
مقدمة
العزّة أهم مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، ولا بد لكل حكم من الأحكام الإسلامية أن ينسجم مع هذا المقصد، وإلا فلا يجوز العمل به. بعبارة أخرى، عزة الإنسان وكرامته أصل من أصول الدين، وكل فرع يتعارض مع هذه العزة ويؤدي إلى إذلال الإنسان يسقط وينتفي العمل به.
كل ما جاءت به الأديان السماوية ونادى به المصلحون الإلهيون على مرّ التاريخ على صعيد العقيدة والعبادة والسلوك والعلاقات إنما يستهدف تحقيق عزة الإنسان وتكريمه على هذه الأرض.
الإمام الخميني في سلوكه الشخصي ومسيرته العلمية والتربوية والجهادية، وفي كل أقواله ومواقفه، أراد أن يحيي العزة والكرامة في نفوس مخاطبيه، وأن يزيل كل العوامل التي من شأنها أن تذلّ الإنسان وتصادر كرامته.
هذه مقدمات يحتاج كل منها إلى دراسة مستقلة، أكتفي بالإشارة إليها فقط لأدخل في صلب الموضوع.
العزة و أهل البيت (ع)
في مقدمة الوصية نرى تأكيدًا على أهل البيت (ع) وعلى الالتزام بنهجهم وعلى ما نزل بهم من ظلم في التاريخ،ولهذا التأكيد مدلوله الخاص. إنه يعني الانتماء إلى مدرسة العزة في التاريخ. أهل بيت رسول الله كانوا دون شك على مر التاريخ في طليعة مقارعة الظلم والظالمين، والدفاع عن عزّة المسلمين. وكانت الدماء التي قدموها على هذا الطريق مبعث حركة تاريخية مستمرة صانت الإسلام من الانحراف والمسلمين من الإذلال.
الإمام الراحل (رض) بتأكيده على هذه الدراسة إنما يريد أن يوثق الارتباط بمصدر هام للعزة، وهو المصدر التاريخي، ويريد في الوقت نفسه أن يدين كل من أذلّ المسلمين وسامهم سوء العذاب باسم الدين والإسلام.
الارتباط التاريخي بالثورات والثوار وبحركة الدفاع عن العزة والكرامة يشكل، دون شك، مصدرا هامًا من مصادر إلهام الأجيال وتحديدًا الوجهة الحركية في مسيرتها.
بعد أن يؤكد الإمام الراحل على حديث الثقلين باعتباره حديثًا متواترًا بين المسلمين، وباعتباره الضمان التشريعي لصيانة المسيرة من الانحراف، يذكر بعد ذلك ما حلّ بالمسلمين نتيجة إقصاء أهل البيت، ويرفع صوته بالفخر بسبب انتمائه هو والشعب الإيراني إلى مدرسة العزة والكرامة والتحرر والانعتاق، كأنه يريد بذلك أن يلقن مخاطبه الاعتزاز بهذا الانتماء التاريخي والرسالي، يقول:
«نحن والشعب العزيز الملتزم التزامًا لا حد له بالقرآن والإسلام، نفخر بأننا أتباع مذهب يستهدف أن يخلّص حقائق القرآن الداعية بأجمعها إلى الوحدة بين المسلمين بل البشرية، من المقابر ليقدمه باعتباره أعظم وصفة للبشرية من جميع ما يكبّل يدها ورجلها وقلبها وعقلها من قيود، ويدفعها نحو الفناء والإبادة والرقية والخضوع للطواغيت.
«نحن نفخر بأننا أتباع مذهب مؤسسة رسول الله بأمر من الله تعالى، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب هذا العبد المتحرر من جميع القيود والمأمور بتحرير البشرية من الاستعباد وجميع الأغلال.
«نحن نفخر بأن كتاب نهج البلاغة الذي هو بعد القرآن أعظم نهج للحياة المادية والمعنوية وأسمى كتاب تحرري للبشرية، وتعاليمه المعنوية والإدارية، أسمى طريق للنجاة، هو من إمامنا المعصوم» (الوصية – ص10).
«ويواصل الإمام عرض مفاخر هذه المدرسة في التربية والتعليم مركزًا على ما قدّمته من تضحيات في سبيل العدل ومقارعة الظالمين، ويربط هذه التضحيات بشكل رائع بما قدمه الشعب الإيراني في سبيل دينه، مؤكدًا بذلك أن حركة هذا الشعب هي استمرار لمسيرة الجهاد الطويل الذي خاضته مدرسة اهل البيت، يقول: «نحن نفخر بأن يكون الائمة المعصومون صلوات الله وسلامه عليهم قد عانوا السجن والتشريد على طريق تعالي الدين الإسلامي وعلى طريق تطبيق القرآن الكريم، وإقامة حكومة العدل الإلهي باعتبارها واحدًا من أبعاد (هذا التطبيق)، واستشهدوا في النهاية على طريق الإطاحة بالحكومات الجائرة والطاغوتية في زمانهم، ونحن نفخر اليوم بأننا نريد تطبيق أهداف القرآن والسنة، وأن فئات الشعب المختلفة تبذل بولع شديد على هذا الطريق المصيري الكبير، طريق الله، النفس والمال والاعزة» (الوصية ص-11).
ويعود الإمام في نهاية مقدمة وصيته ليطلب من كل المسلمين أن يقتدوا بهذه المدرسة بما فيها من فكر عميق وروح تضحية وفداء، يقول:
«أطلب من الشعوب المسلمة بكل جدّ وبكل تواضع أن يقتدوا بالائمة الأطهار وبما قدمه هداة البشرية العظام هؤلاء من فكر سياسي واجتماعي واقتصادي وعسكري، وبصورة لائقة وعن رغبة عميقة وببذل النفس وتقديم الأعزة» (الوصية –ص13).
ويعود مرة أخرى للتأكيد على إحياء الذكريات التاريخية التي توثّق صلة الأمة بالجهاد والحركة على طريق العزة والكرامة، ومن ذلك إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي (ع)، وملحمته الخالدة، مذكرًا :
«ان تعاليم أئمة أهل البيت عليهم السلام لإحياء هذه الملحمة التاريخية الإسلامية، إنما هي صرخة بطولية شعبية بوجه الحكام الظلمة على مر التاريخ وإلى الابد». (الوصية ص13-14).
العزة والمرأة
لا يمكن أن تتحقق العزة في أمة تكون المرأة فيها حقيرة ذليلة مهانة، ومن أكبر عوامل الإذلال في مجتمعاتنا الإسلامية على مرّ التاريخ كان الوضع المزري الذي عاشته المرأة المسلمة. فالمرأة الام والأخت والزوجة هي التي تبعث في نفوس الجيل روح العزة والكرامة، وهي نفسها- إن كانت ذليلة مهانة- تغرس روح الذل والهوان في نفوس الاجيال.
والظاهرة الغريبة في الثورة الإسلامية حركة المرأة على طريق العزة، وعلى طريق دفع المسيرة نحو التضحية والفداء بحيث تقدّمت كما يقول الإمام أحيانا على الرجل في هذا المضمار.والمهم في الأمر أن الفئة المتحركة من النساء على طريق الثورة لم تكن تلك الفئة التي ادّعت العصرنة والتحرر، بل هي تلك الفئة التي فُرض عليها الحرمان من المشاركة الاجتماعية نتيجة دسائس الاعداء وجهل الأصدقاء كما يقول الإمام.
يؤكد الإمام في مقدمة وصيته على هذا الدور الذي نهضت به المرأة، ويشير بوضوح إلى أن انزواء المرأة المسلمة كان نتيجة عقلية خرافية بثها الأعداء وأشاعها الجهلة وبعض رجال الدين المتحجّرين، يقول الإمام: «نحن نفخر بأن النساء بمختلف الأعمار موجودات زرافات ووحدانًا في الساحات الثقافية والاقتصادية والعسكرية، ويبذلن الجهد جنبًا إلى جنب مع الرجال، أو متقدمات عليهم، على طريق إعلاء الإسلام وأهداف القرآن الكريم. ومن منهن قادرات على الحرب يشاركن في تلقي التدريب العسكري الذي هو من الواجبات الهامة للدفاع عن الإسلام والبلد الإسلامي، وإنهنّ حرّرن أنفسهن بشجاعة والتزام من الحرمان الذي فُرض عليهنّ بل على الإسلام والمسلمينبفعل دسائس الأعداء وجهل الأصدقاء بأحكام الإسلام والقرآن، وتخلّصن من قيود الخرافات التي خلقها الأعداء لمصالحهم على يد الجهلة وبعض رجال الدين غير الواعين على مصالح المسلمين. ومن منهنّ غير قادرة على الحرب فهي منهمكة في الخدمة خلف الجبهة بشكل رائع يهزّ قلوب الجماهير شوقًا وإعجابًا ويثير الغضب في قلوب الأعداء والجهلة الأسوأ من الأعداء. ونحن رأينا مرارًا أن نساء عظيمات يرفعن أصواتهن كزينب عليها سلام الله (ويقلن) إنهنّ قدّمن أبناءهن وكل عزيز لديهنّ على طريق الله تعالى والإسلام العزيز، ويفخرن بذلك، ويعلمن أن ما كسبنه أسمى من جنات النعيم، فما بالك بمتاع دنيوي حقير» (الوصية ص 11).
العزة والشريعة
الاستقلال التشريعي لكل أمة يصون شخصية هذه الأمة ويبعدها عن الانحلال والذوبان. وكانت الشريعة الإسلامية سمة مميزة للأمة على مر التاريخ، توحّد أقطارها، وتبلور شخصيتها، وتصون عزتها، وتخلق الانسجام بين عقيدتها وممارساتها العملية.
ومنذ ظهور أول بوادر ضعف في شخصية الأمة ظهرت ايضا بوادر التشكيك في الشريعة وجدواها والدعوة إلى الاقتباس من التشريعات المستوردة، وهكذا أقصيت الشريعة الإسلامية من مجالات الحياة المختلفة بعد أن انهارت شخصية الأمة في عصر الاستعمار.
الشريعة الإسلامية في نظر الإمام ليست فقط المنهج الأفضل للحياة، بل هي أيضا الرمز لصيانة عزة المسلمين وكرامتهم وشخصيتهم. يشير الإمام إلى أن إبعاد الإسلام عن ساحة الحياة يستهدف خلق مجتمع يائس مهزوم، وعملية الإبعاد هذه تتخذ سبيلين:
الاول: باسم العولمة أو على حد تعبير الإمام بالادعاء أنه «لا يمكن في العصر الراهن عزل بلد من البلدان عن الحضارة العالمية ومظاهرها» (الوصية ص18).
«والثاني: سبيل التقدّس، وهو القول «بأن الإسلام والأديان الإلهية الأخرى تهتم بالمعنويات، وتهذيب النفوس، والتحذير من المناصب الدنيوية، والدعوة إلى ترك الدنيا، والاشتغال بالعبادات والأذكار والأدعية التي تقرّب الإنسان من الله تعالى وتبعده عن الدنيا، وأن الحكومة والسياسة والتصدي لإدارة الأمور تتعارض مع ذلك المقصد والهدف المعنوي الكبير!!» (الوصية ص18).
ويردّ الإمام على المجموعة الأولى بأن االشريعة الإلهية تستهدف القضاء على الظلم وانتهاك حرمة الإنسان، وهي لذلك خالدة ما دامت البشرية بحاجة إلى أن تصون نفسها من ظلم الظالمين وطغيان المستكبرين.
«لو أن إجراء العدالة الاجتماعية ومنع الظلم والنهب والقتل ضروري في صدر الخليقة، فهل أصبح ذلك أسلوبًا باليًا في قرن الذرة؟!» (الوصية ص19)، وبهذه العبارة يبين الإمام مقاصد الشريعة :العدالة، ومنع الاعتداء على الإنسان في شخصيته وماله ونفسه، وهي مقاصد ترتبط بعزة الإنسان وكرامته.
ويردّ على أصحاب السبيل الثاني بنفس أسلوب بيان المقاصد فيقول.
حكومة الحق المقامة لمصلحة المستضعفين ولمنع الظلم والجور ولإحلال العدالة الاجتماعية هي من أعظم الواجبات وإقامتها من أسمى العبادات» (الوصية ص 20).
وبهذين الردين على المشكّكين في إمكان تطبيق الشريعة واقامة الدولة، يربط الامام بين قيام الدولة الإسلامية وتحقيق عزّة الإنسان المسلم وكرامته. وهذا الربط نشاهده أيضًا في النصوص المأثورة التي تقول: «اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة «تعز» بها الإسلام وأهله .. وترزقنا فيها «كرامة» الدنيا والاخرة».
وفي موضع آخر من الوصية يرى الإمام أن الحكومة الإسلامية بتطبيقها الشريعة الإسلامية تستطيع أن تحقق قوة الأمة وعزتها وتقف بوجه من يريد أن يذلّها ويصادر مقدراتها، وترفعها إلى مدارج التكامل المادي والمعنوي.
لذلك، فإن اقامة الحكومة الإسلامية أسمى هدف سعى اليه الأنبياء والأولياء، وصيانتها يشكل قمة الواجبات الإسلامية، يقول الامام :
«الإسلام والحكومة الإسلامية ظاهرة إلهية يضمن تطبيقُها سعادةَ الأفراد في الدنيا والآخرة على أعلى المستويات. و(الإسلام) له قدرة الوقوف بوجه كل محاولات الظلم والنهب والفساد والعدوان، وقدرة إيصال الأفراد إلى كمالهم المطلوب.
