأنه يقيم النداء، ويعرف عظمة المنادي، فحينئذ يذوب عناء القيام بالتكليف، في غمرات اللذة والارتياح، اللذين يبعثهما النداء الرقيق، وتخف وطأة التكليف. روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): " لذة ما في النداء أزال تعب العبادة والعناء ".
وعطاء آخر يمنحه هذا النداء المليء بالعطف والحنان، وهو: تهيئة الأرضية الصالحة، في قلوب المخاطبين، للقيام بالتكليف، حيث يلفتهم إلى أنهم مؤمنون، وهذا يعني خضوعهم وانقيادهم المطلق، لأوامر الله سبحانه وتعالى.
فالإتيان بهذا الخطاب لتذكيرهم بسمة نبيلة يتمتعون بها: الإيمان، فيلاقي الصدى الطيب في نفوسهم، فيقبلون ما يرسم لهم ربهم من الحكم، وإن كان يصطدم بميولهم وأهوائهم.
وبعد أن تغزو الآية القلوب برقتها وحنانها تتجه لتبيين تشريع إسلامي عظيم.
الصوم عبر الأديان( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم.. ) وبعد أن تشير الآية الكريمة إلى تشريع الصوم، وأنه فريضة كتبها الله علينا، تلفتنا إلى : أننا لسنا أول أمة فرض عليها الصوم، بل انه تشريع عريق في تاريخ البشرية، مما يؤكد أهمية الصوم، وأنه فريضة ضرورية لا غنى لمجتمع عنه.
ولكن ذلك لا يعني أن الصوم المفروض علينا كان مفروضا على من قبلنا، بالضبط في جميع أحكامه، وكل حدوده، فإن الدين الإلهي مر في أدوار تاريخية، وبمراحل من التجديد والتطور، حتى نزل بالصيغة النهائية الكاملة، على يد الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد شمل التجديد والتطوير للدين الإلهي، جانبيه العقيد والتشريعي، إلّا انه في الحقل الثاني يختلف عنه في الحقل الأول، فهو في حقل العقيدة لا يعني سوى التوضيح والتعميق، أما في الثاني فقد يكون تغيير أو تفصيلا..
فالصوم كما تقرره الآية، تشريع مشترك، في جميع الشرائع والأديان، مما يؤكد أهميته، وأنه من الاحتياجات البشرية الأولى، في جميع الظروف والأدوار، التي مرت بها البشرية، ولأن الصوم حاجة ضرورية، تنبع من طبيعة الفرد والمجتمع، وجانب إصلاحي هام، لا غنى للمجتمع عنه. ولكن ليس من الضروري أن يكون في جميع الأدوار السابقة، بهذه الصورة التي مارسها الإسلام، فمن الممكن أن يكون قد أخذ صورا متنوعة، بر الأديان والشرائع، وفقا لنمو الإنسان الاجتماعي، إلى أن أخرجته الشريعة الإسلامية بهذه الصيغة الأخيرة الكاملة.
والتقوى تعني لغة: الوقاية والمحاذرة.
واصطلاحا: اجتناب المعاصي والابتعاد عنها
وهناك تقارب ظاهر بين المعنيين: اللغوي والاصطلاحي. سئل كعب عن التقوى فقال للسائل:
هل أخذت طريقا شائكا؟
- نعم.
- فما صنعت؟
- حذرت وتشمرت.
- فذلك هو التقوى.
وكذلك فإن الحياة طريق شائك بالشهوات والميول ودواعي الانحراف، وعلى الإنسان أن يحذر ويشمر في سيره، لئلا تسيل دماؤه من الأشواك، أو تعز به العراقيل، بل أن عليه أن يحطم الأشواك، ويزيل العراقيل، ليسير في طريقه الحياتي بأمن وسلام.
