في اليوم الثالث من شهر رمضان عام 413هـ توفي الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان رحمة الله عليه.
هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام العكبري الملقب بالشيخ المفيد. من أجل مشايخ الشيعة، ولد في عام 336هـ بأطراف بغداد، في أسرة عريقة في التشيع معروفة بالإحسان والطهارة. وقد أنهي دراساته الابتدائية في أسرته ومسقط رأسه، ثم سافر إلي بغداد واشتغل بتحصيل العلم عند الأساتذة والعلماء ليصبح بعد ذلك المقدم في علم الكلام والفقه والأصول، وكان من تلامذة ابن عقيل. وفضله أشهر من أن يوصف، انتهت رئاسة الإمامية إليه في وقته.
من أساتذته: ابن قولويه القمي، والشيخ الصدوق، وابن وليد القمي، وأبو غالب الزراري، وابن الجنيد الإسكافي، وأبو علي الصولي البصري، وأبو عبد الله الصفواني.
ومن تلامذته: السيد المرتضي علم الهدي، والسيد الرضي، والشيخ الطوسي، والنجاشي، وأبو الفتح الكراجكي، وأبو يعلي جعفر بن سالار.
وتبلغ مؤلفات الشيخ المفيد طبقاً لما ذكر تلميذه البارز الشيخ الطوسي 200 مؤلف، منها: المقنعة، الفرائض الشرعية، أحكام النساء، الكلام في دلائل القرآن، وجوه إعجاز القرآن، النصرة في فضل القرآن، أوائل المقالات، نقض فضيلة المعتزلة، الإفصاح، الإيضاح.
ومن لطيف ما يروي عن الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رحمة الله عليه أنه قال: رأيت في المنام سنة من السنين كأني قد اجتزت في بعض الطرق فرأيت حلقة دائرة فيها ناس كثيرة فقلت: ما هذا؟
قالوا: هذه حلقة فيها رجل يقص.
فقلت: من هو؟ قالوا: عمر بن الخطاب.
ففرقت الحلقة، فإذا أنا برجل يتكلم علي الناس بشيء لم أحصله فقطعت عليه الكلام وقلت: أيها الشيخ أخبرني ما وجه الدلالة علي فضل صاحبك أبي بكر عتيق بن أبي قحافة من قول الله تعالي ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ (1)؟
فقال: وجه الدلالة علي أبي بكر من هذه الآية في ستة مواضع:
الأول: أن الله تعالي ذكر النبي صلي الله عليه و اله وذكر أبا بكر فجعله ثانيه فقال: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ.
والثاني: أنه وصفهما بالاجتماع في مكان واحد لتأليفه بينهما فقال: إِذْ هُما فِي الْغارِ.
والثالث: أنه أضافه إليه بذكر الصحبة ليجمع بينهما فيما تقتضي الرتبة فقال: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ.
والرابع: أنه أخبر عن شفقة النبي صلي الله عليه و اله عليه ورفقه به لموضعه عنده فقال: لا تَحْزَنْ.
والخامس: أنه أخبره أن الله معهما علي حد سواء ناصرا لهما ودافعا عنهما فقال: إِنَّ الله مَعَنا.
والسادس: أنه أخبر عن نزول السكينة علي أبي بكر لأن رسول الله صلي الله عليه و اله لم تفارقه السكينة قط قال: فَأَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ فهذه ستة مواضع تدل علي فضل أبي بكر من آية الغار لا يمكنك ولا لغيرك الطعن فيها.
فقلت له: حبرت بكلامك في الاحتجاج لصاحبك عنه، وإني بعون الله سأجعل جميع ما أتيت به كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ(2):
أما قولك: إن الله تعالي ذكر النبي صلي الله عليه و اله وجعل أبا بكر ثانيه، فهو إخبار عن العدد، لعمري لقد كانا اثنين فما في ذلك من الفضل فنحن نعلم ضرورة أن مؤمنا ومؤمنا أو مؤمنا وكافرا اثنان فما أري لك في ذكر العدد طائلا تعتمده.