«إنه مدرسة تختلف عن المدرسة غير التوحيدية في تقنيته ومراقبته لجميع الشؤون الفردية والاجتماعية المادية والمعنوية والثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية. ولا تغرب عنه أدنى مسألة ترتبط بتربية الإنسان والمجتمع وبالتقدم المادي والمعنوي. لقد بيّن ما يقف في طريق تكامل المجتمع من موانع ومشكلات، وسعى إلى إزالتها.
«والآن، إذ وضع بتوفيق الله وتأييده أساس الجمهورية الإسلامية على يد مقتدرة من هذا الشعب الملتزم، وإذ تنصبّ الاهتمامات في هذه الحكومة الإسلامية على الإسلام وأحكامه السامية، فما على الشعب الإيراني المعظم إلا أن يسعى إلى تحقيق محتواها في جميع الأبعاد، وأن يصونها ويحرسها،فصيانة الإسلام قمة جميع الواجبات، والأنبياء العظام من آدم عليه السلام حتى خاتم النبيين (ص) بذلوا على طريق ذلك الجهود والتشحصيات الجسام، ولم يمنعهم مانع من أداء هذه الفريضة الكبرى، وهكذا بعدهم الصحابة الملتزمون وأئمة الإسلام (عليهم صلوات الله) بذلوا على طريق مسؤولية الصيانة مساعي مضنية بلغت حدّ التضحية بالدم» (الوصية، ص 16 – 17).
العزة والثقة بالنفس
الثقة بالنفس مقدمة هامة لتحقق العزّة على المستوى الفردي وعلى المستوى الاجتماعي، وإذا شئت أن تخلق روح العزّة في فرد أو أمة لابد من استشعار الطاقات والكفاءات العظمى التي أودعها الله في خليفته الإنسان، ولذلك كانت الهزيمة النفسية مقدمة لازمة للسيطرة على الشعوب وإذلالها، وهذا ما فعله المستعمرون بأمتنا، وهي قصة مريرة يتحدث عنها الإمام في وصيته باسهاب فيقول:
«من المخططات التي تركت مع الأسف تأثيرًا كبيرًا على البلدان وعلى بلدنا العزيز،ولا تزال آثارها باقية إلى حدّ كبير هي أنها لا تقيم وزنًا لنفسها وثقافتها وقدرتها، لذلك راحت تنظر إلى القطبين المقتدرين الغربي والشرقي على أنهما من جنس أرقى، وعلى أن ثقافتهما أسمى، وأن هاتين القدرتين قبلة العالم، وأن الارتباط بأحد هذين القطبين من الفرائض الحتمية!!
«وقصة هذه المأساة طويلة والضربات التي تلقيناها جرّاءها ونتلقاها الآن أيضًا قاتلة وقاصمة. وأفظع من ذلك أن الشعوب المظلومة المقهورة قد أبقيت في تخلّف شامل وجعلوا منها بلدانًا مستهلكة، وبثوا في قلوبنا الرعب من الإقدام على أي تطور ومن (مواجهة) القوى الشيطانية، حتى ما عادت لنا الجرأة على أي ابتكار.وسلمنا مقاليد كل شيء اليهم ووضعنا مقدراتنا ومقدرات بلداننا بأيديهم ورحنا نطيع أوامرهم إطاعة عمياء.
وهذا الإحساس المفتعل بالخواء والتخلّف العقلي أدى إلى أن لا نعتمد في أي أمر من الأمور على فكرنا وعلمنا، وأن نقلّد الشرق والغرب تقليدًا أعمى. بل إن الكتاب والخطباء المهزومين أمام الشرق والغرب راحوا يسخرون ويستهزئون بما عندنا من ثقافة وآداب وصناعة وابتكار ــ إن وجد عندنا ــ وبذلك استأصلوا أصالة فكرنا وقدرتنا ودفعونا ويدفعوننا إلى اليأس، وروّجوا ــ بالفعل والقول والقلم ــ العادات والتقاليد الأجنبية على ابتذالها وفضاحتها، وقدموها إلى الشعوب بالمدح والثناء.
«لو أن كتابًا أو مقالًا احتوى بضع ألفاظ غربية يتقبلونه بإعجاب دون الالتفات إلى محتواه، ويعدّون صاحبه عالمًا مثقفًا، وكل شيء يقع عليه نظرنا من المهد إلى اللحد، إن تسمّى بلفظ غربي أو شرقي، يصبح مرغوبًا وملقتًا ومن مظاهر التمدن والتقدم. وإن أطلق عليه اسم أصيل محلي سيكون مطرودًا وباليًا ومتخلّفًا! وأطفالنا إن تسمّوا باسم غربي يفخرون، وإن حملوا اسمًا أصيلًا فهم خجلون متخلفون! والشوارع، والأزقة والمجلات التجارية،والشركات، والصيدليات، والمكتبات، والصناعات الداخلية، ينبغي أن تتسمى بأسماء أجنبية كي تستهوي الناس! التغرّب التام في جميع الحركات والسكنات وفي المعاشرات وجميع شؤون الحياة تبعث على الافتخار والرفعة والمدنية والتقدم،وبالمقابل كل العادات والتقاليد الأصلية إنما هي تخلّف وعبادة للماضي!!!
«وفي كل حالة مرَضية ووعكة صحية، وإن كانت بسيطة قابلة للعلاج في الداخل، يجب الاتجاه إلى (المعالجة في) الخارج، (مُنزلة بذلك) حكم إدانة وحالة يأس بين أطبائهم العلماء . السفر إلى بريطانيا وفرنسا وأمريكا وموسكو مفخرة كبيرة، والذهاب إلى الحج وسائر الأماكن المتبركة هي تخلف وعبادة للماضي!! إهمال ما يرتبط بالدين والمعنويات من علائم الحداثة والمدنية، وبالمقابل الالتزام بهذه الأمور تخلف وعبادة للماضي!!» (الوصية، ص 37 ــ 38).
ثم بعد ذلك يشير إلى مظاهر العزّة التي تحققت بعد انتصار الثورة الإسلامية،حين عادت الثقة إلى النفس في حقل الابتكار والاختراع، ويحذر الشعب والحكومة من الخطط التي تستهدف إعادة حالة التبعية الاقتصادية والعلمية إلى المجتمع الإيراني، خاصة تلك التي تشيع حالة الاسترخاء والفساد والغفلة في المجتمع فيقول:
«الآن، إذ تخلصنا إلى حد كبير واسع من كثير من هذه الشراك، وقد هبّ الجيل المحروم الراهن للنشاط والابتكار، ورأينا كثيرًا من المصانع وأجهزة الطائرات المتطورة وأمور أخرى ما كان يعتقد أن المتخصصين الإيرانيين قادرون على تشغيلها، وكانت أيدينا ممتدة نحو الغرب والشرق (نستجدي) منهم المتخصصين كي يديروا عجلات مصنعنا، وإذ راح شبابنا الأعزاء على أثر الحصار الاقتصادي والحرب المفروضة يصنعون قطع الغيار المطلوبة وبثمن أرخص (من المستورد)، وسدّوا بذلك الاحتياج، وأثبتوا أنهم إن أرادوا استطاعوا ــ (الآن إذ تم ذلك) أوصي الشعب العزيز وصية خادم عطوف أن يكونوا واعين يقظين ومراقبين كي لا يستطيع أصحاب الألاعيب السياسية المرتبطون بالغرب والشرق بوساوسهم الشيطانية أن يجروكم نحو هؤلاء الغزاة الدوليين، انهضوا لقطع أواصر التبعيات بإرادة عازمة وبنشاطكم ودأبكم، واعلموا أن العنصر الآري والعربي ليس بأقل من عنصر (سكنة) أوربا وأمريكا وروسيا. وإذا عثر (الإيرانيون والعرب) على هويتهم ونفضوا اليأس عن أنفسهم ولم يعقدوا الأمر على الآخرين، فإنهم قادرون على المدى البعيد أن يعملوا كل شيء ويصنعوا كل شيء. وما بلغه الآخرون ستصلون اليهم أنتم أيضًا بشرط الاتكال على الله تعالى والثقة بالنفس وقطع التبعية بالآخرين، وتحمل المشاق من أجل حياة مشرفة، والخروج من غير سلطة الأجانب. وعلى الحكومات والمسؤولين في هذا الجيل والأجيال القادمة أن تكرم متخصّصها وتشجعهم بالمساعدات المادية والمعنوية وأن تمنع استيراد البضائع المخربة المشجعة على الاستهلاك،ويكتفوا بما عندهم ريثما يصنعوا كل شيء.
«وأطلب من الشباب ذكورًا وإناثًا أن لا تجعلوا الاستقلال والحرية والقيم الإنسانية ــ ولو تحملتم من أجلها النصب والتعب ــ قربانًا في سبيل الكماليات ومجالس الطرب والتحلل والحضور في مراكز الفحشاء التي يقدمها لكم الغرب وعملاؤه المأجورون. إذ إنهم ــ كما أثبتت التجربة ذلك ــ لا يفكرون إلا بإفسادكم وإغفالكم عن مصير بلدكم. ونهب ثرواتكم، وإلقائكم في أغلال الاستعمار والعار والتبعية، وتعميق روح الاستهلاك في شعبكم وبلدكم، ويريدون بهذه الوسائل وأمثالها أن يبقوكم في حالة تخلف وفي حالة ما يسمونها هم نصف متوحشة» (الوصية، ص 29- 30).
العزّة وتثمين المكتسبات
بين العزّة وتثمين الأمة لمكتسباتها ارتباط وثيق، الأمة العزيزة تعتزّ بكل ما حققه أبناؤها في ماضيهم وحاضرهم وتثمّنه وتهتم به وتراه جزء من هويتها وشخصيتها. أما الجماعة الذليلة فتستهين بكل ما يمتّ إليها بصلة، تستهين بمنجزتها وتراثها بل وتستهين بعلمائها ولغتها.
ومن جانب آخر، بثّ الاستهانة بالمنجزات سبيل العدو لسلب الأمة عزّتَها.
من هنا كانت هذه الاستهانة من محاور الإعلام المضاد للعودة الإسلامية في إيران. ومن هنا يركز الإمام على ضرورة تقدير ما تحقق من نعمة بالثورة الإسلامية باعتبارها أهم وصاياه للشعب الإيراني، يقول:
«أما وصيتي إلى الشعب الإيراني العزيز فهي أن (تقدروا) النعمة التي كسبتموها بجهادكم العظيم وبدماء شبابكم الرشيدين، قدّروها حق قدرها كأعز الأمور إليكم، وحافظوا عليها واحرسوها،وابذلوا الجهد في سبيلها فهي نعمة عظيمة الهية وأمانة كبيرة ربانية» (الوصية، ص 25).
ثم يحذّر أولئك الذين يستهينون بما تحقق الثورة الإسلامية، ويطلب منهم،أن يقارنوا بين الأوضاع الراهنة وما كانت عليه في العهد المباد، وأن لا ينخدعوا بإشاعات الجماعات المحاربة والمفسدة، يقول:
«أوصي هؤلاء أن يطالعوا أولًا الوضع العالمي الراهن، وأن يقارنوا بين ثورة إيران الإسلامية وبين سائر الثورات، وأن يتعرفوا على أوضاع البلدان والشعوب وهي تمرّ في مرحلة الثورة وما جرى لها بعد ثورتها، وأن يطالعوا مشاكل هذا البلد المصاب بالطاغوت من قبل رضاخان وأسوأ منه محمد رضا اللذين خلّفا للشعب خلال مدة نهبهما تركة تتمثل بألوان التبعيات الكبيرة المهلكة وبالأوضاع (المتردية) في الوزارات والدوائر والاقتصاد والجيش، وبالمواخير، وحانات الخمور، والانحلال في جميع شؤون الحياة، وأن يدرسوا ما كانت عليه أوضاع التعليم والتربية وأوضاع المدارس والجامعات،وأوضاع السينمات، ومراكز الفساد ووضع الشباب والنساء، وهكذا وضع علماء الدين والمتدينين والأحرار الملتزمين والنساء العفيفات المظلومات والمساجد في زمن الطاغوت، (أوصيهم) أن يدرسوا ملفات المعدومين والمسجونين (في ظل الجمهورة الإسلامية)، وأن يطالعوا (أوضاع) السجون وكيفية معاملة المسؤولين فيها،وأن يمعنوا النظر في ما يجري الآن من محاسبة أموال الرأسماليين والإقطاعيين الكبار والمحتكرين والمتلاعيين بالأسعار، وفي محاكم العدل ومحاكم الثورة ويقارنوها بالوضع السابق للقضاء والقضاة، (أوصيهم) أن يراجعوا حالة النواب في مجلس الشورى الإسلامي وأعضاء الحكومة وحكام المحافظات وسائر المسؤولين الذين تولوا الأمور في هذا العصر، ويقارنوها (بما كان عليه الوضع) في العهد البائد، وأن يطالعوا منجزات الحكومة وجهاد البناء في القرى المحرومة من كل الخدمات حتى من ماء الشرب والمستوصف،ويقارنوا ذلك (بما أنجز) خلال كل عهد النظام السابق، مع الأخذ بنظر الاعتبار مشاكل الحرب المفروضة وما خلفته من ملايين المشردين وعوائل الشهداء والمعوقين في الحرب (هذا غير) تدفّق الملايين من المشردين الأفغانيين والعراقيين، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أيضًا المحاصرة الاقتصادية والمؤامرات المتتالية التي دبرتها أمريكا وعملاؤها في الخارج والداخل،أضف إلى كل ذلك فقدان الدرجة المطلوبة من الخبرة والعدد المطلوب من قضاة الشرع، وهذا ما أثاره معارضو الإسلام والمنحرفون بل وحتى الأصدقاء الجهلة من ضجيج وتهريج، وعشرات المسائل الأخرى.
