عرف بعض الحكماء الشعر فقالوا: الشعر إبراز العواطف النبيلة بطريق الخيال.وقال آخرون: الشعر هو الحق ينقله الشعور حياً إلى القلب فالتعريف الأول يصح أن يكون للفن الأدبي بضربيه الشعر والنثر. والتعريف الثاني يخاطب العقل والشعور معاً.
فالوزن والقافية والاتصال بالشعور من الشروط اللازمة في قول الشعر. والإمام السجاد قال الشعر صادراً عن عقله وشعوره معاً ونابعاً من تجاربه ومعاناته في الحياة. وكل شعره جاء في المناجاة والأخلاق والدعوة إلى الخير والفخر، والنهي عن الشر والأمر بمكارم الأخلاق. ولا غرو فالإمام زين العابدين (عليه السّلام) من الذين كرسوا حياتهم من أجل الحق والفضيلة وتقويم الانحراف والجهاد من أجل إعلاء كلمة الإسلام. وهذه مقتطفات من شعره:
قال في إحدى مناجاته التي ترتعد منها الفرائض:
(يا نفس حتى مَ إلى الدنيا سكونك، وإلى عمارتها ركونك أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك، ومن رواته الأرض من ألاَّفك؟ ومن فجعت به من إخوانك؟
خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم وساقتهم نحو المنايا المقابر
فهم في بطون الأرض بعد ظهورها محاسنهم فيها بوال دوائر
وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها وضمتهم تحت التراب الحفائر
فكم خرمت أيدي المنون من قرون، وكم غيرت الأرض ببلا ئها وغيبت في ترابها ممن عاشرت من البشر وشيعتهم إلى القبور ثم رجعت عنهم إلى عمل أهل الإفلاس.ثم يتابع في نصحه لأهل الدنيا:
وأنت على الدنيا مكب منافس لخطابها فيها حريص مكاثر
على خطر تمسي وتصبح لاهياً أتدري بماذا لو عقلت تخاطر
وإن امرءاً يسعى لدنياه جاهداً ويذهل عن أخراه لا شك خاسر
فحتى مَ على الدنيا إقبالك؟ وبمغرياتها اشتغالك؟ وقد أسرع إلى قذالك الشيب البشير، وأنذرك النذير، وأنت ساه عما يراد بك ولاه عن غدك وقد رأيت بأم عينك انقلاب أهل الشهوات، وعاينت ما حل بهم من المصائب والنكبات.
وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى عن اللهو واللذات للمرء زاجر
أبعد اقتراب الأربعين تربص وشيب قذال منذ ذلك ذاعر
كأنك معني بما هو صائر لنفسك عمداً أو عن الرشد حائر
فحول نظرك إلى الأمم الماضية والقرون الخالية كيف اختطفتهم عوادي الأيام فأفناهم الحمام، فأمحت من الدنيا آثارهم وأصبحوا رمماً تحت التراب إلى يوم الحشر والحساب.
وأضحوا رميماً في التراب وأقفرت مجالس منهم عطلت ومقاصر
وحلوا بدار لا تزاور بينهم وأنى لسكان القبور التزاور
فما أن ترى إلا قبوراً ثووا بها مسطحة تسفي عليها الأعاصر
ثم يحذر (عليه السّلام) المتكبرين ويعظ الملوك الجبارين الذين نزل بهم ما لا يصد فتعالى الله العزيز القهار، مبيد المتكبرين وقاصم الجبارين الذي ذل لعزه كل سلطان، وباد بقوته كل ديان:
مليك عزيز لا يرد قضاؤه حكيم عليم نافذ الأمر قاهر
عنا كل ذي عز لعزة وجهه فكم من عزيز للمهين صاغر
لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت لعزة ذي العرش الملوك الجبابر
ويتابع (عليه السّلام) تحذيره للناس عامة من الدنيا ومكائدها، وما نصبت للناس من مصائبها، وتحلت لهم من زينتها وأظهرت لهم من بهجتها ومن شهواتها وأخفت عنهم من مكائدها وقواتلها:
وفي دون ما عينت من فجعاتها إلى دفعها داع وبالزهد آمر
فجد ولا تغفل وكن متيقظاً فعما قليل يترك الدار عامر
فشمّر ولا تفتر فعمرك زائل وأنت إلى دار الإقامة صائر
ولا تطلب الدنيا فإن نعيمها وإن نلت منها غبه لك ضائر
وما دام اللبيب على ثقة من زوال الدنيا وفنائها، فلماذا يحرص عليها ويطمع في بقائها، وكيف تنام عينه وتسكن نفسه وهو يتوقع الممات في جميع أموره!!
