أولاً: الحفاظ على شخص الإمام المهدی (علیه السلام) وبقائه
کما کان أیام الفراعنة وفی زمان النبی موسى (علیه السلام) حیث أنهم کانوا موعودین بخروج مخلص لبنی إسرائیل ینهی ظلم الفراعنة ویدمر الطاغیة فرعون ویقضی على جبروته، فما کان منه إلا أن قام بقتل الذکور من أبناء بنی إسرائیل واستبقاء الإناث ) یذبح أبناءهم ویستحیى نساءهم( (1).کذلک کان من المعروف من الأخبار والروایات المتواترة عن النبی (صلى الله علیه وآله) أن عدد الأئمة اثنی عشر إماماً، وأن الإمام الثانی عشر هو الذی یزیل دول الظلم ویقضی على أئمة الجور والطغیان، فکان حکام الدولة العباسیة یترقبوا هذا الأمر ویحسبون له ألف حساب، فوضعوا الإمام الحادی عشر أی الحسن العسکری (علیه السلام) تحت الإقامة الجبریة فی بیته بسامراء، کما وضعوا نساؤه تحت الرقابة المباشرة، وذلک للقضاء على الإمام الثانی عشر وتصفیته أول ولادته.
لذلک شاء الله سبحانه وتعالى إخفاء أمر حمله وولادته إلا عن خواص الشیعة والموثوق بهم من المؤمنین، وبعد ولادته (علیه السلام) تناهى لمسامع الحکومة العباسیة بعض الأخبار عن ذلک فتمت مداهمة بیت الإمام العسکری (علیه السلام) مرات عدیدة وبشکل مفاجئ للقبض على الإمام المهدی (علیه السلام) وتصفیته، وباءت جمیع محاولاتهم بالفشل، مما جعل أم الإمام المهدی السیدة نرجس (رض) تدعی بأنها حامل فسجنت عند القاضی بسامراء لمدة سنتین وذلک بعد وفاة الإمام العسکری حتى شغلوا عنها بثورة صاحب الزنج وسلمها الله منهم بفضله.
فکانت هذه الظروف العصیبة هی التی دعت الإمام المهدی (علیه السلام) للغیبة حفاظاً على نفسه لکی لا یقتل کما قتل آباؤه (علیهم السلام) خصوصاً وهو آخر الأئمة وبقیة حجج الله على الخلق وخاتم الأوصیاء (علیهم السلام)، وهو المکلف بإقامة الدولة الإسلامیة العالمیة، فکان لابد من الحفاظ على وجوده بالغیبة حتى ینجز المهمة الموکل بها، وهذا ما نفهمه من الروایات التالیة.
فعن رسول الله (صلى الله علیه وآله) قال: (لابد للغلام من غیبة، فقیل له: ولم یا رسول الله، قال: یخاف القتل)(2).
وفی البحار عن الباقر (علیه السلام) قال: (إذا ظهر قائمنا أهل البیت قال ) ففررت منکم لما خفتکم فوهب لی ربی حکماً( (3)، أی خفتکم على نفسی وجئتکم لما أذن لی ربی وأصلح لی أمری)(4).
وعن یونس بن عبد الرحمن قال: (دخلت على موسى بن جعفر (علیه السلام) فقلت له: یا بن رسول الله أنت القائم بالحق؟ فقال (علیه السلام): أنا القائم بالحق، ولکن القائم الذی یطهر الأرض من أعداء الله ویملأها عدلاً کما ملئت جوراً هو الخامس من ولدی، له غیبة یطول أمدها خوفاً على نفسه، یرتد فیها أقوام ویثبت فیها آخرون)(5).
وخرج فی التوقیع من الإمام المهدی (علیه السلام) لمحمد بن عثمان العمری فی علة عدم ذکره باسمه: (فإنهم إن وقفوا على الاسم أذاعوه، وإن وقفوا على المکان دلوا علیه)(6).
- ولکن هل الخوف على نفسه (علیه السلام) یستدعی غیابه کل هذه القرون الطوال…؟
بالطبع هذا الأمر غیر منطقی فبعد انتهاء دولة بنی العباس جاءت الکثیر من الدول والممالک، ولم یعد یذکره أو یطلبه الظالمون بالشکل الذی کان فی بدء غیبته، ولم یعد هناک حرج من ذکر اسمه أمام الناس، فلا بد أن هناک أسباب أخرى لاستمرار الغیبة الطویلة هذه، وهذا ما سنذکره إن شاء الله تعالى فی الفصل القادم فی أسباب الغیبة الکبرى.
ثانیاً: تهیئة الأمة للغیبة الکبرى والانقطاع التام عن الإمام (علیه السلام)
کان المؤمنون فی زمان الرسول (صلى الله علیه وآله) والأئمة الأطهار (علیهم السلام) یتلقون الأحکام الشرعیة والتعالیم الإسلامیة مباشرة من النبی والأئمة دون أی حاجز أو مانع، وإذا أشکل علیهم أمر ما أو قضیة معینة یلجئون فیها إلى المعصوم فیحلها فی الحال, واستمر هذا الأمر حتى عام 260 هـ، عند وفاة الإمام الحسن العسکری (علیه السلام)، حیث اختلف الحال ولم یعد بإمکان المؤمنین الالتقاء بالإمام المهدی (علیه السلام) وتلقی الأحکام الشرعیة على یدیه مباشرة.ولکی لا تحدث ردة فعل عنیفة فی الأمة لانقطاع الإمام عنها وغیابه بشکل مفاجئ، کان لابد من تهیئة الأمة للغیبة الکبرى، وتعوید الناس تدریجیاً على احتجاب الإمام عنهم وبالتالی یستسیغون فکرة اختفائه (علیه السلام).
لذلک کان من شأن الإمام المهدی (علیه السلام) تعیین السفراء الأربعة رضوان الله تعالى علیهم خلال الغیبة الصغرى کواسطة بینه وبین الناس،کما کان (علیه السلام) متدرجاً فی الاحتجاب عن الناس خلال تلک الفترة، حیث تمکن العدید منهم مشاهدته فی أول الغیبة الصغرى وکان أقل احتجاباً عن الناس، وکلما مشى الزمان زاد احتجابه، حتى لا یکاد یُنقل عنه المشاهدة فی زمن السفیر الرابع لغیر السفیر نفسه.
ولقد شبهت الروایات الواردة عن النبی (صلى الله علیه وآله) والأئمة الأطهار الإمام المهدی (علیه السلام) بالشمس المضیئة، فعن رسول الله (صلى الله علیه وآله) قال لجابر بن عبد الله الأنصاری: (أی والذی بعثنی بالنبوة، إنهم لینتفعون به ویستضیئون بنور ولایته فی غیبته کانتفاع الناس بالشمس وإن جللها السحاب)(7)، فکما أن الشمس قبل غروبها تماماً تبقى أشعتها لمدة معینة من الزمن حتى تغیب تماماً ویحل الظلام الدامس، فکذلک الإمام کان فی حال الغیبة الصغرى متدرجاً فی الغیبة قبل انقطاعه التام عن الناس.
ویذکر السید مجتبى السادة بهذا الشأن أن للإمام المهدی (علیه السلام) أیضاً ظهور أصغر یسبق الظهور الأکبر إن شاء الله تعالى، وذلک یتمثل فی عدة أحداث وقضایا سوف تحدث تمهد الأرض والبشریة لظهوره المبارک (علیه السلام)، حیث یقول: (وکذلک طلوع الشمس فإنه لا یکون مباشرة بل یبدأ الخیط الأبیض ثم الفجر ثم نور باهت یزداد تدریجیاً حتى طلوع الشمس ساطعة فی السماء، وهکذا فإن ظهور الحجة بن الحسن (علیه السلام)، وهو کالشمس المنیرة فی سماء الولایة، لابد أن یسبقه ظهور أصغر یهیئ الأرضیة للظهور الکامل لوجوده المقدس)(8).
ثالثاً: إثبات حقیقة وجود الإمام المهدی (علیه السلام) وإبطال شبهات المشککین
بعد وفاة الإمام الحسن العسکری (علیه السلام) عام 260 هـ، وبسبب خفاء أمر ولادة الإمام المهدی (علیه السلام) عن أکثر الناس، بدأ الشک یدب فی نفوس الکثیر منهم بوجوده (علیه السلام) خصوصاً مع اقتسام إرث أبیه الإمام العسکری بین عمه جعفر وجدته ـ أی أم الإمام العسکری حیث أوصى لها الإمام العسکری بأوقافه وصدقاته ـ هذا بالإضافة لادعاء عمه جعفر الکذاب الإمامة، فکان لابد من إثبات وجود الإمام المهدی عبر بعض المشاهدات للعدید من الناس، وهی التی حصلت بالفعل فی فترة الغیبة الصغرى کصلاته (علیه السلام) على جنازة أبیه ولقائه بوفد القمیین الذین جاءوا لتسلیم الأموال للإمام العسکری ووصفه الدقیق لتلک الأموال.فعن أبو الأدیان فی ضمن حدیث طویل تحدث فیه عن وفاة الإمام العسکری (علیه السلام) قال: (فلما صرنا فی الدار، إذا نحن بالحسن بن علی صلوات الله علیه على نعشه مکفنا، فتقدم جعفر بن علی لیصلی على أخیه، فلما هم بالتکبیر خرج صبی بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفلیج، فجذب برداء جعفر بن علی وقال: تأخر یا عم فأنا أحق بالصلاة على أبی، فتأخر جعفر وقد اربد وجهه واصفر، فتقدم الصبی وصلى علیه ودفن إلى جانب قبر أبیه (علیهما السلام))(9).
والأمر الآخر الذی قام به الإمام المهدی (علیه السلام) فی الغیبة الصغرى لإثبات وجوده هو اتخاذ نظام الوکلاء أو النواب بینه وبین عامة الشیعة.
ومن الأمور الهامة أیضاً التی ساهمت فی إثبات وجود الإمام المهدی (علیه السلام) وتهیئة الذهنیة العامة لدى المؤمنین للغیبة الکبرى وجعلتهم یتقبلون الفکرة بصدر رحب هو تأکید العدید من الروایات الواردة عن النبی (صلى الله علیه وآله) وأهل البیت (علیهم السلام) على الغیبة وحصولها للإمام المهدی (علیه السلام) وتحدثهم عنها بإسهاب.
فعن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: (إن لصاحب هذا الأمر ـ یعنی المهدی ـ غیبتین إحداهما تطول حتى یقول بعضهم مات، وبعضهم یقول قتل، وبعضهم یقول ذهب، حتى لا یبقى على أمره من أصحابه إلا نفر یسیر، لا یطلع على موضعه أحد من ولی ولا غیره إلا المولى الذی یلی أمره)(10).
وعن علی بن جعفر عن أخیه موسى بن جعفر (علیه السلام) قال: قلت له: ما تأویل قول الله تعالى ) قل أرأیتم إن أصبح ماؤکم غوراً فمن یأتیکم بماءٍ معین( (11)، فقال (علیه السلام): (إذا فقدتم إمامکم فلم تروه فماذا تصنعون)(12).
وعن محمد بن زیاد الأزدی قال: سألت سیدی موسى بن جعفر (علیه السلام) عن قول الله عز وجل ) وأسبغ علیکم نعمه ظاهرة وباطنة( (13)، فقال (علیه السلام): (النعمة الظاهرة الإمام الظاهر والباطنة الإمام الغائب، قال: فقلت له: ویکون فی الأئمة من یغیب؟ قال: نعم، یغیب عن أبصار الناس شخصه ولا یغیب عن قلوب المؤمنین ذکره، وهو الثانی عشر منا، یسهل الله له کل عسیر، ویذلل له کل صعب، ویظهر له کنوز الأرض ویقرب له کل بعید ویبیر به کل جبار عنید ویهلک على یده کل شیطان مرید، ذلک ابن سیدة الإماء الذی تخفى على الناس ولادته ولا یحل لهم تسمیته حتى یظهره الله عز وجل فیملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت جوراً وظلماً)(14).
ولقد قام الإمام الحسن العسکری (علیه السلام) بطریقة هادئة فی إعلام کبار الشیعة والمخلصین من المؤمنین بولادة الإمام المهدی المنتظر وذلک عبر إرسال بعض الرسائل للثقاة منهم من أمثال أحمد بن إسحاق حیث کتب (علیه السلام) له: (ولد لنا مولود فلیکن عندک مستوراً، وعن جمیع الناس مکتوماً فإنا لم نظهر علیه إلا الأقرب لقرابته والولی لولایته، أحببنا إعلامک لیسرک الله به مثل ما سرنا به والسلام)(15).
کما قام (علیه السلام) بذبح کذا شاة عقیقة عن ابنه المهدی وقام بتوزیع کمیة کبیرة من الخبز واللحم على شخصیات من بنی هاشم ووجهاء الشیعة، ولقد جاء فی بعض الأخبار کما نُقل عن الحسن بن المنذر عن حمزة بن أبی الفتح أنه (علیه السلام) عق عنه بثلاثمائة شاة.
کما قام الإمام العسکری (علیه السلام) بإخبار بعض أصحابه الموثوق بهم شفویاً بولادة الإمام المهدی من أمثال أبا هاشم الجعفری وأبا طاهر البلالی کما قام (علیه السلام) بعرض ابنه المهدی على جماعة من أصحابه وهم أکثر من 40 رجلاً وقد اجتمعوا فی مجلسه فقال لهم: (هذا إمامکم من بعدی وخلیفتی علیکم أطیعوه ولا تتفرقوا من بعدی فتهلکوا فی أدیانکم، ألا وإنکم لا ترونه من بعد یومکم هذا حتى یتم له عمر، فاقبلوا من عثمان ـ أی العمری ـ ما یقوله وانتهوا إلى أمره واقبلوا قوله، فهو خلیفة إمامکم والأمر إلیه)(16).
- ولکن لماذا لم تستمر السفارة بین الإمام المهدی (علیه السلام) والناس کما فی الغیبة الصغرى حتى یومنا هذا؟ أو بمعنى آخر لماذا حدثت الغیبة الکبرى؟
أسباب انتهاء الغیبة الصغرى:
یذکر السید محمد صادق الصدر (قدس) بشأن بدء الغیبة الکبرى الأسباب التالیة(17):1- استیفاء الغیبة الصغرى لأغراضها فی تهیئة الذهنیة العامة للناس لغیبة الإمام المهدی (علیه السلام).
2- ازدیاد المطاردة والمراقبة من قبل السلطات الحاکمة آنذاک للإمام والمرتبطین به لدرجة أن السفیر الرابع لم یقوم بعمل اجتماعی کبیر یذکر، ولم یرو لنا من أعماله إلا القلیل، ولم تستمر مدة سفارته إلا ثلاثة أعوام فقط.
3- عدم إمکانیة المحافظة على السریة الملتزمة فی خط السفارة لو طال بها الزمان أکثر من ذلک وانکشاف أمرها شیئاً فشیئاً، فخلال السبعین سنة تقریباً وهی مدة الغیبة الصغرى لم یُنقل أنه عُرف کیف یتم الاتصال بین الإمام والسفراء، وکیف یخرج لهم التوقیع، وأین یجتمعون مع الإمام (علیه السلام).
بل لم یکن لأی من السلطات الحاکمة آنذاک أن یثبتوا على أحد السفراء أو وکلائهم أنهم أخذوا مالاً من أحد ما لتوصیله للإمام، ولم یجدوا فی حوزتهم أی أوراق تثبت اتصالهم بالإمام (علیه السلام).
فعن الحسین بن الحسن العلوی قال: (انتهى إلى عبید الله بن سلیمان الوزیر أن له ـ أی الإمام ـ وکلاء وأنه تجبى إلیهم الأموال، وسموا الوکلاء فی النواحی، فهمّ بالقبض علیهم، فقیل له: لا، ولکن دسوا لهم قوماً لا یعرفونهم بالأموال، فمن قبض منهم شیئاً قُبض علیه، فلم یشعر الوکلاء بشیء حتى خرج الأمر ـ أی من صاحب الزمان ـ أن لا یأخذوا من أحد شیئاً وأن یتجاهلوا بالأمر، وهم لا یعلمون ما السبب فی ذلک، وامتنع الوکلاء کلهم لما کان تقدم إلیهم، فلم یظفروا بأحد منهم ولم تتم الحیلة فیهم)(18).
ولقد تعرض السفیر الثالث الحسین بن روح للاعتقال والمساءلة لفترة من الزمن وحینما لم تجد علیه السلطات أی مستمسک أطلقت سراحه بفضل الله.
الهوامش:
1- سورة القصص الآیة 4.
2- علل الشرائع ج 1 ص 243، میزان الحکمة ج 1 ص 184.
3- سورة الشعراء الآیة 21.
4- بحار الأنوار ج 52 ص 385 ح 195.
5- کمال الدین ص 361 ح 5، إعلام الورى ص 433، کفایة الأثر ص 269.
6- غیبة الطوسی ص 364 ح 331، بحار الأنوار ج 51 ص 351.
7- إعلام الورى ص 376، بحار الأنوار ج 52 ص 93.
8- الفجر المقدس ص 48.
9- کمال الدین ص 475، بحار الأنوار ج 50 ص 332، معجم أحادیث الإمام المهدی ج 4 ص 255.
10- الإشاعة لأشراط الساعة ص 93، غیبة الطوسی ص 61، بحار الأنوار ج 53 ص 320.
11- سورة الملک الآیة 30.
12- کمال الدین ص 360 ح 3، غیبة الطوسی ص 160، إثبات الهداة ج 3 ص 476.
13- سورة لقمان الآیة 20.
14- بحار الأنوار ج 51 ص 150 ح 2، کمال الدین ص 368.
15- منتخب الأثر ص 344، کمال الدین ص 434، بحار الأنوار ج 51 ص 16 ح 21.
16- غیبة الطوسی ص 357، منتخب الأثر ص 355 ح 2، إثبات الهداة ج 3 ص 415 ح 56.
17- تاریخ الغیبة الصغرى ص 630.
18- أعلام الورى ج 2 ص 266، الکافی ج 1 ص 440 ح 30.
المصدر : موقع الموعود
/ج