أخبر المسيح عليه السلام تلاميذه بأنهم سيضطهدون وسيطردون خارج المجامع. وإنه سيأتي وقت يظن فيه من يقتلهم أنه يؤدي خدمة لله (1) وفي آخر الدعوة قال المسيح لتلاميذه " حين أرسلتكم بلا صرة مال ولا كيس زاد ولا حذاء. هل احتجتم إلى شئ. فقالوا: لا فقال لهم: أما الآن فمن عنده صرة مال فليأخذها وكذلك من عنده حقيبة زاد. ومن ليس عنده فليبيع رداءه ويشتر سيفا " (2) لقد كان عليه السلام يعدهم للدفاع عن أنفسهم. وكما نزل الستار على أبناء هارون من بعد موسى وهارون. وهم الذين عينتهم الدعوة الإلهية لتفسير الشريعة، وكما ضاعت أصواتهم في ساحات الضوضاء والغوغاء فلم ترى معالمهم في السطور التي احتوتها الأصول، كذلك نزل الستار على تلاميذ المسيح عليه السلام من بعد رفع المسيح، وضاعت أصواتهم على موائد المجامع. ولم تكن لهم معالم في سطور القرارات التي أصدرتها المجامع عبر تاريخها. ولم يعرف من سيرة تلاميذ المسيح عليه السلام إلا ما أخبرت به الدعوة الإلهية الخاتمة. روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " كونوا كأصحاب عيسى. نصبوا على الخشب ونشروا بالمناشير. موت في طاعة خير من حياة في معصية " (3) وبعد اضطهاد الأصحاب جاء العصر الذي اضطهد فيه الأتباع والذين على أثر المسيح. قال تعالى: (قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد...) (4). قال المفسرون:
قيل: كان الأخدود بنجران. وكان بها بقايا قوم على دين عيسى بن مريم، وأراد ملك من ملوك حمير كان قد تهود أن يحملهم على اليهودية ويدخلهم فيها، فجمع من كان بنجران على دين المسيح ثم عرض عليهم دين اليهودية، فأبوا عليه واختاروا القتل. فاتخذ لهم أخدودا وجمع فيه الحطب وأشعل فيه النيران. فمنهم من أحرق بالنار ومنهم من قتل بالسيف، وقوله تعالى: (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله..) أي ما كرهوا من أولئك المؤمنين إلا إيمانهم بالله. فأحرقوهم لأجل إيمانهم. وقيل: أن لأصحاب الأخدود وقائع متعددة وقعت بالحبشة واليمن والعجم والإشارة في الآية إلى جميعها. وذكر ابن كثير أنه في زمن قسطنطين. ألقى النصارى الذين كانوا على دين المسيح عليه السلام في أخدود وقتلوا جميعا بالنار (5). ومن الثابت أن قسطنطين هو الذي دعا إلى مؤتمر نيقية عام 325 م. وهو الذي اعتمد قانون الإيمان النصراني الذي يقول بألوهية المسيح. كما سنبين في موضعه.
وبالجملة: تم اضطهاد وقتل الذين سلكوا سبيل عيسى عليه السلام. ونزل عليهم الستار كما نزل من قبل على أبناء هارون في صدر المسيرة الإسرائيلية. ورغم نزول الستار إلا أن آثار أقدامهم واضحة على امتداد الطريق. لأنها أصل من أصول الدعوة يقام به الحجة على كل من يتدبر في الأصول. وهذا الأصل يقود إلى الدعوة الخاتمة التي جعلها الله حجة على البشرية جمعاء.
بعد حرق الذين آمنوا بالله العزيز الحميد. ظهرت أول رسائل في اللاهوت المسيحي. جاء في تاريخ الكنيسة " إن أقدم رسالة في اللاهوت المسيحي مصدرها بولس " (6) وهذا يعني أن العمود الفقري للنصرانية التي تقول بلاهوت المسيح يعود وضع خميرته ورعاية أعمدته إلى بولس، ويعني أيضا أن المسيرة النصرانية انطلقت منذ ذلك الحين بوقود بولس. بعد أن أقيمت عليهم الحجة على امتداد المسيرة الإسرائيلية وحتى زمن المسيح عليه السلام. بأنه لا إله إلا الله، وإنه سبحانه الأول والآخر والظاهر والباطن، وله وحده ميراث السماوات والأرض وجميع موجودات العالم تنتهي في وجودها وآثارها إليه جل شأنه.
