
تطلق کلمة « الرحم » لغة القرابة المطلقة ، وكذا عرفاً . وأورد ابو القاسم الراغب في مفرداته ان استعارته من رحم الانثى ، لكونهم خارجين من رحم واحدة ، وأصله الرحمة ، وذلك لانها مما يتراحم به ويتعاطف ، يقولون « وصلتك رحم » . (1)
ومن أجل ما ذكرناه من اللغة والعرف ذهب علماؤنا الى تسمية القرابة المطلقة رحماً ، سواء الذكر والاثنى والوارث وغير الوارث والمحرم وغير المحرم والمسلم والكافر ، من قبل الاب والام أو من قبل أحدهما ، لان الاسم يتناول الجميع على السواء ولم يعهد في الشرع معنى آخر وضع هذا اللفظ له ، فوجب صرفه الى المتعارف ، كما هو المعهود من عادة الشرع .
ويؤيده ما رواه علي بن ابراهيم في تفسيره عن علي عليه السلام قال : قوله تعالى ( فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا ارحامكم ) (2) نزلت في بني امية بقتلهم الحسين عليه السلام .
وذلك لانهم لصاق بعبد مناف ، بسبب أن اخاه ربى عبداً له رومياً اسمه « امية » عن كامل البهائي ان اُمية كان غلاماً رومياً لعبد شمس ، فلما ألفاه كيساً فطناً أعتقه وتبناه فقيل أمية بن عبد شمس ، وكان ذلك دأب العرب في الجاهلية ، وبمثل ذلك نسب العوام ابو الزبير الى خويلد ، فبنوا أمية كافة ليسوا من قريش ، وانما لحقوا ولصقوا بهم . (3) ، والى ذلك اشار أمير المؤمنين عليه السلام لما كتب اليه معاوية « انما نحن وانتم بنو عبد مناف » : ليس المهاجر كالطليق ولا الصريح كاللصيق (الطليق الذي أسر فأطلق بالمن عليه أو الفدية ، وابو سفيان ومعاوية كانا من الطلقاء يوم الفتح . والمهاجر من آمن في المخافة وهاجر تخلصاً منها . والصريح صحيح النسب في ذوي الحسب . واللصيق من ينتمي اليهم وهو أجنبي عنهم ). (4) .
وبعض العامة قصر ذلك على المحارم الذين يحرم التناكح بينهم ان كانوا ذكوراً و اناثاً ، وان كانوا من قبيل يقدر احدهما ذكراً والاخر أنثى ، فان حرم التناكح بينهم فهم الرحم . محتجاً بأن تحريم الاختين انما كان لما يتضمن من قطيعة الرحم ، وكذا تحريم اصالة الجمع بين العمة والخالة وابنة الاخ و الاخت مع عدم الرضا عندنا ومطلقاً عندهم .
ويرده ما تقدم .
نعم يشترط أن لا يبعد الشخص جداً بحيث لا يعد في العرف انه من القرابة ، والا لكان جميع الناس أقرباء ، لاشتراكهم في آدم عليه السلام .
وللمفيد قول بارتقاء القرابة الى آخر أب وأم في الاسلام ، وهو قول الشيخ في النهاية ، ونقحه العلامة في القواعد بأن المراد بهمن يتقرب اليه ولو بأبعد جد أو جدة ، بشرط كونهما مسلمين ، فالجد البعيد ومن كان من فروعه وان بعدت مرتبته بالنسبة اليه معدود قرابة اذا كان مسلماً .
ويضعف بأنه قد لا يساعد العرف عليه ، فان من عرض تقربه الى جد بعيد جداً لايعد قرابة عرفاً وان كان الجد مسلماً ، للعلة المتقدمة .
وما قلناه أولاً مختار المبسوط والخلاف ، واليه ذهب ابن البراج وابن ادريس واكثر المتأخرين ، وقد مر وجهه .
ووجه الثاني قوله عليه السلام « قطع الاسلام ارحام الجاهلية » وقوله تعالى لنوح عن ابنه ( انه ليس من أهلك ) (5) .
ورده ابو القاسم جعفر بن سعيد في الشرايع بأنه غير مستند الى شاهد .