«أطلب منهم أن لا يعمدوا إلى خلق الاعتراضات والى الانتقاد اللاذع والشتم قبل أن يطالعوا تلك المسائل.وأن يرحموا حال هذا الإسلام الغريب الذي هو اليوم، بعد قرون (تعرض فيها) لظلم الظالمين وجهل الجاهلين، طفل يحبو، ووليد محفوف بالأعداء في الداخل والخارج، أنتم يا من تدبّجون الاعتراضات فكروا (واسألوا أنفسكم) أليس من الأفضل أن تجدّوا في الإصلاح والمساعدة بدل الطعن؟!. وأن تدافعوا عن المظلومين والمسحوقين والمحرومين بدل الدفاع عن المنافقين والظالمين والرأسماليين والمحتكرين الجشعين الغافلين عن الله؟! وأن تهتمّوا بأمر الذين اغتالهم الإرهابيون من علماء الدين المظلومين والمسؤولين الخدومين الملتزمين المظلومين بدل الدفاع غير المباشر عن المجموعات الفوضوية والإرهابيين المفسدين» (الوصية، ص 22 – 23).
العزة وأجهزة التعليم
أجهزة التعليم لها الدور الكبير فـي خلق روح العزة فـي الجيل؛ طريقة تخطيطها، مناهج التدريس، أسلوب تعاملها مع الطلاب، المحتوى الفكري والعلمي للدروس، كل ذلك يؤثر فـي خلق روح العزة أو إماتتها بين الطلاب.
أجهزة التعليم فـي العالم الإسلامي تتّجه غالبًا إلى خلق روح التبعية والتغرّب وتمييع الهوية بين الناشئة والشباب. هكذا كان الوضع فـي إيران خلال العهد البائد. وفـي ظل الثورة الثقافـية والمعنويات والأجواء الجديدة اتجه التعليم نحو التأصيل الثقافـي والعمق العلمي، وإزالة الفواصل بين الدراسات الدينية والدراسات الجامعية.
الإمام الراحل يوصي بشدة بأن تبقى الجامعة نقية من الانحراف والتشرّق والتغرّب لتكون هذه المعاهد الدراسية مدرسة لصنع «الإنسان» بكل ما أنعم الله عليه من عزة وتكريم، يقول:
«من مؤامراتهم الكبرى، كما مرّ وأكدناه مرارًا، السيطرة على مراكز التعليم والتربية وخاصة الجامعات التي يتسلم متخرّجوها مقدرات البلاد. وطريقة أولئك (المتآمرين) مع الروحانيين ومدارس العلوم الدينية تختلف عما هي عليه فـي الجامعات والثانويات.
«طريقتهم (فـي الأوساط العلمية الدينية) إزاحة الروحانيين عن الطريق ودفعهم إلى الانزواء بالقمع والعنف والهتّك كما كان معمولًا به فـي زمن رضا خان، لكن النتيجة كانت عكس مطلوبهم، أو بالإشاعات والتهم والمخططات الشيطانية من أجل عزل فئة الدارسين (فـي المدارس والجامعات) أو ما يسمّون بالمثقفـين (عن علماء الدين)، وهذا كان معمولًا به أيضًا فـي زمن رضا خان جنبًا إلى جنب مع الضغط والقمع، واستمر فـي عهد محمد رضا بدون اللجوء إلى العنف ولكن بخبث.
«أما فـي الجامعات فكانت الخطة إبعاد الشباب عن الأصالة فـي الثقافة والأدب والقيم وجرّهم نحو الشرق أو الغرب، ثم انتخاب المسؤولين من ين هؤلاء وتسليطهم على مصير البلدان، كي ينفّذ هؤلاء ما يريده أولئك. هؤلاء ينهمكون فـي جر البلاد إلى دار البوار والتغرب، وفئة علماء الدين بما أحيط بها من انزواء وهزيمة وعدم قدرة على المعالجة. وهذا أفضل طريق لإبقاء حالة التخلف لمواصلة النهب فـي البلدان الخاضعة، لأن كل شيء ينصبّ في جيوب القوى الكبرى دون أن يكلف (هذه القوى) تعبًا أو إنفاقًا، ودون بروز أية مشكلة فـي المحافل الوطنية.
«والآن، إذ يجري العمل فـي الجامعات والمعاهد العليا على إصلاحها وتطهيرها، يلزم على الجميع أن يساعدوا القائمين بهذا الأمر، وأن لا يَدَعوا الجامعات تتجه إلى الانحراف أبدًا، وإذا شوهد انحراف علينا أن نسعى إلى إزالته بسرعة، وهذا الأمر الحياتي يجب أن يتحقق فـي المرحلة الأولى بالسواعد القوية لشباب الجامعات والمعاهد العليا أنفسهم، فإنقاذ الجامعة من الانحراف إنقاذ للشعب والوطن.
«أتقدم إلى كل الناشئة والشباب فـي المرحلة الأولى، وإلى آبائهم وأمهاتهم وأصدقائهم فـي المرحلة الثانية وإلى المسؤولين والمثقفـين الذين يحملون هموم وطنهم فـي المرحلة التالية وأوصيهم أن يبذلوا مساعيهم بكل جد واجتهاد فـي هذا الأمر المهم الذي يصون بلادكم من الآفات، وسلموا الجامعة (نقية) إلى الجيل القادم. وأوصي الأجيال المتواصلة بأن تصون وتحرس الجامعة من الانحراف والتشرّق والتغرّب لإنقاذ أنفسهم وبلدهم العزيز وإنقاذ الإسلام الذي هو مدرسة صنع الإنسان. وبعملكم الإنساني الإسلامي هذا تقطعون يد القوى الكبرى من بلادكم وتبعثون اليأس فـي قلوبهم. كان الله فـي عونكم وأخذ بناصركم» (الوصية، ص ٣٠ – ٣١(.
العزة ومواجهة الأعداء
لا يمكن أن تخلو أمة من أعداء، خاصة إذا كانت هذه الأمة صاحبة رسالة ترفض ظلم الظالمين وسيطرة المستكبرين.مثل هذه الأمة لابدّ أن تتعرض لسخط الطواغيت والفراعنة، ويؤدّ أعداء مثل الأمة لها أن «تلين» و«تداهن» و«تضعف» و«تلقي سلاحها» و«تنخدع» بالأماني الكاذبة.
والأمة في إيران بثورتها سجلت موقفًا مشهودًا من أعدائها الذين حشّدوا كل قواهم لكسر روح الصمود والمقاومة فيها. ولابدّ للقائد في وصيته أن يؤكد على صيانة هذا الموقف باعتباره الطريق الوحيد لصيانة عزّة الأمة وكرامتها.
وهذا التأكيد في الوصية اتخذ أسلوبين: أسلوب إماطة اللثام عن هوية الأعداء كي تنكشف حقيقتهم المتستّرة وراء شعارات برّاقة مثل حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، يقول:
«وشعبنا، بل الشعوب الإسلامية والمستضعفة في العالم تفخر بأن أعداءها، وهم أعداء الله تعالى والقرآن الكريم والإسلام العزيز، وحوش كاسرة لا يتورّعون عن ارتكاب أية جريمة وخيانة لتحقيق أهدافهم المشؤومة الجنائية، ولا يفرّقون بين عدو وصديق من أجل تحقيق تسلّطهم ومطامعهم الدنيئة، وعلى رأسهم أمريكا، التي تأصلت فيها طبيعة الإرهاب الحكومي والتي أضرمت النار في جميع أنحاء العالم. وهكذا حليفتها الصهيونية العالمية التي ترتكب من أجل بلوغ مطالعها جرائم يخجل القلم عن تدوينها واللسان عن ذكرها. وما يساور هؤء (الصهاينة) من أوهام بلهاء (تتمثل في) إسرائيل الكبرى تدفعهم إلى ارتكبا كل جريمة» (الوصية، ص 13).
والأسلوب الثاني: بث روح الفخر والاعتزاز لدى الأمة تجاه هذا العدو المنهزم المقهور أمام صمود الأمة، يقول:
«أي فخر أعظم وأسمى من أن تصير أمريكا، بكل ادعاءاتها وجميع أسلحتها ومعداتها الحربية وكل تلك الدول العميلة لها،وبجميع مالديها من ثروات طائلة (منهوبة) من الشعوب المظلومة المتخلفة، وبما عندها من وسائل إعلام، (أن تصير) عاجزة مفضوحة أمام الشعب الإيراني الغيور وأمام دولة حضرة بقية الله أرواحنا لمقدمه الفداء، حتى ما عادت تعرف بِمَنْ تتوسّل، وأينما ولّت وجهها أُلقمت حجرًا، وما كان ذلك إلا بمدد غيبي من الباري تعالى جلّت عظمته،(مدد) أيقظ الشعوب وخاصة الشعب الإيراني المسلم وأخرجه من ظلمات ظلم الشاه إلى نور الإسلام.
«أنا الآن أوصي الشعوب الشريفة المظلومة والشعب الإيراني العزيز أن يستقيموا باستحكام وصمود والتزام ومقاومة على هذا الطريق الإلهي المستقيم الذي مَنّ الله به على البشرية والتحرر من الارتباط بالشرق الملحد والغرب الظالم الكافر. وأن لا يغفلوا لحظة عن شكر هذه النعمة،وأن لا يسمحوا للأيدي الآئمة لعملاء القوى الكبرى، سواء عملاؤها الأجانب أم عملاؤها الداخليون الأفظع من الأجانب، أن تنفذ إليهم لتزلزل نفوسهم الطاهرة وإرادتهم الحديدية، وليعلموا أن وسائل الإعلام العالمية والقوى الشيطانية الشرقية والغربية، مهما ازدادت تعنتًا فإن ذلك دليل على القدرة الإلهية لهذه (الشعوب). جزاها الله تعالى خيرًا في هذه الدنيا وفي العوالم الأخرى إنه ولي النعم وبيده ملكوت كل شيء» (الوصية، ص 12 – 13).
العزّة في الارتباط بالله
الإنسان بفطرته ينشُد العزّة، لأن الله سبحانه هو العزيز المطلق وأن الإنسان كادح إلى ربه، ولا عزّة حقيقة إلا الله وللسائرين على طريق الله،وكل ما عداها فهي عزّة سرابية يحسبها الظمآن ماء.
والإمام في كل خطبه الأخلاقية والعرفانية وفي سلوكه الفردي والاجتماعي وفي مواقفه خلال كل مراحل الثورة قدّم للأمة النموذج الأسمى للفرد المنقطع إلى الله، العزيز بالله الواحد الأحد القهّار.
في وصيته يركز على أن كل ما تحقق في الثورة إنما كان بفضل الله وعونه وتسديده، يركز على هذا كي يحول دون استفحال الذاتيات الفردية التي قد تبرز مطالبة باحتكار الثورة، بحجة أنها هي التي صنعت الثورة،فالثورة صنعها 36 مليون إنسان أي الشعب الإيراني بأجمعه، ثم إن هذه الملايين ما كانت هي الرامية ولكن الله رمى، فالعمل الجبار الذي تحقق أكبرمن أن يدّعيه فرد أو جماعة أو شعب. كل ذلك يؤكد عليه الإمام الراحل من أجل أن يربط الأمة بمصدر العزّة والجلال. يقول:
«نعلم أن هذه الثورة العظمى التي قلّمت أظافر الناهبين الدوليين والظالمين في إيران الكبرى قد حققت نصرها بتأييد إلهي غيبي، ولو لم تكن يد الله القادرة ما كان بإمكان مجموعة بشرية من 36 مليون إنسان (أن تحقق ما حققته). رغم الإعلام المعادي للإسلام والمعادي لعلماء الدين خاصة خلال هذا القرن الأخير، ورغم النشاطات الواسعة التي بذلت بالكلمة المقروءة والمسموعة لتمزيق الصف في الصحافة والخطابة والمجالس والمحافل المعادية للإسلام والمعادية للوطنية (وان اتخذت) ظاهرًا وطنيًا، ورغم ذلك الشعر الماجن،ومراكز الفساد والفشحاء والقمار والمسكرات والمخدرات التي اتجهت بأجمعها إلى جرّ جيل الشباب، الفعّال، القادر على دفع عجلة بلاده نحو التقدم والرقي، إلى الفساد والى اللامبالاة إزاء الأعمال الخيانية التي ارتكبت بيد الشاه الفاسد وأبيه الجاهل، ورغم الحكومات والمجالس الشكلية المفروضة على الشعب من قبل السفارات المقتدرة. ورغم ما كان من وضع الجامعات والمدارس ومراكز التعليم التي أوكلت إليها مقدرات البلاد وما فيها من معلمين وأساتذة تابعين للغرب أو الشرق معارضين تمامًا للإسلام وللثقافة الإسلامية بل الوطنية الصحيحة مع تقمصهم الوطنية والقومية. (طبعًا) كان بين هؤلاء (المعلمين والاساتذة) رجال ملتزمون مخلصون،غير أن ضآلة عددهم وما كان يحيطهم من تضييق لم يسمح لهم أن يؤدوا عملًا إيجابيًا، .. رغم كل ذلك وعشرات المسائل الأخرى،ومنها دفع علماء الدين إلى العزلة والانزواء، (بل) جرّ كثير منهم إلى الانحراف الفكري بفعل الدعايات المضللة، (نعم ، لو لم تكن يد الله القادرة) ما كان بإمكان هذا الشعب، المحاط بمثل هذا الوضع،أن ينهض كتلة واحدة، وأن يستطيع بهدف موحّد في جميع أنحاء البلاد وبصوت الله أكبر، ويبذل تضحيات إعجازية محيّرة أن يطيح بكل القوى الداخلية والخارجية ويمسك بيده مقدرات بلاده.
