
قال علي بن الحسين (عليهما السلام)العقل دليل الخير و الهوى مركب المعاصي والفقه وعاء العمل و الدنيا سوق الآخرة و النفس تاجرة والليل و النهار رأس المال و المكسب الجنة و الخسران النار هذا و الله التجارة التي لا تبور و البضاعة التي لا تخسر و قال مثله (صلی الله عليه وآله وسلم)وسوق الفائزين من شيعته و شيعة آبائه و أبنائه (عليهم السلام)و لقد جمع الله هذا كله بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ و قال سبحانه و تعالى رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ و قال تعالى فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ و قال تعالى وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً .
و قال أمير المؤمنين (عليه السلام)إن الله تعالى جعل الذكر جلاء للقلوب تسمع به بعد الوقرة و تبصر به بعد الغشوة و تقاد به بعد المعاندة و شرح الله عزت أسماؤه في البرهة بعد البرهة و في أزمان الفترات صدور عباد ناجاهم في قلوبهم و كلمهم في ذات عقولهم فأصبحوا بنوره يقظة في الأسماع و الأبصار و الأفئدة يذكرون بأيام الله يخوفون مقامه بمنزلة الأدلة في القلوب فمن أخذ القصد حمدوا إليه الطريق و بشروه بالنجاة و من أخذ يمينا و شمالا لزموا إليه الطريق و حذروه من الهلكة كانوا لذلك مصابيح تلك الظلمات و أدلة تلك الشبهات و أن المذكر أهلا أخذوه بدلا من الدنيا فلم تشغلهم تجارة و لا بيع عنه يقطعون به أيام الحياة و يهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماء الغافلين يأمرون بالمعروف و يأتمرون به و ينهون عن المنكر و يتناهون عنه فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة و هم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك و كأنما اطلعوا على عيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه و حققت القيامة عليهم عذابها فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس و يسمعون ما لا يسمعون فلو مثلتهم بعقلك في مقاماتهم المحمودة و مجالسهم المشهودة قد نشروا دواوين أعمالهم ففزعوا للحساب على كل صغيرة و كبيرة أمروا فيها فقصروا عنها أو نهوا عنها ففرطوا فيها و حملوا أوزارهم على ظهورهم فضعفوا عن الاستغلال بها فنشجوا نشيجا و تجاوبوا نجيبا يعجون إلى الله من مقام ندم و اعتراف بذنب لرأيت أعلام هدى و مصابيح دجى قد حفت بهم الملائكة و نزلت عليهم السكينة و فتحت لهم أبواب السماء و أعدت لهم مقاعد الكرامات في مقعد اطلع الله عليهم فيه فرضي سعيهم و حمد مقامهم يتنسمون بدعائه روح التجاوز رهائن فاقة إلى فضله و أسارى ذلة لعظمته جرح طول الأذى قلوبهم و أقرح طول البكاء عيونهم لكل باب رغبة إلى الله منهم يد تارعة يسألون من لا تضيق لديه المنادح و لا يخيب عليه السائلون فحاسب نفسك لنفسك فإن غيرها من النفوس لها حسيب غيرك.
و روي عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)قال ارتعوا في رياض الجنة فقالوا و ما رياض الجنة فقال الذكر غدوا و رواحا فاذكروا و من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل الله العبد من نفسه ألا إن خير أعمالكم و أذكارها عند مليككم و أرفعها عند ربكم في درجاتكم و خير ما اطلعت عليه الشمس ذكر الله سبحانه و تعالى و قد أخبر عن نفسه فقال أنا جليس من ذكرني و أي منزلة أرفع منزلة من جليس الله تعالى و روي أنه ما اجتمع قوم يذكرون الله تعالى إلا اعتزل الشيطان عنهم و الدنيا فيقول الشيطان للدنيا أ لا ترين ما يصنعون فتقول الدنيا دعهم فلو قد تفرقوا أخذت بأعناقهم و قال (صلی الله عليه وآله وسلم)يقول الله تعالى من أحدث و لم يتوضأ فقد جفاني و من أحدث و توضأ و لم يصل ركعتين و لم يدعني فقد جفاني و من أحدث و توضأ و صلى ركعتين و دعاني فلم أجبه فيما يسأل عن أمر دينه و دنياه فقد جفوته و لست برب جاف و روي أنه إذا كان آخر الليل يقول الله تعالى هل من داع فأجيبه هل من سائل فأعطيه سؤاله هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوب عليه .