وتوجيهه : انتفاء النص الصريح فيه ، اذ لم يرد فيه الا هذه الرواية ، وهي مع تسليم سندها غير دالة على المراد ، لان قطع الرحم للجاهلية لا يدل على قطع القرابة مطلقاً مع أصناف الكفار وكذا قطع الاهلية عن نوح .
قال ابن الجنيد : القريب من تقرب من جهة الاب أو الوالدين .
قال : ولا اختار أن يتجاوز بالتفرقة ولد الاب الرابع ، لان النبي صلى الله عليه وآله لم يتجاوز ذلك في تفرقة سهم ذوي القربى من الخمس ، ولا دلالة على أن ذوي القربى حقيقة في مستحق الخمس ، وانما ذلك أمر أراده الله تعالى وفسره النبي صلّى الله عليه وآله ، بدليل ما روى أنه لما نزل ( قل لا أسئلكم عليه أجراً الا المودة في القربى ) (6) قيل : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت
علينا مودتهم ؟ قال : علي وفاطمة وابناهما . ذكره الزمخشري في الكشاف وغيره ، واخبارنا ناطقة بأن باقي الائمة المعصومين من قرباه الذين وجبت علينا مودتهم .
هذا معنى آخر للقرابة بالنسبة اليه عليه السلام سوى الاول ، وهو قاض بأن للنبي صلّى الله عليه وآله في القرابة معنى خاصاً به ، للقطع بأن القرابة في حق غيره عليه السلام لا يقتصر فيها على احدى بناته وأولادها وبعلها الذي من شجرته . فالمرجع حيئذ الى العرف .
وعن أبي حنيفة وابي يوسف عدم اطلاق اسم القريب على الجد وولد الولد والوالدين والولد حي ، لان عندهم من سمى والده قريباً كان عاقاً ، لان القريب من يتقرب الى غيره بواسطة الغير ، وتقرب الوالد والولد بنفسهما لا بغيرهما ، لقوله تعالى « والاقربين » عطفه على الوالدين . ولا حجة فيه .
وقال فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير: لو أوصى لقرابته دخل قرابة الام في وصية العجم ولا تدخل في وصية العرب على الاظهر ، لانهم لا يعدون ذلك قرابة ، بخلاف ما لو أوصى لارحامه فانه يدخل قرابة الاب والام . والحق عدم الفرق .
معنى الصلة وما يتعلق بذلك
قال الجوهري : الوصل ضد الهجران ، والتواصل ضد التصارم .فالقطيعة تحصل بالهجران وعدم الاحسان وماشاكلهما من وجوه الصلة ، وتحصل ايضاً بنفي النسب الثابت شرعاً .
والمرجع في الصلة الى العرف ، اذ لاحقيقة لها شرعية ولا لغوية . وهو يختلف باختلاف العادات وبعد المنازل وقربها ، فربما تحققت الصلة في عرف قوم بأمر في حالة ولا تتحقق في عرف آخرين في تلك الحالة .
وربما كان بعد المنازل سبباً لسقوط الامر ببعض أنواعها ، كالزيارة فان البعد سبب في سقوط الامر بها مع العسر .
وقد روى الثقة الكليني عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : أوصى الشاهد من أمتي والغائب منهم ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء أن يصل الرحم وان كانت منه على مسيرة سنة ، فان ذلك من الدين .
واعلم أن صلة من يطلب وصله من الارحام والقرابات ـ ويدخل فيه قرابة الرسول صلّى الله عليه وآله وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الايمان ـ تتأدى بالاحسان اليهم بحسب الطاقة والذب عنهم ونصرتهم والنصيحة لهم ودعوة المخالفين منهم الى الايمان وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وحسن الخلق معهم وايصال حقهم اليهم وحفظ أموالهم عليهم وعيادة مرضاهم وحضور جنائزهم ومراعاة حقوق الرفقاء منهم في السفر والمجاورين والخدم منهم ونحو ذلك .
ولا ريب انه مع فقر بعض الارحام ـ وهم العمودان أعني الاباء وان علواً والاولاد وان نزلوا ـ تجب الصلة بالمال ، وتستحب لباقي الاقارب ، وتتأكد في الوارث . للعلم بأنه اذا كانت القرابة قريبة كان الامر بالصلة آكد وأقوى ، والموصول به هو قدر النفقة .