ولكن ذلك يحتاج إلى إرادة صلبة، وعزيمة قوية، فمجاهدة الإنسان لشهواته وميوله وانحرافاته الغريزية، يتطلب إرادة قولة. والإرادة القوية هي التي تملك أن تقبض وتبسط حياة الإنسان، وتحدد شهواته وعواطفه، وبها يكون الإنسان حرا في حياته، بحيث لا تستعبده شهوة، ولا تقهره عاطفة، ولا يملك عليه مصيره أحد. وحينما يملك الإنسان رصيد الإرادة، يستطيع أن يكون تقيا متعاليا، عن أن تناله أشواك الشهوة والانحراف. فالإرادة هي التي تولد التقوى عند الإنسان.والإسلام لاحظ هذا الجانب الطبيعي للإنسان، فاهتم بتكوين الإرادة لديه، ليستطيع تلبية نداءات الإسلام، واكتساح العراقيل عن طريقة، ففرض عليه "الصوم" الذي هو مدرسة الإرادة، حيث يحد من طغيان الجسم على الروح، والمادية على الإنسانية. ويظهر ذلك حينما نلاحظ:
ا- نوعية الأمور التي حرمها الله على الصائم، وشدة علاقتها بحياته اليومية، كالأكل والشرب. إذا لاحظنا ذلك، عرفنا قوة عملية الصوم، وأثرها في تربية الإرادة عند الإنسان. لأن الإنسان إذا استطاع أن يبتعد اختياريا عن أمور تفاعل معها في سلوكه اليومي، فمن الطبيعي أن تتصاغر أمام إرادته بقية العوامل التي تحاول استعباده، واستغلال موقفه.
2- أن الصوم يحطم قيود الرتابة، ويتغلب على العادة، التي تؤطر الإنسان، طوال أيام السنة. فبمجرد بزوغ هلال شهر رمضان يتغير برنامج حياته، وروتين سلوكه اليومي: فيتغير وقت وجبات طعامه، ووقت نومه واستيقاظه ودوامه وراحته.. وهكذا يحدث شهر رمضان تغييرا كليا في حياة الإنسان، وتمردا عارما على عادته وروتينه.
ولا يخفى ما لهذا من أثر كبير على حياة الإنسان، فان الإنسان الذي يغير مجرى حياته فجأة ولمدة شهر، ولا لشيء، إلا استجابة لأمر واحد من أوامر دينه، لابد وأن تخر على أقدامه الأهواء والعادات، ويبرز في المعركة قائدا منتصرا. بالإضافة إلى أن الإنسان قد تعترضه في الحياة مواقف، يتوقف كسبه لها على تخليه عن رتابته وعادته، ولكنه إذا كان غير متروض على ذلك، فانه سيرجح الالتزام بالرتابة والعادة على استغلال الموقف، وبعكسه الإنسان الصائم.
وبهذا نستطيع التوصل إلى مغزى الآية ( لعلكم تتقون ) بعد أن عرفنا: أن التقوى وليدة الإرادة، وأن الإنسان بلا إرادة لا يستطيع أن يكون تقيا، واتضح لنا أن الصوم مدرسة الإرادة ومزرعتها.
المصادر :
1- سورة البقرة- 29
2- الجاثية-13
3- البقرة 183- 185.
( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه )(2).
وبالإضافة إلى ذلك فقد أعد الإسلام مواسم ودورات تربوية تستوعب الأمة كلها، لتنمي فيها روح الثورة وتذكي طموح التقدم وتعالج سلبيات المسير وتدفعها قدما نحو الإمام.
وفي طليعة تلك المواسم: شهر رمضان المبارك الذي يستضيف الله تبارك وتعالى فيه جماهير الأمة ليلهمها الثقة والإرادة والصمود والإقدام، كما يقول الرسول الأعظم- صلى الله عليه وآله-:" هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله".
فرمضان مدرسة التغيير، ودورة التدريب على الثورة والتقدم، ومحطة التأمل في خبايا النفس وحركات السلوك.. ولكنه كأي مدرسة أخرى يحتاج الطالب فيها إلى الالتزام والمواظبة والانتباه والاهتمام، وإلا فسيكون نصيبه السقوط والرسوب ليأتي عليه العام الثاني بموسمه الدراسي وهو يعيش في نفس المستوى السابق.
