الاسلام وأهل الكتاب

کانت المادیات تسود الساحة في الجزیرة العربية على أعتاب الدعوة الإلهية الخاتمة. التي لا يريد أصحابها إلا الحياة الدنيا وزينتها. ولا يرجون بعثا ولا نشورا. ولا يعبأون بشئ من الفضائل المعنوية والروحية، وفي مقابل أصحاب المادة. رفع
Monday, January 19, 2015
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
الاسلام وأهل الكتاب
 الاسلام وأهل الكتاب

 






 

کانت المادیات تسود الساحة في الجزیرة العربية على أعتاب الدعوة الإلهية الخاتمة. التي لا يريد أصحابها إلا الحياة الدنيا وزينتها. ولا يرجون بعثا ولا نشورا. ولا يعبأون بشئ من الفضائل المعنوية والروحية، وفي مقابل أصحاب المادة. رفع دعاة الروح أعلامهم.
وانطلقوا في مسيرة يرفضون فيها الكمالات الجسمية التي أظهرها الله تعالى في مظاهر النشأة المادية. لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لأجله الإنسان، وسارت القافلة البشرية تحت هذه الأعلام التي لا تحقق السعادة في الدنيا، لأن حملة الأعلام المادية أبطلوا النتيجة بالوقوف على سببها والجمود عليه، وحملة أعلام الروح أبطلوا النتيجة بإبطال سببها.

كانت المسيرة البشرية في حاجة وسط يقف بين الطرفين.

ويقودهما إلى الهدف الذي من أجله خلق الله الإنسان، وسط لا إلى هذا الطرف ولا إلى ذاك الطرف. وإنما يقف بين الجانبين جانب الجسم
وجانب الروح، وبه يقاس ويوزن كل من طرفي الافراط والتفريط، ليكون شهيدا على سائر الناس الواقعة في الأطراف.
ومن لطف الله تعالى ورحمته بالعباد، بعث سبحانه النبي الخاتم، النبي الأمي العربي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليقود أمة تحمل للبشرية دينا يهدي الناس إلى وسط الطرفين. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

الدعوة إلى التوحيد الحق:

توجهت الدعوة الإلهية الخاتمة إلى البشرية كافة، وأن أهل الكتاب بينهم من يعرفون الحق ومعارف الدين، وفيهم رهبان وزهاد يعرفون عظمة ربهم ولا يستكبرون، وفيهم الباحث عن الحقيقة، توجهت الدعوة إليهم من طرق عديدة لتحيطهم بالحجة من كل مكان.
وبين الله تعالى لهم أن رسوله الخاتم (صلی الله عليه وآله وسلم). هو النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وقال تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من إتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه وبهديهم إلى صراط مستقيم) (1)، والمعنى: أن الرسول يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه وافتروا على الله فيه، ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه، وأن دعوته تدعو إلى الصراط المستقيم المهيمن على الطرق كلها.
ونظرا لأن مسيرة اليهود رشحت عليها عقائد الأمم الوثنية، وحمل التوحيد على امتداد مسيرتهم بصمات الآلهة المتعددة، حتى صار الإله في نهاية المطاف إلها خاصا ببني إسرائيل دون غيرهم من الأمم، ونظرا لأن الأحبار والرهبان بدلوا الدين الذي بعث به عيسى عليه السلام، ونسبوا إلى المسيح ما لا يجوز وقالوا بألوهيته، وأطاعتهم القافلة النصرانية من غير قيد وشرط، فإن الدعوة الخاتمة صححت هذه المفاهيم في أكثر من آية، ومنها قوله تعالى لرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) (2)، والمعنى: تعالوا إلى كلمة عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسر هذه الكلمة بقوله " أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، لا وثنا ولا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا نارا ولا شئ، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة كل الرسل منذ ذرأ الله ذرية آدم، ثم قال (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله)، أي لا يسجد بعضنا لبعض، أو يطيع بعضنا بعضا في معصية الله، أو نحرم الحلال ونحل الحرام، فنحن وأنتم ما أمرنا إلا لنعبد الله وحده، الذي إذا حرم شئ فهو الحرام. وما حلله فهو الحلال. وما شرعه إتبع. وما حكم به نفذ.
تعالى الله سبحانه وتقدس وتنزه عن الشركاء. والنظراء. والأعوان.
والأضداد. لا إله إلا هو ولا رب سواه، فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة، فاشهدوا أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم.