و روي أن الله تعالى أوحى إلى داود (عليه السلام)يا داود من أحب حبيبا صدق قوله و من أنس بحبيب قبل قوله و رضي فعله و من وثق بحبيب اعتمد عليه و من اشتاق إلى حبيب جد في المسير إليه يا داود ذكري للذاكرين و جنتي للمطيعين و زيارتي للمشتاقين و أنا خاصة للمحبين .
و قال (عليه السلام)على كل قلب خادم من الشيطان فإذا ذكر الله تعالى خنس و إذا ترك الذكر التقمه فجذبه و أغواه و استنزله و أطغاه و روى كعب الأحبار قال أوحى الله إلى نبي من أنبيائه إن أردت أن تلقاني غدا في حظيرة القدس فكن ذاكرا غريبا محزونا مستوحشا كالطير الوحداني الذي يطير في الأرض المقفرة و يأكل من رءوس الأشجار المثمرة فإذا جاءه الليل أوى إلى وكره و لم يكن مع الطير استيحاشا منه و استيناسا بربه .
و قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)إن الملائكة يمرون على مجالس الذكر فيقفون على رءوسهم و يبكون لبكائهم و يؤمنون على دعائهم و إذا صعدوا إلى السماء يقول الله تعالى ملائكتي أين كنتم و هو أعلم بهم فيقولون ربنا أنت أعلم كنا حضرنا مجلسا من مجالس الذكر فرأيناهم يسبحونك و يقدسونك و يستغفرونك يخافون نارك و يرجون ثوابك فيقول سبحانه أشهدكم أني قد غفرت لهم و آمنتهم من ناري و أوجبت لهم جنتي فيقولون ربنا تعلم أن فيهم من لم يذكرك فيقول سبحانه قد غفرت له بمجالسة أهل ذكري فإن الذاكرين لا يشفي بهم جليسهم و روي عن بعض الصالحين أنه قال نمت ذات ليلة فسمعت هاتفا يقول أ تنام عن حضرة الرحمن و هو يقسم الجوائز بالرضوان بين الأحبة و الخلان فمن أراد منا المزيد فلا ينام ليله الطويل و لا يقنع من نفسه بالقليل .
و قال كعب الأحبار مكتوب في التوراة يا موسى من أحبني لم ينسني و من رجا معروفي ألح في مسألتي يا موسى لست بغافل عن خلقي و لكن أحب أن تسمع ملائكتي ضجيج الدعاء و ترى حفظتي تقرب بني آدم إلي بما أنا مقويهم عليه و مسببه لهم يا موسى قل لبني إسرائيل لا تبطرنكم النعمة فيعاجلكم السلب و لا تغفلوا عن الذكر و الشكر فتسلبوا النعم و يحل بكم الذل و ألحوا بالدعاء تشملكم الإجابة و يهنئكم النعمة بالعافية و جاء في قوله تعالى اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قال يطاع فلا يعصى و يذكر فلا ينسى و يشكر فلا يكفر و قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)لأبي ذر يا أبا ذر أقلل من الشهوات يقلل عليك الفقر و أقلل من الذنوب يخفف عليك الحساب و اقنع بما أوتيته يسهل عليك الموت و قدم مالك أمامك يسرك اللحاق به و انظر العمل الذي تحب أن يأتيك الموت و أنت عليه فاعمله و لا تتشاغل عما فرض عليك بما ضمن لك و أسع لملك لا زوال له في منزل لا انتقال عنه .