ولو كان له قريبان مضطران الى الانفاق وليس هناك ما يفضل عن أحدهما قدم واجب النفقة ، فان وجبت نفقتهما قدم الاقرب فالاقرب ، فان تساويا فالقسمة على الاقرب .
ولو كان عنده ما لو أطعمه أحدهما لعاش يوماً ولو قسمه بينهما لعاش كل منهما نصف يوم ، فالظاهر القسمة ، لعموم قوله تعالى ( ان الله يأمر بالعدل والاحسان ) (7) ، ولرجاء ما يتمم به حياة كل منهما .
وهل القسمة على الرؤوس أو على سد الخلقة ؟ احتمالان ، ويرجح الثاني أنه داخل في العدل ، اذ يجب عليه مع القدرة اشباعهما مع اختلاف قدر أكلهما ، فليكن كذلك مع العجز .
ولا تجب عليه هذه الصلة مع غنى القريب وان كان أحد العمودين . نعم تستحب الهدية اليه بنفسه أو رسوله .
قال الشهيد في قواعده : وأعظم الصلة ما كان بالنفس ، وفيه أخبار كثيرة ، ثم بدفع الضرر عنها ، ثم بجلب النفع اليها ، ثم بصلة من تحب وان لم يكن رحماً للواصل كزوجة الاب والاخ ومولاه ، وأدناها السلام بنفسه أو رسوله ، والدعاء بظهر الغيب والثناء في المحضر .
قلت : الذي يدل على أن أدناها مثل ذلك قوله عليه السلام « صلوا أرحامكم ولو بالسلام » ، ولو أداه بنفسه كان أفضل ، ولو انضم الى ذلك الصلة بالمال لمن لاتجب عليه نفقته كان أكمل . نعم لو كان على غير التقوى فينبغي أن يكون الدعاء له بخلوصه من الاثم أولى من زيارته وامداده بالمال .
وفي الدعاء بظهر الغيب أجر عظيم ، فقد روى عن النبي صلّى الله عليه و آله : من دعا لاخيه بظهر الغيب ناداه ملك من السماء :
ولك مثلاه .
احكام الصلة
الصلة تنقسم بانقسام الاحكام الاقتضائية : فالواجب ما يخرج به عن القطيعة المحرمة ، والمستحب ما زاد على ذلك ، والحرام قطيعة القرابة او صلة الكافر ، ومنه مخالف الحق الشريف وان لم يكن ناصباً ، فان من هذا شأنه يجب البراءة منه وإن كان أقرب الناس وألصقهم نسباً ، لقوله تعالى ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم او أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم ) (8) .قال الزمخشري في الكشاف : معناه ان من الممتنع المحال أن تجد قوماً مؤمنين يوادون المخالفين لله ، والغرض انه لا ينبغي أن يكون ذلك ، وحقه ان يمتنع ولا يوجد بحال ، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم . وانما حرمت صلته لانها تقتضي خلاف ما أمر الله به من ذلك .
وبمدلول هذه الاية جملة من النصوص ، وقد أشرنا فيما تقدم الى استثناء الوالدين للاية المتقدمة .
والمكروه صلة المستضعف ، وهو من لا يعرف الحق ولا يعاند فيه ولا يوالي أحداً بعينه ، فانه ليس بمؤمن ، والمأمور بصلته انما هو المؤمن .
ولما كانت الصلة عبادة امتنع انقسامها الى المباح ، لخلوه من الرجحان المعتبر في العبادة .
صلة القاطع
القاطع لا ينقطع حقه من الصلة اجماعاً ، اذ بترك عبادة من مكلف لاتسقط تلك العبادة من مكلف آخر ضرورة ، وقد ورد في ذلك من النصوص ما لا يحصى كثرة :فمنها ما رواه الثقة الكليني باسناده عن علي بن النعمان قال اسحاق بن عمار : بلغني عن ابي عبد الله عليه السلام أن رجلاً أتى النبي صلّى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله أهل بيتي أبوا الا تقريباً ( كذا ) على (9) وقطيعة لي وشتيمة فأرفضهم ؟ قال : فاذاً يرفضكم الله جيمعاً . قال : فكيف أصنع ؟ قال : تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ضلمك ، فانك اذا فعلت ذلك كان لك من الله عليهم ظهيراً .
وباسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام مثله .
وباسناده عن السكوني عنه عليه السلام قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : لا تقطع رحمك وان قطعك .
وروى الشيخ في التهذيب باسناده عن السكوني عنه عليه السلام قال : سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله : أي الصدقة أفضل ؟ قال : على ذي الرحم الكاشح .
قال الجوهري : الكاشح الذي يضمر لك العداوة ، يقال كشح له بالعداوة وكاشحه بمعنى .
وباسناده عن محمد بن ابي عمير عن عبد الحميد عن سلمى مولاة ولد ابي عبد الله عليه السلام قال : كنت عند ابي عبد الله عليه السلام حين حضرته الوفاة ، فأغمي عليه فلما أفاق قال : أعطوا الحسن بن علي بن الحسين بن علي ـ وهو الافطس ـ سبعين ديناراً .
قلت له : أفتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة ؟ فقال : ويحك أما تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى . قال : أما سمعت قوله تعالى ( والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ) (10) .
ولا يضر ضعف بعض أسانيدها ، لاعتضادها بما هو أصح اسناداً وانجبارها بعمل الاصحاب .
وكل حديث اشتمل على مقابلة المسيء بالاحسان والمحسن بالامتنان فهو نص في الباب ، وكذا الاية الواردة بالاعراض عن الجاهلين ، بناءاً على ما أورده القوم ـ منهم المقداد بن عبد الله السيوري ـ من أنها لما نزلت سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله جبرئيل عن معناها ، فقال : لا أدري حتى أسأل ربك . ثم رجع فقال : يا محمد ان ربك أمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ضلمك .
الصلة تطيل العمر
قد تظافرت الاخبار بذلك ، ورواه الثقة الكليني باسناده عن محمد بن عبد الله قال : قال ابو الحسن الرضا عليه السلام : يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيرها الله ثلاثين سنة ، ويفعل الله ما يشاء .وباسناده عن اسحاق بن عمار قال : قال ابو عبد الله عليه السلام ما نعلم شيئاً يزيد في العمر الا صلة الرحم ، حتى أن الرجل يكون عمره ثلاث سنين فيكون وصولا للرحم فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة فيجعلها ثلاثاً وثلاثين سنة ، ويكون اجله ثلاثاً وثلاثين سنة فيكون قاطعاً للرحم فينقصه الله عزوجل ويجعل أجله الى ثلاث سنين .
وباسناده عن الحسن بن علي الوشاء عن ابي الحسن الرضا عليه السلام مثله .
قلت : لا يضر تفاوت الزيادة في هذا الحديث والذي تقدمه على الاول ، لان الزيادة غير المنافية مقبولة ، وفي قوله عليه السلام « ما نعلم شيئاً » الخ ، مزيد ترغيب في الصلة وتأكيد لكونها سبباً لها .
وباسناده عن ابي حمزة قال : قال ابو جعفر عليه السلام : صلة الارحام تزكي الاعمال ، وتنمي الاموال ، وتدفع البلوى ، وتيسر الحساب [ وتنسيء ] (11) في الاجل .
وباسناده عن عبد الحميد عن الحكم الحناط قال : قال ابو عبد الله عليه السلام : صلة الرحم وحسن الجوار يعمران الديار
ويزيدان في الاعمار .
باسناده عن عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله عليه السلام قال : ان القوم ليكونوا فجرة ويكونون بررة ، فتنموا أموالهم وتطول أعمارهم ، فكيف أذا كانوا أبراراً بررة ) الحديث هنا مشوش جداً ، ونصه في الكافي هكذا : (عن عبد الله ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ان القوم ليكونون فجرة ولا يكونون بررة ، فيصلون أرحامهم فتنمي اموالهم وتطول أعمارهم فيكف اذا كانوا أبراراً بررة) . (12) .وربما استشكل ذلك باعتبار أن المقدر في الازل والمكتوب في اللوح المحفوظ لا يتغير بالزيادة والنقصان ، لاستحالة خلاف معلوم الله تعالى .
وأجيب بأن المراد به الترغيب أوالثناء بعد الموت ، ومثله « ماتوا فعاشوا بحسن الذكر بعدهم » ، أو زيادة البركة في الاجل دون الزيادة فيه .