«من هنا يجب أن لا يعترينا شك في أن الثورة الإسلامية الإيرانية لا نظير لها بين الثورات، في النشأة وفي كيفية النضال،وفي دوافع الثورة والنهوض، ومما لا ترديد فيه أنها كانت عطاء إلهيًا وهدية غيبية وهبها الباري المنان لهذا الشعب المظلوم المنهوب».
ويرتفع الإمام في نهاية وصيته إلى ذروة العرفان حين يخاطب الشعب الإيراني طالبًا منه أن يواصل طريق ذات الشوكة،فهو الطريق الذي يستشعر فيه الإنسان النفحة الإلهية، ويتجلّى في وجوده جمال الله وجلاله، ويصبح الأرضيون أشرف من الملكوتيين.
يغبط الإمام الراحل أولئك الذين نهلوا هذه النفحة الإلهية بجهادهم وتضحياتهم في ساحات الجهاد وفي ساعات العمل البنّاء ويقول لهم: ياليتنا كنا معكم فنفور فوزًا عظيمًا.
هذا التركيز على النفحة الإلهية الغيبية ينطلق من مدرسة عرفانية آمن بها الإمام الراحل وسار عليها وهي العرفان الجهادي الذي يجعل الوصول إلى الله يمر عبر الجهاد والتضحية وبذل النفس والنفيس في سبيل الله وخلق الله، كما أنه يدفع الأمة لأن ترى عزتها وكرامتها وتكاملها وسموها في الارتباط بالله لا غير. يقول الإمام:
«في خاتمة هذه الوصية، مرة أخرى أوصي الشعب الإيراني النبيل (وأقول له): تحمل الأتعاب والمشاق والتضحيات والفداء والحرمان يتناسب مع مقدار عظمة الهدف وقيمته وعلوّ مرتبته، والذي نهضتم أنتم أيها الشعب الشريف المجاهد من أجله وتحثّون الخطى على طريقه وقدّمتم النفس والنفيس من أجله هو أعلى وأسمى وأثمن هدف ومقصد طرح ويُطرح منذ بدء العالم في الأزل وحتى نهاية العالم إلى الأبد. إنه المدرسة الإلهية بمعناها الواسع وعقيدة التوحيد بأبعادها السامية. إنه أساس الخلق وغايته في آفاق الوجود كلّها، وفي مراتب ودرجات الغيب والشهود جميعها. (وهذا الهدف) متجلّ في المدرسة المحمديّة على صاحبها وآله أفضل الصلاة والسلام،بكل المعاني والدرجات والأبعاد. مساعي الأنبياء العظام عليهم سلام الله والأولياء الكرام سلام الله عليهم كانت كلّها لتحقيق (هذا الهدف)، وبدونه لا يتيسر السبيل إلى الكمال المطلق ولا إلى الجلال والجمال اللامتناهيين. إنه هو الذي يجعل الأرضيين أشرف من الملوكتيين، وما يناله الأرضيون من الاتجاه نحوه، لا تناله الموجودات الأخرى في كل أرجاء الخليقة ما خفي منها وما بطن.
«أنتم أيها الشعب المجاهد تتضوون تحت لواء يرفرف خفّاقًا في جميع أرجاء العالم المادي والمعنوي، وجدتموه أم لم تجدوه.أنتم تسلكون طريقًا هو الطريق الوحيد لجميع الأنبياء عليهم سلام الله،وهو الطريق الوحيد للسعادة المطلقة. وانطلاقا من هذا المفهوم استعذب أولياء الله الشهادة على هذا الطريق، ووجدوا الموت الأحمر أحلى لهم من العسل،وشبابكم نهلوا جرعة من (هذه النفحة الإلهية) في الجبهات، فغمرهم الوجد، وتجلت أيضًا لأمهات (الشهداء) وأخواتهم وآبائهم وإخوتهم ويحق لنا أن نقول لهم: «ياليتنا كنا معكم فنفورز فوزًا عظيمًا».
«هنيئًا لهم ذلك النسيم الرائع وذلك التجلّي المنير، وينبغي أن نعلم أنّ ومضة من ذلك التجلّي مشهودة في المزارع المحرقة والمصانع المتعبة وفي المعامل ومراكز الصناعة والاختراع والإبداع، وفي أكثرية أبناء الشعب (المتواجدين) في الأسواق والشوارع والقرى وفي كل القائمين بأمر من الأمور من أجل الإسلام والجمهورية الإسلامية والتطوير والوصول إلى الاكتفاء الذاتي. وما تزال روح التعاون والالتزام هذه قائمة في المجتمع فإن الوطن العزيز سيكون مصونًا من حوادث الدهر إن شاء الله تعالى. والحوزات العلمية والجامعات والشباب الأعزاء في مراكز العلم والتربية يتمتعون بحمد الله تعالى بهذه النفحة الإلهية الغيبية. وهذه المراكز تحت تصرفهم بشكل كامل، ويد المفسدين والمنحرفين لا تنالها بإذن الله .
«ووصيتي إلى الجميع هي أن تسيروا قدمًا نحو معرفة ذاتكم ونحو الاكتفاء الذاتي والاستقلال بكل أبعاده، واضعين الله نصب أعينكم، ومن المؤكد أن يد الله معكم إن كنتم في خدمة الله،واستمرت فيكم روح التعاون من أجل رقي الوطن الإسلامي ورفعته.وأنا ما أعهده في هذا الشعب العزيز من يقظة وفطنة والتزام وتضحية وروح مقاومة وصلابة على طريق الحق، آمل بفضل الله المتعال أن تتنقل هذه المعاني الإنسانية إلى الأعقاب، وتثرى جيلًا بعد جيل» (الوصية،ص 58 – 59).
العـزة والقـيادة
عز الشعب يبدأ غالبًا من ممارسات قيادته، وكذلك ذلّها. فإذا كانت القيادة تقيم للإنسان وزنًا وتؤمن بعزته وكرامته فإن التوجه العام للأمة ينحو باتجاه العزة. وإن كانت القيادة تتخذ من الشعب خَوَلًا ومن ثروته مغنمًا، فذلك أساس ذلّ المجتمع.
الإمام الراحل فـي سلوكه مع الجماهير وفـي لغة خطابه كان يعبّر عن ثقة غير متناهية بالجماهير، يرى أن كل ما تحقق من نعم فبفضل الله وبواسطة هذه الجماهير. يتحدث عن الناس وكأنه يعشقهم واحدًا واحدًا، ويتواضع أمام الناس تواضعًا لا حد له دون تملق أو تزلف.
يخاطب المسؤولين فـي وصيته يقول:
«وأوصي المجلس والحكومة والمسؤولين أن يقدّروا هذا الشعب حق قدره، وأن لا يألوا جهدًا فـي خدمته وخاصة المستضعفـين والمحرومين والمظلومين منهم، فهؤلاء ضياء أعيننا وأولياء نعمتنا جميعًا، والجمهورية الإسلامية عطيّتهم، وتحقّقها كان بفضل تضحياتهم وبقاؤها رهين خدماتهم. اعتبروا أنفسكم من الجماهير والجماهير منكم» (الوصية، ص ٢٥).
ثم يرتفع فـي مقطع آخر من الوصية لينظر إلى الشعب نظرة تاريخية، فـيقارنه بالجيل الإسلامي الأول الذي تشرف بعصر النبوة أو بعصر الخلافة الراشدة، فـيقول بجرأة:
«أنا أزعم بجرأة أن الشعب الإيراني بجماهيره المليونية فـي العصر الراهن أفضل من أهل الحجاز فـي عصر رسول الله صلّى الله عليه وآله، (وأفضل من أهل) الكوفة فـي العراق على عهد أمير المؤمنين والحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليهما، فالمسلمون فـي الحجاز على عهد رسول الله (ص) منهم من أَبَوا أن يطيعوا الرسول ورفضوا - بذرائع مختلفة - التوجه إلى جبهات القتال حتى أنزل الله آيات من سورة التوبة توبخهم وتعدهم بالعذاب، ثم إنهم كذبوا على (النبي) حتى روي أنه دعا عليهم على المنبر، وأهل العراق والكوفة أساؤوا التعامل مع أمير المؤمنين (ع) وعصوه، وشكاوى الإمام منهم معروفة فـي المأثور وكتب التاريخ، ومسلمو العراق والكوفة فعلوا ما فعلوا بسيد الشهداء (الحسين بن علي)، وأولئك الذين لم يرتكبوا إثم قتله،أما أن فرّوا من المعركة، أو جلسوا حتى وقَعَتْ جريمة التاريخ تلك. ونحن نرى اليوم أن الشعب الإيراني بقواه المسلحة النظامية والانتظامية والحرس والتعبئة وهكذا القوى الشعبية من عشائر ومتطوعين في الجبهات، والجماهير خلف الجبهات (يندفعون) بشوق وشغف ليقدموا التضحيات، وأية تضحيات! وليسجلوا الملاحم وأية ملاحم! ونرى أن الجماهير المحترمة في جميع أرجاء البلاد تقدم المساعدات القيمة وأية مساعدات! ونرى أن عوائل الشهداء ومعوقي الحرب وذويهم يواجهوننا نحن وأنتم بوجوه طافحة بالحماس وبأعمال وأقوال تنم عن شوق واطمئنان، وذلك كله نابع من عشق هؤلاء وتعلّقهم وإيمانهم المتزايد بالله تعالى والإسلام والحياة الخالدة، بينما لا يعيش هؤلاء في بركة محضر الرسول الأكرم(ص) ولا في محضر الإمام المعصوم صلوات الله عليه، ودافع هؤلاء هو الايمان والثقة بالغيب. وهذا هو رمز التوفيق والنجاح في الأبعاد المختلفة، وللإسلام أن يفخر بتربية أفراد كهؤلاء ،ونحن نفخر جميعًا أن نكون في عصر كهذا وفي كتف أمة كهذه» (الوصية ، ص 23 – 24).
بهذه الثقة العجيبة تعامل الإمام القائد مع الجماهير، وبهذا التواضع خاطب الأمة في سطور وصيته الأخيرة، غارسًا روح الكرامة والعزّة والسمو في نفوس مخاطبيه، إذ يقول:
«بفؤاد وادع وقلب مطمئن ونفس مبتهجة وضمير يؤمل فضل الله، أستودعكم أيها الأخوة والأخوات لأرحل إلى مقرّي الأبدي، وأنا بحاجة مبرمة إلى صالح دعائكم.وأسال الله الرحمن الرحيم أن يقبل عذري في نقص الخدمة وفي القصور والتقصير. وأرجو من أبناء الشعب أن يقبلوا عذري في كل نقص وقصور وتقصير، وأن يسيروا قُدُمًا بعزم ومضاء، وليعلموا أن ذهاب واحد من العاملين في حقل الخدمة سوف لا يخلّ بالسدّ الحديدي الجماهيري، إذ هناك عاملون أرفع وأسمى مشغولون في الخدمة، والله يرعى هذا الشعب وكل الشعوب المظلومة في العالم» (الوصية، ص 60).
وانطلاقًا من إيمانه بدور القيادة في تحقيق عزّة المسلمين يدعو الإمام الراحل في وصيته تارة إلى سيادة روح التفاهم بين الحكومات والشعوب في كل البلدان الإسلامية كما ساد في إيران بقوله:
«ومن المؤمل أن يشعّ نورها (الجمهورية الإسلامية) على جميع البلدان الإسلامية، وأن يسود التفاهم بين جميع الحكومات والشعوب في هذا الأمر الحياتي، وأن يقطعوا إلى الأبد يد جناة التاريخ والقوى المتجبّرة الناهبة الممتدة إلى الظالمين والمحرومين في العالم» (الوصية، ص 17).