وأما قولك: إنه وصفهما بالاجتماع في المكان، فإنه كالأول لأن المكان يجمع المؤمن والكافر كما يجمع العدد المؤمنين والكفار وأيضا، فإن مسجد النبي صلي الله عليه و اله أشرف من الغار وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفار، وفي ذلك قوله عزوجل: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ(3) وأيضا فإن سفينة نوح قد جمعت النبي والشيطان والبهيمة، والمكان لا يدل علي ما أوجبت من الفضيلة، فبطل فضلان.
وأما قولك: إنه أضافه إليه بذكر الصحبة، فإنه أضعف من الفضلين الأولين لأن اسم الصحبة يجمع المؤمن والكافر، والدليل علي ذلك قول الله تعالي: قالَ له صاحِبُهُ وهُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا(4) وأيضا فإن اسم الصحبة يطلق بين العاقل وبين البهيمة، والدليل علي ذلك من كلام العرب الذي نزل القرآن بلسانهم لقول الله عزوجل: وما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسانِ قَوْمِهِ(5) أنهم سموا الحمار صاحبا فقالوا: إن الحمار مع الحمار مطية فإذا خلوت به فبئس الصاحب
و أيضا فقد سموا الجماد مع الحي صاحبا فقالوا ذلك في السيف وقالوا:
زرت هندا وذاك غير اختيار ومعي صاحب كتوم اللسان
يعني السيف، فإذا كان اسم الصحبة تقع بين المؤمن والكافر وبين العاقل والبهيمة وبين الحيوان والجماد فأي حجة لصاحبك فيه.
وأما قولك: إنه قال لا تَحْزَنْ فإنه وبال عليه ومنقصة له ودليل علي خطائه، لأن قوله (لا تَحْزَنْ) نهي وصورة النهي قول القائل لا تفعل، فلا يخلو أن يكون الحزن وقع من أبي بكر طاعة أو معصية، فإن كان طاعة فإن النبي صلي الله عليه و اله لا ينهي عن الطاعات بل يأمر بها ويدعو إليها، وإن كان معصية فقد نهاه النبي صلي الله عليه و اله عنها وقد شهدت الآية بعصيانه بدليل أنه نهاه.
وأما قولك: إنه قال إِنَّ الله مَعَنا فإن النبي صلي الله عليه و اله قد أخبر أن الله معه وعبر عن نفسه بلفظ الجمع كقوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا له لَحافِظُونَ(6)
وقد قيل أيضا في هذا: إن أبا بكر قال: يا رسول الله حزني علي أخيك علي بن أبي طالب عليه السلام ما كان منه، فقال له النبي صلي الله عليه و اله لا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنا أي معي ومع أخي علي بن أبي طالب عليه السلام.
وأما قولك: إن السكينة نزلت علي أبي بكر فإنه ترك للظاهر، لأن الذي نزلت عليه السكينة هو الذي أيده بالجنود كذا يشهد ظاهر القرآن في قوله فَأَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها فإن كان أبو بكر هو صاحب السكينة فهو صاحب الجنود ففي هذا إخراج النبي صلي الله عليه و اله من النبوة، علي أن هذا الموضع لو كتمته علي صاحبك لكان خيرا له لأن الله تعالي أنزل السكينة علي النبي صلي الله عليه و اله في موضعين كان معه قوم مؤمنين فشركهم فيها فقال في أحد الموضعين: فَأَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلي رَسُوله وعَلَي الْمُؤْمِنِينَ وأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوي(7)
وقال في الموضع الآخر: ثُمَّ أَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلي رَسُوله وعَلَي الْمُؤْمِنِينَ وأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها(8)
ولما كان في هذا الموضع خصه وحده بالسكينة فقال فَأَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ فلو كان معه مؤمن لشركه معه في السكينة كما شرك من ذكرنا قبل هذا من المؤمنين، فدل إخراجه من السكينة علي إخراجه من الإيمان، فلم يحر جوابا وتفرق الناس واستيقظت من نومي)(9).
