الايمان بالغيب

يعرّف القرآن الكريم المؤمنينَ الإلهيّين، بأنّهم الذين يعتقدون بأنّ العالم غير محدود ومحصور في إطار عالم الطبيعة والمادّة المسمّى بعالم الشهادة، فهم يؤمنون بمسائل ترتبط بعالم وراء عالم المحسوسات، وذلك العالم هو عالم ما وراء الطبيعة
Monday, February 23, 2015
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
الايمان بالغيب
 الايمان بالغيب

 






 

يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾(1).
يعرّف القرآن الكريم المؤمنينَ الإلهيّين، بأنّهم الذين يعتقدون بأنّ العالم غير محدود ومحصور في إطار عالم الطبيعة والمادّة المسمّى بعالم الشهادة، فهم يؤمنون بمسائل ترتبط بعالم وراء عالم المحسوسات، وذلك العالم هو عالم ما وراء الطبيعة المسمّى بعالم الغيب في المقابل فإنّ الماديّين لا يؤمنون بأكثر من عالم الطبيعة والمادّة التي يشهدونها ويحسّون بها مباشرة بحواسّهم الخارجيّة، وهذا من الفوارق بين الماديّين والإلهيّين. فيما يحاول البعض المغالطة في ذلك، حيث يعتمد التمييز بينهما ـ كما نشاهد في الكتب الفلسفيّة الأوروبيّة ـ بكون الماديّ هو الذي ينكر وجود الروح ويؤمن بوجود المادّة، في مقابل المثاليّ الذي ينكر وجودها ويؤمن بوجود الروح فحسب..
وعلى رأس هذه المسائل هي مسألة التوحيد، بمعنى الاعتقاد بأصل وجود الله3، وقد صرّح بذلك أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: "أوّل الدين معرفته"(2).

التصوّر الصحيح لمسألة التوحيد:

تنقسم المسائل المشكلة التي يُراد حلُّها إلى قسمين:

القسم الأوّل: هي المسائل التي تكمن صعوبتها في معرفة طريقة حلّها، مع كون عرضها- كمسألة- في غاية السهولة، فيعرضها الجميع بنحو واحد، وذلك من قبيل مسائل الرياضيّات، (وهذا ما يُعبّر عنه في المنطق بأنّ المشكلة في التصديق لا في التصوّر).
القسم الثاني: هي المسائل التي تكمن مشكلتها في فقدان العرض الصحيح والتصوّر السليم لها، ممّا يثير إشكالات في حلّها، وذلك من قبيل المسائل الفلسفيّة، فقد يبحث المفكّر عن حلّ مسألة فترةً طويلةً من الزمن دون جدوى، بينما تكمن مشكلته في أنّه وضع من الأساس تصوّراً خاطئاً لها. فالأساس في مثل هذه المسائل هو التصوّر الذهني السليم، ممّا لا يجعل مشكلة في التصديق، (وهذا ما يصطلح عليه في المنطق بأنّ المشكلة في التصوّر لا في التصديق).
وفي مورد بحثنا، وهو مسألة التوحيد، فإنّ هذه المسألة تعتبر من القسم الثاني، حيث الإشكالات التي تثار حولها هي نتيجة عدم العرض الصحيح لهذه المسألة الجليلة، وسنوضّح ذلك بالمثال.

مثال لإشكالات نشأت عن عدم التصوّر الصحيح لمسألة التوحيد:

يذكر العلماء بأنّ مسألة التوحيد هي مسألة فطريّة، ممّا أثار في الأذهان اعتراضات وإشكالات، بأنّه لو كان كذلك صحيحاً، لما انقسم الناس، في كلّ عصر وعلى مختلف الطبقات- حتى العلماء، إلى معسكرين، أحدهما يؤمن بالتوحيد والآخر ينكره!
فعلى الأقلّ، لا تقولوا إنّ مسألة التوحيد فطريّة، بل هي معضلة فكريّة عجز الإنسان عن التوصّل إلى حلّ يقينيّ ضروريّ بشأنها.
والجواب: إنّ الشبهات المثارة حول مسألة التوحيد تعود إلى تصوّرهم وعرضهم غير الصحيح لهذه المسألة، فهم مثلاً يتصوّرون موجوداً ماديّاً يطلقون عليه اسم (الله)، ثم يثيرون الشبهات والشكوك حوله. وأمّا لو عُرضت المسألة بصورتها السليمة، لما وقعت هذه الشبهات، ولذا يمكن أن نعبّر عن مسألة التوحيد بأنّها من (السهل الممتنع).
إذاً، فالأولويّة في مسألة التوحيد هي العرض السليم لها. وهناك عدّة أمور لا بدّ أن يلاحظها الباحث عند التحرّك للبحث في مسألة التوحيد.