ويدعو الإمام الشعوب تارة أخرى إلى ممارسة حقّها في الاستقلال والحرية دون الاعتماد على الحكومات، لأن غالب قيادات العالم الإسلامي في القرن الأخير على الأقل أثبتت عدم كفاءتها في تحقيق عزّة شعوبها بسبب ذاتياتها وعمالتها. يقول:
«وأنتم يا مستضعفي العالم. وأيتها البلدان الإسلامية ويا مسلمي العالم، انهضوا واستعيدوا حقكم بكل ما تملكونه من قوة. ولا تهابوا ما تدبره القوى الكبرى وعملاؤها من ضجيج إعلامي، واطردوا من بلدانكم الحكام المجرمين الذين يقدمون ثمرة كدحكم إلى أعدائكم وأعداء الإسلام العزيز وأمسكوا أنتم والفئات المخلصة الملتزمة زمام الأمور،وانضووا جميعًا تحت راية الإسلام المشرّفة وهبّوا للدفاع أمام أعداء الإسلام وأعداء المحرومين في العالم. وسيروا حثيثًا نحو إقامة دولة إسلامية بنظام جمهوري حرّ مستقل. وبذلك سوف تلقمون مستكبري العالم حجرًا، وسوف توصلون كل المستضعفين إلى إمامة الأرض ووراثتها. على أمل تحقق ذلك اليوم الذي وعد به الله تعالى» (الوصية، ص 58).
العزة وممثلو الشعب
نظام التمثيل الشعبي في المجالس التشريعية ساد العالم الإسلامي بعد الانفتاح على التجربة الأوربية، وهو نظام يمكن أن يتجه نحو تحقيق مصالح الأمة والدفاع عن عزّها وكرامتها واستقلالها،كما يمكن أن يكون وسيلة للتلاعب بمقدرات الشعب وتمرير السياسات الاستعمارية.
مجلس الشورى الوطني تشكل في إيران على أثر الحركة الدستورية (المشروطة) التي انطلقت في أواخر العصر القاجاري واستمرت عشر سنوات (1315 – 1325هـ)، ولكن القوى الطامعة الأجنبية بالتعاون مع السلطة الحاكمة العميلة استطاعت أن تسيطر على جوّ المجلس، وتقمع كل صوت تحرري فيه كصوت المرحوم المدرّس الذي أقصي من المجلس رغم ما كان يتمتع به من قاعدة جماهيرية بسبب دفاعه عن كرامة الأمة وعزّتها ومصالحها ومقدراتها.
يوصي الإمام بالاهتمام الشديد بصيانة المجلس من المنحرفين عن طريق الحضور الجماهيري الفعّال في ساحة انتخابات الأعضاء وأن ينتخبوا الأفراد الذين يعيشون هموم الأمة وآمالها.
يقول الامام بشأن مجلش الشورى ومجلس الخبراء ومجلس مراقبة الدستور:
«من مهمات الأمور التزام أن يكون نواب مجلس الشورى الإسلامي ملتزمين رساليين، لقد شاهدنا بأم أعيننا كم تلقى الإسلام وإيران من صدمات مؤلمة جراء مجلس الشورى المنحرف غير الصالح منذ الفترة التي أعقبت المشروطة حتى عصر النظام البهلوي المجرم،وأفظعه وأخطره ما حلّ في فترة ذلك النظام الفاسد المفروض (على الأعناق) وما أكثر المصائب وأفدح الخسائر التي حلّت بالوطن والشعب على يد أولئك الجناة التافهين المأجورين!
«خلال هذه الأعوام الخمسين أدّى (أمر ملجس الشورى) بأكثريته المزيفة المنحرفة إزاء أقلية مظلومة إلى أن تستطيع بريطانيا والاتحاد السوفيتي وأخيرًا أمريكا أن تفعل كل ما تريده على يد نفس هؤلاء المنحرفين الغافلين عن الله، وأن يدفعوا بالبلاد إلى الفساد والفناء.
«بعد عصر المشروطة، لم تطبق في أي وقت من الأوقات تقريبًا مواد الدستور الهامة. (وكانت السيطرة في المجلس) قبل رضا خان بيد المتغربين والاقطاعيين،وفي عهد النظام البهلوي بيد ذلك النظام السفّاك وأتباعه ومأجوريه الطيعين.
«والآن، وبفضل عناية الباري وهمّة الشعب المعظم، وقعت مقاليد أمور البلاد بيد الجماهير. والنواب وجدوا طريقهم إلى مجلس الشورى الإسلامي بانتخاب الناس دون تدخل الحكومة والاقطاعيين، ومن المؤمل أن يحول تعهد هؤلاء بالإسلام وبمصالح البلاد دون حدوث أي انحراف (الآن إذ حدث هذا) أوصي الشعب في الحال والمستقبل أن يهمّوا بعزم راسخ والتزام بأحكام الإسلام ومصالح البلاد في أن يرسلوا إلى المجلس بكل دورة من الانتخابات نوابًا ملتزمين بالإسلام وبالجمهورية الإسلامية، وهم غالبًا من بين الفئات المتوسطة والمحرومة في المجتمع، وغير المنحرفة عن الصراط المستقيم نحو الغرب أو الشرق، وبدون ميول منحرفة،(نوّابًا) دارسين ومطلعين على شؤون الساعة والسياسة الإسلامية، وأوصي فئة علماء الدين المحترمين وخاصة المراجع العظام أن لا يتخذوا موقف انزواء وعدم اكتراث تجاه مسائل المجتمع خاصة مثل مسألة انتخاب رئيس الجمهورية وانتخاب نوّاب المجلس.
«كلكم رأيتم وسيسمع ذلك الجيل القادم، أن أيدي محترفي الألاعيب السياسية الشرقيين والغربيين، قد أخرجوا من الساحة علماء الدين الذين وضعوا أساس النهضة الدستورية بجهودهم وأتعابهم، وعلماء الدين أيضًا انطلت عليهم أحبولة المتلاعبين بالسياسة، واعتبروا التدخل في أمور البلاد والمسلمين لا يتناسب مع مقامهم! وتركوا الساحة إلى المهزومين أمام الغرب وأنزلوا بالحركة الدستورية والدستور والبلاد والإسلام ما يحتاج جبرانه إلى زمن طويل.
«والآن، وقد أزيلت الموانع ولله الحمد،وتوفرت الأجواء الحرّة لتدخل كل الفئات، لم يعد هناك أي عذر، فالمسامحة في أمر المسلمين من الذنوب الكبرى التي لا تغتفر، كل فرد بمقدار قدرته وسعة نفوذه يجب أن يكون في خدمة الإسلام والوطن العزيز، وأن يحول بجد دون نفوذ المرتبطين بالقطبين الاستعماريين ونفوذ المهزومين أمام الشرق أو الغرب والمنحرفين عن مدرسة الإسلام الكبرى. واعلموا أن أعداء الإسلام والبلدان الإسلامية، والقوتين الكبريين ذات الاطماع الدولية، يتغلغلون بهدوء وبتدريج في بلدنا والبلدان الإسلامية الأخرى، ويوقعون البلدان في فخ الاستثمار على يد أبناء الشعوب أنفسهم. عليكم أن تتحلوا بالوعي والحذر وأن تهبّوا للمواجهة عند إحساسكم بأول خطوة نفوذ، ولا تمهلوهم. كان الله معكم وفي عونكم.
«وأطلب من نواب مجلس الشورى الإسلامي في هذا العصر والعصور المقبلة أنه إذا قدر ــ لا سمح الله ــ أن تفرض عناصر منحرفة بالدسائس والألاعيب السياسية نيابتها على الناس، فعلى المجلس أن يرفض توثيق نيابتهم وأن لا يدع حتى عنصرًا واحدًا مخربًا وعميلًا يجد طريقه إلى المجلس.وأوصي الأقليات الدينية الرسمية أن تتعظ بدورات (مجلس) النظام البهلوي،وأن تنتخب نوابها من بين المتلزمين بدينهم، وبالجمهورية الإسلامية،وغير المرتبطين بالقوى الدولية الطامعة، ومن غير أصحاب الميول الإلحادية والمنحرفة والالتقاطية، وأطلب من كل النواب أن يتعاملوا مع زملائهم في المجلس بكل حسن نية وأخوّة، كي لا تنحرف القوانين لا سمح الله عن الإسلام.وكونوا جميعًا أوفياء للإسلام وأحكامه السماوية لتنالوا سعادة الدنيا والآخرة.
«وأطلب من مجلس مراقبة الدستور المحترم،وأوصيه سواء كان في هذا الجيل أو الأجيال المقبلة أن ينهض بواجباته الإسلامية والوطنية بكل دقة وقدرة، وأن لا تؤثر عليه أية قوة، وأن يقف بوجه كل قانون مخالف للشريعة المطهرة وللدستور بدون أي تحفظ، وأن يلتفت إلى ضرورات البلاد التي تستوجب أحيانًا تنفيذ الاحكام الثانوية وأحيانًا أخرى ولاية الفقيه.
«ووصيتي إلى الشعب الشريف هي أن يتواجد على الساحة في جميع الانتخابات سواء انتخابات رئاسة الجمهورية أو انتخابات نواب مجلس الشورى الإسلامي أو انتخابات مجلس الخبراء من أجل تعيين مجلس القيادة أو القائد، وأن ينتخب الأفراد وفق ضوابط ذات اعتبار. فلو حدث مثلًا تساهل في انتخاب (أعضاء مجلس) الخبراء لتعيين مجلس القيادة أو القائد، ولم ينتخبوا الخبراء وفق موازين شرعية وقانونية فقد تنزل بالإسلام والبلاد أضرار لا تعوض. وفي هذه الحالة يصبح الجميع مسؤولين أمام الله تعالى.
«وعدم المشاركة شبيهة بالتساهل. فأبناء الشعب (ابتداء) من مراجعه وعلمائه الكبار حتى فئة الحرفيين والفلاحين والعمال والموظفين مسؤولون بأجمعهم عن مصير الوطن والإسلام، سواء في الجيل الراهن أو الاجيال المقبلة.وقد يكون عدم الحضور والمشاركة في وقت من الأوقات من الذنوب الكبيرة.فعلاج الواقعة يجب أن يتم قبل وقوعها، وإلا فَلَتَ الزمام من يد الجميع. وهذه حقيقة لمسناها ولمستموها بعد المشروطة (الحركة الدستورية). لا علاج أفضل وأسمى من أن يؤدي الشعب في جميع أرجاء البلاد ما عليه من مسؤوليات موكلة إليه وفق المعايير الإسلامية وقوانين الدستور.وأن يستشير في انتخاب رئيس الجمهورية ونواب المجلس الأفراد المتعلمين الملتزمين المتنورين، المطلعين على مجاري الأمور، وغير المرتبطين بالبلدان الطامعة المستغلة، والمشهورين بالتقوى والالتزام بالإسلام والجمهورية الإسلامية، وأن يستشير أيضًا العلماء والروحانيين المتقين والملتزيمن بالجمهورية الإسلامية، وعلى أبناء الشعب أن يهتموا بأن يكون رئيس الجمهورية ونواب المجلس من طبقة تتحسّس محرومية المحرومين ومظلومية المستضعفين ، وممن يهتم بأمر رفاه هؤلاء (المظلومين والمستضعفين) لا (أن يكون) من الرأسماليين والإقطاعيين والمتعالين المرفهين والغارفين في الشهوات والملذات من الذين لا يستطيعون أن يفهموا مرارة الحرمان وعذاب الحفاة والجياع.
«ولنعلم أنه إذا كان رئيس الجمهورية ونوّاب المجلس أفرادًا لائقين وملتزمين بالإسلام وممن يحمل هموم الوطن والشعب، فإن كثيرًا من المشاكل لا تظهر، وإن ظهرت تُحلّ. ونفس هذه المسألة ينبغي أن تراعي بشكل خاص في انتخاب مجلس القيادة أو القائد. فإذا انتخب الشعب الخبراء انتخابًا دقيقًا قائمًا على استشارة المراجع العظام في كل عصر والعلماء الكبار في جميع أرجاء البلاد والمتدينين والعلماء،فإن كثيرًا من المشاكل والعقبات سوف تُدرأ عن طريق انتخاب أكثر الشخصيات لياقة والتزامًا للقيادة أو لمجلس القيادة، أو أن هذه المشاكل سوف تحلّ بكفاءة، ومن الأصل التاسع بعد المائة والعاشر بعد المائة في الدستور، تتضح المسؤولية الثقيلة التي يتحملها الشعب في انتخاب أعضاء مجلس الخبراء والنواب وانتخاب القائد أو مجلس القيادة (ويتضح) أن أدنى تساهل في الانتخاب سوف ينزل بالإسلام والجمهورية الإسلامية أضرارًا، وأية أضرار! واحتمال وقوع تلك (الأضرار) أمر ذو أهمية بالغة يؤدي إلى إيجاد تكليف الهي» (الوصية، ص 31 – 35).