وقد ورد للشيخ المفيد رحمة الله عليه من الناحية المقدسة (حرسها الله ورعاها) في أيام بقيت من صفر سنة عشر وأربعمائة هذه الرسالة الشريفة:
للأخ السديد والولي الرشيد الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان (أدام الله إعزازه) من مستودع العهد المأخوذ علي العباد، بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أما بعد، سلام عليك أيها المولي المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله الصلاة علي سيدنا ومولانا نبينا محمد وآله الطاهرين، ونعلمك أدام الله توفيقك لنصرة الحق، وأجزل مثوبتك علي نطقك عنا بالصدق، أنه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة وتكليفك ما تؤديه عنا إلي موالينا قبلك، أعزهم الله بطاعته وكفاهم المهم برعايته لهم وحراسته، فقف أمدك الله بعونه علي أعدائه المارقين من دينه علي ما نذكره، واعمل في تأديته إلي من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله نحن، وإن كنا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالي لنا من الصلاح، ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا يحيط علمنا بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالزلل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلي ما كان السلف الصالح عنه شاسعا، ونبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولو لا ذلك لنزل بكم اللأواء، واصطلمكم الأعداء، فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا علي انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حم أجله، ويحمي عليه من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا ومباثتكم بأمرنا ونهينا والله مُتِمُّ نُورِهِ … ولَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، اعتصموا بالتقية من شب نار الجاهلية يحششها عصب أموية تهول بها فرقة مهدية، أنا زعيم بنجاة من لم يرم منها المواطن الخفية وسلك في الطعن منها السبل الرضية، إذا حل جمادي الأولي من سنتكم هذه فاعتبروا بما يحدث فيه، واستيقظوا من رقدتكم لما يكون من الذي يليه، ستظهر لكم من السماء آية جلية، ومن الأرض مثلها بالسوية، ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق، ويغلب من بعد علي العراق طوائف عن الإسلام مراق، يضيق بسوء فعالهم علي أهله الأرزاق، ثم تتفرج الغمة من بعده ببوار طاغوت من الأشرار، يسر بهلاكه المتقون الأخيار، ويتفق لمريدي الحج من الآفاق ما يأملونه علي توفير غلبة منهم واتفاق، ولنا في تيسير حجهم علي الاختيار منهم والوفاق، شأن يظهر علي نظام واتساق، فيعمل كل امرئ منكم ما يقرب به من محبتنا، وليتجنب ما يدنيه من كراهيتنا وسخطنا، فإن امرأ يبغته فجأة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم علي حوبة والله يلهمك الرشد ويلطف لكم بالتوفيق برحمته، نسخة التوقيع باليد العليا علي صاحبها السلام، هذا كتابنا عليك أيها الأخ الولي، والمخلص في ودنا الصفي، والناصر لنا الوفي، حرسك الله بعينه التي لا تنام فاحتفظ به ولا تظهر علي خطنا الذي سطرناه بما له ضمناه أحدا، وأد ما فيه إلي من تسكن إليه، وأوص جماعتهم بالعمل عليه إن شاء الله، وصلي الله علي محمد وآله الطاهرين(10).
توفي الشيخ المفيد رحمة الله عليه عام 413 ه ببغداد عن 75 عاماً قضاها بالعلم والعمل، ودفن في الحرم الكاظمي المطهر بجوار الإمام الجواد عليه السلام وبقرب قبر أستاذه ابن قولويه. وقد حظي بتعظيم الناس وتقدير العلماء والفضلاء. يذكر الشيخ الطوسي الذي حضر تشييعه: بأن يوم وفاته كان يوماً لا نظير له، لكثرة من حضر لأداء الصلاة علي جنازته، والبكاء عليه من الصديق والعدو، حيث شيّعه ثمانون ألفاً وصلي عليه السيد المرتضي علم الهدي عليه السلام.
المصادر :
1- سورة التوبة: 40.
2- سورة إبراهيم: 18.
3- سورة المعارج: 36-37.
4- سورة الكهف: 37.
5- سورة إبراهيم: 4.
6- سورة الحجر: 9.
7- سورة التوبة: 26.
8- سورة الفتح: 26.
9- بحارالأنوار: ج 27 ص329 ب2 ح1.
10- الاحتجاج: ج2 ص496-497.