ولما كان بولس تعود إليه الخميرة الأولى للمسيرة المسيحية الحاضرة، فإن البحث يقضي بضرورة إلقاء بعض الضوء عليه وعلى اجتهاداته. فيما يتعلق بالعمل بالشريعة الموسوية والتبشير بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، على إعتبار أن دعوة المسيح عليه السلام كانت تقوم على هذين الاتجاهين.
أولا - " من هو بولس "؟:
يقول بولس عن نفسه " إن اليهود جميعا يعرفون نشأتي من البداية. فقد عشت بين شعبي في أورشاليم منذ صغري. وما داموا يعرفونني من البداية فلو أرادوا لشهدوا. ليشهدوا إنني كنت فريسيا أي تابعا للمذهب الأكثر تشددا في ديانتنا " (7) ويقول " كنت متفوقا في الديانة اليهودية على كثيرين من أبناء جيلي في أمتي. لكوني غيورا أكثر منهم جدا على تقاليد آبائي " (8).ولقد علمنا فيما سبق أن المسيح عليه السلام حذر من الفريسيين ومن خميرهم. أي من تعاليمهم (9). ولقد كان الفريسيون من أشد الناس خطرا على دعوة المسيح على امتداد بعثته وبعدها، وبولس نفسه يشهد بذلك. قال " كنت أعتقد أنه يجب أن أبذل غاية جهدي لأقاوم اسم يسوع الناصري، وقد عملت على تنفيذ خطتي في أورشاليم. بتفويض خاص من رؤساء الكهنة، فألقيت من السجن عددا كبيرا من القديسيين، وكنت أعطي صوتي بالموافقة عندما كان المجلس يحكم بإعدامهم، وكم عذبتهم في المجامع كلها لأجبرهم على التجديف. وقد بلغ حقدي عليهم درجة جعلتني أطاردهم في المدن في خارج البلاد " (10) وقال " كنت أضطهد كنيسة الله متطرفا إلى أقصى حد. ساعيا إلى تخريبها " (11).
ثانيا - " كيفية اعتناق بولس للنصرانية ":
بما أن بولس كان متفوقا في الديانة اليهودية كما ذكر. فإنه كان يعلم بمنزلة هارون وبنيه في الشريعة اليهودية، والراصد لحركة بولس في اتجاه النصرانية. يجد أنه ادعى لنفسه منزلة هارون لتكون مدخله إلى الحي النصراني، وبعد الدخول ادعى لنفسه أن منهجه لم يتسلمه من إنسان بل من الله، وإنه اطلع على السر الذي لم يطلع عليه بنو البشر في الأجيال الماضية، وقال إن النعمة الموهوبة إليه لم تكن عبثا. لأنه عمل جاهدا أكثر من الرسل الآخرين، ومن تحت هذا السقف خرجت عقيدة بولس. لتعمل من أجل ميراث بني إسرائيل الذي لم تفارق ثقافته فرقة الفريسيين أصحاب التفسير الشفهي (التلمود) على امتداد المسيرة، وبولس نفسه يثبت هذا الهدف بعد دخوله إلى الحي النصراني. قال " لي رجاء بأنه يحقق الله ما وعد به آبائنا وما زالت أسباط شعبنا الاثني عشر تواظب على العبادة ليل نهار راجية تحقيقه " (12).ومنزلة هارون جاءت على لسان بولس عندما قال " إن الكاهن الأعلى كان يؤخذ من بين الناس، ويعين للقيام بمهمته نيابة عنهم في ما يخص علاقتهم بالله، وذلك لكي يرفع إلى الله التقدمات والذبائح...
ولم يكن أحد يتخذ لنفسه هذه الوظيفة الشريفة متى أراد، بل كان يتخذها من دعاه الله إليها كما دعا هارون " (13) وعلى هذه الخلفية. ذكر بولس أنه كان في طريقه إلى دمشق لإنجاز مهمة كلف بها. وهي القبض على بعض أتباع المسيح وسوقهم مقيدين إلى أورشاليم، وقال " وفيما هو منطلق إلى دمشق وقد اقترب منها. لمع حوله فجأة نور من السماء فوقع على الأرض. وسمع صوتا يقول له: شاول. شاول. لماذا تضطهدني؟ فسأل: من أنت يا سيد؟ فجاءه الجواب: أنا يسوع الذي أنت تضطهده. والآن قم وأدخل المدينة فيقال لك ما يجب أن تفعله " (14).
وإذا كان بولس قد ذكر هنا أن المسيح أمره بدخول المدينة ليتلقى الأوامر. فإنه ذكر في موضع آخر أن المسيح عينه خادما له وحمله رسالة إلى الأمم. قال " فسألت: من أنت يا سيد؟ فأجاب: أنا يسوع الذي أنت تضطهده، أنهض وقف على قدميك فقد ظهرت لك لأعينك
خادما لي، وشاهدا بهذه الرؤيا التي تراني فيها الآن. وبالرؤى التي ستراني فيها بعد اليوم، وسأنقذك من شعبك ومن الأمم التي أرسلك إليها الآن... " (15) وعلى خلفية منزلة هارون ومشاهدته نور من السماء لمع حوله فجأة، كتب بولس رسائله " من بولس. وهو رسول لا من قبل الناس ولا بسلطة إنسان، بل بسلطة يسوع المسيح " وقال * أيها الأخوة. إن الإنجيل الذي بشرتكم به ليس إنجيلا بشريا، فلا أنا تسلمته من إنسان ولا تلقنته تلقينا، بل جائني بإعلان من يسوع المسيح " (16)، وقال " أن المسيح قد أرسلني لا لأعمد. بل لأبشر بالإنجيل ". وقال " ونعمته الموهوبة لي لم تكن عبثا، إذ عملت جاهدا أكثر من الرسل الآخرين جميعا، إلا أني لم أكن أنا العامل بل نعمة الله التي كانت معي " (17).
ثالثا - " بولس والشريعة ":
على امتداد عهد المسيح عليه السلام. كان يقول " لا تظنوا أني جئت لألغي الشريعة أو الأنبياء. ما جئت لألغي بل لأكمل " (18)، وعندما جاء بولس وقاد المسيرة ألغى الشريعة. قال " كانت الشريعة هي مؤدبنا حتى مجئ المسيح لكي تبرر على أساس الإيمان، ولكن بعد ما جاء الإيمان تحررنا من سلطة المؤدب، فإنكم جميعا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، لأنكم جميع الذين تعمدتم في المسيح قد لبستم المسيح " (19)، وقال " أثبت الله لنا محبته. إذ ونحن ما زلنا خاطئين مات المسيح عوضا عنا، وما دمنا الآن قد تبررنا بدمه. فكم بالأحرى نخلص من الغضب الآتي، فإن كنا ونحن أعداء قد تصالحنا مع الله بموت ابنه.فكم بالأحرى نخلص بحياته ونحن مصلحون ". وقال " يا إخواني.
فإنكم بواسطة جسد المسيح الذي مات. قد صرتم أمواتا بالنسبة للشريعة لكي تصيروا إلى آخر. إلى المسيح نفسه " (20). وقال " إن المسيح حررنا بالفداء من لعنة الشريعة. إذ صار لعنة عوضا عنا. لأنه قد كتب:
ملعون كل من علق على خشبة " (21).
وعلى هذا الأساس الذي وضعه بولس. ألغيت الشريعة التي جاء أنبياء بني إسرائيل ليبينوها للناس. وليحذرونهم من المخالفة والانحراف الذي يترتب عليه لعنهم إلى يوم القيامة، وبولس ألغى الشريعة تحت عنوان: أن المسيح مات عن العصاة في الوقت المعين. وما دام قد مات عوضا عن الجميع وصار لعنة لأجلهم. فمعنى ذلك أن الجميع قد ماتوا بالنسبة للشريعة. وعندما قام المسيح من بين الأموات صاروا إليه ولبسوا فيه. وما دام الأمر كذلك فلا فائدة ترجى من الشريعة. لأن الأحياء لا يعيشون بالشريعة وإنما بالذي مات عوضا عنهم ثم قام (22)!! ولم يكتفي بولس بإلغاء الشريعة. بل هدد العاملين بها. ولا ندري أي إيمان يكون بغير الكتب السماوية وتصديق الأنبياء. وهل عرفنا الإيمان إلا بالناموس الذي هو من أوامر الله.
رابعا - " بولس والتبشير بالنبي الخاتم (صلی الله عليه وآله وسلم) ":
بعد أن ألغى بولس الشريعة. ودفع بالقافلة إلى حيث لا ضابط لها فيما تفعل أولا تفعل. وترتب على هذا ظهور الكثير من الأحبار والرهبان ليشرعوا للناس ويأكلوا أموال الناس بالباطل. وظهور الكثير من الفرق التي اتخذت عقيدة أرض الميعاد وثقافتها وقودا لها. وكان الحي النصراني هو الأرض الخصبة لهذه الفرق. نظرا لوجود الحي اليهودي مع الحي النصراني تحت سقف واحد ينتمي إلى بني إسرائيل بالاسم.وبولس قام بالتعتيم على نبوة الرسالة الخاتمة. من خلال تصوره لعقيدة ميراث بني إسرائيل. بمعنى أنه تتبع الميراث من عند بدايته. ومن عند البداية ضرب الخط الذي يبعث الله منه النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. والوعد جاء ذكره في التوراة على النحو التالي " في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا: لتلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات " (23).
ويقول بولس في هذا الوعد " فإنه قد كتب إن إبراهيم كان له إبنان. أحدهما من الجارية. والآخر من الحرة. أما ابن الجارية فقد ولد حسب الجسد. وأما ابن الحرة فإتماما للوعد " (24) وابن الجارية الذي يقصده بولس. هو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وأمه هاجر عليها السلام. ومن ذريته بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. أما ابن الحرة الذي يقصده بولس. فهو إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام. وأمه سارة عليها السلام، ومن أبنائه يعقوب ومن ذريته بعث الله أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام.
وبولس وهو يصيغ منهجه للتعتيم على النبوة الخاتمة، راعى أن يكون الحي النصراني خادما للحي اليهودي، بمعنى أنه قام بتحويل الدعوة المسيحية من السير إلى الأمام إلى السير نحو الخلف بلا سراج ينير، حتى تقف المسيرة عند الوراء أمام لوحة ميراث بني إسرائيل، ولا تملك المسيرة إلا أن تكون خادمة لهذا العنوان، وعلى امتداد هذه الخدمة يتم صحن كل شئ في خدمة الحي اليهودي بما في ذلك آيات التبشير بالنبوة الخاتمة.
لقد جرد بولس الحي النصراني من الشريعة التي يتمسك بها الحي اليهودي، وعلى هذا يصبح لا معنى وراء اعتناق اليهودي للنصرانية التي حررها بولس من الشريعة، ولأن النصرانية التي أسسها بولس تعمل تحت سقف الحي اليهودي. فإن وجود النصارى تحت هذا السقف يكون له معنى بأي صورة من الصور، وبولس نفسه يقول " لي رجاء بإن يحقق الله ما وعد به آباءنا. وما زالت أسباط شعبنا الاثني عشر تواظب على العبادة ليل نهار راجية تحقيقه " (25). وقد علمنا من قبل أن الأسباط الاثني عشر تخص الحي اليهودي، وأن التلاميذ الاثني عشر يخصوا دعوة المسيح فإنهم ذلك.
ودفع القافلة النصرانية لخدمة الأهداف اليهودية. نراها في أصول بولس التي تتحدث عن الميراث وتضرب من خلاله آيات التبشير بالنبوة الخاتمة. ومن ذلك قوله " قد سمعتم بتدبير نعمة الله الموهوبة لي لأجلكم. كيف كشف لي السر عن طريق الوحي. كما كتبت قبلا بإيجاز. ويمكنكم حينما تقرأون ما كتبته أن تدركوا اطلاعي العميق على سر المسيح. ذلك السر الذي لم يطلع عليه بنو البشر في الأجيال الماضية مثلما أعلن اللآت بوحي الروح لرسله القديسيين وأنبيائه، وهو:
أن الأمم هم شركاء اليهود في الميراث وأعضاء في الجسد معهم. ولهم أيضا حق الاستفادة من الوعد. وذلك في المسيح يسوع. وبفضل الإنجيل الذي صرت أنا خادما له " (26).
فالسر العميق بإيجاز شديد. هو أن الأمم الذين هم بلا شريعة.
يمكن أن يكون لهم نصيبا في الميراث إذا وقفوا مع النصارى وهم أيضا بلا شريعة. تحت سقف المسيح الذي حرر الناس من لعنة الشريعة إذ صار لعنه عوضا عنهم. لأنه قد كتب: ملعون كل من علق على خشبة.
فلكي تصل بركة إبراهيم إلى الأمم. لا بد أن يكون ذلك عن طريق قبول المسيح. وقبول المسيح من شروطه قبول الإنجيل الذي صار بولس خادما له. ومن المعلوم أن بولس لم يصاحب المسيح عليه السلام ولم يشر في رسائله أنه رآه أو تحدث معه أو شاهد معجزاته على عهد ا لدعوة.
ولما كان اليهود على امتداد مسيرتهم يتمسكون بعقيدة الشعب المختار أي الشعب ذو الدماء النقية الذي يرث الأرض التي كتبها الله لإبراهيم، فإن بولس ألحق النصارى بنسل إبراهيم ولكن عن طريق آخر هو طريق الروح، فقال " وقد وجهت الوعود لإبراهيم ونسله. ولا يقول " وللأنسال " كأنه يشير إلى كثيرين، بل يشير إلى واحد، إذ يقول " ولنسلك " يعني المسيح " (27) ثم يقول لاتباعه وهو يلحقهم بنسل المسيح " وأما أنتم أيها الأخوة، فأولاد الوعد على أمثال إسحاق، ولكن لما كان في الماضي المولود بحسب الجسد يضطهد المولود بحسب الروح، فكذلك أيضا يحدث الآن، إنما ماذا يقول الكتاب؟، اطرد الجارية وابنها. لأن ابن الجارية لا يرث مع ابن الحرة. إذن أيها الأخوة نحن لسنا أولاد الجارية بل أولاد الحرة " (28).
ولقد خلط بولس بين الأوراق عندما قال: " ولفظة هاجر. تطلق على جبل سيناء في بلاد العرب، وتمثل أورشاليم الحالية فإنها مع بنيها في العبودية، وأما الثاني. فرمزه الحرة التي تمثل أورشاليم السماوية.التي هي أمنا ".
فمنهج بولس فيما يختص بالميراث، أثبت لليهود الحق فيه، لأنهم أولاد يعقوب بن إسحاق، وهم أصحاب شريعة موسى والأنبياء، والحي النصراني له الحق في الوعد على أمثال إسحاق. لأنه ينتسب إلى المسيح بالروح. كما يقول الإنجيل الذي صار بولس خادما له، والحي اليهودي مع الحي النصراني في عقيدة بولس. لا يمثلان أورشاليم التي يتجول فيها بولس وجميع فرق بني إسرائيل. فأورشاليم التي لعن الله أهلها الذين قتلوا الأنبياء وجعلوا بيته فيها مغارة لصوص، وجاءتها البعوث من كل مكان لتدمر ما فيها وتسبي أهلها. بعد أن عبدوا البعل وأقاموا المرتفعات للآلهة المتعددة، أورشاليم هذه لا تخص إلا هاجر وولدها إسماعيل وذريته العربية كما تقول عقيدة بولس، أما ما يخص بولس وأتباعه فهي أورشاليم السماوية. أورشاليم الجديدة التي جاء ذكرها في أسفار الأنبياء كما ذكرنا. ومن أوصافها " أرضها مربعة طولها يساوي عرضها. وهي متساوية الطول والعرض والارتفاع " (29). وقال مفسرو العهد الجديد: هي مكعبة، " ولن يدخلها شئ نجس ولا ما يصنع رجاسة أو كذب ". وأرضها أرض جديدة لا بحر فيها ".
" ويطل عليها جبل ضخم عال " (30). " ولا يوجد بها هيكلا "، (31). " وبنزول أورشاليم من عند الله يكتب الله عليها اسمه الجديد " (32). " ويصير بيت الله وسط الناس " (33). وذكر سفر الرؤيا أن المبعوث إلى أورشاليم الجديدة هو الشاهد " الأمين الصادق " (34).
ففي عقيدة بولس أن أورشاليم هذه لا تخص هاجر وولدها. وإنما تخص بولس وأتباعه (!). ونتيجة لخلط الأوراق حدث الضلال على امتداد المسيرة، ولم يجني الحي النصراني إلا السراب الذي لا يروي ظمأ ولا يسمن ولا يغني من جوع، وبتأمل أحداث آخر الزمان نجد أن المسيرة النصرانية التي زودها بولس بوقوده لتكون في خدمة الأهداف اليهودية، ستكون معلقة في الهواء. حيث لا أرض طالت ولا سماء، بينما يكون اليهود في هذا الوقت تحت قيادة أمير السلام ابن داوود ينعمون بما لديهم من مادة وميراث كما يعتقدون، ويقول بولس عن مكان النصارى في أحداث آخر الزمان " إننا نحن الباقين أحياء إلى حين عودة الرب لن نسبق الراقدين. لأن الرب نفسه سينزل من السماء حالما يدوي أمر الجميع. وينادي رئيس ملائكة ويبوق في بوق إلهي، عندئذ يقوم الأموات في المسيح أولا، ثم إننا نحن الباقين أحياء نختطف جميعا في السحب للاجتماع بالرب في الهواء، وهكذا نبقى مع الرب على الدوام. لذلك عزوا بعضكم بعضا بهذا الكلام " (35). وبهذا الكلام ينتهي الأمر بفوز اليهود بالميراث الذي كان بولس يرجو من الله أن يحققه. بعد أن وعد به آبائه من بني إسرائيل. وظلت أسباط الشعب الاثني عشر تواظب على العبادة ليل نهار. راجية تحقيقه. وينتهي الأمر أيضا بالحي النصراني وسط السحاب في الهواء، ليملأ كفيه بالسحاب أو بالهواء.
وبعد إلقاء بعض الضوء على أطروحة بولس داخل الحي النصراني، نسجل هنا أقوال بعض علماء مقارنة الأديان، يقول يواكيم برنز " لقد كان بولس سباقا إلى قبول فكرة انفصال المسيحية عن اليهودية. ومهد بإنشاء العقيدة المناسبة " (36)، ويقول د. جوستاف لوبون " إن بولس أسس باسم يسوع دينا لا يفقهه يسوع لو كان حيا، ولو قيل للحواريين الاثني عشر إن الله تجسد في يسوع ما أدركوا هذه الفضيحة ولرفعوا أصواتهم محتجين " (37)، ويقول د. شارل جنيبر رئيس قسم الأديان بجامعة باريس " لقد تجاهل بولس فكرة عيسى الناصري ولم يتجه إلا إلى عيسى المصلوب، فتصوره شخصية إلهية تسبق العالم نفسه في الوجود. رجل سماوي احتفظ الله به إلى جانبه، أمدا طويلا، حتى نزل إلى الأرض لينشئ فيها حقا لبشرية جديدة يكون هو دمها، وهذه العقيدة تنتهي إذا سمح لنا باستخدام هذا التعبير. إلى ثمرة تبعث كثيرا على الاستغراب. هي أن عيسى يصور لنا ابنا لله. ولكن فكرة الله بالنسبة لبولس تدخل ضمن ميراثه من العقيدة اليهودية، فكيف إذن يتأتى تصور أن يكون لله ابن. وهذا لا يمت بصلة إلى العقيدة اليهودية " (38)، ويقول الكردنال دانيلو: " إن المسيحيين المخلصين يعتبرون بولس خائنا، وتصفه وثائق مسيحية بالعدو. وتتهمه بالتواطئ التكتيكي " (39).
خامسا - " فرض العقيدة البوليسية ":
وضع بولس الذي كان ينتمي إلى طائفة الفريسيين خميرته داخل الحي النصراني الذي يقف تحت السقف اليهودي، ولم تكن خميرة بولس ضارة باليهود وإنما كانت في خدمتهم، ثم اتسعت الخميرة بعد ذلك بفضل المراكز الثقافية التي كانت فرقة الفريسيون تشرف عليها، وهذه المراكز قامت أعمدتها على تعاليم الماسونية، وكان بولس يتردد على هذه المراكز، وكان يصدر أوامر صارمة إلى تلاميذه بأن يقتدوا به، وأن يعتزلوا كل من يخالفهم وأن ينتبهوا إلى مثيري الانقسامات حول تعاليمه.وذكر المحققون أن بولس كان نشيطا دائم الحركة ذا قوى لا تكل وذا نفس لا تمل، وكان شديد الذكاء بارع الحيلة قوي الفكر، يدبر الأمور لما يريد، ويسدد السهام لغاياته ومآربه فيصيبها، استطاع أن يحمل أكثر الناس على نسيان ماضيه وأن يندمجوا في شخصه حتى يصير هو كل شئ. وهم لا يستطيعون رد قوله، ولقد خطى بولس خطواته الواسعة مستفيدا من حداثة عهد الناس بالمسيحية. وبعلاقته بالكهنة والحكام وأصحاب السلطة، وأخذ بولس في التطواف في الأقاليم. يقوم بالدعاية ويلقي الخطب. ويكتب الرسائل. حتى أن رسائله كانت هي الرسائل التعليمية بما اشتملت عليه من مبادئ في الاعتقاد وبعض الشرائع العملية (40).
وبالنظر في رسائل بولس لمعرفة منهجه في نشر دعوته نجده يقول في رسالة " كونوا جميعا أيها الأخوة مقتدين بي. ولاحظوا الذين يسلكون بحسب القدرة التي ترونها فينا. فإن كثيرين ممن يسلكون بينكم. وقد ذكرتهم بكم مرارا. واذكرهم الآن أيضا، إنما هي أعداء لصليب المسيح " (41) ويقول في رسالة أخرى وقد ضج من الذين تصدوا لتعاليمه " أتوسل إليكم أيها الأخوة. أن تنتبهوا إلى مثيري الانقسامات والعثرات خلافا للتعليم الذي تعلمتم. وأن تبتعدوا عنهم " (42) وفي رسالة يقول " أوصيكم أيها الأخوة باسم ربنا يسوع المسيح. إن تعتزلوا عن كل أخ يسلك سلوكا فوضويا لا يوافق التعليم الذي تلقيتم منا " (43) ويبدو أن المعارضين لتعاليمه قد تصدوا لهذه التعاليم في بداية الأمر. مما أدى إلى أن يلوح لهم بولس بقبضته الحديدية مهددا لهم بالعقاب. يقول في رسالة من رسائله " لي ثقة بكم في الرب. إنكم لن تعتنقوا رأيا آخر.
وكل من يثير البلبلة بينكم سيتلقى عقاب ذلك كائنا من كان " (44).
واستغل بولس علاقته للملوك وأصحاب السلطة في ضرب المعارضة، فأمر أتباعه بالدخول تحت سقف السلطة وذلك بالدعاء للحكام والخضوع لقانونهم، في الوقت الذي كان اليهود يخضعون فيه لقانونهم المستمد من الشريعة تحت رعاية الكهنة والشيوخ، قال بولس في رسائله " ذكر المؤمنين أن يخضعوا للحكام والسلطات ويطيعوا القانون " (45) وقال " أطلب قبل كل شئ. أن تقيموا الطلبات الحارة والصلوات والتضرعات والتشكرات لأجل جميع الناس، ولأجل الملوك وأصحاب السلطة لكي نعيش حياة مطمئنة هادئة " (46).
سادسا - " الطريق إلى الأمم ":
وضع بولس منهجه وسط ساحة زمنية تربط بين دعوتين إلهيتين.الدعوة الإلهية إلى بني إسرائيل والدعوة الإلهية الخاتمة إلى البشرية كافة، وبولس في منهجه أعطى للمسيح صفة الديمومة. أي صفة الألوهية. وربط أتباعه بهذه الصفة... ومعنى هذا أنه أغلق باب التوبة.
بمعنى: إذا كانوا مع المسيح والمسيح فيهم. فما الجدوى من وراء التوبة؟ وترتب على ذلك عدم التفات أتباعه إلى آية تدعو إلى الرجوع إلى الله.
وبولس عندما جرد مسيرته من الشريعة الموسوية. ألقى داخل ساحات الأمم حيث الشرائع المتعددة للعقائد المتعددة. التي يشرف عليها كهنة الوثنية والملوك الذين أقاموا ملكهم على ثقافة تقول: أن في عروقهم تجري دماء الآلهة، ودخول بولس إلى ساحة الأمم كان معولا آخر ضرب به تعاليم المسيح عليه السلام، وكان المسيح قد حدد ساحة بني إسرائيل دون غيرها لدعوته. وجاء في إنجيل متي أن امرأة كنعانية طلبت من المسيح أن يشفي ابنتها المجنونة، لكنه لم يجيبها بكلمة، وعندما قال له التلاميذ " اصرفها لأنها تصيح وراءنا. أجابهم: لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة " (47)، وقال متي هنري في تفسيره أي أنتم تعلمون أني لم أرسل إلا لهذه الغاية. وهذه المرأة ليست من خراف بيت إسرائيل. فهل ترضون بأن أتعدى حدود ارساليتي " (48).
