قبل بعثة السيد المسيح عليه السلام كانت مسيرة بني اسرائیل قد ارتوت من مياه الأمم الذين تعاقبوا على حكم فلسطين ، وكان لهذا الارتواء أثرا بالغا في بناء الشخصية الإسرائيلية بعد عهد السبي، والدول التي تعاقبت على حكم فلسطين بعد السبي والتي هي:
فارس (538 - 333 ق. م)، اليونان (333 - 343 ق. م) مصر (323 - 204 ق. م)، سور يا (204 - 167 ق. م)، المكابين (167 - 63 ق. م) وفيها كان اليهود مستقلين من الناحية العملية، روما (63 ق. م) وامتد حكم الرومان حتى (633 م). وعلى امتداد هذه الفترة كان لليهود تجهيزاتهم التي أقاموها للحفاظ على تعاليمهم التي تقود إلى أهدافهم، وكان الحي اليهودي يذخر بالفرق المتعددة ومن أهم هذه الفرق: (الفريسيين) وهؤلاء أهم فرق اليهود وأكثرهم خطرا، ويتمسكون بالتفسير الشفهي (التلمود) وتقليد الشيوخ السابقين (1). ولقد حذر المسيح عليه السلام من هذه الفرقة (2). ومنهم جاء القديس بولس الذي قاد المسيرة المسيحية فيما بعد. وسنبين ذلك في موضعه، (الصدوقيين) وهؤلاء يتمسكون بالناموس المكتوب ، (والأسنيين) وهؤلاء يمارسون حياة رهبانية وهم يمثلون اليهودية السرية ، (الهيروديين) وهم حزب سياسي يريد إرجاع السلطة إلى عائلة هيرودس ، (الغيورين) وهؤلاء حزب قومي مستقل يؤيد استعمال العنف والقسوة ، وكان يوجد داخل الحي اليهودي العديد من المؤسسات أهمها: (المجمع اليهودي) وهو مبنى يجتمع فيه اليهود لقراءة الأسفار، وهو كان للتعليم (3)، (السنهدرين) وهم السلطة القضائية والدستورية العليا عند اليهود ، (العشارين) وهم يهود يجمعون الضرائب للرومان ، (الكتبة) وهم طبقة من الشعب مهمتهم شرح الناموس، ولقد أكثروا من التقاليد الشفاهية. وحددوا قواعد تشمل النواحي العملية للحياة اليومية، وهم يسمون بالمحامين والمعلمين والربيين ، (الناموس الشفاهي) وهو مجموعة التعليقات والتفاسير التي تدور حول ناموس موسى (4) ويشرف عليه كبار الحاخامات.
فتحت حكم الأمم تشكلت الشخصية الإسرائيلية بعد السبي، وهذا التشكيل حمل معالم الشخصية الإسرائيلية قبل وأثناء السبي، وقبل بعثة المسيح عليه السلام كانت الفرق الإسرائيلية المتعددة تتصارع على رقعة الاختلاف والجميع يتجه نحو هدف واحد، وهذا الهدف نسجته الفتن المتعددة. وفي النهاية ارتدى ثياب أمير السلام. الذي يعيد مجد مملكة داوود الوعد الإلهي لإبراهيم. وهذه الثياب يشرف على صيانتها العديد من المؤسسات التي تتمركز حول التفسير الشفهي للناموس (التلمود). وفي هذه الأجواء المشحونة بالرفض لكل منهج لا يخلص اليهود من حكم الأجانب، لطف الله تعالى بعباده وبعث إليهم من يقيم عليهم الحجة ويسوقهم إلى صراط الله العزيز الحميد، لينظر سبحانه إلى عباده كيف يعملون تحت سقف الامتحان والابتلاء.
وعند خاتمة المسيرة الإسرائيلية، بعث الله تعالى النبي يحيى والنبي عيسى، وكل منهما يحمل معالم جفاف المسيرة، ليتدبر فيها أصحاب العقول والأفهام، وليعلموا أن القيادة ستنزع من أيديهم وتكون لشعب آخر من أبناء إبراهيم، ومعالم الجفاف أن النبي يحيى ولد لأب اشتعل رأسه شيبا ولأم عاقر، أما المسيح عليه السلام فولد لعذراء لم يمسسها بشر، لقد جاء يحيى من طريق أبوين الذرية لهما أمر غير معهود. ليكون مصدقا بعيسى عليه السلام الذي جاء من جهة كلمة الايجاد (كن)، وذلك لأن سائر الأفراد من الإنسان يجري ولادتهم على مجرى الأسباب العادية المألوفة، ولكن ولادة المسيح عليه السلام لم تجر هذا المجرى. لأنه فقد بعض الأسباب العادية. لهذا كان وجوده بمجرد كلمة التكوين (كن) ولم يتخلل هذا الوجود الأسباب العادية.
لهذا كان الباب الذي دخل منه آخر أنبياء بني إسرائيل، باب يدعو المسيرة إلى التدبر والإيمان. وليحذروا المخالفة لأنها ستنتج على آخر الطريق فتنة، ومعنى أن يغلقوا على أنفسهم باب الفتنة. أن قيادة المسيرة البشرية لن تكون من داخل الأبواب المغلقة، إنما ستنتقل إلى مكان أوسع وأرحب، والله تعالى يورث الأرض لمن يشاء من عباده.
في نهاية المسيرة جاءت دعوة زكريا عليه السلام، وكان متزوجا من اليصابات من بنات هارون (5) ويقول إنجيل لوقا فيهما إنهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه ". وقال " لم يكن لهما ولد. إذ كانت اليصابات عاقرا وكلاهما قد تقدم في السن كثيرا " (6). وذكر لوقا: بينما كان زكريا يؤدي خدمته الكهنوتية أمام الله سأله الولد. فظهر له ملاك وقال له: لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت. وزوجتك ستلد لك ابنا تسميه يوحنا. وسوف يكون عظيما أمام الرب، والقرآن الكريم ذكر هذه المعجزة في قوله تعالى: (قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا. وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا. فهب لي من لدنك وليا يرثني وبرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا. يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) (7).
وجاء يحيى وريث زكريا وآل يعقوب، ليكون حجة على مسيرة خرج معظمها عن سبيل آل يعقوب، وبدأ يحيى دعوته، جاء في إنجيل متي " في تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان (يحيى) يكرز في برية اليهودية قائلا: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات. فإن هذا هو الذي قيل عنه بأشعيا النبي القائل: صوت صارخ في البرية. أعدوا طريق الرب.
اصنعوا سبله مستقيمة " (8)، ويقول متي هنري في تفسيره: كانت مهمة يوحنا دعوة الناس للتوبة عن خطاياهم، فقوله " توبوا " هي في الأصل اليوناني " تأملوا أو فكروا مليا " أي: ليكن لكم فكرا آخر لتصلحوا أخطاء الماضي، تأملوا طرقكم. جددوا أذهانكم، لقد أخطأتم التفكير فأعيدوا التفكير وأحسنوا التفكير (9).
ولكن القوم لم يتأملوا ولم يفكروا وعكفوا على أطروحة أرض الميعاد التي كتبها الله لإبراهيم دون قيد وشرط. ورفعت فرقة (الفريسيين) أعلام الصد عن سبيل الله. يقول إنجيل متي " ولما رأى يوحنا كثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون اليه ليتعمدوا قال لهم: يا أولاد الأفاعي. من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي. فأثمروا ثمرا يليق بالتوبة ولا تغللوا أنفسكم قائلين: لنا إبراهيم أبا. فإني أقول لكم:
إن الله قادر أن يطلع من هذه الحجارة أولاد إبراهيم، وها إن الفأس قد ألقيت على أصل الشجرة. فكل شجرة لا تثمر ثمرا جيدا تقطع وتطرح في النار " (10)، ويقول متي هنري في تفسيره: نرى يوحنا يوجه حديثه إلى هؤلاء القوم بمنتهى الصراحة والأمانة، وما قاله يوجهه في نفس الوقت إلى كل الجموع.. فاللقب الذي ناداهم به هو " يا أولاد الأفاعي ". ولقد أعطاهم المسيح نفس هذا اللقب، لقد كانوا كالأفاعي إذ كانت لهم صورة التقوى والمظهر الخلاب. إلا أنهم مملوئين سما مشحونين خبثا وعداوة لكل ما هو حسن، وكانوا أولاد الأفاعي نسل وذرية الأفاعي، فكان السم يسري في دمهم وعظامهم. وكانوا يفتخرون بأنهم ولدوا من إبراهيم، ولكن يوحنا بين لهم أنهم من نسل الحية وإن إبليس هو أبوهم. وقال لهم يوحنا (يحيى): " إن كنتم أولاد إبراهيم. فلا تفتكروا إنكم لا تحتاجون إلى التوبة وإنه لا شئ هنالك تتوبون عنه وإن علاقتكم بإبراهيم لص اهتمامكم بالعهد الذي قطع معه يجعلانكم مقدسين. ولا يوجد هنالك داع لتجديد أذهانكم وإصلاح طرقكم، ولا تفتكروا بأنكم ستنجحون حتى وإن كنتم لا تتوبون... أو وأن الله سيتغاضى عن عدم توبتكم لأنكم أولاد إبراهيم " ويقول متي هنري " يقولون لنا إبراهيم أبا. ولذلك لنا الحق في امتيازات العهد الذي قطعه الله معهم.. يا لغباوتهم في هذا الادعاء الذي لا أساس له، لقد توهموا بأنهم وقد صاروا أولاد إبراهيم. فإنهم هم شعب الله الوحيد في هذا العالم، ولقد بين لهم يوحنا جهلهم الفاضح في هذا الادعاء الباطل والغرور الكاذب.
فقال " مهما افتكرتم أن تقولوا في أنفسكم. أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاد إبراهيم، إن امتحانكم دقيق جدا وقريب جدا، الآن قد وضعت الفأس وقد رفعت أمام أنظاركم ووضعت على أصل الشجرة، الآن ستوضعون في كفة الميزان لحظة واحدة، الآن قد تحددت نهايتكم للهلاك الذي لا يمكن أن تفلتوا منه إلا بالتوبة العاجلة الصادقة، الآن قد منحكم الله آخر فرصة للاختبار، إما أن تنتهزوا الفرصة الآن. أو تضيع من أيديكم إلى الأبد، وبين كيف أن القصاص منهم سيكون صارما إن لم ينتهزوا الفرصة، الحقيقة يوضحها يوحنا بوضع الفأس على أصل الشجرة، ليبين لهم أن الله قضى أن كل شجرة مهما ارتفعت بمواهبها وأمجادها. ومهما بدت خضراء بمظهرها الخارجي، أن لم تصنع أثمارا صالحة تليق بالتوبة فإنها تقطع، لا يعترف بها كشجرة في كرم الله، تصبح غير جديرة بأن تحتل مكانا هناك وتلقى في النار، وهي أليق مكانا للأشجار الجافة لأنها لا تصلح لشئ آخر، إن لم تصلح للأثمار تصلح للنار (11).
ويقول متي هنري: لقد كانوا عصابة الأفاعي كلهم متساوون في الشر، ورغم أنهم كانوا أعداء بعضهم لبعض. إلا إنهم كانوا متحالفين في الشر، إن نسل الشرير هو نسل الأفاعي، ولقد كان الانذار الذي وجهه لهم يوحنا " من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي " يتضمن أنهم كانوا في خطر الوقوع تحت طائلة الغضب الآتي. وأنه لا أمل لهم في النجاة منه، لأن قلوبهم قد قست، الفريسيين بسبب تمسكهم بمظهر الديانة. والصدوقيون بسبب كثرة مناقشتهم عن الديانة، حتى كان يصبح كل مجهود لمحاولة التأثير عليهم مقضيا عليه بالفشل، لقد كان هناك غضبا آتيا. ومن واجب كل واحد أن يهرب من هذا الغضب. ومن رحمة الله أنه يحذر للهروب من هذا الغضب.
لقد كان يحيى (يوحنا) يتحدث بالحق الذي تحدث به آل يعقوب، وكان عليه السلام يقف على أرضية آل عمران (آل هارون)،
قال متي هنري: وكان يوحنا كاهنا على طقوس هارون (12) وبينما كان يدعو الشعب للتوبة والإيمان بالله وسلوك سبيل آل هارون، كان يعلن أمامهم أنه يمهد الطريق للمسيح عيسى ابن مريم. ويقول " لست المسيح. بل أنا رسول يمهد له الطريق " (13). وكان الشعب قد علم من قديم. على لسان الأنبياء والرسل ببشارة تقول " ها العذراء تحبل وتلد ابنا " (14).
وعندما ولدت العذراء وشب ولدها عليه السلام، يقول إنجيل متي " جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليتعمد منه " (15) ولأن حبل النبوة حبل واحد. وحلقات الأنبياء يكمل بعضها بعضا، قال يوحنا للمسيح: " هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر ". وكان المسيح عليه السلام آخر أنبياء الشجرة الإسرائيلية التي جعلها الله حجة على المسيرة الإسرائيلية، وانتهت حياة نبي الله زكريا ونبي الله يحيى نهاية دموية، روى أن القوم عندما عقدوا العزم على قتل زكريا. هرب منهم فانفرجت له شجرة فدخل جوفها ثم التأمت عليه، وعندما علم القوم نشروا الشجرة فقطعوها وقطعوه نصفين، أما يحيى عليه السلام. فسجنوه. ثم قتلوه. ثم قطعوا رأسه. وحملت إلى ملك بني إسرائيل ليقدمها هدية لامرأة كان قد افتتن بها (16)
المصادر :
1- مفاتيح الأسفار ص 55، 56
2- متي 10 /24
3- المصدر السابق 57،58
4- المصدر السابق 58.
5- لوقا 1 / 5.
6- المصدر السابق 1 / 6، 8- 16
7- سورة مريم آية 4 - 7.
8- إنجيل متي 3 / 1 - 4.
9- متي هنري 58 / 1.
10- إنجيل متي 7 / 3 - 11.
11- متي هنري في تفسيره 1/ 66 ، 69 ،68 ،70
12- متي هنري 57 / 1.
13- إنجيل يوحنا 3 / 28.
14- أشعيا 7 / 14.
15- متي 3 / 13، 16
16- متي هنري 1 / 466
/ج