حال المؤمن عند موته
قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)إن المؤمن إذا حضره الموت جاءت إليه ملائكة الرحمن بجريدة بيضاء فيقولون لنفسه اخرجي راضية مرضية إلى روح و ريحان و رب غير غضبان فتخرج كالطيب من المسك حتى يتناولها بعض من بعض فينتهي بها إلى باب السماء فيقول سكانها ما أطيب رائحة هذه النفس و كلما صعدوا بها من سماء إلى سماء قال أهلها مثل ذلك حتى يؤتى بها إلى الجنة مع أرواح المؤمنين فتستريح من غم الدنيا و أما الكافر فتأتيه ملائكة العذاب فيقولون لنفسه اخرجي كارهة مكروهة إلى عذاب الله و نكاله و رب عليك غضبان قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)أ ما ترون المحتضر يشخص ببصره قالوا بلى قال يتبع بصره نفسه .و قال النبي ما من بيت إلا و ملك الموت يأتيه في كل يوم خمس مرات فإذا وجد الرجل قد انقطع أجله و نفد أكله ألقي عليه غم الموت فغشيته كرباته و غمرته غمراته فمن أهل بيته الناشرة شعرها و الضاربة وجهها و الباكية شجوها و الصارخة بويلها فيقول ملك الموت ويلكم فما الجزع و الفزع و الله ما أذهبت لواحد منكم رزقا و لا قربت له أجلا و لا أتيته حتى أمرت و لا قبضت روحه حتى استأمرت و إن لي فيكم عودة ثم عودة حتى لا يبقى منكم أحد ثم قال و الذي نفسي بيده لو يرون مكانه و يسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم و لبكوا على نفوسهم حتى إذا حمل الميت في نعشه رفرفت روحه فوق نعشه تنادي يا أهلي و يا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي مال جمعته من حلة و من غير حلة و خلفته لكم فالمهنأ لكم و التبعة علي فاحذروا مثل ما قد نزل بي و لقد أحسن القائل شعرا :
لقد لهوت و حد الموت في طلبي *** و إن في الموت لي شغلا عن اللعب
لو شمرت فكرتي فيما خلقت *** له ما اشتد حرصي على الدنيا و لا طلبي
و قال الوراق :
أبقيت مالك ميراثا لوارثه *** فليت شعري ما أبقى لك المال
القوم بعدك في حال يسرهم *** فكيف بعدهم حالت بك الحال
ملوا البكاء فما يبكيك من أحد *** و استحكم القيل في الميراث و القال
آنستهم العهد دنيا أقبلت لهم *** و أدبرت عنك و الأيام أحوال
و قال آخر :
هون الدنيا و ما فيها عليك *** و اجعل الهم لما بين يديك
إن هذا الدهر يدنيك إلى *** ملك الموت و يدنيه إليك
فاجعل العدة ما عشت له *** إنه يأتيك إحدى ليلتيك
و قال سلمان ره أضحكني ثلاث و أبكاني ثلاث غافل و ليس بمغفول عنه و ضاحك ملاقيه و الموت يطلبه و مؤمل الدنيا و لا يدرى أجله و أبكاني فراق الأحبة و هول المطلع و الوقوف بين يدي الله تعالى لا أدري أ ساخط هو أم راض و اعلموا رحمكم الله إنما يتوقع الصحيح سقما يرديه و موته من البلاء يدنيه فكأنه لم يكن في الدنيا ساكن و إليها راكن نزل به الموت فأصبح بين أهله و ولده لا يفهم كلاما و لا يرد سلاما قد اصفر وجهه و شخص بصره و حشرج صدره و يبس ريقه و اضطربت أوصاله و قلقت أحشاؤه و الأحبة حوله يرى و لا يعرف و يسمع فلا يرد و ينادي فلا يجيب خلف القصور و خلت منه الدور و حمل إلى أعناق الرجال يسرعون به إلى محل الأموات و دار الخسران و بيت الوحدة و الغربة و الوحشة ثم قسموا أمواله و سكنوا داره و تزوجوا أزواجه و حصل هو برمسه فرحم الله من جعل الهم هما واحدا و أكل قوته و أحسن عمله و قصر أمله و روي أنه إذا حمل عدو الله إلى قبره نادى إلى من تبعه يا إخوتاه احذروا مثل ما قد وقعت فيه إني أشكو دنيا غرتني حتى إذا اطمأننت إليها وضعتني و أشكو إليكم إخلاء الهوى إذا وافقتهم تبرءوا مني و خذلوني و أشكو إليكم أولاد آثرتهم على نفسي و أسلموني و أشكو إليكم مالا كدحت في جمعه في البر و البحر و قاسيت الأهوال فأخذه أعدائي و صار وبالا علي و عاد نفعه لغيري و أصبحت مرتهنا به و أشكو إليكم بيت الوحدة و الوحشة و الظلمة و المساءلة عن الصغيرة و الكبيرة فاحذروا مثل ما قد نزل بي فوا طول بلائي و عظيم عنائي ما لي من شفيع و لا حميم .