وهذا الاشكال وارد في كل ترغيب ووعد ووعيد ورد في الكتاب المجيد والسنة المطهرة .
ويندفع بما تقرر عندنا في علم الكلام من أن العلم تابع للمعلوم لامؤثر فيه ، فكلما يحدث في العالم معلوم لله تعالى على ما هو عليه واقع من شرط أو سبب ، فاذا قال الصادق « ان زيداً إذا وصل رحمه زاد الله في عمره » ففعل ذلك كان ذلك اخباراً بأن الله تعالى علم أن زيداً يفعل ما يزداد به عمره ، كما انه اذا أخبر انه اذا قال « لا اله الا الله » دخل الجنة ففعل تبين ان الله علم انه يفعل ذلك ويدخل الجنة
ولا يشكل أيضاً بقوله تعالى ( فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) (13) ، ( ولن يؤخر الله نفساً اذا جاء أجلها ) (14)
وذلك لان الاجل يصدق على الاجل الموهبي والمسببي ، فيحمل في الاية على الموهبي .
أويقال : الاجل هو الوقت ، فأجل الموت هو الوقت الذي علم الله وقوعه فيه ، سواء كان بعد العمر الموهبي أو السببي . وليس المراد به العمر ، اذ هو مجرد الوقت . وينبه عليه بعد دلالة الاخبار قوله تعالى : ( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره الا في كتاب )(15).
صلة الذرية الصالحة
قد مضى في الاحاديث النبوية المروية عن ابن أبي عمير وابي بصير عن ابي عبد الله عليه السلام في صدر المقدمة ماهو صريح في الحظ على ذلك ، ولا ريب أن في صلتهم من الثواب ما لا يحصى كثرة ، فان الله قد اكد الوصية فيهم ، خصوصاً اذا كانوا أرحاماً للواصل .وقد روى الصدوق في من لا يحضره الفقيه عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال : قوله تعالى ( من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً ) (16) نزلت في صلة الامام . وقال : درهم يوصل به الامام أفضل من ألف ألف درهم في غيره . وقال : من لم يقدر على صلتنا فليصل صالحي اخوانه يكتب له ثواب صلتنا ، ومن لم يقدر على زيارتنا فليزر صالحي موالينا يكتب له ثواب زيارتنا .
وأيضاً روى الثقة الكليني باسنادين أنها نزلت في صلته .
ولا يتوهم من ذلك احتياجه الى الصلة ، لما رواه الثقة الكليني عن الحسين بن محمد بن عامر قال : قال ابو عبد الله عليه السلام : من زعم أن الامام محتاج الى ما في أيدي الناس فهو كافر ، انما الناس محتاجون أن يقبل منهم الامام ، قال الله عز وجل ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) (17) .
وفي الحديث المستفيض عن النبي صلّى الله عليه وآله ورواه الشيخ في التهذيب باسناده عن عيسى بن عبد الله عن ابي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : من صنع الى أحد من أهل بيتي يداً كافأته يوم القيامة .
وباسناده عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن بعض اصحابنا عن ابي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : اني شافع يوم القيامة لاربعة اصناف ولو جاؤا بذنوب أهل الدنيا : رجل بصر ذريتي ، ورجل بذل ماله لذريتي عند المضيق ، ورجل أحب ذريتي باللسان والقلب ، ورجل سعى في حوائج ذريتي اذا طردوا أو شردوا .
وفي من لا يحضره الفقيه عن الصادق عليه السلام : اذا كان يوم القيامة نادى مناد : أيها الخلائق أنصتوا فان محمداً يكلمكم . فتنصت الخلائق ، فيقوم النبي صلّى الله عليه وآله فيقول : يامعشر الخلائق من كانت له عندي يد أو منة أو معروف فليقم حتى أكافئه . فيقولون : بآبائنا وأمهاتنا وأي يد وأي منة وأي معروف لنا ، بل اليد والمنة والمعروف لله ولرسوله على جميع الخلائق . فيقول : بلى ، ومن آوى أحداً من أهل بيتي أو برهم أو كساهم من عرى أو أشبع جائعهم فليقم حتى أكافئه . فيقوم أناس قد فعلوا ذلك ، فيأتي النداء من عند الله : يا محمد ياحبيبي قد جعلت مكافأتهم اليك فأسكنهم من الجنة حيث شئت . قال : فيسكنهم في الوسيلة حتى لا يحجبون عن محمد وأهل بيته .