والمفروض في كل رمضان يأتي على الأمة ثم يغادرها أن تغادر معه السلبيات والأخطاء التي توجد في أجواء الأمة وأن يرتفع بعده مستوى إدراك الأمة ووعيها وتتقوى إرادتها وتتشجع أكثر على الإسراع في المسير، يقول الرسول الأعظم محمد- صلى الله عليه وآله- وهو يتحدث عن دور شهر رمضان في حياة الأمة وتأثيره عليها " إن شهر رمضان شهر عظيم يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، ويرفع فيه الدرجات".
ومما يؤسف له أن الأمة بأغلبيتها الساحقة لا تزال تعيش في مستوى معين، وتكرر الرسوب في كل موسم رمضاني من كل سنة إ! ولذا فإننا نعيش في أسفل درك من الشقاء والتخلف كما حذرنا الرسول الكريم محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- حين قال: إن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم وبالطبع فإن غفران الله إنما يتأتى بالتخلي عن الأخطاء والسلبيات والتصميم على السير في الطريق المستقيم.
أما كيف يمكننا الاستفادة من شهر رمضان المبارك وتحقيق أهدافه السامية في حياتنا؟فذلك عن طريق الالتزام ببرنامج تربوي يمكننا بواسطته استثمار هذا الموسم العظيم وجني ثمار التغيير من أجوائه المباركة.
لا أن يمر علينا هذا الشهر الكريم كما يمر غيره من سائر الشهور دون أي تغيير في برامجنا اليومية وسلوكنا الاجتماعي.. ولا أن يقتصر التغير على الإمساك عن الطعام طيلة النهار ثم ننتقم لأنفسنا بالشره في الليل.
أو يكون هذا الشهر الكريم مرتعا للأكلات الدسمة والموائد الثرية !! وفرصة للنوم الطويل والكسل القاتل !! وموسما لجلسات اللهو والبطالة لقتل الوقت والساعات في هذا الشهر العظيم الذي تعتبر ساعاته من افضل الساعات وأيامه من افضل الأيام ولياليه من افضل الليالي- كما يؤكد الرسول محمد صلى الله عليه وآله..
إن الواجب على كل فرد مسلم قبيل إشراقة هذا الشهر الكريم أن يعيد النظر في برامج حياته، وينظم له برنامجا خاصا يعينه على الارتفاع إلى مستوى ومكانة هذا الشهر العظيم عند الله. ويمكنه من الاستفادة من أيامه ولياليه وساعاته في سبيل إصلاح واقعه وتطوير حياته..
أما ما هو البرنامج الأفضل والأقدر على استثمار هذا الشهر الكريم؟
فهذا ما تكفلت بتحديده أحاديث قادة الإسلام العارفين بأهدافه والمسؤولين عن توجيه الأمة وتربيتها وفي طليعة تلك الأحاديث تلك الخطبة الغراء التي ألقاها الرسول محمد- صلى الله عليه وآله- على أصحابه قبيل شهر رمضان، وركز فيها على أهم مواد برنامج رمضان الرسالي.
الصوم في رحاب القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم( أيا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون )( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) (3)
النداء الحبيب
( أيا أيها الذين أمنوا.... )
كم يرتاح الإنسان، وينتعش نفسيا، حينما يرى نفسه مؤهلا لتلقي خطاب، من جهة ذات مكانة اجتماعية، كمرجع ديني، أو ملك أو رئيس.. وإن إعزازه سيزداد سموا وعظمة، إذا كان الحطاب من قبل الله تعالى.. الذي خلق الكون والإنسان.. وهو مسير نظام الحياة.. وهو الذي بيده الخير.. وهو على كل شيء قدير..