العزّ والقوات المسلحة
القوات المسلحة هي رمز عزّة الأمة، لأنها تمثل القوة الضاربة المضحية المدافعة عن كرامة الوطن ومكتسباته،ومنذ أوائل عصر الاستمار اتجه الطامعون إلى التغلغل في صفوف المؤسسة العسكرية باسم التدريب ونقل الخيرات وتطوير التسليح والاستشارات العسكرية، أو عن طريق الجواسيس والعملاء، حتى ما عادت الأمة في كثير من بقاع عالمنا الإسلامي تثق بقواتها المسلحة، ولا تعتبرها منها ولا مدافعة عن مصالحها، بل رأت الأمة في كثير من الأحيان دخول القوات المسلحة لقمع إرادة الشعب وإحكام قبضة الحديد والنار عليه. يقول الإمام:
«القوات المسلحة، ابتداء من الجيش والحرس وقوات الدرك والشرطة وحتى اللجان (الثورية) والتعبئة والعشائر لها خصوصيتها، فهي باعتبارها العضد المفتول القوي للجمهورية الإسلامية،وحارسة الثغور والطرق والمدن والقرى، وحافظة الأمن وواجهة الاستقرار للشعب، يجب أن تكون موضع اهتمام خاص من الشعب والحكومة والمجلس،ومن اللازم أن يفهموا أن أطماع القوى الكبرى والسياسات المخربة تتجه إلى القوات المسلحة أكثر من أي شيء ومن أية فئة. فبيد القوات المسلحة تنفذ الانقلابات وتغيّر الأنظمة والحكومات، ويعمل النفعيون الماكرون إلى شراء ذمة بعض قادتهم، وبذلك يُخضعون الشعوب المظلومة لسلطاتهم ويصادرون من البلدان الاستقلال والحرية.
«ولو أن الأمر تصدى له قادة عفيفون لما تسنّى لأعداء البلدان أن ينفذوا فيها مؤامرة أو أن يحتلوها إطلاقًا، وإن تسنّى لهم مرّة فسيواجهون الفشل والهزيمة على يد القادة الملتزمين» (الوصية، ص 42).
ويقدم الإمام في وصيته إلى القوات المسلحة وصايا خاصة تتلخص في الحذر من الوقوع في الأحابيل السياسية والانتماءات الفئوية كي تبقى القوات المسلحة ملكًا لجميع الشعب والوطن، وفي مراقبة هذه القوات كي يكون كل تحركها منسجمًا مع مصالح البلاد والدولة الإسلامية، وفي الالتزام بالإسلام باعتباره الضمان الوحيد للاستقامة على الطريق. يقول الإمام:
«أوصي القوات المسلحة عامة وصية أخوية في هذه الخطوات الأخيرة من حياتي (وأقول لهم): أيها الأعزّة المتعشقون للإسلام، ويا من تواصلون التضحيات في الجبهات والأعمال القيمة في أرجاء البلاد يحدوكم حب لقاء الله، كونوا واعين منتهبين ،فأصحاب الألاعيب السياسية والسياسيون المحترفون المتغربون والمتشرقون والأيدي الخيانية المشبوهة المستترة صوّبت رؤوس حراب أسلحتها الخيانية الإجرامية صوبكم من كل جانب وإليكم أكثر من أية فئة أخرى.ويستهدفون أن يستغلوكم،أنتم أيها الأعزّة الذين سجلتم بتضحياتكم الانتصار للثورة والحياة للإسلام، للإطاحة بالجمهورية الإسلامية،وأن يعزلوكم عن الإسلام وعن الشعب باسم الإسلام وباسم خدمة الوطن والشعب، ثم يلقوكم في أحضان أحد القطبين الطامعين الدوليين، وبذلك يبددوا أتعابكم وتضحياتكم بأحابيل سياسية وبمكائد تتقمص ظواهر إسلامية ووطنية.
«وصيتي المؤكد للقوات المسلحة هي الالتزام بمقررات النظام القاضية بعدم انتماء العسكريين إلى التجمعات الحزبية والفئوية والجمهوية، وعلى القوات المسلحة عامة النظامية والانتظامية والحرس والتعبئة وغيرهم أن يمتنعوا عن الدخول في أي حزب وتجمع وأن يبتعدوا عن الألاعيب السياسية. وفي هذه الحالة يستطيعون أن يحافظوا على مقدرتهم العسكرية وأن يأمنوا الاختلافات الفئوية. وعلى قادة الجيش منع من هم تحت إمرتهم من الدخول في الأحزاب.
«ولما كانت الثورة ثورة كل الشعب، وصيانتها مسؤولية (يتحملها) الجميع، فإن الواجب الشرعي والوطني يفرض على الحكومة والشعب ومجلس الدفاع ومجلس الشورى الإسلامي أن يعارضوا منذ الخطوة الأولى أيّ عمل يمكن أن تقدم عليه القوات المسلحة على مستوى كبار القادة أو على المستويات الأخرى يتنافى مع مصالح الإسلام والبلاد، أو أن تنتمي إلى الأحزاب مما يؤدي حتمًا إلى دمارها، أو تدخل في ألأعيب سياسية. على القائد ومجلس القيادة أن يحولوا دون ذلك بحزم كي يصونوا البلد من الأخطار.
«أتقدم إلى القوات المسلحة في نهاية حياتي الترابية بوصية مشفقة أن استقيموا على وفائكم ــ كما أنتم أوفياء اليوم للإسلام، فهو المدرسة الوحيدة للحرية والاستقلال، وبنور هدايته يدعو الله جميع (البشرية) إلى السموّ الإنساني. إنه ينقذكم وبلدكم وشعبكم من ذل التبعية والانقياد إلى قوى لا هدف لها سوى استعبادكم وجرّ بلادكم وشعبكم العزيز إلى الانحطاط وإلى (الانغماس في) سوق الاستهلاك والخضوع لوطأة ذل الظلم» (الوصية، ص 43 – 44).
العزّة والمثل الأعلى
أهم واجبات القيادة المخلصة دفع الأمة نحو مثل أعلى يجسّد طموحات هذه الأمة إلى التكامل والرقي والسموّ المادي والمعنوي، ومن دون وجود مثل أعلى يبقى الأفراد يعيشون همومهم اليومية الاعتيادية، ويصابون على أثر ذلك بالتفرّق والضعف وتزداد بذلك عندهم «قابلية الاستعمار».
من هنا يحثّ الإمام في ثنايا وصيّته أبناء الأمة على طلب العزّة مهما كلّف الثمن ورفض حالة الذلّ مهما اقترنت بالرخاء المادّي والمتاع الدنيوي، يقول:
«عليكم أن تفضلوا الحياة المشرّفة،وإن اقترنت بالمشاكل، على حياة ذليلة مقرونة بالاستعباد للأجانب وإن صحبها رفاه حيواني. واعلموا أنكم مادمتم في تأمين احتياجاتكم من الصناعات المتطورة تمدّون أيديكم إلى الآخرين، وتقضون عمركم في الاستجداء، فإن قدرة الابتكار في الاختراعات سوف لا تنفتح فيكم» (الوصية،ص 44).
ويستثير الامام روح العزّة في النفوس مرارًا في وصيته، ويضع أمام الأمة هدفًا بعيدًا يستحق كل تضحية وفداء لتحقيقه، مرددًا كلام آية الله السيد حسن المدرس [ت 1356هـ] الذي قارع النظام البهلوي منذ أوائل تأسيسه، إذ رفع صوته في مجلس الشورى قائلًا: «إذا تقرر أن نباد فلماذا نباد بأيدينا» أي لماذا نموت ميتة ذل واستسلام وهزيمة؟! أليس من الأجدر أن نموت ميتة مشرّفة في ساحات مواجهة العدو؟! يقول الإمام:
«ضعوا كلام المرحوم (المدرّس) ذلك العالم الديني الملتزم الطاهر في سيرته والنقي في تفكيره نصب أعينكم، حيث قال في ذلك المجلس الخاوي آنذاك: «الآن إذ لابدّ أن نباد فلماذا نباد بأيدينا». وأنا اليوم أيضًا أجدد ذكرى ذلك الشهيد (الذي ضحى) على طريق الله، وأقول لكم يا إخوتي في الإيمان: لو أننا فُنينا عن ظهر البسيطة باليد الآثمة الأمريكية والسوفيتية، ولاقينا ربنا بدم قإن لقاء مشرفًا، لكان ذلك أفضل من أن تكون لنا حياة مترفة مرفّهة تحت راية الجيش الأحمر الشرقي والأسود الغربي. وهذه كانت سيرة الأنبياء العظام وأئمة المسلمين وأعلام الدين المبين، ويجب أن نقتدي بها.
«يجب أن يسودنا الاعتقاد أن أمة من الأمم تستطيع أن تعيش متحررة من التبعيات إن أرادت ذلك. القوى المتجبرة العالمية لا تستطيع أن تفرض على شعب شيئًا يخالف معتقداته، خذوا العبرة من أفغانستان حيث لم يستطع الاتحاد السوفييتي ــ مع وقوف الحكومة الغاصبة والأحزاب اليسارية إلى جانبه ــ أن يقمع حتى الآن جماهير الشعب» (الوصية،ص 50 – 51).
العـزة والإعـلام
للإعلام دور كبير فـي بناء شخصية أفراد الأمة، وخاصة فـي عصرنا حيث التطور التقني الهائل فـي وسائل الإعلام والاتصال. التلقين المستمر الذي توحيه للأفراد يمكن أن يصنع الشخصية المتحلية بالعزة والكرامة، ويمكن أن يذيب هذه الشخصية ويحللها، ويخلق روح الهزيمة والذل فـي أعماقها.
معظم وسائل الإعلام فـي عالمنا الإسلامي لا تتخذ اتجاهًا رساليًا هادفًا، بل تتجه نحو تعميق روح الضعف والتبعية والهزيمة فـي المستمع والمشاهد والقارئ.
الإمام فـي وصيته يعرض لما كانت عليه وسائل الإعلام فـي عهد الشاه، وما جرته من ضياع الذات والشخصية، ويحذّر من انزلاق الإعلام فـي العهد الإسلامي إلى تلك الحالة باسم «الحرية»، يقول:
«الإذاعة والتلفزيون والصحافة والسينما والمسرح (في عالمنا اليوم) من الأدوات الفعالة فـي إفساد الشعوب وتخديرها خاصة جيل الشباب. ما أكثر المخططات الكبرى التي نفذت عن طريق هذه الأدوات خلال هذا القرن الأخيرة خاصة النصف الثاني منه، سواء ما استهدف منها معاداة الإسلام أو معاداة علماء الدين المخلصين أو ما اتجه للدعاية إلى المستعمرين الغربيين والشرقيين!!
«من هذه الأدوات استفادوا لرواج الأسواق الاستهلاكية للبضائع وخاصة الكمالية وأدوات الزينة بكل أنواعها (دافعين الناس) إلى التقليد فـي الأبنية والديكور والمظاهر، والتقليد فـي نوع المشروبات والملابس على طريقتهم (الأوروبية). حتى عاد التفاخر فـي تقليد الغرب سائدًا فـي جميع شؤون الحياة، فـي السلوك والكلام وشكل الملبس، خاصة بين النساء المرفّهات ونصف المرفهات. و (هكذا التقليد) فـي آداب المعاشرة وطريقة الكلام واستعمال الألفاظ الغربية فـي الحديث والكتابة حتى عاد فهم كلام هؤلاء صعبًا على كثير من الناس بل على نظرائهم أيضًا.
«الأفلام التلفزيونية كانت من منتجات الغرب أو الشرق، وكانت تبعد الشباب، ذكورًا وإناثًا، عن المسير الصحيح للحياة، وعن العلم والصناعة والإنتاج، وتدفعهم إلى الجهل بذاتهم وبشخصيتهم، أو إلى التشاؤم وسوء الظن بكل شيء أصيل لديهم ولدى بلدهم، بما فـي ذلك الثقافة والآداب والمآثر القيمة التي انتقل الكثير منها بيد الخائنين إلى المكتبات والمتاحف الغربية والشرقية.
«المجلات، بمقالاتها وصورها الفاضحة والمؤسفة، والصحف بتسابقها فـي كتابة مقالات معادية للأصالة الثقافـية والإسلامية، كانت تفخر بأن تدفع الجماهير وخاصة فئة الشباب نحو الغرب أو الشرق، أضف إلى ذلك الدعايات الواسعة فـي نشر مراكز الفساد والفحشاء، ومراكز القمار والميسر، وحانات الخمور، ومعارض البضائع الكمالية ووسائل التجميل واللعب والمشروبات الكحولية، وخاصة ما يُستورد منها من الغرب. ومقابل تصدير النفط والغاز والثروات الأخرى كانت تستورد الدمى واللعب والتحف الكمالية ومئات الأشياء الأخرى مما ليس لمثلي اطلاع عليها. ولو قدّر - لا سمح الله - أن يمتد عمر النظام البهلوي المأجور المخرّب لأوشك شبابنا الأكفّاء من أبناء الإسلام والوطن وممّن تعقد عليهم الآمال، بما يحيطهم من دسائس وخطط شيطانية يدبرها النظام الفاسد ووسائل الإعلام والمثقفون المتغربون والمتشرقون، أن يعرضوا تمامًا عن الأمة والإسلام، فـيتلفوا شبابهم فـي مراكز الفساد أو ينخرطوا فـي خدمة القوى الطامعة، ويبيدوا بذلك البلاد.
«لقد منّ الله علينا وعليهم ونجّانا من شر المفسدين الناهبين.