وترتب على دخول بولس إلى الساحة الأممية. أن الحي النصراني الذي يشرف عليه بولس. امتص كثيرا من العقائد والثقافات الوثنية، ومع هذه الأحمال رتعت الأهواء التي تلبست بالدين وأغلقت باب التوبة، فلم يقف على أبواب التوبة من هضم الوثنية ومن إعتقد بأن المسيح حرره من لعنة الناموس وأن المسيح عندما قام من بين الأموات صار إليه ولبس فيه، وفي امتصاص المسيحية للوثنية يقول ديورانت في قصة الحضارة: " إن المسيحية لم تقض على الوثنية بل تبنتها (49) بعد أن هضمت تقاليد العقل الوثني فكرة المسيح الإله (50) وقصارى القول: أن المسيحية كانت آخر شئ ابتدعه العالم الوثني القديم (51).
وعلى الساحة الوثنية تعددت الآراء لعدم استقرار الفطرة على ما فطرها الله عليه، وانعقدت المجامع المسيحية للبحث عن ثوب يخفي العرى المعيب، فكان مجمع نيقية (325 م) وتصدى المجتمعون فيه إلى عقيدة الوحدانية التي قال بها آريوس، وأقر المجمع عقيدة المسيح الإله، ثم جاء مجمع القسطنطينية (381 م) ليقر ألوهية الروح القدس، ثم مجمع أفسس (431 م) وأقر أن المسيح له طبيعة واحدة ومشيئة واحدة، ثم مجمع خلقيدونية (451 م) وأقر أن المسيح له طبيعتان ومشيئتان، وتوالت المجامع لتزيل الإشكال، فما يلبث الإشكال حتى يصير ألف إشكال.
لقد كانت فتنة. اجتمعت أطرافها عند عنوان: أرض الميعاد، وروي أن النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم قال " وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال " (52).
المصادر :
1- يوحنا 16 / 1 - 3
2- لوقا 22 / 35 - 37.
3- رواه ابن عساكر عن ابن مسعود. والطبراني عن معاذ (كنز العمال 216 / 1).
4- سورة البروج آية 4 - 8.
5- ابن كثير في تفسيره 495 / 4.
6- تاريخ الكنيسة / لويرم ص 83.
7- أعمال الرسل 26 / 5 - 7.
8- غلاطية 1 / 14.
9- متي 12 / 22 - 37، متى 16 / 5 - 12، مرقس 8 / 14 - 21، لوقا 11 / 37 - 54.
10- أعمال الرسل 26 / 10 - 12.
11- غلاطية 1 / 13.
12- أعمال الرسل 26 / 5 - 7.
13- عبرانيين 5 / 1 - 5.
14- أعمال الرسل 9 / 3 - 7.
15- أعمال الرسل 26 / 15 - 17.
16- غلاطية 1 / 1، 11
17- كورنثوس 1 / 17، 10
18- متي 5 / 17.
19- غلا 3 / 23 - 29.
20- روما 5 /4-5 ، 7 - 11.
21- غلا 3 / 13.
22- كور 5 / 16، غلا 3 / 23 - 29، روما 5 / 7 - 11.
23- تكوين 15 / 18 - 20.
24- غلا 4 / 22 - 24.
25- أعمال الرسل 26 / 6 - 8.
26- إفسوس 3 / 3 - 7.
27- غلا 3 / 13 – 14، 15 - 17
28- غلا 4 / 18 – 31، 25 - 26
29- رؤيا 21 / 16.
30- رؤيا 21 / 27.
31- رؤيا 21 / 1- 22
32- رؤيا 3 / 3.
33- رؤيا 21 / 3.
34- رؤيا 3 / 3 - 20.
35- تسالونيكي 4 / 16.
36- باباوات من الحي اليهودي / يواكيم برنز ص 74.
37- حياة الحقائق / جوستاف لوبون ص 187.
38- المسيحية ونشأتها وتطورها / شارل جنيبر ص 105.
39- حقيقة التبشير / أحمد عبد الوهاب ص 59.
40- المقارنات / د. محمد الصادقي ص 64.
41- فليبي 3 / 17 - 18.
42- روما 16 / 17.
43- تسالونيكي 3 / 6 - 8.
44- غلاطية 5 / 10.
45- تيطس 3 / 1.
46- ثيموثاوس 2 / 2 - 3.
47- متي 15 / 25.
48- متي هنري 27 / 1.
49- قصة الحضارة / ديورانت مجلد 11، ب 27، ف 2، ص 276.
50- المصدر السابق مجلد 11، ف 5، ب 28، ص 320.
51- المصدر السابق مجلد 11، ف 2، ب 27، ص 276.
52- رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 69 / 24).
/ج