إلا له، ولكنا نغر نفوسنا وتشغلنا اللذات عما نحاذر
وكيف يلذ العيش من هو موقن بموقف عدل يوم تبلى السرائر
كأنا نرى أن لا نشور، وإنما سدى ما لنا بعد الممات مصادر
وبعد الوقوع في الخطايا وانغماسه في الرزايا يبكي على ما سلف ويتحسر على ما فاته من دنياه، فيشرع بالاستغفار حين لا ينجيه لا استغفار ولا اعتذار من هول المنية ونزول البلية:
أحاطت به أحزانه وهمومه وأبلس لما أعجزته المقادر
فليس له من كربة الموت فارج وليس له مما يحاذر ناصر
وقد جشأت خوف المنية نفسه ترددها منه اللها والحناجر
فتذكر أيها الإنسان الحالة التي أنت صائر إليها لا محالة، فإنك منقول إلى دار البلى ومدفوع إلى هول ما ترى:
ثوى مفرداً في لحده وتوزعت مواريثه أولاده والأصاهر
واحنوا على أمواله يقسمونها فلا حامد منهم عليها وشاكر
فيا عامر الدنيا ويا ساعياً لها ويا آمناً من أن تدور الدوائر
ولم تتزود للرحيل وقد دنا وأنت على حال وشيك مسافر
فيا لهف نفسي كم أسوف توبتي وعمري فان والردى لي ناظر
وكل الذي أسلفت في الصحف مثبت يجازي عليه عادل الحكم قادر
تخرب ما يبقى وتعمر فانياً فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر
وهل لك إن وافاك حتفك بغتة ولم تكتسب خيراً لدى الله عاذر
أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي ودينك منقوص ومالك وافر
روى الزهري قال: كان علي بن الحسين (عليه السّلام) يناجي ربه تعالى ويقول: (قل لمن قل عزاؤه، وطال بكاؤه، ودام عناؤه، وبان صبره، وتقسم فكره، والتبس عليه أمره، من فقد الأولاد، ومفارقة الآباء والأجداد، ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد؟
تعز فكل للمنية ذائق وكل ابن أنثى للحياة مفارق
فعمر الفتى للحادثات دريئة تناهبه ساعاتها والدقائق
كذا نتفانا واحد بعد واحد وتطرقنا بالحادثات الطوارق
وفيم وحتى الشكاية والردى جموح لآجال البرية لاحق
فكل ابن أنثى هالك وابن هالك لمن ضمنته غربها والمشارق
فلا بد من إدراك ما هو كائن ولا بد من اتيان ما هو سابق
فما للإنسان والخلود إلى دار الأحزان والهوان، وقد نطق القرآن بالبيان الواضح في سورة الرحمن، (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام).فالشباب للهرم، والصحة إلى السقم، والوجود إلى العدم، فلماذا التلهف والندم وقد خلت من قبلنا الأمم:
أترجو نجاة من حياة سقيمة وسهم المنايا للخليقة راشق
سرورك موصول بفقدان لذة ومن دون ما تهواه تأتي العوائق
وحبك للدنيا غرور وباطل وفي ضمنها للراغبين البوائق
فأين السلف الماضون وأين الأهلون والأقربون، وأين الأنبياء المرسلون فقد طحنتهم المنون، وفقدتهم العيون وإنا إليهم صائرون. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
إذا كان هذا نهج من كان قبلنا فإنا على آثارهم نتلاحق
فكن عالماً أن سوف تدرك من مضى ولو عصمتك الراسيات الشواهق
فما هذه دار المقامة فاعلمن ولو عمر الإنسان ما ذر شارق
فتأمل وتبصر واسأل أين من بنى القصور وهزم الجيوش وجمع الأموال، أين ملوك الفراعنة والأكاسرة والغساسنة؟
كأن لم يكونوا أهل عز ومنعة ولا رفعت أعلامهم والمناجق
ولا سكنوا تلك القصور التي بنوا ولا أخذت منهم بعهد مواثق