الدعوة إلى اتباع قبلة الرسالة الخاتمة:

عندما بعث النبي الخاتم (صلی الله عليه وآله وسلم)، كان الاختلاف بين اليهود على تحديد القبلة اختلاف ثابتا لا شك فيه، ونسيانهم للجبل المقدس الذي يجب أن يتوجهوا إليه. نسيان مسطور فيما بين أيديهم من كتاب، قال أشعيا وهو يحذرهم بأن الرب قال لهم " أما أنتم الذين تركوا الرب ونسوا جبل قدسي فإني أعينكم للسيف " (3). وهذا النسيان ترى معالمه على التوراتين: السامرية والعبرية، فبينما تقول التوراة السامرية أن القبلة في اتجاه جبل " جرزيم "، تقول التوراة العبرانية إنها في اتجاه جبل " عيبال "، والمسيح عليه السلام شهد بوجود هذا الاختلاف في عهد بعثته، وبشرهم بأن العبادة لن تكون في المستقبل لا في اتجاه هذا الجبل ولا في اتجاه أورشاليم، وذلك لأن الله سينزع من أيديهم القيادة ويسلمها إلى شعب آخر (4). وما ذكره المسيح عليه السلام بخصوص القبلة، جاء عندما كان متوجها إلى أورشاليم، فقالت له امرأة سامرية " يا سيدي أرى إنك نبي، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون أن في أورشاليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه، فأجابها يسوع: صدقيني يا امرأة ستأتي الساعة التي فيها تعبدون الآب لا في هذا الجبل ولا في أورشاليم " (5). وقبل البعثة الخاتمة. لم يكن في أورشاليم هيكلا. بعد أن دمر الإمبراطور تيطس آخر هيكل عام 75 ميلادية، ولم يكن في أورشاليم حاخامية لليهود. بعد أن ألغى الإمبراطور ثيودوسيوس الحاخامية عام 435 ميلادية وترتب على ذلك تفرق اليهود في الأرض.
ولما كانت الدعوة الإلهية المتوجهة إلى بني إسرائيل قد نزل عليها الستار بعد بعثة عيسى عليه السلام، لأنه آخر أنبياء بنو إسرائيل عليهم السلام، ولما كان عيسى عليه السلام يسجد لله في اتجاه أورشاليم، ولما كانت الدعوة الإلهية اللاحقة تبدأ من حيث انتهت الدعوة الإلهية التي سبقتها، باعتبار أن الدعوة الإلهية للناس منذ ذرأ الله ذرية آدم دعوة واحدة، صراطها واحد وغاياتها واحدة، فتبدأ دعوة اللاحق من الرسل من حيث انتهت دعوة السابق من الرسل، ثم يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، ويكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، لأنه تعالى له الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، ولما كان أهل الكتاب يعلمون من كتب أنبيائهم أن الدعوة الخاتمة لها صفات خاصة بها، وأنها ستبين لهم ولغيرهم الاتجاه الذي يجب أن يسجد نحوه الناس لله، فإن الله تعالى عندما بعث رسوله الخاتم (صلی الله عليه وآله وسلم). أمره بالتوجه إلى قبلة بيت المقدس، والمعنى الذي يستشف من هذا الحدث هو أن الدعوة الإلهية دعوة واحدة. وأن الحلقات فيها ترتبط بعضها ببعض، وتحت هذا السقف تقام الحجة على الذين اختلفوا في الدين والذين جعلوا الدين دينا خاص بهم، وتحت هذا السقف ينظر الله إلى عباده كيف يعملون. ومن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.
وعندما كانت القبلة في اتجاه بيت المقدس، تدبر في الأحداث الذين يعرفون الحق ومعارف الدين والزهاد من أهل الكتاب وأصغوا لصوت الحق، وتكاتم البعض ذلك بينهم حسدا وكفرا وعنادا، وانطلقوا يصدون عن سبيل الله، وبعد أن أقامت الدعوة حجتها على بني إسرائيل في هذا الأمر، أمر تعالى رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بمكة، وأخبره بأن أهل الكتاب يعلمون أنه الحق من ربهم، قال تعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها. قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا. وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) إلى قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها. فول وجهك شطر المسجد الحرام. وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره. وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون. ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم) (6) قال المفسرون. والمعنى: إنما شرعنا لك يا محمد أولا التوجه إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت. ممن ينقلب على عقبيه، وإن كان صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة لأمرا عظيما في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم. فأيقنوا بتصديق الرسول. وبأن كل ما جاء به هو الحق الذي لا مرية فيه. وبأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وله تعالى أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء. وهذا بخلاف ما يقوله الذين في قلوبهم مرض. فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا، ثم أخبره تعالى بأن صلاتهم إلى بيت المقدس لن يضيع ثوابها عند الله، وأمره تعالى بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام، وأخبره أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أن الله سيوجهه إلى هذه القبلة: مما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسوله الخاتم (صلی الله عليه وآله وسلم). وما خصه الله تعالى به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدا وكفرا وعنادا، وأخبر تعالى أن الرسول لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به، لما اتبعوا قبلته كفرا وعنادا، وإنه لن يتبع قبلتهم لأن ذلك عن أمر الله تعالى. له الحكمة التامة والحجة البالغة، ثم أشار تعالى إلى اختلافهم فيما بينهم في تحديد قبلتهم
القديمة، وهو قوله " وما بعضهم بتابع قبلة بعض "، وأمره تعالى أن يستمسك بأمر الله ولا يتبع أهواءهم في جميع أحواله، وقال جل شأنه (ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين، الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) (7)، والمعنى: أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاء به الرسول، ومن ذلك توجهه شطر المسجد الحرام، كما يعرف أحدهم ولده.
وبالجملة كان التوجه إلى بيت المقدس، ثم صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، امتحان لأهل الكتاب الذين علموا من أبنائهم أن قيادة الدعوة الإلهية ستنتقل من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل. وأن عنوان هذه الدعوة ورسولها هو النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان امتحان أيضا للذين اتبعوا النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) من العرب وغيرهم، لأن صرف التوجه عن بيت المقدس سيثير شكوك البعض، وسيغذي أهل الكتاب والذين في قلوبهم مرض هذه الشكوك وهم يصدون عن سبيل الله، وتحت سقف هذا الامتحان ينظر الله إلى عباده كيف يعملون.

اتباع إبراهيم عليه السلام

بعد عهد السبي تاجر اليهود بالميراث الذي كتبه الله لإبراهيم، وانطلقوا في اتجاه هذا الهدف بالعمل على إقامة مملكة داوود وعاصمتها أورشاليم، بعد أن تبنوا عقيدة تقول أن مملكة داوود هي وعاء للعهد الإبراهيمي، وعلى امتداد مسيرتهم وبخهم الأنبياء على هذا الاعتقاد، فقال لهم حزقيال تقولون " إن إبراهيم كان واحدا وقد ورث الأرض.
ونحن كثيرون لنا أعطيت الأرض ميراثا... تأكلون بالدم وترفعون أعينكم إلى أصنامكم وتسفكون الدم. أفترثون الأرض؟ " (8) وقال لهم يوحنا (يحيى) تقولون " لنا إبراهيم أبا. فإني أقول لكم إن الله قادر أن يطلع من هذه الحجارة أولاد إبراهيم " (9) وقال لهم المسيح عليه السلام " لو كنتم أولاد إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم " وقال " أنتم أولاد أبيكم إبليس. وشهوات أبيكم ترغبون في أن تعملوا. فهو من البدء كان قاتلا للناس " (10).
وعندما بعث النبي الخاتم (صلی الله عليه وآله وسلم)، تحدث أهل الكتاب بعقيدتهم الخاصة بالميراث، وعملوا على نشر الثقافة التي تصب في وعاء هذه العقيدة، واليهود في مصادر الإسلام أعلنوا أنهم في انتظار المسيح الذي يملكون به الأرض، والنصارى تحدثوا بما وضعه بولس في عقولهم.
وهو أن الأمم شركاء لليهود في الميراث، ووفقا لهذا الاعتقاد بدؤوا في التحرك لوقف تحرك الدعوة الخاتمة في اتجاه الأمم، وشيد اليهود والنصارى صروحهم على إبراهيم عليه السلام، فبينما زعم الحي اليهودي أن إبراهيم كان يهوديا، زعم الحي النصراني أن إبراهيم كان نصرانيا، وفي زحمة هذه الثقافات. قالت اليهود ليست النصارى على شئ، وقالت النصارى ليست اليهود على شئ، وهذه الأقوال والاعتقادات شهد بها القرآن الكريم ورد عليها وأقام على هؤلاء وهؤلاء الحجة الدامغة، ومن هذه الآيات قوله تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه. قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق. يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) (11) والمعنى: لو كنتم كما تدعون أبناؤه وأحباؤه. فلم أعددت لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم " بل أنتم بشر ممن خلق " أي لكم أسوة بأمثالكم من بني آدم وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده. فعال لما يريد لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
وقال تعالى: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا. قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا. وإن تولوا فإنما هم في شقاق)(12) وقبل هذه الآيات بين تعالى أن الدين الحق الذي كان عليه أولاد إبراهيم من إسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده، كان هو الإسلام الذي كان عليه إبراهيم حنيفا، ويستنتج من ذلك أن أهل الكتاب على عهد البعثة الخاتمة، كانوا قد انتهى بهم المطاف إلى أرضية الاختلافات والانشعابات. التي أفرزتها اختراعاتهم وهوساتهم. بعد أن صبغوا دين الله بصبغة الأهواء والأغراض والمطامع، وروي أن اليهودي عبد الله بن صوريا قال للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم): ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك (13). فقال الله لرسوله (قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) أي: قل بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا. فإنها الملة الواحدة التي كان عليها جميع أنبيائكم. وما كان صاحب هذه الملة وهو إبراهيم من المشركين.
ثم ذكر لهم أن الدعوة الخاتمة تؤمن بالله وما أنزل إليها وهو القرآن وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ثم ذكر ما أوتي موسى وعيسى وخصهما بالذكر لأن المخاطبة مع اليهود والنصارى، ثم ذكر ما أوتي النبيون من ربهم لتشمل الشهادة جميع الأنبياء فيستقيم قوله بعد ذلك " لا نفرق بين أحد منهم ". ثم قال تعالى:
(فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا) أي. فإن آمنوا بما آمنتم به من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه.
من الآيات السابقة يمكن أن نستشف الثقافة التي كان اليهود والنصارى يبثونها على عهد الرسالة الخاتمة. فلقد ادعوا بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، ويبدو أن القرآن عندما ضرب العمود الفقري لثقافتهم هذه، قرروا بأن يعمل كل حي من أحيائهم على إنفراد، ويمكن أن نستشف ذلك من قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب) (14) قال المفسرون: هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى، ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه مع علمهم بخلاف ذلك، ولهذا قال تعالى: (وهم يتلون الكتاب) أي وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت، ولكنهم تجاحدوا فيما بينهم عنادا وكفرا ومقابلة للفاسد بالفاسد (15)، وبالجملة: قد كان أوائل اليهود والنصارى على شئ، وهذا لا تخلو منهم كتبهم لإقامة الحجة عليهم على امتداد المسيرة، ثم ابتدع الذين من بعدهم وتفرقوا، ثم جاء العلماء الذين وضعوا التفسير الشفهي للتوراة (التلمود) وعنده انقسم اليهود إلى فرق وأحزاب، وانتهى الأمر بأن وقف الحي اليهودي داخل دائرة حددها الأحبار، ووقف الحي النصراني داخل دائرة حددها بولس لخدمة أصحاب الدائرة الأولى، فالثقافة التي تخرج من مدونات خدمة النصارى لليهود تقول بأن اليهود والنصارى أبناء الله وأحباؤه، أما الثقافة التي يقول كل منهم أن الآخر ليس على شئ، فهي نتيجة لحجة البعثة الخاتمة ومواجهتها للأطراف مجتمعين، فالدعوة الخاتمة أرشدتهم إلى الحق ليتفكروا ويتدبروا، وبدلا من أن يرجعوا إلى كتبهم التي لا تخلو من حق ويعرضونها على منهج البعثة الخاتمة، إنطلقوا من التفسير الشفهي وهذا التفسير لا يقيم حقا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لأنه مقابلة للفاسد بالفاسد.
وفي مجال عمل كل حي منفردا عن الآخر. قام كل منهما بوضع جميع الأنبياء داخل الحي الخاص به، ورد القرآن عليهم قولهم، قال تعالى: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله، ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون) (16)، والمعنى: قال كل من الفريقين إن إبراهيم ومن ذكر بعده منهم، فقال تعالى: (قل أأنتم أعلم أم الله)، أي فإن الله أخبرنا وأخبركم في الكتاب أن موسى وعيسى وكتابهما بعد إبراهيم. فإذا كان تشريع اليهودية أو النصرانية بعد إبراهيم ومن ذكر معه، فكيف يكون إبراهيم والذين ذكروا معه هودا أو نصارى؟
وقال تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين، ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم. وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون، با أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون. يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) (17).
لقد أنكر الله عليهم قولهم ذلك، وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها، وشهد سبحانه بأن إبراهيم كان متحنفا عن الشرك قاصدا إلى الإيمان وما كان من المشركين، وأخبر سبحانه بأن أحق الناس بمتابعة إبراهيم. الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي. يعني محمدا (صلی الله عليه وآله وسلم) والذين آمنوا. لأنهم على الإسلام الذي اصطفى الله به إبراهيم، وكذا كل من اتبعه دون أن يكفر بآيات الله ويلبس الحق بالباطل، ثم أخبر تعالى بأن طائفة من أهل الكتاب تود أن تضل الذين آمنوا بإلقاء الشبهات بينهم، وإنهم يضلون أنفسهم أولا. لأن الإنسان لا يفعل شيئا من خير أو شر إلا لنفسه كما قال تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد) (18)، ثم قال سبحانه (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون) وأهل الكتاب لا ينكرون أن للعالم إلها، وإنما ينكرون أمورا من الحقائق بينتها لهم الكتب السماوية المنزلة عليهم وعلى غيرهم، كنبوة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)، وكون عيسى عبدا لله ورسولا منه، وأن إبراهيم ليس بيهودي ولا نصراني، وإن يد الله مبسوطة، وإن الله غني، وإن الدجال فتنة فيه تصب جميع الفتن، إلى غير ذلك. وقوله تعالى: (وأنتم تشهدون) والشهادة هو الحضور والعلم عن حس، دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله. إنكارهم كون النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) هو النبي الموعود الذي بشر به التوراة والإنجيل، مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذكورة فيهما عليه، وأيضا إنكارهم ما يبنيه لهم النبي الخاتم (صلی الله عليه وآله وسلم) من آيات ربهم التي تنطق بها كتبهم. التي بين أيديهم ويشهد القرآن بها، ثم قال تعالى: (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) والمعنى لم تظهرون الحق في صورة الباطل؟ وقوله: (وأنتم تعلمون) دلالة أو تلويح على أن المراد باللبس والكتمان ما هو في المعارف الدينية، غير ما يشاهد من الآيات التي حرفوها أو كتموها أو فسروها بغير ما يراد منها.
ولما كان الله تعالى قد أنكر عليهم كفرهم بآيات الله وهم يشهدون، فإنه تعالى بين في آية أخرى من آيات القرآن الكريم، أن جدالهم في آيات الله بغير سلطان أتاهم، رغبة منهم في إدحاض الحق الصريح بهذا الجدال، قد أوقعهم في فتنة المسيح الدجال، ففي قوله تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير)(19)، أخرج ابن أبي حاتم عن كعب. أن هذه الآية نزلت في اليهود فيما ينتظرونه من أمر الدجال، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قال اليهود. يكون منا ملك آخر الزمان. البحر إلى ركبتيه. والسحاب دون رأسه. يأخذ الطير بين السماء والأرض. معه جبل خبز ونهر، وقال أبو العالية: نزلت هذه الآية في اليهود. وذلك إنهم ادعوا أن المسيح (الدجال) منهم وإنهم يملكون به الأرض، فقال الله لنبيه (صلی الله عليه وآله وسلم) آمرا له: أن يستعذ من فتنة الدجال (20).
وبالجملة بينت الدعوة الإلهية الخاتمة. أن الرقعة التي يقف عليها أهل الكتاب ويطالبون من فوقها الميراث الذي كتبه الله لإبراهيم، رقعة لا علاقة لها بإبراهيم ولا بالأنبياء الذين جاؤوا من بعده، لأنها رقعة أوجدها الاختلافات والانشعابات، وهذا لا يستقيم مع الدين الإلهي، لأن الدين واحد كما أن الإله المعبود بالدين واحد وهو دين إبراهيم عليه السلام، وهذا الدين هو الذي تتمسك به الدعوة الإلهية الخاتمة، ولما كان القوم لا علاقة لهم بإبراهيم، وشهد بذلك حزقيال وأشعيا ويوحنا والمسيح عليه السلام، وشهد بذلك القرآن الكريم الذي أنزل على محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)، فالنتيجة هي أن القوم لا علاقة لهم بميراث إبراهيم في الدنيا والآخرة، ولما كان القوم ما زالوا يعتقدون بأن القدر يخبئ لهم أمير سيخرج آخر الزمان يمتلكون به الأرض. فإن الدعوة الخاتمة أخبرت بأن المسيح الدجال سيخرج آخر الزمان، وأنه سيرفع شعار أرض الميعاد، وأن أكثر أتباعه من اليهود، ويلحق بهم الذين أخذوا بذيول اليهود، ثم الذين اتبعوا سنن أهل الكتاب شبرا بشبر وذراعا بذراع..
المصادر :
1- سورة المائدة آية 15
2- سورة آل عمران آية 64
3- أشعيا 65 / 11
4- متي 21 / 42 - 45
5- يوحنا 4 / 22
6- سورة البقرة آية 142 - 145
7- سورة البقرة آية 146
8- حزقيال 33 / 23 - 25
9- متي 3 / 7 - 11
10- يوحنا 8 / 37
11- سورة المائدة آية 18
12- سورة البقرة آية 135
13- تفسير ابن كثير 186 / 1
14- سورة البقرة آية 113
15- ابن كثير 155 / 1
16- سورة البقرة آية 140
17- سورة آل عمران آية 65 - 71
18- السجدة آية 46
19- سورة غافر آية 56
20- تفسير ابن كثير 84 / 4، تفسير الميزان 348 / 17



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.