«والآن وصيتي إلى مجلس الشورى الإسلامي فـي الحال والمستقبل ورئيس الجمهورية ورؤساء الجمهورية التالين وإلى مجلس مراقبة الدستور ومجلس القضاء الأعلى والحكومة فـي كل زمان، هي أن لا يَدَعوا هذه الأجهزة الإعلامية والصحافة والمجلات تنحرف عن مصالح البلاد. وعلينا أن نعلم جميعًا أن الحرية بشكلها الغربي المؤدي إلى إفساد الشباب بذكورهم وإناثهم، هي مدانة من وجهة نظر الإسلام والعقل، وكل دعاية ومقال وخطبة وكتاب ومجلة تتعارض مع الإسلام والعفة العامة ومصالح البلاد، حرام، ويتوجب علينا جميعًا وعلى كل المسلمين أن يحولوا دونها، وأن يحولوا دون الحريات الهدامة. وإذا لم يقفوا بوجه ما يتعارض مع مسير الشعب والبلد الإسلامي وكرامة الجمهورية الإسلامية فكلنا مسؤولون. والجماهير وشباب حــــزب الله،
ــ إن واجهوا أحد الأمور المذكورة ــ عليهم أن يراجعوا الأجهزة المعنية، فإن قصّرت فهم أنفسهم مكلفون بصد (هذا الانحراف). كان الله فـي عون الجميع» (الوصية، ص ٤٥ – ٤٦).
ويوصي الإمام وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي بأن تحمل كلمة الإسلام إلى العالم وتصد الدعايات المضللة، بل يحمّل وزارة الخارجية وكل أصحاب الكلمة والقلم هذه المسؤولية فـي الكشف عن حقائق الإسلام الناصعة، يقول:
«ووصيتي إلى وزارة الإرشـاد فـي جميع العصور، وخاصة العصر الراهن، بما له من خصوصيات، هي السعي من أجل تبليغ الحق أمام الباطل وعرض الوجـه الحقيقي للجمهورية الإسلامية. ونحن فـي هذا العصر ــ إذ قطعنا يد القوى الكبرى عن بلادنا ــ نتعرض لهجوم إعلامي من جميع وسائل الإعلام المرتبطة بالقوى الكبرى. ما أكثر الأكاذيب والتهم التي نسبها وينسبها المرتبطون بالقوى الكبرى، بالكلمة المسموعة والمقروءة!! إلى الجمهورية الإسلامية الفتية!! أكثر دول المنطقة التي يجب أن تمد لنا يد الأخوّة بحكم الإسلام قد ناصبتنا وناصبت الإسلام العداء مع الأسف، وشنّت هجومًا علينا خدمة للطامعين الدوليين. وقدرتنا الإعلامية ضعيفة جدًا وهزيلة. وتعلمون أن العالم اليوم يدور حول محور الإعلام، ومن المؤسف أن مَنْ يسمّون بالكتاب المثقفـين الذين تتجه ميولهم إلى أحد القطبين، بدل أن يفكروا فـي استقلال وحرية بلدهم وشعبهم، لا تسمح لهم الروح الاستعلائية والانتهازية والاحتكارية بأن يفكروا لحظة وأن يأخذوا بنظر الاعتبار مصالح بلدهم وشعبهم، وأن يقارنوا بين الحرية والاستقلال فـي هذه الجمهورية وبين (ما كان عليه الوضع فـي) النظام الظالم السابق، و (أن يقيسوا) الحياة المشرفة القيّمة المقرونة بفقدان بعض وسائل الرفاه وبطر العيش (فـي ظل الجمهورية الإسلامية) بما كان عليه نظام الظلم الشاهي الذي كان يعطي (تلك الوسائل) مقرونة بالتبعية والرق وبكيل المدح والثناء لجراثيم الفساد ومنابع الظلم والفحشاء، وأن يكفوا عن إلصاق التهم والأكاذيب بهذه الجمهورية الإسلامية الوليدة وأن يقفوا بأقلامهم وألسنتهم مع الشعب والحكومة صفًا واحدًا ضد الطاغوتيين والظلمة المحترفين.
«ومسألة التبليغ لا تنهض بها وزارة الإرشاد وحدها، بل هي مسؤولية كل العلماء والخطباء والكتاب والفنانين. يجب أن تسعى وزارة الخارجية لأن توفر نشرات تبليغ فـي السفارات تبيّن الوجه النيّر للإسلام، إذ لو سطع هذا الوجه بجماله الباهر الذي رسمه القرآن والسنّة فـي كل الأبعاد من تحت النقاب الذي ضُرب عليه بفعل محاولات الأعداء وبلادة الأصدقاء، فإن الإسلام سيشع نوره على العالمين. وسترتفع رايته العزيزة خفاقة فـي كل مكان. أية مصيبة أعظم وأمّر من أن يملك المسلمون متاعًا لا نظير له من بدء العالم حتى منتهاه، ثم هم لا يستطيعون أن يعرضوا هذه الجوهرة الثمينة التي ينشدها كل إنسان بقطرته السليمة!! بل إنهم هم أيضًا عنها غافلون وبها جاهلون وعنها أحيانًا معرضون»!! (الوصية، ص٣٩ــ ٤٠) .
العزة والقضاء
الجهاز القضائي سند كل ذي حق ليأخذ حقه، وإذا أحسّ الإنسان بأن حقوقه محفوظة وأن روحه وماله وعرضه فـي مأمن من تطاول يد المعتدين، شعر بالعزة والكرامة والاستقرار، فالجهاز القضائي يصون عزة الناس وكرامتهم، والكارثة أن يتولى منصب القضاء من يتلاعب بمقدرات الناس، عندئذ يشعر الناس بأنهم يجب ن ينحنوا أمام الأقوياء، ويستسلموا لابتزازهم، ويتملقوا لهم، كي يأمنوا شرهم، إذ لا مدافع لهم فـي المجتمع. وهكذا يسود الذل.
الإمام الراحل فـي وصيته يركز على التزام القاضي… وتجربته القضائية… وعلمه فـي "الأمور الشرعية والإسلامية والسياسية". أي أنه يجب أن يكون ذا علم بالشريعة وذا بصيرة فـي المشروع الإسلامي برمّته كي لا تكون نظرته تجزيئية للدين، كما ينبغي أن يكون على علم بالسياسة لأنه سيواجه قضايا ترتبط بالأمن الداخلي وبالتدخل الخارجي وبالمسائل الاجتماعية العامة، لذلك فالوعي السياسي يشكل محورًا من محاور علم القاضي.
ووصيتي إلى القائد ومجلس القيادة أن يبذلوا الجهد فـي ما عليهم من مسؤولية تتمثل بتعيين أعلى مسؤول قضائي بأن يكون من الأشخاص الملتزمين وأصحاب التجربة والنظر فـي الأمور الشرعية والإسلامية والسياسية. وأطلب من أعضاء مجلس القضاء الأعلى أن يجدّوا فـي إصلاح أمر القضاء الذي تدنّى فـي عهد النظام البائد إلى وضع مؤسف مؤلم، وأن يبعدوا عن كرسي القضـاء الهام من يتلاعب بأرواح الناس وأموالهم ومن لا يعير أهمية للعدالة الإسلامية، وأن يحدثوا التغييرات فـي (وزارة) العدل بهمة وجد وتدريج، وأن يتم بجد إن شاء الله تدريب وتعليم قضاة تتوفر فـيهم الشروط اللازمة فـي الحوزات العلمية، وخاصة حوزة قم العلمية المباركة، وتقديمهم ليتعينوا بدلًا من القضاة الذين لا تتوفر فـيهم الشروط المقررة الإسلامية. وسوف يسود القضاء الإسلامي إن شاء الله عاجلًا فـي جميع أرجاء البلاد.
«وأوصي القضاة المحترمين فـي العصر الراهن وفـي العصور القادمة أن يتصدّوا لهذا الأمر الخطير آخذين بنظر الاعتبار ما ورد من أحاديث عن المعصومين صلوات الله عليهم بشأن القضاء وما يتضمنه من خطر عظيم، وما ورد بشأن القضاء بغير الحق، وأن لا يدعوا هذا المقام يقع بيد غير أهله، وأن لا يستنكف عن هذا الأمر من هو أهل له، وأن لا يفسحوا المجال لمن هو غير أهل له، وكما أن خطر هذا المنصب كبير، فإن الأجر والفضل والثواب فـيه كبير أيضًا. وتعلمون أن تصدي القضاء لأهله واجب كفائي» (الوصية، ص ٣٥ – ٣٦).
العزّة والدراسات الدينية
خصص الإمام الراحل جزءًا من وصيته للحوزات العلمية (مراكز الدراسات الإسلامية) وتحدث مع علماء الدين وعن علماء الدين في مواضع عديدة، والذي يجمع بين هذا الجزء من الوصية والأجزاء الأخرى هو الدفع نحو خلق مجتمع إسلامي أصيل معاصر، يشعر فيه المسلم بالعزّة والكرامة.
الدراسات الدينية في عالمنا المعاصر تخلّفت عن الزمن أولًا، ثم دخل في دائرتها عناصر مشبوهة أو متاجرة شوّهت وجه علماء الدين، ثم إنها ابتعدت عن الجانب التربوي العملي لتنهمك في الدراسات النظرية البحتة. أو فيما يتعلق بظاهر ما يحتاجه الإنسان،دون أن تتوغل في عمق النفس الإنسانية وسبل تهذيب هذه النفس وتغييرها، باعتبار أن هذا التغيير مقدمة لازمة لتغيير المجتمع.
مجمل خصائص الدراسات الإسلامية الحالية في معظم أرجاء العالم الإسلامي لا تجعل الطالب فيها يشعر بالعزّة والمكانة، ولا تجعل النظرة الشعبية إليها نظرة اعتزاز واكبار وإجلال، لذلك يشير الإمام الراحل في وصيته إلى ضرورة النهوض بالحوزات العلمية إلى المستوى اللائق المرموق.
تخليصها من العناصر المندسة والمتاجرة.. تأصيل الدراسات الإسلامية فيها وإبعادها عن الالتقاط.. وارتفاع الموضوعات المطروحة إلى مستوى حاجة العصر.. والاهتمام بالدراسات التي تتجه نحو تغير المحتوى الداخلي للأفراد وتهذبيهم وتوجيههم إلى الله سبحانه.يقول الإمام:
«وصيتي إلى الحوزات العلمية المقدسة هي أني ذكرت مرارًا أن أعداء الإسلام والجمهورية الإسلامية شمّروا عن ساعد الجد في هذا العصر للإطاحة بالإسلام، ويسعون بكل طريق ممكن لتحقيق هذا الهدف الشيطاني. وأحد الطرق الهامة لمقصدهم المشؤوم والخُطِر على الإسلام والحوزات الإسلامية،إرسال أفراد منحرفين فاسدين ليخترقوا الحوزات العلمية،وفي ذلك خطر كبير قصير المدى يتمثل في الاساءة إلى سمعة الحوزات بارتكاب الأعمال المشيئة وبالانحراف في السلوك والأخلاق، وخطره الكبير في المدى البعيد عندما يصل واحد أو أكثر من الأفراد المحتالين إلى مراتب عالية.فهؤلاء باطلاعهم على العلوم الإسلامية وتغلغلهم بين الجماهير والفئات الطيبة القلب وجذبهم إليهم، ينزلون الضربة المهلكة بالحوزات الإسلامية والإسلام العزيز والوطن في الوقت المقتضي.ونحن نعلم أن القوى الكبرى الناهبة لها في الأوساط أفراد بأشكال مختلفة من الوطنيين والمثقفين الزائفين والمتلبسين بلباس علماء الدين،وهذه (الفئة الأخيرة) إن وجدت المجال فخطرها أكبر وضررها أفظع. وهؤلاء أحيانًا يقضون ثلاثين أو أربعين عامًا بصير وتحمّل بين الشعوب، وبمظهر إسلامي متزمّت أو بادّعاء القومية الإيرانية أو الوطنية أو بحيل أخرى، ثم يؤدون مهمتهم في الوقت المناسب. وشعبنا العزيز خلال هذه الفترة القصيرة بعد انتصار الثورة رأى نماذج من مثل مجاهدي الشعب وفدائيي الشعب وحزب تودة وعناوين أخرى.ومن اللازم على الجميع أن يحبطوا هذا اللون من المؤامرة بوعي . والأهم من كل ذلك الحوزات العلمية التي يتحمل مسؤولية تنظيمها وتصفيتها المدرسون المحترمون والأفاضل المجربون بتأييد من مراجع العصر. ولعل أطروحة (النظام في عدم الانتظام) هي من الإلقاءات المشؤومة لهؤلاء المخططين والمتآمرين.
«على أي حال،وصيّتي هي أن النهوض من أجل تنظيم الحوزات أمر لازم وضروري دائمًا وخاصة في عصرنا الراهن حيث المخططات تدبّر بسرعة وقوّة. وعلى العلماء والمدرسين والفضلاء العظام أن يبذلوا الوقت ويضعوا البرنامج الدقيق الصحيح ليحفظوا الحوزات وخاصة الحوزة العلمية في (مدينة) قم وسائر الحوزات المهمة الكبرى، من الآفات. وفي الدروس المرتبطة (بالفقاهة) وفي مجال الدراسات الفقهية والأصولية، من اللازم أن لايسمح العلماء والمدرسون المحترمون بحدوث خروج عن طريقة المشايخ العظام، فالطريق الوحيد لحفظ الفقه الإسلامي هو الفقاهة، وأن يسعوا إلى أن تتعمق يومًا بعد يوم (روح) الدقة والبحث والنظر والابتكار والتحقيق. وأن يحفظ الفقه التقليدي الذي هو تراث السلف الصالح.والخروج عنه (يؤدي إلى) ارتخاء أركان التحقيق والتدقيق. وأن تضاف البحوث إلى البحوث.وفي فروع العلوم الأخرى ينبغي طبعًا وضع برامج تتناسب مع احتياجات البلاد والإسلام، ويربى من خلالها الأجيال. وأعلى وأسمى المجالات العلمية التي ينبغي أن يشارك الجميع في تعليمها وتعلمها هي العوم المعنوية الإسلامية مثل علم الأخلاق وتهذيب النفس والسير والسلوك إلى الله،رزقنا الله وإياكم (ذلك) فهو الجهاد الأكبر» (الوصية،ص 36 – 3).