قلت : قد تضمن ذلك كله الحض العظيم منه صلّى الله عليه وآله على صلة ذريته وأطائب عترته ، وقد وظف سهم الله سبحانه وسهمه لاولى الناس به وأقربهم اليه نسباً ، وهو الامام القائم مقامه ، مضافاً الى ما له بالاصالة ، وجعل النصف الاخر لباقي قرابته ـ أعني يتامى اهل بيته ومساكينهم وأبناء سبيلهم رعاية لصلتهم .
وفي صحيحة ربعي بن عبد الله بن الجارود عن الصادق عليه السلام : ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقسم الخمس الذي أخذه خمسة أخماس ، يأخذ خمس الله عزوجل لنفسه ، ثم يقسم الاربعة الاخماس من ذوي القربى واليتامى والمساكين ، يعطي كل واحد منهم حقاً .
وهو محمول على أنه كان يأخذ دون حقه توفيراً على قرباه ، جمعاً بين ذلك وبين الاخبار الصحيحة الصريحة في قسمة الخمس ستة أسهم .
والحق ان الصدقة المندوبة لها حكم الواجبة في التحريم عليه وعلى أهل بيته الذين هم الائمة المعصومين عليه وعليهم السلام ، فلا يكون في عدم دفعها اليهم ترك لصلتهم ، وهو الذي اختاره العلامة في التذكرة ، لما فيهم من الغض والنقص وتسلط المتصدق وعلو مرتبته على المتصدق عليه ، ومنصب النبوة والامامة أرفع من ذلك وأجل وأشرف . بخلاف الهدية ، فانها لاتقتضي ذلك .
أما سائر بني هاشم فصدقات بعضهم على بعض حلال ، والمفروض من صدقات غيرهم عليهم حرام ، الا مع اعواز الخمس ، فانها حلال لهم عندنا للضرورة . أما المندوبة فانها حلال لهم مطلقاً .
وكذا يحل لمواليهم مطلق الصدقات عندنا ، لانهم لم يعوضوا عنها بالخمس ، فانهم لا يعطون منهم ، فلا يجوز أن يحرموها كسائر الناس ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام .
وقد روينا بالاسانيد المعتبرة أن ترك زيارة الحسين عليه السلام جفاء لرسول الله صلّى الله عليه وآله وعقوق له .
والاخبار الواردة في زيارة الائمة عليهم السلام كثيرة :
فمنها ما روينا عن أبي عبد الله عليه السلام قال : من زار اماماً مفترض الطاعة كان له ثواب حجة مبرورة .
وعن الرضا عليه السلام : ان لكل امام عهداً في اعناق أوليائه وشيعته ، وان من تمام الوفاء بالعهد وحسن الاداء زيارة قبورهم ،
فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كانت ائمتهم شفعاءهم يوم القيامة .
ولا ريب أن زيارتهم معدودة من الصلة التي قد ندب الله سبحانه اليها وأثنى على ممتثلها بقوله عزوجل ( والذين يصلون ما امر الله به أن يوصل ) (18) ، وكذا ولايتهم وعدم الاعراض عن الرواية عنهم وعدم انكار جواز الصلاة عليهم وما أنزل الله فيهم والانقياد اليهم والتحامي عن ظلمهم وتسليم حقوقهم اليهم من الخلافة والفيء والغنيمة والارث والنحلة ونحو ذلك .
وقد روى الشيخ في التهذيب باسناده عن أبي الصامت عن أبي عبد الله عليه السلام قال : الكبائر سبع : الشرك بالله العظيم ، وقتل النفس الذي حرم الله عزوجل ، وأكل أموال اليتامى ، وعقوق الوالدين ، وقذف المحصنات ، والفرار من الزحف ، وانكار ما أنزل الله عزوجل . فأما الشرك بالله العظيم فقد بلغكم ما أنزل الله فينا وما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فردوه على الله ورسوله . وأما قتل النفس الحرام فقتل الحسين وأصحابه . وأما أكل أموال اليتامى فقد ظلمنا فيئنا وذهبوا . وأما عقوق الوالدين فان الله تعالى قال في كتابه ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وازواجه امهاتهم ) (19) ، وهو أب لهم فعقوه في ذريته وفي قرابته . وأما قذف المحصنات فقد قذفوا فاطمة عليها السلام على منابرهم . وأما الفرار من الزحف فقد أعطوا أمير المؤمنين عليه السلام البيعة طائعين غير مكرهين ثم فروا عنه وخذلوه . واما انكار ما أنزل الله فقد أنكروا حقه وجحدوا ماجعله الله له ، وهذا لا يتعاجم فيه أحد ، فالله يقول ( ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً ) (20) .
