(1567 ـ 1643) كلاوديو مونتڤيردي Claudio Monteverdi مؤلف موسيقي إيطالي، ولد في كريمونا، وتوفي في البندقية (ڤينيسيا) Venezia. له دور مركزي في نشأة الأوبرا. مارس النشاط الموسيقي منذ طفولته مغنياً في كورس الكنيسة تحت إشراف عازف الأرغن [ر] Organ ومؤلف الموسيقى مارك إنجينييري M.Ingegneri، ونشر مؤلفاته الموسيقية في سن السادسة عشرة، وكان قد أتقن العزف بآلة الأرغن والفيول [ر. الكمان] واشتهر مغنياً للمادريغال [ر] Madrigal. التحق مونتڤيردي بخدمة دوق مانتوڤا Mantova ڤينشنزو غونزاغا V.Gonzaga عام 1590، وتزوج من ابنة أحد موسيقيي القصر عازفة الهارب كلاوديا كاتنيو Claudia Cattaneo ورُزق منها ولدان: فرانشيسكو Francesco، وماسيميليانو Massimiliano.
رافق مونتڤيردي الدوق في تنقلاته وزار لييج وأنفرس وبروكسل في رحلة اطّلع فيها على إنجازات المدرسة الفرنسية. وفي مناسبة الاحتفال في فلورنسا عام 1600 بزواج ابنة دوق توسكانا من ملك فرنسا هنري الرابع، قدمت أوبرا «إوريديتشه» Euridice، محاولة باكرة لتأليف دراما موسيقية من قبل بيري J.Peri، أثارت اهتمام دوق مانتوڤا، وتحمس مونتڤيردي لتأليف أولى أوبراته «أورفيو» Orfeo التي قدمها عام 1607 بنجاح هائل؛ جعلت مؤلفها في طليعة مؤلفي الأوبرا في عصره. وبمناسبة الاحتفال بزواج ابن الدوق عام 1608 ألف مونتڤيردي اثنتين من الأوبرا: «آريانا» Arianna، أعقبها بـ«رقص ناكرات الجميل» Il Ballo delle Ingrate لتؤكد موقع الصدارة لمونتڤيردي ونجاح أسلوبه الحديث في تأليف الدراما الموسيقية.
ومع صعود نجمه في عالم الموسيقى والنجاحات المتتالية؛ ظلت حالته المادية تعيسة، الأمر الذي دفع مونتڤيردي إلى القيام برحلة إلى روما ليقدم فيها إلى البابا بولس الخامس Paul v مؤلفين مهمين: «صلاة الغروب» Vespero، وقداساً Mass آملاً الحصول على منصب موسيقي في روما، أو منحة دراسية لابنه، لكنه عاد إلى مانتوڤا خائباً ليجد المزيد من الصعوبات مع فرانشيسكو خليفة الدوق غونزاغا في انتظاره.
لم يجد مونتڤيردي التقدير المتوقع لفنه من قبل الدوق الجديد الذي اشتهر بقسوته وحدّة طباعه، وسرعان ما دبّ الخلاف بينه وبين الدوق، الأمر الذي دفع به إلى الانسحاب إلى مسقط رأسه كريمونا؛ لينتظر بقلق صدور مرسوم تعيينه في منصب قائد الجوقة في كنيسة القديس مارك St. Mark بالبندقية، خلفاً للموسيقي مارتينيغو G.C.Martinego. وصدر قرار التعيين في آب/أغسطس 1613، والتحق مونتڤيردي بمنصبه الجديد ليهنأ بحياة مستقرة من الناحية المادية؛ وشهرة كبيرة بلغت ذروتها عام 1628، وانهالت عليه طلبات تأليف أعمال موسيقية تخاطفتها مدن شمالي إيطاليا لإحياء الأمسيات الموسيقية والاحتفال بمناسبات الزواج والتتويج. وبلغت شهرته أرجاء أوربا، وانجذب العديد من المؤلفين للاطّلاع على أعماله، وتقرّب منه المؤلف الألماني الكبير شوتز H.Schütz للمزيد من الاطلاع على الأساليب الجديدة التي طُوّرت على يد مونتڤيردي في طريقة التأليف الغنائي والدرامي في المدرسة الإيطالية.
ومع التزامات مونتڤيردي مؤلفاً لموسيقى كنسية، فإنه لم يعتزل التأليف للموسيقى الدنيوية، إذ عاد اهتمامه بتأليف الأوبرا إلى التصاعد بعد سنوات عدة من الهجوع، فقدم «المغناة» (الكانتاتا) Cantata الدرامية «صراع تانكريدي وكلوريندا» عام 1624. إلا أن المآسي والنكبات لم تفارقه، فقد اجتاحت الجيوش النمساوية مانتوڤا، وتعرضت المدينة للسلب والنهب، وشب حريق هائل في بلاط الدوق أتلف نفائسه وتحفه ومن بينها مخطوطات أعمال مونتڤيردي المحفوظة في مكتبته. وفقد ابنه فرانشيسكو في جائحة الطاعون التي عصفت بالبندقية عام 1631، وكاد أن يفقد ولده الثاني ماسيميليانو الذي تورط في قضية خطيرة لتداوله ومطالعته كتب حرمتها الكنيسة والقانون. وبمساعدة عدد من الشخصيات السياسية والدينية تمكن مونتڤيردي من إعفاء ولده من المثول أمام قضاة محكمة التفتيش. وقد يكون لهذه المآسي دور في اتخاذه عام 1632 قرار الالتحاق بسلك الكهنوت، وتأليفه قداس الشكر.
واصل مونتڤيردي التأليف بحيوية وحماس، مع إحساسه بتقدم السن، فقدم العديد من الأوبرات العظيمة مثل: «عودة أوليس» IL ritorno d’Ulisseت(1641) ، ورائعته «تتويج بوبيا» L’incoronazione di Poppeaت(1642) . دُفن مونتڤيردي في كنيسة فِراري Ferrari في احتفال مهيب يليق بالملوك.
أعماله
في جميع مراحل سيرته الفنية الغنية، وفي جميع الأعمال الموسيقية التي تطرق لها، من مادريغال، وأوبرا، وأعمال كنسية، ظل مونتڤيردي مثالاً للتجدد والجرأة والواقعية والحساسية المرهفة. وبالإمكان تمييز مرحلتين إبداعيتين في سيرته الفنية:
عمل بين عامي 1590و1612 موسيقياً في بلاط مانتوڤا، ألّف في أثنائها خمسة أجزاء من مجلدات المادريغال، وأوبرتا «آريانا» و«أورفيو».
وفي الفترة بين عامي 1613و1643، عمل قائد جوقة، ومؤلفاً لموسيقى كنيسة القديس مارك في البندقية، قدم فيها 18 أوبرا لم يبق منها إلا «عودة أوليس» و«تتويج بوبيا» وأربعة أجزاء من مجلدات المادريغال، وأعمالاً كنسية كثيرة بلغت 1640 قداساً ومزامير.
المادريغال: يعدّ مونتڤيردي خاتم مؤلفي المادريغال الذي ارتقى وطور أسلوب تأليفه حتى حدود الإتقان. أحسّ بالقوة الدرامية الكامنة في أعماق النص وتوصّل إلى تحرير هذه الطاقة وإطلاقها بدعم الغناء المنفرد بتآلفات مرافقة «الجهير (الباص) المستمر» القادر على إغناء التعبير بمنحه ذخيرة من المفردات والألوان الهارمونية القادرة على بث أكثر المشاعر رقة وحساسية. وبالإمكان ملاحظة تحول إيجابي عن مسلمات أسلافه ومعاصريه بدءاً من المجلد الخامس من مؤلفات المادريغال؛ إذ تخلى مونتڤيردي عن التأليف للغناء المنفرد (من دون مرافقة) ليعتمد مرافقة الجهير المستمر؛ مرتقياً بالتعبير الدرامي للنص على نحو لم يسبق له مثيل، وأصبحت ابتكاراته الهارمونية في غاية الحداثة والجرأة إذ لم تكن في أي وقت من الأوقات اعتباطية؛ بل خاضعة لضرورات النص.
المؤلفات الكنسية: انطلق مونتڤيردي في تأليفه الموسيقى الدينية من موروث الغناء الكنسي لأسلافه وتقاليدهم؛ مطوراً ومرتقياً بأسلوب الغناء والعزف إلى فخامة وروعة مؤلفه «صلاة الغروب» لعام 1610.
الأوبرا: كونت نخبة من نبلاء فلورنسا مجمعاً اهتم بفنون الموسيقى جذب العديد من المؤلفين المهمين مثل: كاڤاليري E.Cavalieri، وبيري J.Peri، وكاتشيني G.Caccini الذين اهتموا بتأليف مشاهد مسرحية موسيقية تعتمد قصصاً إغريقية.
ألف بيري عام 1600 أوبرا «إوريديتشه» Euridice. وفي السنة نفسها كرر كاتشيني المحاولة باعتماد النص ذاته؛ إلا أن المحاولتين كانتا من دون رونق وفي غاية الرتابة إذا ما قورنتا بأوبرا «أورفيو» التي ألفها مونتڤيردي عام 1607.
أرسى مونتڤيردي أركان تأليف الأوبرا التي ألف منها 18 مثالاً، منطلقاً من إيجابيات المحاولات الباكرة لأسلافه ومعاصريه من مؤلفي الميلودراما ساعياً إلى تحقيق التوازن الدقيق بين سحر الغناء ومغزى النص، مكتشفاً سر التكامل بينهما، مصرّاً على ضرورة تحول الموسيقى وانتقالها إلى عالم المشاعر، ووضعها في خدمة الكلمات ومعانيها. ولعله من حسن حظ فن الأوبرا أن يظهر ـ وفي وقت مبكر ـ فنان عظيم وعبقرية سابقة لعصرها، مثل مونتڤيردي صاحب تصورات درامية مسرحية طليعية، قادر على رسم طريق مستقبل واعد لفن مازال وقتئذٍ في طور التكون.
أهم المؤلفات
«صلاة الغروب»، وأوبرا «تتويج بوبيا»، و«رسالة حب» lettera amorosa، من كتاب المادريغال السابع، و«نحيب آريانا» قطعة غنائية من أوبرا «آريانا» المفقودة.
مراجع للاستزادة:
ـ تيودور فيني، تاريخ الموسيقى العالمية، ترجمة: سمحة الخولي (دار المعرفة، القاهرة 1986).
- PERCY & SCHOLES, The Oxford Companion to Music (OUP, London 1986).