العزة والجهاز التنفيذي
الجهاز التنفيذي له السهم الأوفي في صيانة عزّة الأفراد وكرامتهم. مهما سمت القوانين فإنها لا تستطيع حفظ حرمة الأفراد، إذا كان تنفيذها بيد أناس لا يقيمون حرمة للناس. الجهاز التنفيذي ــ إن فسد ــ يصبح قوة مخيفة مرعبة يهاب الناس بطشها ويُذلّون أمامها.
الجهاز التنفيذي في معظم أرجاء عالمنا الإسلامي مصاب بمرض استهانة الكرامة واحتقار الناس والتعالي عليهم.لذلك يوصي الإمام المسؤولين باستشعار التواضع أمام الناس،وأن يحسبوا أنفسهم خدمًا للشعب.
ويوصي الوزراء عامة ووزاة الخارجية بشكل خاص بالابتعاد عن مظاهر الفخفخة والكبكبة والاستعلاء والطاغوت، يقول الإمام:
«من الأمور التي تستلزم الاصلاح والتصفية والمراقبة القوة التنفيذية،فمن الممكن أن يصادق المجلس على قوانين راقية ومفيدة للجميع،ويمضيها مجلس مراقبة الدستور، ويبلغها الوزير المسؤول، لكنها ما إن تقع بيد المنفذين غير الصالحين، إلا ويمسخونها ويعملون خلافًا للمقرارات، بدفعها إلى اللعب الإداري أو إلى الطرق الملتوية التي اعتادوا عليها، أو بالتعمد في المخالفة لخلق الاستياء بين الناس،وبالتدريج وبالتساهل يحدثون غائلة.
«وصيتي إلى الوزراء والمسؤولين في العصر الراهن وفي العصور الأخرى هي أنه إضافة إلى أن الميزانية التي ترتزقون منها أنتم وموظفو الوزارات هي أموال الشعب،ومن هنا يجب أن تكونوا في خدمة الشعب، وخاصة المستضعفين،وأن إرهاق الناس والعمل خلاف الواجب حرام قد يوجب أحيانًا ــ لا سمح الله ــ غضبًا إلهيًا، (إضافة إلى ذلك) فإنكم جميعًا بحاجة إلى مساندة الشعب.فبمساندة الشعب، وخاصة الطبقات المحرومة منه،تحقق النصر،وانقطعت يد الظلم الشاهي عن البلاد وذخائرها. وإن حرمتم يومًا من هذه المساندة تُقصوا عن مناصبكم. و يحتل الظالمون المناصب كما كان الأمر في النظام الشاهنشاهي انطلاقًا من هذه الحقيقة الملموسة يجب أن تسعوا في كسب الجماهير وأن تتجنّبوا السلوك غير الإسلامي وغير الإنساني.
«ومن هذا المنطلق أوصي وزراء الداخلية على مر التاريخ أن يراعوا الدقة في انتخاب المحافظين (حكام المحافظات) وأن يختاروهم من بين اللائقين، المتدينين، الملتزمين، وأهل العقل،والمتماشين مع الناس. كي يستتب الأمن في البلاد. وإن كان كل الوزراء يتحملون مهمة تعميق الإسلام وتنظيم الأمور في محل مسؤوليتهم. لكن يجب أن نعلم أن بعض أولئك لهم مسؤولية مميزة مثل وزارة الخارجية التي تتحمل مسؤولية السفارات في خارج البلاد. لقد أوصيت وزراء الخارجية منذ بداية انتصار (الثورة) بشأن إزالة مظاهر الطاغوت من السفارات وتحويلها إلى سفارات تتناسب مع الجمهورية الإسلامية» (الوصية ، ص 37 – 38).
العزة والسياسة الخارجية
السياسة الخارجية تحمل أكبر ثقل في صيانة عزّة الأمة على الصعيد العالمي.فهي إن كانت بيد أفراد ضعفاء تتأثر بالمعادلات الدولية المهيمنة، وتلين أمام الضغوط، وتنهزم إزاء الأقوياء.
الإمام إذ يوصي بضرورة حفظ استقلال البلاد ومصالحها في السياسة الخارجية يوصي أيضًا بالسعي لتحسين العلاقات مع البلدان الإسلامية صيانة لعزّة المسلمين،يقول الإمام.
«ووصيتي إلى وزراء الخارجية في هذا العصر والعصور التالية هي أن مسؤوليتكم جسيمة سواء في حقل إصلاح وتغيير الوزارة والسفارات أم في حقل السياسية الخارجية، وذلك بحفظ استقلال البلاد ومصالحها وإقامة علاقات حسنة مع البلدان التي لا تستهدف التدخل في أمور بلادنا. عليكم أن تتجنبوا بشكل قاطع كل أمر مشوب بالتبعية بجميع أبعادها. واعلموا أن التبعية في بعض الأمور، مهما كان لها ظاهر خادع أو منفعة آنية، هي في النتيجة ستتلف جذور البلد. واسعوا في تحسين العلاقات مع البلدان الإسلامية وفي إيقاظ الحكام والدعوة إلى الوحدة والاتحاد، فالله معكم» (الوصية، ص 38 – 39).
العزّة والأخوة الإسلامية
الإعتصام بحبل الله وعدم التفرّق مقدمة لازمة للقوة وصيانة العزّة. فالوحدة عزّ وقوّة والضعف ذلّ وهزال. من هنا فحديث الإمام الراحل في هذا الشأن مستمر منذ أوائل اندلاع الثورة حتى وفاته.وفي وصيته يؤكد على التصدي للمفرّقين ودعم الصفوف، يقول الإمام:
«ليس عبثًا أن تبذل الأبواق الاعلامية العالمية وربيبتها المحلية كل طاقاتها في بث الاشاعات والأكاذيب المفرّقة، وتبذل في سبيل ذلك مليارات الدولارات.
ليس عبثًا هذه الجولات المستمرة التي يقوم بها معارضو الجمهورية الإسلامية في المنطقة، وبينهم ــ مع الأسف ــ زعماء حكومات بعض البلدان الإسلامية الغارقين في مصالحهم الشخصية والمستسلمين طوعًا وانقيادًا لأمريكا، وهكذا بعض المتشبهين بعلماء الدين يسيرون في هذا الركب أيضًا.
«ما يتوجب على الشعب الإيراني وعلى جميع المسلمين في عصرنا هذا وفي المستقبل وما ينبغي أن يهتموا به هو إحباط الدعايات المفرّقة الهدّامة. وصيتي إلى المسلمين وخاصة الإيرانيين وبالأخص المعاصرين منهم أن يتخذوا موقفًا مجابهًا إزاء هذه المؤامرات وأن يعمّقوا بالانسجام وحدتهم عن أي طريق ممكن، ويبعثوا اليأس في الكفار والمنافقين» (الوصية، ص 18).
ويوصي الإمام شعوب العالم الإسلامي وحكوماته بالاعتماد على نفسها في استعادة هويتها، وإلى التحرر من التبعية، وإلى الوحدة والتفاهم بين الحكومات والشعوب، وبين الشعوب نفسها، يقول:
«ووصيتي إلى الشعوب والبلدان الإسلامية هي أن لا يعقدوا الأمل على مساعدة خارجية في الوصول إلى الهدف المتمثل في الإسلام وتطبيق الأحكام الإسلامية. عليكم أن تنهضوا بأنفسكم بهذا الأمر الحياتي الذي يستتبعه تحقق الاستقلال والحرية.
«وعلى العلماء الأعلام والخطباء المحترمين في البلدان الإسلامية أن يَدْعوا الحكومات لتحرر نفسها من التبعية للقوى الكبرى، ولتتفاهم مع شعوبها، وفي هذه الحالة سيكسبون النصر المؤزّر. وعليهم أن يَدْعوا الشعوب إلى الوحدة وإلى تجنب النعرات العنصرية المخالفة لتعاليم الإسلام وإلى أن يمدّوا يد الأخوّة إلى إخوتهم في الإيمان بمختلف بلدانهم وقومياتهم، فالإسلام العظيم سمّاهم (إخوة). وإن تحققت هذه الأخوّة الإسلامية يومًا بهمة الحكومات والشعوب وبتأييد الله تعالى، فسترون أن المسلمين يشكلون أكبر قدرة عالمية. على أمل أن تتحقق يومًا بإذن رب العالمين هذه الأخوة والمساواة» (الوصية، ص 39).
العزّة والقوّة الاقتصادية
يرى الإمام أن القوة الاقتصادية للبلد الإسلامي تتحقق في ظل تفجير طاقات أبناء البلد ضمن إطار الدولة الإسلامية. ويشير مرارًا إلى ما تحقق في إيران من قوة في مجال السير نحو الاكتفاء الذاتي في ظل الإسلام، ويؤكد مرارًا على ضرورة انتخاب أفراد جهاز النظام الحاكم من بين من يعيشون معاناة الناس،ويتحسسون مشاكلهم كي يعكفوا على حلّها.
غير أن الإمام في وصيته له وقفات عند بعض المسائل الاقتصادية مشيرًا إلى أهمية الجانب الاقتصادي في تحقيق عزّة المواطن والوطن، منوّهًا بأن المشكلة الاقتصادية لا تحلها الدولة فحسب،بل لابد أيضًا من التكافل الاقتصادي بين أبناء المجتمع للتغلب على تركة العهد البائد، يقول الإمام:
«وصيتي إلى المجلس، ومجلس مراقبة الدستور والحكومة ورئيس الجمهور ومجلس القضاء الأعلى هي أن يكونوا خاضعين لأحكام الله تعالى، وأن لا يقعوا تحت تأثير الدعايات الفارغة للقطب الظالم الرأسمالي الناهب والقطب الملحد الاشتراكي والشيوعي، وأن يحترموا الملكية والثروة المشروعة في إطار الحدود الإسلامية. وازرعوا الثقة في نفوس المواطنين كي توظف الأموال في النشاطات البناءة، ولتساهم في دفع الحكومة والبلاد إلى الاكتفاء الذاتي وفي تطوير الصناعات الخفيفة والثقيلة. وأوصي الأثرياء وأصحاب الأموال المشروعة أن يوظفوا أموالهم المشروعة في النشاطات المثمرة وفي المزارع والأرياف والمصانع، فتلك عبادة عظيمة. وأوصي الجميع بالسعي من أجل رفاه الطبقات المحرومة. إذ خير دنياكم وأخراكم في الاهتمام بحال محرومي المجتمع الذين كانوا طوال تاريخ سيطرة النظام الشاهي وسيطرة الإقطاعيين في مشقة وعذاب. وما أحسن تطوّع ذوي اليسار لبناء مساكن لسكنة الأكواخ والصرائف وتوفير سبل الرفاه لهم.وليثقوا أن في ذلك خير الدنيا والآخرة. وليس من الإنصاف أن يفتقد فرد المأوى وأن يمتلك فرد آخر الأبنية السكنية» (الوصية، ص 54 – 55).
تلخيص واستنتاج
المحور العام المشترك في كل مقاطع وصية الامام الراحل هو دفع الأمة المسلمة نحو العزّة والكرامة.
رؤية الإمام ــ كما تُستنبط من الوصية ــ أن عزّة الإنسان لا تتحق بشكلها الحقيقي إلا في ظل النظام الإلهي. فالدولة التي تقوم على أساس الحركة نحو الله هي القاعدة الوحيدة للعزّة، ولا عزّة بدونها. فبفضل هذه الدولة تُصان كرامة الإنسان من عدوان الطواغيت، وفي ظل هذه الدولة تتحقق مسيرة المجتمع البشري نحو كماله المنشود، وفي إطار هذه الدولة تتفجر الطاقات الخلاقة الخيّرة للإنسان. لذلك كانت من أعظم أهداف الرسالات السماوية.
وهذه الظاهرة الإلهية ــ كما يسميها الإمام ــ يجب أن تتوافر فيها كل الظروف التي تصون مسيرة العزّة من الانحراف على الصعيد السياسي، والعسكري، والتربوي، والإعلامي، والحكومي، والقيادي، والقضائي، والتنفيذي.
كل ما في هذه الدولة يجب أن يتجه إلى ما هو «معروف» وإلى رفض ما هو «منكر»، لهذا عاش الإمام، وعلى هذا مات، وانتقل إلى ربه بفؤاد وادع،وقلب مطمئن، ونفس مبتهجة، لأنه أدّى ما عليه، وترك مسؤولية مواصلة الطريق على كل فرد من أبناء الأمة الإسلامية.
مصدر: وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي