قبل أن نتحدّث عن حقوق الإخوان ونتعرّف إلى ما ینبغی القیام به أو الاجتناب عنه فی تعاملنا معهم، نتعرّض لتصنیفهم حیث إنّهم لیسوا بمرتبة واحدة بل بعضهم أفضل من بعض، لأنّ فیهم من لا یُمکن الاستغناء عنه بحال من الأحوال لأنّه کالغذاء الیومیّ وفیهم من لیس کذلک، وبالإمکان الابتعاد عنه لفترات محدّدة أو طویلة، ولنأخذ بیان الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام فی هذا المجال مع شیء من التفصیل.
فی الحدیث عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال:
(الإخوانُ صنفانِ: إخوانُ الثقةِ وإخوانُ المکاشرةِ(1) فأمَّا إخوانُ الثقةِ، فُهم الکفُّ والجناحُ والأهلُ والمالُ، فإذا کنتَ من أخیکَ على حدِّ الثقةِ، فابذلْ لهَ مالَک وبدنَک، وصافِ من صافاهُ وعادِ من عاداهُ، واکتمْ سرَّهُ وعیبَهُ، وأَظهِرْ منهُ الحسنَ، واعلمْ أیُّها السائلُ أنَّهم أقلُّ منَ الکبریتِ الأحمرِ. وأمّا إخوان المکاشرةِ، فإنَّک تصیبُ لذَّتکَ منهُم، فلا تقطعَنَّ ذلکَ منهُم، ولا تطلبنَّ ما وراءَ ذلکَ من ضمیرِهم وابذلْ لهُم ما بذلوا لک من طلاقةِ الوجهِ وحلاوةِ اللسانِ)(2)
لقد بیّن علیه السلام فی هذا التصنیف شکلین من العلاقة الأخویّة یُمکن أن نطلق على المرحلة الأولى المعبّر عنها بــ(إخوان الثقة) العلاقة العمیقة المتینة فی أبعادها الرسالیّة، بما یکنّه کلّ واحد للآخر من مودّة ووفاء واحترام، وبما هما علیه من وحدة فی المنطلق والهدف، وصدق فی الکلمة والموقف، وضرورة أنّ الأفعال بینهما معرِبة دائمًا عن الأقوال، فلا زیف ولا مداهنة ولا مجاراة، ولذلک من الطبیعیّ أن یکون حالهم ما ذُکر فی الحدیث الشریف، فهم أهل الصلاح والصدق والأمانة الّذین یوثق بهم فی الدین وموافقة ظاهرهم لباطنهم، والثقة بهم هی سبب البذل لهم وإعانتهم ومصافاتهم ومعاداة أعدائهم وکتمان أسرارهم، وإظهار محاسنهم، وإخفاء مساوئهم وهم الکفّ والجناح أی هم قوّة یُمکن الاعتماد علیها فی کفّ الأذى ورفع الباطل، والاستعانة بها فی الموارد الّتی یُحتاج فیها إلى عون.
وأمّا الشکل الثانی من العلاقة المعبّر عنها بــ(إخوان المکاشرة) فیُمکن وصفها بالعلاقة السطحیّة الّتی لا تتعدّى الظاهر والمجاملة والمقابلة بمعنى أنّها مقتصرة على دلالات الوجه واللسان دون البناء على ما وراء ذلک من داخل الآخر، فلذا لا یُمکن أن یکون هذا الصنف بمثابة الصنف الأوّل بالتعویل علیه ومکاشفته بالشؤون الخاصّة وإیداع الأسرار لدیه، بل یندرج نمط الارتباط هذا فی حدود الشکل لا المضمون.
ولا یوجد واحد منّا إلَّا وله إخوان أو أصدقاء من الصنفین المذکورین، سواء فی مکان عمله أو سُکناه أو جامعته أو مدرسته. والخطأ الّذی طالما وقعنا فیه أنّنا نعکس النوع المطلوب من التعاطی مع کلّ صنف منهما؛ فربّما نختصر على طلاقة الوجه وحلاوة اللسان واللیاقات المتبّعة فی الأماکن العامّة مع الصنف الّذی ینبغی لنا مصافاته وبذل ما یُمکن بذله مع حاجته فی بعض الأحیان إلیها، ونغوص مع الصنف الآخر الّذی ینبغی الاحتراز منه، فی إبداء الخصوصیّات وإیداع کلّ شیء لدیه مع أنّنا لم نثق بعد فی أمانته، ثمّ بعد ذلک تقع المشکلة، حیث نصطدم ونتفاجأ بحصول ما لا ینبغی حصوله من نقض عهد أو عدم وفاء بوعد، أو خیانة مالیّة أو معنویّة. والخلل إذا کان بهذه الصورة أو غیرها فإنّ سببه الأوّل هو نحن، حیث لم نقم باختیار الوظیفة المطلوبة مع کلّ صنف بحسبه ولذلک فی بعض تعابیر المعصومین علیهم السلام تصریح ودلالة على مکان المشکلة کما فی قول الإمام الصادق علیه السلام:
(لمْ یخنْکَ الأمینُ ولکنِ ائْتمَنْتَ الخائن)(3)
بمعنى أنّ الخلل نشأ من عندک حینما وضعتَ ثقتک فی غیر محلّها فی ائتمان الخائن، وإلَّا لم یکن خلل. وهذا معنى انعکاس التعامل بین الصنفین الّذی یجلب الکثیر من الأزمات فی أوساط الناس.
فالمطلوب أوَّلًا هو التعرّف إلى کلّ من إخوانک، أنّه إلى أیّ صنفٍ ینتمی ثمّ بعد ذلک إقامة العلاقة معه على أساس معرفته، إمّا بشکل عمیق أو بشکل سطحیّ.
ویرشدنا الإمام الصادق علیه السلام إلى حقیقة أصناف الإخوان فی بیان یعتبر تفصیلًا لما ذکره أمیر المؤمنین علیه السلام، وعلى ضوئه یُمکن تحدید طبیعة العلاقة حیث یقول الإمام علیه السلام:
(الإخوانُ ثلاثةٌ، فواحدٌ کالغذاءِ الّذی یُحتاجُ إلیهِ کلَّ وقتٍ فهوَ العاقلُ، والثانی فی معنى الداءِ وهوَ الأحمقُ، والثالثُ فی معنى الدواءِ فهو اللبیبُ)(4)
الأوّل: فإنّه یمثّل حاجة دائمة ومستمرّة فی الحیاة الفکریّة والدینیّة والعلمیّة والعملیّة لأخیه، کما الطعام والشراب بالنسبة للبدن، ولذلک قال علیه السلام: یُحتاج إلیه کلّ وقت.
الثانی: أی الأحمق، فهو من فسد عقله فبات مصدرًا للانحراف والإضلال عن الطریق القویم والکلّ فی غنًى عنه ومأمور بالاحتراز منه.
الثالث: أی اللبیب، فهو ضرورة فی دوام العافیة الاجتماعیّة ودواء عند حلول المشاکل أو الوقوع فی الأزمات سواء کانت خاصّة أم عامّة، فهو الّذی یصونه ویحفظه ومعه یشعر بالراحة والأمان.
فیکون العاقل واللبیب من إخوان الثقة والأحمق من إخوان المکاشرة، ویدخل فی الصنف الأوّل المواسی بنفسه أو ماله، کما یدخل فی الصنف الثانی صاحب الغایة الّتی متى ما تحقّقت فارق أخاه، وقد جاء فی الحدیث:
(الأخوانُ ثلاثةٌ: مواسٍ بنفسِه وآخرُ مواسٍ بمالِه وآخرُ یأخُذ منکَ البُلغةَ ویریدُک لبعضِ اللّذَّةِ فلا تعدَّه من أهلِ الثقةِ)(5)
ومن هذا الأخیر یحذّرنا الإمام الصادق علیه السلام قائلًا:
(واحذرْ أنْ تؤاخی من أرادک لطمعٍ أو خوفٍ أو میلٍ أو مالٍ أو أکلٍ أو شربٍ واطلبْ مؤاخاةَ الأتقیاءِ)(6).
یُمکننا أن نعرّف إخوان الثقة بخصلتین هامّتین، من خلالهما نرى من هو الأخ حقًّا.
الأولى: الإصلاح، وهو أن یلتزم الأخ سبیلًا بنّاءً فی علاقته بأخیه من خلال مکاشفته بعیوبه، وعدم مداهنته وکثرة إطرائه مع ما یراه من أعماله غیر المرضیة، ومعاونته على التغییر لیکون على أحسن ما یرام، فیحبّ له أن تجتمع الأوصاف الحمیدة فیه بأجمعها.
الثانیة: الإخلاص، بمعنى أن یکون صادقًا معه مخلصًا له فی باطنه وسریرته فلا یظهر له خلاف ما یضمره ولسانه ترجمان قلبه على الدوام. فإذا توفّرت هاتان الخصلتان فی رجل کان لا محیصَ عن معاشرته، هذا ما أوصانا به مولانا الإمام الکاظم علیه السلام وهو یعرّفنا إخوان الثقة من خلال الرکیزتین المتقدّمتین قائلًا:
(اجتهدوا فی أنْ یکونَ زمانُکم أربعَ ساعاتٍ: ساعةً لمناجاةِ اللهِ، وساعةً لأمرِ المعاشِ، وساعةً لمعاشرةِ الإخوانِ والثقاتِ الّذین یعرّفونَکُم عیوبَکُم ویُخلصونَ لکُم فی الباطنِ وساعةً تخلونُ فیها للذّاتِکم فی غیرِ محرّمٍ)(7).
أعظم الإخوان:
عرفنا ممّا تقدم أنّه یوجد تفاوت فی درجات الإخوان بحسب ما یمتلکون من خصال جمیلة، لکن لم نشر إلى الدرجة العظمى والرتبة العلیا من درجات الأخوّة إلى حدّ أن یکون ذلک الرجل هو أعظم إخوانه على الإطلاق، فبماذا یا ترى یبلغ هذه المنزلة؟
ویجیبنا مولانا الإمام الحسن بن علیّ علیهما السلام قائلاً:
(أیُّها الناسُ، أنا أُخبرِکم عن أخٍ لی کانَ من أعظمِ الناسِ فی عینی وکان رأسُ ما عَظُمَ بهِ فی عینی صِغَرُ الدنیا فی عینهِ، کان خارجًا من سلطانِ بطنِه فلا یشتهی ما لا یجدُ ولا یُکثِرُ إذا وُجِدَ، کان خارجًا من سلطانِ فرجه، فلا یستخفُّ له عقلَه ولا رأیَه، کانَ خارجًا من سلطانِ الجهالةِ فلا یمدُّ یده إلَّا على ثقةٍ لمنفعةٍ، کانَ لا یتشهّی ولا یتسخّطُ ولا یتبرّم، کانَ أکثرَ دهرِه صمّاتًا فإذا قالَ بذَّ القائلینَ(8)، کان لا یدخلُ فی مِراءٍ ولا یشارکُ فی دعوى ولا یُدلی بحجّةٍ حتّى یرى قاضیًا، وکان لا یغفلُ عن إخوانِه ولا یخصُّ نفسه بشیءٍ دونَهم. کان ضعیفًا مستضْعَفًا، فإذا جاءَ الجِدُّ کان لیثًا عادیًا، کان لا یلومُ أحدًا فیما یقعُ العذرُ فی مثلهِ حتّى یرى اعتذارًا، کان یفعلُ ما یقولُ ویفعلُ ما لا یقولُ، کان إذا ابتزَّه أمرانِ لا یدری أیَّهما أفضلُ، نظر إلى أقربِهما إلى الهوى فخالفَه، کان لا یشکو وجعًا إلَّا عند من یرجو عندَه البرءَ، ولا یستشیرُ إلَّا من یرجو عندَه النصیحةَ، کانَ لا یتبرّمُ ولا یتسخّطُ ولا یتشکّى ولا یتشهّى ولا ینتقمُ ولا یغفلُ عن العدوِّ. فعلیکُم بمثلِ هذه الأخلاقِ الکریمةِ إنْ أطقتُموها، فإن لم تطیقوها کلَّها؛ فأخْذُ القلیل خیرٌ من ترکِ الکثیرِ، ولا حولَ ولا قوّةَ إلَّا باللهِ)(9).
المصادر :
1- المکاشرة فی اللغة: من الکَشْر وهو ظهور الأسنان للضحک وکاشره إذا ضحک فی وجهه وباسطه.
2- الکافی، ج2، ص193.
3- بحار الأنوار، ج75، ص 335 .
4- تحف العقول، ص302.
5- تحف العقول، ص324.
6- مصباح الشریعة، ص36.
7- تحف العقول، ص302.
8- أی سبقهم وغلبهم.
9- الکافی، ج2، ص186.
/ج