
فطرت العقول علی أن تستعمل مقدمات حقيقية يقينية لاستنتاج المعلومات التصديقية الواقعية، فالحاضر لا يمكنه الوقوف على حقيقة إلا بالرجوع القهقرى.
وبتحليل الحوادث التاريخية للحصول على أصول القضايا وأعراقها. فعند الأصول ترى النتيجة على مرآة المقدمة، ولأن حركة التاريخ على صفحتها الصالح والطالح ويصنع أحداثها المحسن والمسئ.
فلا بد من تحديد الدوائر والخطوط بدقة ليظهر أصحاب كل طريق، وظهور هؤلاء على صفحة الحاضر لا يتحقق إلا بعرض حركتهم في أحداث الماضي على قاعدة العلم، ولأن التشريع الديني والتقنين الإلهي هو الذي بني على علم فقط دون غيره، فلا بد من عرض الحركة البشرية على هذا التشريع والتقنين، فعلى قاعدة العلم تظهر حقيقة العمل، والقرآن الكريم قارن العلم بالعمل لتظهر الحقيقة عند المقدمة. ولا يحدث الالتباس أمام الباحث عند النتيجة.
ولكي تحصل على الحقيقة فلا بد من النظر في المقدمة الأزلية التي عندها بدأ الخلق، فلهذا نرى العلم الذي عليه حددت الحركة، وبعد النظر في المقدمة الأزلية نتدفق على المسيرة البشرية، لنبحث عن استقامة الفكر والحركة. وخلوصهما من شوائب الأوهام الحيوانية والإلقاءات الشيطانية.
للإنسان مهمة. ومهمته عبادة الله تعالى. قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (1) والمعنى: أي إنما خلقتهم لأمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم (2). وحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلة والعبودية وتوجيه وجهه إلى مقام ربه (3). ولأن العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة.
جهز الله تعالى الإنسان بالفطرة وجعل ينبوع دينه سبحانه فطرة الإنسان نفسه، وقضى تعالى بأن تكون الفطرة ضمن النسيج الإنساني لا تتبدل ولا تتغير أبدا، لتكون حجة بذاتها على الإنسان يوم القيامة، وينبوع الدين في الفطرة يشهد به قوله تعالى: (وإذ أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا.
أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) (4). قال المفسرون: إجتمعوا هناك جميعا وهم فرادى، فأراهم الله ذواتهم المتعلقة بربهم، وأشهدهم على أنفسهم (ألست بربكم).
وهو خطاب حقيقي لهم وتكليم إلهي لهم. وهم يفهمون مما يشاهدون أن الله سبحانه يريد منهم الاعتراف وإعطاء الموثق (قالوا بلى شهدنا).
وأعطوه الاقرار بالربوبية. فتمت له سبحانه الحجة عليهم يوم القيامة.
وإن كانوا في نشأة الدنيا على غفلة إلا أنهم إذا كان يوم البعث عادوا إلى مشاهدتهم ومعاينتهم وذكروا ما جرى بينهم وبين ربهم، ولو لم يفعل الله تعالى هذا ولم يشهد كل فرد على نفسه. لأقاموا جميعا الحجة عليه يوم القيامة. بأنهم كانوا غافلين في الدنيا عن ربوبيته. ولا تكليف على غافل ولا مؤاخذة (5).
فعلى هذه الفطرة يولد الإنسان. قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) " كل مولود يولد على الفطرة " يعني على المعرفة بأن الله عز وجل خالقه (6) ولما كانت المعرفة قد ثبتت عند المقدمة ونسي الإنسان الموقف في الدنيا وسيذكره في الآخرة، فإن الله سبحانه قد أقام على الإنسان الحجج في الدنيا لقوله على ما ثبت عند المقدمة. وتكون زادا له في سلوكه نحو الآخرة.
ومن هذه الحجج ما هو ضمن النسيج الإنساني. قال تعالى:
(ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين)(7) قال في الميزان: أي جهزنا الإنسان في بدنه بما يبصر به فيحصل له العلم بالمرئيات على سعة نطاقها، وجعلنا له لسانا وشفتين يستعين بهما على التكلم والدلالة على ما في ضميره من العلم، وعلمناه طريق الخير وطريق الشر بإلهام منا فهو يعرف الخير ويميزه من الشر. قال تعالى:
(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) (8). قال في الميزان: أي إنه تعالى عرف الإنسان صفة فعله من تقوى أو فجور، وميز له ما هو تقوى مما هو فجور (9).
ومن هذه الحجج أيضا ما هو تحت سقف الكون الواسع.
وجميعها تدعو الإنسان للتقوى في التفكر والتذكر والتعقل للحصول على استقامة الفكر وإصابة العلم. قال تعالى: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) (10).
إن للإنسان هدف وغاية. وكليات دين الله موجودة في فطرة الإنسان. ولا تبدل الفطرة أبدا لأنها حجة بذاتها وإنما يخطئ الإنسان في استعمالها، وعدم الانتباه إلى نداءات الفطرة يؤدي إلى فساد دين الإنسان الفطري. وعندما يفسد الدين لا تتعادل القوى الحسية الداخلية للإنسان. وينتج عن هذا أنه يتبع في عقيدته ما يزينه له الشيطان في الخارج.
المصادر :
1- سورة الذاريات آية 56
2- تفسير ابن كثير 238 / 4
3- تفسير الميزان 388 / 18
4- سورة الأعراف آية 172
5- الميزان 325 / 8
6- المصدر السابق 330 / 8
7- سورة البلد آية 7 - 10
8- سورة الشمس آية 6
9- الميزان 296 / 20
10- سورة لقمان آية 11
/ج