كيفيّة العرض السليم لمسألة التوحيد:

إذا أردنا البحث في إثبات وجود الله أو عدمه، فلا بدّ من الالتفات إلى عدّة أمورٍ تؤثّر في تكوين عرضٍ سليمٍ لهذه المسألة:

أوّلاً: الأشياء المراد إثباتها تنقسم إلى قسمين:

الأوّل: يشمل الأشياء التي يُراد إثبات وجودها كموجود مستقل يضاف إلى بقية الموجودات، كماإذا أريد إثبات وجود كوكبٍ سيّارٍ جديدٍ نضيفه إلى مجموعة الكواكب السيّارة، حيث نثبت وجودَ شيءٍ إلى جانب الأشياء.
الثاني: يشمل الأشياء التي يُبحث فيها عن موجودٍ، إنّما هو موجودٌ في الموجودات ومعها غير خارجٍ عنها، بل يمثّل امتداداً وجوديّاً لها.
وهذا النوع الثاني من قبيل الزمان(احتدم الجدل حول مسألة الزمان منذ أمد بعيد بين العلماء والفلاسفة، فنفى كثير وجوده، فيما أثبته كوجود خارجيّ أكثرهم.)، فلو أراد الباحث إثبات وجود الزمان كعنصر إلى جانب العناصر الأخرى في مكانٍ ما من هذا العالم- أي بالطريقة نفسها التي يبحث فيها الفلكيّ عن كوكبٍ سيّارٍ جديدٍ، فإنّه لن يفلح أبداً في إثبات وجوده أو العثور عليه. ويختلف الحال فيما لو كوّن تصوّراً صحيحاً للزمان، وأنّه يمثّل بعداً للأشياء ومعها يضاف إلى أبعادها الثلاثة- الطول والعرض والعمق.وليس جزءاً من أجزاء عالم الطبيعة يقع إلى جنبها، فيتمحور بحثه عنه في دائرة وجود بُعدٍ وامتدادٍ آخر لموجودات عالم الطبيعة يسمّى (الزمان).
ومسألة التوحيد هي من قبيل النوع الثاني. ومثال الزمان يقرّب الفكرة في نوعيّة التوحيد الذي يُراد إثباته، إلا أنّه لا ينطبق عليه بالكامل، فإنّ الله عزّ وجلّ ليس بعداً وامتداداً في الأشياء، ولكنّه ينبّه إلى أنّنا حينما نبحث في التوحيد، فنحن لا نبحث عن وجودٍ محدودٍ يحتلّ مكاناً معيّناً وسط بقية الموجودات، بل عن موجودٍ: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾(3)، وموجود قد أحاطت ذاته بكل الأشياء: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾(4)، وموجود صدرت منه الموجودات جميعاً، وإليه تعود، فهو أوّلها وآخرها: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(5).

ثانياً: الالتفات إلى خصوصيّة الوجود الإلهيّ:

من الأمور التي لا بدّ للباحث أن يلاحظها عند وضعه التصوّر الصحيح لمسألة التوحيد، هو أن يأخذ بعين الاعتبار خصوصيّة أنّ ما يريد إثباته هو وجودٌ ليس كمثله وجودٌ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾(6).

ثالثاً: الالتفات إلى مفاهيم ترتبط بالوجود الإلهيّ:

وأخيراً فلا بدّ للباحث أن يراجع المفاهيم المرتبطة بالله جلّ وعلا، فإنّ وجوده- المراد إثباته- مرتبط بهذه المفاهيم، وذلك من قبيل: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾(7)، (سبحان ربّي العظيم)، فوجوده وجودٌ منزّهٌ وقدوسٌ، وكذلك: (الله أكبر) فهو أكبر من أن يوصف ومن أن يعتري وجوده أيّ شكلٍ من أشكال الحدّ والنقص.

إمكان إثبات وجوده:

ظهرت في التاريخ الحديث وفي أوروبا فكرةٌ تقول بأنّ الإنسان عاجزٌ عن إثبات وجود الله أو نفيه، ذلك أنّ الوسائل المتاحة للإنسان والأدوات التي يمتلكها تنحصر في دائرة الحواس، وتنتمي إلى اكتشاف عالم المادّة، ولا يمكنها أن تطال عالمَ ما وراء الطبيعة، فلا يمكن إثبات وجود الله، لأنّه ليس من الموجودات المحسوسة، ولذلك، فحريّ بالإنسان أن يتوقّف في هذه المسألة المشكلة.
إلا أنّ أصحاب هذا الرأي قد أخطأوا في حصرهم دائرة علم الإنسان بالأمور المحسوسة، فقد غفلوا عن قدرات أخرى للإنسان، وهي القدرة الفكريّة - العقلية - التي تؤهّله للبحث وإصدار الأحكام بشأن مسائل غير محسوسة، ولذلك نرى أنّنا ندرك وجود كثيرٍ من الأشياء ونثبت وجودها دون أن نحسّ بها، فلا نقتصر على إدراك المحسوسات، فيُنقض على هؤلاء بما نثبته من أمور غير محسوسة، كوجود العليّة- وهي العلاقة والارتباط الوجوديّ القائم بين شيئين، بأن يكون وجود الشيء سبباً لوجود آخر وليس المراد من العليّة ما يتوهّمه البعض من التوالي الزمانيّ، فإنّ التوالي الزمانيّ ممكن حتى مع عدم وجود عليّة، كما أنّ التوالي الزمانيّ يمكن أن تدركه العين، من غير أن تحكم بارتهان وجود الثاني لوجود الأوّل!

وكذلك ما يحكم الإنسان

بكونه ضروريّاً وما يقابله من المحال، كما يتعاطى الرياضيّ عندما يثبت أنّ مجموع زوايا المثلث يساوي مجموع زاويتين قائمتين، فيعتبر ذلك بعد أن يبرهن عليه ضروريّاً، ويعتبر غيره- بأن يكون مجموع زواياه أكثر أو أقلّ- محالاً. فمسألة كون الشيء محالاً أو ضروريّاً مسألة بديهيّة، مع أنّها تحمل مفهوماً يقع خارج دائرة المحسوسات، كما أقرّ العلم بوجود الزمان، مع أنّ الإنسان لا يمكن أن يدركه بأيّ حاسّة من حواسّه كذلك استحالة الدور والتسلسل.
وهنا يُطرح سؤالٌ آخر، وهو حول تمكّن العقل البشريّ من تصوّر الله.

قدرة العقل على تصوّر الله:

ثمّة ثلاثة أقوال في مسألة تمكّن العقل من تصوّر الله عزّ وجلّ:
1ـ ذهب العرفاء إلى عدم إمكانيّة المعرفة العقليّة لله، لكنّهم في المقابل أيّدوا إمكانيّة المعرفة القلبيّة الشهوديّة، وأسبغوا على هذه المعرفة قيمة فائقة، فاعترضوا على من يريد أن (يتعلّم من كتاب العقل آية العشق) يعبّر العرفاء عن الانجذاب الباطنيّ القلبيّ إلى الله، والذي هو طريق الفطرة إلى إثبات وجود الله، بـ: (العشق)، وسيأتي ذلك في بحث طريق الفطرة..
2ـ نفى آخرون كلّ معرفةٍ لله، وادّعوا أنّ تصوّر الله خارج عن قدرة الفكر البشريّ، لأنّ تصوّر أيّ شيءٍ هو لون من الإحاطة العلميّة به، فما يرد إلى الذهن البشريّ محدودٌ، والذات الإلهيّة لا يمكن الإحاطة بها، لأنّ ذاته مطلقةٌ غير محدودة .
من هنا، ذهب المعطّلة إلى أنّ المطلوب هو الاعتقاد المبهم كحال عامة الناس وأنكروا امكان معرفة ذات الباري.

ويؤيّد هؤلاء كلامهم ببعض ما ورد من النصوص الدينيّة:

يقول أمير المؤمنين في نهج البلاغة: (الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن)(8)، وفي خطبة أخرى: (وأنّك أنت الله الذي لم تتناهَ في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكيّفاً، ولا في رويّات خواطرها فتكون محدوداً مصرّفاً)(9)، كما ورد في بعض النصوص: (احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار)(10).
3ـ وهناك جماعة من العلماء يقولون: انّ ما طرحه المعطّلة، من عجز العقل البشريّ عن معرفة الله، غير صحيح، وقد فهم - المعطّلة - النصوص بشكل خاطئ، فإن ما تفيده هذه الروايات هو أنّ للإمكانات العقليّة البشريّة في معرفة الله حدوداً معيّنة لا يمكن تجاوزها وهو الصحيح.
ولذلك، يوجد في روايات المعصومين عليهم السلام توجيهاً للمسيرة العقليّة البشريّة، على خلاف ما يُدّعى من أنّها منعت العقل عن ورود هذا المعين، يقول أمير المؤمنين عليه السلام كما روي عنه: (لم يُطلع العقولَ على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته)(11).
بل نحن نرى أنّ عليّاً عليه السلام قد طرح أبحاثاً عميقة جدّاً وبطريقة استدلاليّة عقليّة وفلسفيّة في مجال الإلهيّات، أبحاثاً ليس لها سابق في تاريخ الفكر الفلسفيّ(يمكن ملاحظة خطب نهج البلاغة الكثيرة التي تتحدّث عن التوحيد، وهي مليئة بمثل الأبحاث المذكورة.
)، وقد لعبت وصاياه دوراً هامّاً في الاهتمام بالأبحاث الإلهيّة العقليّة وفي تطويرها.

فالنتيجة:

صحيح أنّ العقول عاجزةٌ عن الوصول إلى كنه الباري عزّ وجلّ، إلا أنّنا نؤمن بأنّها تتمكّن من معرفته ضمن حدود معيّنة، بل ثمّة مقدار واجب من هذه المعرفة.
المصادر :
1- البقرة: 3
2- نهج البلاغة / الخطبة الأولى
3- الحديد: 4
4- البقرة: 115
5- الحديد:3
6- الشورى: 11
7- الصافات:180
8- نهج البلاغة/ الخطبة الأولى
9- نهج البلاغة/ الخطبة 89
10- تحف العقول - ص245
11- م.ن./ الخطبة 49



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.