و كان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)إذا دخل الجبانة يقول السلام عليكم أيها الأبدان البالية و العظام النخرة التي خرجت من الدنيا بحسراتها و حصلت منها برهنها اللهم أدخل عليهم روحا منك و سلاما منا و منك يا أرحم الراحمين و قال عبد الله الجرهمي و كان من المعمرين تبعت يوما جنازة فخنقتني العبرة فأنشدت شعرا :
يا قلب إنك في الدنيا لمغرور *** فاذكر و هل ينفعن اليوم تذكير
فبينما المرء في الأحياء مغتبطا *** إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه *** و ذو قرابته في الحي مسرور
فاسترزق الله خيرا ثم ارض به *** فبينما العسر إذ دارت مياسير
و قال رجل من أصحاب الجنازة تعرف لمن هذا الشعر فقلت لا و الله فقال هو لصاحب هذه الجنازة و أنت غريب و تبكي عليه و أهله مسرورون بتركته فقال أبو العتاهية شعرا :
أرى الدنيا تجهز بانطلاق *** مشمرة على قدم و ساق
فلا الدنيا بباقية لحي *** و لا حي على الدنيا بباق
و قال بعضهم محلة الأموات أبلغ العظات فزوروا القبور و اعتبروا النشور و رئي بعضهم يدخل المقبرة ليلا فينادي و يقول يا أهل القبور من أنتم ثم يجيب عن نفسه نحن الآباء و الأمهات و الإخوة و الأخوات نحن الأحباب و الجيران نحن الأصدقاء و الإخوان نحن الأحبة و الخلان طحننا البلى و أكلنا الثرى و أنشد بعضهم و قال :
خمدوا و ليس يجاب من ناداهم *** هم موتى و كيف إجابة الموت
و قال البراء بن عازب بينما نحن مع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)إذ أبصر بجنازة تدفن فبادر إليها مسرعا حتى وقف عليها ثم بكى حتى بل ثوبه ثم التفت إلينا فقال يا إخوتي لمثل هذا فليعمل العاملون احذروا هذا و اعملوا له و كتب بعضهم إلى ملك يعظه أيها الملك اعدل برعيتك و ارحم من تحت يديك و لا تتجبر عليهم و لا تعل قدرك و لا تنس قبرك الذي هو منتهى أمرك فإن الموت يأتيك و إن طال عمرك و الحساب أمامك و القيامة موعدك و قد كان هذا الأمر الذي أنت فيه بيد غيرك فلو بقي له لم يصل إليك و سينتقل عنك كما انتقل عنه و أنه لا يبقى لك و لا تبقى له فقدم لنفسك خيرا تجده محضرا و تزود من دار الغرور لدار الفرح و السرور و اعتبر بمن كان قبلك ممن خزن الأموال و جدد الإقلال و جمع الرجال فلم يستطع دفع المنية و لا رد الرزية فلا تغتر بدنيا دنية لم يرضها الله جزاء لأوليائه و لا عذابا لأعدائه و اعتبر بقوله القائل شعرا :
و كيف يلذ العيش من كان موقنا *** بأن المنايا بغتة ستعاجله
و كيف يلذ النوم من كان مؤمنا *** بأن إله الخلق لا بد سائله
و كيف يلذ العيش من كان صائرا *** إلى جدث يبلي الثياب منازله
و كيف يلذ النوم من أثبتوا له *** مثاقيل أوزان الذي هو فاعله
منبع مقاله :
ارشاد القلوب 59- 65 / الشيخ أبي محمد الحسن بن محمد الديلمي
/ج