وروى طاووس الفقيه قال: رأيت زين العابدين (عليه السّلام) يطوف بالبيت من العشاء إلى السحر ويتعبد ثم قال: (...إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب أما آن لي أن أستحي من ربي؟ ثم أنشأ يقول:
أتحرقني بالنار يا غاية المنى فأين رجائي ثم أين محبتي
أتيت بأعمال قباح ردية وما في الورى خلق جنى كجنايتي
وحدث عبد الله بن المبارك أنه كان في بعض السنين يساير الحاج إذ رأى صبياً سباعياً أو ثمانياً يسير في ناحية الحاج بلا زاد ولا راحلة فقال له: مع من قطعت البر؟ فقال: مع الباري جل شأنه، فسأله عن راحلته وزاده فأجابه: بأن زاده تقواه وراحلته رجلاه وقصده إلى مولاه سبحانه وتعالى، فكبر في عينه وازداد تعجبه فتشوق إلى استكشاف نسبه فقال: هاشمي علوي فاطمي. وكان هذا يفسر مواهبه الأدبية فسأله عن معرفته بالشعر فاستنشده من شعره فقال:
لنحن على الحوض رواده نذود ونسقي وراده
وما فاز من فاز إلا بنا وما خاب من حبنا زاده
ومن سرنا نال منا السرور ومن ساءنا ساء ميلاده
ومن كان غاصبنا حقنا فيوم القيامة ميعاده
ثم فارقه ولم يشاهده إلا بالأبطح، فرآه جالساً وحوله جماعة يسألونه عما أبهم عليهم من الحلال والحرام وما أشكل عليهم فإذا هو زين العابدين (عليه السّلام) ومما يروى له صلوات الله عليه قوله:
نحن بنو المصطفى ذوو غصص يجرعها في الأنام كاظمنا
عظيمة في الأنام محنتنا أولنا مبتلى وآخرنا
يفرح هذا الورى بعيدهم ونحن أعيادنا مآتمنا
والناس في الأمن والسرور وما يأمن طول الزمان خائفنا
وما خصصنا به من الشرف الـ ـطائل بين الأنام آفتنا
يحكم فينا والحكم فيه لنا جاحدنا حقنا وغاصبنا)(1)
ذكر الألوسي في روح المعاني عند قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين)(2). علم الأسرار والحقيقة ثم قال أشار إلى هذا رئيس العارفين علي زين العابدين حيث قال:
إني لأكتم من علمي جواهره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتننا
وقد تقدم في هذا أبو الحسن إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا(3)
وذكر ابن شهر آشوب في المناقب أن الأصمعي قال: كنت أطوف ليلة بالبيت الحرام فإذا شاب ظريف عليه ذؤابتان وهو متعلق بأستار الكعبة ويقول نامت العيون إلى أن قال:
يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
قد نام وفدك حول البيت قاطبة وأنت وحدك يا قيوم لم تنم
أدعوك ربي دعاء قد أمرت به فارحم بكائي بحق البيت والحرم
إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف فمن يجود على العاصين بالنعم(4)
وقال (عليه السلام) مخاطباً الحكام الظالمين:
لكم ما تدعون بغير حق إذ ميز الصحاح من المراض
عرفتم حقنا فجحدتمونا كما عرف السواد من البياض
كتاب الله شاهدنا عليكم وقاضياً الإله فنعم قاض(5)
وقال (عليه السّلام) ليزيد بن معاوية:
لا تطمعوا أن تهينونا فنكرمكم وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
والله يعلم إنا لا نحبكم ولا نلومكم أن لا تحبونا
قال: صدقت يا غلام، ولكن أراد أبوك وجدك أن يكونا أميرين، والحمد لله قتلهما وسفك دماهما.
فقال (عليه السّلام): لم تزل النبوة والأمرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد(6)
ومن الأشعار المنسوبة إلى الإمام زين العابدين مقطوعتين من المناجاة المنظومة ذكر أنهما وجدتا بخط بعض العلماء.
الأولى:
ألم نسمع بفضلك يا منايا دعاءً من ضعيف مبتلاء(7)
غريقاً في بحار الغم حزناً أسيراً بالذنوب والخطاء
أنادي بالتضرع كل يومٍ مجداً بالتبتل والدعاء
لقد ضاقت علي الأرض طراً وأهل الأرض ما عرفوا دوائي
فخذ بيدي إني مستجير بعفوك يا عظيم، ويا رجائي
أتيتك باكياً فارحم بكائي حيائي منك أكثر من خطائي
ولي هم وأنت لكشف همي ولي داء وأنت دواء دائي
وأيقظني الرجاء فقلت ربي رجائي أن تحقق لي رجائي
تفضل سيدي بالعفو عني فإني في بلاء من بلاء
والثانية:
إليك يا رب قد وجهت حاجاتي وجئت بابك يا ربي بحاجاتي
أنت العليم بما يحوي الضمير به يا عالم السر علام الخفيات
اقض الحوائج لي ربي فلست أرى سواك يا رب من قاض لحاجاتي
وهكذا كما ترى اختلال الوزن والركة في المعنى والنظم ظاهرة بوضوح، والذي أراه أن كلا المقطوعتين وما يشبههما من الشعر الركيك من الموضوعات على الإمام (عليه السّلام)، إذ كيف تنسب للإمام مثل هذه الأبيات المفككة الركيكة التي تخلو من أية مسحة أدبية أو بلاغية، وهو صاحب الشأن الأدبي الرفيع يكفيه فخراً أنه صاحب الصحيفة السجادية التي لم يؤثر في الكلام العربي مثل فصاحتها وبلاغتها.
كما نسب إلى الإمام زين العابدين ديوان شعر حافل بالنصائح والمواعظ وتوجد منه نسخة مخطوطة في مكتبة الإمام أمير المؤمنين بخط السيد أحمد بن الحسين الجزائري، وقع الفراغ من كتابتها سنة 1358هـ وقد استنسخها عن نسخة بخط السيد محمد بن السيد عبد الله الشوشتري المتوفى سنة (1283هـ).
وقد نشره الدكتور حسين علي محفوظ في مجلة البلاغ العدد الثامن من السنة الأولى ص24 وقال في تقديمه له:
(ينسب إلى السجاد (عليه السّلام) 387بيتاً من الشعر جمعها شيخنا المرحوم محمد علي التبريزي المدرس المتوفى سنة (1373هـ) من كتاب التحفة المهدية المطبوع في تبريز سنة 1357هـ وهو القسم الثاني من ديوان المعصومين الذي سماه: الدر المنثور، وقد أهدى إلي صديقنا الباحث الفاضل الكريم مرتضى المدرس نسخة خطية من شرح ديوان السجاد (عليه السلام) مكتوبة في أوائل القرن الثالث عشر الهجري فيه 29 مقطوعة من بحر الوافر ذوات خمسة أبيات مرتبة على الهجاء عدتها 145 بيتاً، وإذا صح أن ينسب شيء من الشعر إلى الإمام فالظن كل الظن أن في المضامين إليه من المنظوم ما هو قيد كلماته، ونظم معانيه، واتباع منهجه، ودليل سيرته، واقتداء بهداه..).
ولا يخالني الشك في عدم صحة نسبة هذا الديوان إلى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) لا لمعانيه وإنما لركاكة ألفاظه وضعف صياغته. والذي يطالع للإمام ما أثر عنه من غرر الحكم والآداب يجد أن الإمام قد استعمل أفصح الألفاظ وأبلغها، وأعذب الأسلوب وأكثره جاذبية للقارئ. فقد كان (عليه السّلام) من أفصح بلغاء الأمة العربية على الإطلاق.
وما أذهب إليه أنه ليس من نظم الإمام (عليه السّلام) وإنما نظمه بعض المعجبين بمواعظه وحكمه ونسبه إليه. لكن هذا الناظم لا يجيد النظم، فقد صاغ أغلب الأبيات بألفاظ ركيكة تخلو من حسن الديباجة وجمال الأسلوب.
ومن آثار الإمام زين العابدين المخطوطة ذكر الدكتور حسين علي محفوظ أن للإمام مصاحف تنسب إلى خطه الشريف توجد في مكاتب شيراز وقزوين وأصفهان ومشهد(8)
المصادر :
1- راجع زين العابدين للمقرم عن مناقب ابن شهر آشوب، ج2، ص255. وبحار الأنوار، ج11، ص26
2- المناقب، ج3، ص268
3- سورة المائدة: الآية67
4- زين العابدين للمقرم، ص258
5- المناقب، ج2، ص252
6- بحار الأنوار، ج11، ص42
7- هذه الأبيات نسبها السيد حسن النوري في الصحيفة السجادية الرابعة إلى الإمام (عليه السّلام).
8- مجلة البلاغ العدد السابع السنة الأولى، ص59
/ج