والخطاب من قبل الله تعالى، يحمل في طياته قبسا من الهداية، في صورة تكليف. يقول الإمام الحسن (عليه السلام):
" إذا سمعت الله يقول: ( يا أيها الذين أمنوا ) فارع لها سمعك، فإنها لأمر تؤمر به أو لنهي تنهى عنه"
وكم يلتذ المؤمن ويرتاح، حينما يقرع سمعه، نداء من خالقه، وقد شحنت حروفه، بطاقات من اللذة والسرور، ولأنه يقيم النداء، ويعرف عظمة المنادي، فحينئذ يذوب عناء القيام بالتكليف، في غمرات اللذة والارتياح، اللذين يبعثهما النداء الرقيق، وتخف وطأة التكليف. روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): " لذة ما في النداء أزال تعب العبادة والعناء ".
وعطاء آخر يمنحه هذا النداء المليء بالعطف والحنان، وهو: تهيئة الأرضية الصالحة، في قلوب المخاطبين، للقيام بالتكليف، حيث يلفتهم إلى أنهم مؤمنون، وهذا يعني خضوعهم وانقيادهم المطلق، لأوامر الله سبحانه وتعالى.
فالإتيان بهذا الخطاب لتذكيرهم بسمة نبيلة يتمتعون بها: الإيمان، فيلاقي الصدى الطيب في نفوسهم، فيقبلون ما يرسم لهم ربهم من الحكم، وإن كان يصطدم بميولهم وأهوائهم.
وبعد أن تغزو الآية القلوب برقتها وحنانها تتجه لتبيين تشريع إسلامي عظيم.
الصوم عبر الأديان( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم.. ) وبعد أن تشير الآية الكريمة إلى تشريع الصوم، وأنه فريضة كتبها الله علينا، تلفتنا إلى : أننا لسنا أول أمة فرض عليها الصوم، بل انه تشريع عريق في تاريخ البشرية، مما يؤكد أهمية الصوم، وأنه فريضة ضرورية لا غنى لمجتمع عنه.
ولكن ذلك لا يعني أن الصوم المفروض علينا كان مفروضا على من قبلنا، بالضبط في جميع أحكامه، وكل حدوده، فإن الدين الإلهي مر في أدوار تاريخية، وبمراحل من التجديد والتطور، حتى نزل بالصيغة النهائية الكاملة، على يد الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد شمل التجديد والتطوير للدين الإلهي، جانبيه العقيد والتشريعي، إلّا انه في الحقل الثاني يختلف عنه في الحقل الأول، فهو في حقل العقيدة لا يعني سوى التوضيح والتعميق، أما في الثاني فقد يكون تغيير أو تفصيلا..
فالصوم كما تقرره الآية، تشريع مشترك، في جميع الشرائع والأديان، مما يؤكد أهميته، وأنه من الاحتياجات البشرية الأولى، في جميع الظروف والأدوار، التي مرت بها البشرية، ولأن الصوم حاجة ضرورية، تنبع من طبيعة الفرد والمجتمع، وجانب إصلاحي هام، لا غنى للمجتمع عنه. ولكن ليس من الضروري أن يكون في جميع الأدوار السابقة، بهذه الصورة التي مارسها الإسلام، فمن الممكن أن يكون قد أخذ صورا متنوعة، بر الأديان والشرائع، وفقا لنمو الإنسان الاجتماعي، إلى أن أخرجته الشريعة الإسلامية بهذه الصيغة الأخيرة الكاملة.
فلسفة الصوم
( لعلكم تتقون.. ).وبعد أن قررت الآية أن الصوم فريضة عريقة، في تاريخ الإنسان، ألمحت إلى فلسفته التشريعية، وإلى آثاره التي يجنيها الفرد، وتنعكس على مسيرة المجتمع. حيث ترجو الآية، أن يكون الصوم مولدا لملكة التقوى، الملكة التي توقف كل إنسان عند حده، وتحجزه عن التجاوز على حقوق الآخرين ، وعن الاستجابة لنداءات الشهوة والغريزة، فيصبح إنسانا مثاليا، قائما بواجباته، ملتزما بحقوق أبناء جنسه، وإذا توفرت هذه الملكة عند جميع أفراد المجتمع، فستتحول الحياة إلى جنة نعيم ورخاء، وذلك حينما تغمر السعادة أجواء ذلك المجتمع.والتقوى تعني لغة: الوقاية والمحاذرة.
واصطلاحا: اجتناب المعاصي والابتعاد عنها
وهناك تقارب ظاهر بين المعنيين: اللغوي والاصطلاحي. سئل كعب عن التقوى فقال للسائل:
هل أخذت طريقا شائكا؟
- نعم.
- فما صنعت؟
- حذرت وتشمرت.
- فذلك هو التقوى.
وكذلك فإن الحياة طريق شائك بالشهوات والميول ودواعي الانحراف، وعلى الإنسان أن يحذر ويشمر في سيره، لئلا تسيل دماؤه من الأشواك، أو تعز به العراقيل، بل أن عليه أن يحطم الأشواك، ويزيل العراقيل، ليسير في طريقه الحياتي بأمن وسلام.
ولكن ذلك يحتاج إلى إرادة صلبة، وعزيمة قوية، فمجاهدة الإنسان لشهواته وميوله وانحرافاته الغريزية، يتطلب إرادة قولة. والإرادة القوية هي التي تملك أن تقبض وتبسط حياة الإنسان، وتحدد شهواته وعواطفه، وبها يكون الإنسان حرا في حياته، بحيث لا تستعبده شهوة، ولا تقهره عاطفة، ولا يملك عليه مصيره أحد. وحينما يملك الإنسان رصيد الإرادة، يستطيع أن يكون تقيا متعاليا، عن أن تناله أشواك الشهوة والانحراف. فالإرادة هي التي تولد التقوى عند الإنسان.والإسلام لاحظ هذا الجانب الطبيعي للإنسان، فاهتم بتكوين الإرادة لديه، ليستطيع تلبية نداءات الإسلام، واكتساح العراقيل عن طريقة، ففرض عليه "الصوم" الذي هو مدرسة الإرادة، حيث يحد من طغيان الجسم على الروح، والمادية على الإنسانية. ويظهر ذلك حينما نلاحظ:
ا- نوعية الأمور التي حرمها الله على الصائم، وشدة علاقتها بحياته اليومية، كالأكل والشرب. إذا لاحظنا ذلك، عرفنا قوة عملية الصوم، وأثرها في تربية الإرادة عند الإنسان. لأن الإنسان إذا استطاع أن يبتعد اختياريا عن أمور تفاعل معها في سلوكه اليومي، فمن الطبيعي أن تتصاغر أمام إرادته بقية العوامل التي تحاول استعباده، واستغلال موقفه.
2- أن الصوم يحطم قيود الرتابة، ويتغلب على العادة، التي تؤطر الإنسان، طوال أيام السنة. فبمجرد بزوغ هلال شهر رمضان يتغير برنامج حياته، وروتين سلوكه اليومي: فيتغير وقت وجبات طعامه، ووقت نومه واستيقاظه ودوامه وراحته.. وهكذا يحدث شهر رمضان تغييرا كليا في حياة الإنسان، وتمردا عارما على عادته وروتينه.
ولا يخفى ما لهذا من أثر كبير على حياة الإنسان، فان الإنسان الذي يغير مجرى حياته فجأة ولمدة شهر، ولا لشيء، إلا استجابة لأمر واحد من أوامر دينه، لابد وأن تخر على أقدامه الأهواء والعادات، ويبرز في المعركة قائدا منتصرا. بالإضافة إلى أن الإنسان قد تعترضه في الحياة مواقف، يتوقف كسبه لها على تخليه عن رتابته وعادته، ولكنه إذا كان غير متروض على ذلك، فانه سيرجح الالتزام بالرتابة والعادة على استغلال الموقف، وبعكسه الإنسان الصائم.
وبهذا نستطيع التوصل إلى مغزى الآية ( لعلكم تتقون ) بعد أن عرفنا: أن التقوى وليدة الإرادة، وأن الإنسان بلا إرادة لا يستطيع أن يكون تقيا، واتضح لنا أن الصوم مدرسة الإرادة ومزرعتها.
المصادر :
1- سورة البقرة- 29
2- الجاثية-13
3- البقرة 183- 185.