وباسناده عن الحارث بن المغيرة البصري قال : دخلت على أبي جعفر عليه السلام فجلست عنده فاذا نجية قد استأذن عليه ، فأذن له فدخل فجثا على ركبتيه ثم قال : جعلت فداك اني أريد أن اسألك عن مسألة والله ما اريد بها إلاّ فكاك رقبتي من النار .
فكأنه رق له فاستوى جالساً ، فقال : يا نجية سلني فلا تسألني اليوم عن شيء الا اخبرتك به . قال : جعلت فداك ما تقول في فلان وفلان ؟ قال : يا نجية ان لنا الخمس في كتاب الله ولنا الانفال ولنا صفو الاموال ، وهما والله اول من ظلمنا حقنا في كتاب الله ، واول من حمل الناس على رقابنا ، ودماؤنا في أعناقهما الى يوم القيامة بظلمنا اهل البيت . فقال نجية : انا الله وانا اليه راجعون ـ ثلاث مرات ـ هلكنا ورب الكعبة . قال : فرفع جسده عن الوسادة فاستقبل القبلة ودعا بدعاء لم افهم منه شيئاً الا سمعناه في آخر دعائه وهو يقول : اللهم احللنا ذلك لشيعتنا . قال : ثم اقبل الينا بوجهه فقال : يا نجية ما على فطرة الاسلام غيرنا وغير شيعتنا . . .
وهذا النحو في كتب أصحابنا لو تحرى المتصدي لحصره جمع منه مجلدات ولم يأت على آخره .
وقد روى اصحابنا اخباراً كثيرة تبلغ التواتر في التشدد من ائمة الهدى عليهم السلام في الخمس والاستبداد به ، وعدم رخصتهم فيه الا لشيعتهم لتطيب لهم به الولادة .
ونقل المفيد عن بعض اصحابنا ان مستحق الامام حال الغيبة من الاخماس والانفال وغيرهما يرى صلة الذرية وفقراء الشيعة به على طريق الاستحباب . قال : ولست ادفع قرب هذا القول من الصواب .
قلت : يؤيده ما روى عنهم عليهم السلام رواية مستفيضة من اباحة البعض لشيعتهم حال ظهورهم ، ففي حال الغيبة أولى .
وكذا صرفه الى أنسابهم حال الغيبة على وجه التتميم ، لاستغنائه عليه السلام وحاجتهم ، ولان عليه العوز عن مؤنة السنة على الاقل
حال ظهوره ، فلا يسقط هذا الحكم بغيبته .
المصادر :
1- قال ابن منظور في لسان العرب 12 / 232 : الرحم ( بفتح الراء وكسر الحاء ) أسباب القربة ، وأصلها الرحم التي هي منبت الولد ، وهي الرحم ( بكسر الراء وسكون الحاء ) . الجوهري : الرحم القرابة ، والرحم بالكسر مثله
2- سورة محمد : 22
3- قال القمي في سفينة البحار 1/46
4- قال محمد عبده معلقاً على هذه الجملة من نهج البلاغة 3/18
5- سورة هود : 46
6- سورة الشورى : 23
7- سورة النحل : 90
8- سورة المجادلة : 22
9- الكافي 2/120 « أبوا الا توثباً علي »
10- سورة الرعد : 21
11- الزيادة من الكافي 2/121
12- الكافي 2/124
13- سورة الاعراف : 34
14- سورة المنافقون : 11
15- سورة فاطر : 11
16- سورة البقرة : 245
17- سورة التوبة : 103
18- سورة الرعد : 21
19- سورة الاحزاب : 6
20- سورة النساء : 31
/ج