
رابطة الجوار لها دورها العظيم في بناء الحياة الاجتماعية بناءً سليماً ؛ لأنّها تعد بالمرتبة الثانية في النسيج الاجتماعي بعد رابطة الأسرة ، ولهذا نجد في التشريع الإسلامي عناية خاصة بهذه الرابطة ، كما سيتضح في الفقرات التالية..
حقوق البشر لافتة عريضة ترفع هنا أو هناك ، يُزايد عليها المزايدون أحياناً ، ويحاول دعاة المذاهب الاجتماعية اتخاذها وسيلة لترويج أفكارهم ، واغراء الجماهير للاصطفاف إلى جانب دعواتهم.
لقد أصبحت ( لائحة الحقوق ) محط اهتمام المؤسسات الدولية ، والمنظمات الإنسانية ، وأضحى الاهتمام والتسابق على أشدّهما لحشد التأييد ( لمنابرهم ) الفكرية والثقافية.
وكان الإسلام سبّاقاً في تشريعاته وفي مبادئه وتعاليمه إلى تقرير تلك الحقوق وإيلائها الاهتمام الخاص كما في نصوص القرآن الكريم ، والسُنّة المطهرة. وكانت سيرة الرسول الأعظم صلی الله عليه وآله وسلم وسيرة أهل بيته الطاهرين عليهم السلام : تطبيقاً حيّاً لما شرّعه الإسلام في هذا المجال ، سواء فيما يتعلّق بحقوق الإنسان فرداً ، أو ضمن المجتمع.
أراد الإسلام للإنسان أن ينعم بالحياة الوادعة ، ويعرف ما له وما عليه ؛ ليكون في حالة انسجام وتوادّ مع أفراد جنسه ، كما أراد له أن يعيش موفورَ الكرامة ، محفوظ النفس والعرض والمال لا يتعرض إليه أحد بسوء أوبظلم. ولكن قوى الكفر العالمي والصليبيّة الحاقدة ـ ومن يدور في فلكهماـ حاولت طمس حقائق الإسلام ، والتعتيم على مبادئه الخيّرة ، وخاصةً عنايته بحقوق الإنسان فرداً ومجتمعاً.
ومن هنا تأتي أهمية اظهار حقائق الإسلام وكشف أباطيل خصومه.
ولتحقيق هذا الهدف ، فقد عُني هذا البحث بتأصيل ذلك من خلال نصوص القرآن الكريم والسُنّة النبويّة المطهّرة وما جاء عن أهل البيت الطاهرين : وبخاصة ( رسالة الحقوق ) للإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام التي تعدُّ لائحة قانونية ، ووثيقة تاريخية قيمة.أولاً : الجوار في القرآن الكريم :
لم يرد ذكر الجار في القرآن الكريم إلاّ مرتين في آية واحدة ، وهي من قوله تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركُوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القُربى واليتامى والمساكين والجّار ذي القُربى والجّار الجُنُب والصّاحب بالجَنْب .. ) (1)إنّ تدبّر الآية الكريمة يوقفنا على حقيقة في غاية الأهمية ، وهي : إنّ الله تعالى قرن حقّ الجّار مع حقّ عبادته ومع حق الوالدين وذي القربى والمساكين ، وفي ذلك دلالة صريحة على أهمية حق الجِوار في الإسلام ، لانتظامه مع التوحيد في سلك واحد ، مما يبوؤه المكانة التي يستحقها من البحث والدراسة.
يقول الشيخ أبو علي الطبرسي في معرض تفسيره لهذه الآية : ( لما أمر سبحانه بمكارم الاخلاق في أمر اليتامى والازواج والعيال ، عطف على ذلك بهذه الخلال المشتملة على معاني الاُمور ومحاسن الاَفعال ، فبدأ بالأمر بعبادته ، فقال : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ) أي وحّدوه ، وعظّموه ، ولا تشركوا في عبادته غيره ، فإنّ العبادة لا تجوز لغيره ؛ لانها لا تستحق إلاّ بفعلِ اُصولِ النِعَم ، ولا يقدر عليها سواه تعالى ، ( وبالوالدين احساناً ) ، أي فاستوصوا بهما برّاً وإنعاماً وإحساناً وإكراماً ، وقيل : أنّ فيه اضمار فعل ، أي وأوصاكم الله بالوالدين إحساناً ، ( وبذي القربى واليتامى والمساكين ) ، معناه : احسنوا بالوالدين خاصة ، وبالقرابات عامة ، يقال : أحسنتُ اليه وأحسنتُ به ، واحسنوا إلى المساكين فلا تضيعوهم ، واعطوهم ما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة وسائر ما لابدّ منه لهم ، ( والجار ذي القربى والجار الجنب ) ، قيل معناه :
الجار القريب في النسب، والجار الاَجنبي الذي ليس بينك وبينه قرابة ـ إلى أن يقول ـ :
وهذه آية جامعة تضمنت بيان أركان الإسلام ، والتنبيه على مكارم الاخلاق. ومن تدبّرها حق التدبّر ، وتذكّر بها حق التذكّر أغنته عن كثير من مواعظ البلغاء ، وهَدَتْه إلى جمّ غفير من علوم العلماء ) (2)والنبي الأكرم صلی الله عليه وآله وسلم من خلال إصراره على حق الجوار ، تمكن من قلب قيم وعادات المجتمع الجاهلي رأساً على عقب. صحيح أنّ المجتمع الجاهلي كان يحترم الجوَار ويرعى ـ في الأعمّ ـ حرمته وعرضه وفي ذلك قال الشاعر ربيعة بن عامر ( مسكين الدارمي ) ( ت / 89 ه ) :
ما ضرّ جاري أن أُجاورَهُ
أنْ لا يكون لِبابِهِ سترُ
أعمى إذا ما جَارتي خَرَجَتْ
حَتى يُواري جَارَتي الخِدْرُ
ناري ونَارُ الجَّارِ واحِدةٌ
وإليه قَبْلي ينزلُ القِدرُ
لكن الصحيح أيضاً ، أنّ كثيراً ما يُضرب بحقوق الجار عرض الحائط ، فيُغار عليه ، وتُسلب أمواله ، وتُسبى حريمه في السنين العجاف ، أو يشن عليه حرباً لا يخف لها أوار من أجل الثأر ، أو بدافع من العصبية القبلية ، أو طغيان الأهواء والمصالح الشخصية. زد على ذلك كانت الإثرة والأنانية تضرب بأطنابها في المجتمع الجاهلي الذي كان على شفير الهاوية ، فانقذه الإسلام منها وانتقل المجتمع ـ آنذاك ـ إلى مدار جديد بعد ان تكرّست فيه قيم وعادات جديدة.
لقد أعاد الوحي تشكيل الوعي الاجتماعي ، وخلق نفوساً نبيلة تؤثر المصلحة الاجتماعية على المصالح الفردية الآنية ، وخير شاهد على ذلك ما روته كتب السيرة من أنه : ( أُهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم رأس شاة فقال : إنَّ أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منَّا ، فبعث به إليهم ، فلم يزل يبعث واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات ، حتى رجعت إلى الاوّل ) (3)
ثانياً : حق الجار في رسالة الحقوق :
رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام هي أوّل وثيقة إسلامية شاملة لحقوق الإنسان. وهذا الأثر النفيس بقي محفوراً على لوحة الزمان ، تتناقله الأجيال من جيل لآخر ، يستمدون منه أعمق مشاعر الحب لله ، وحق الإنسان في الكرامة والرّفعة ، والاعتراف بحقوقه المقدسة.وفيما يتصل بحق الجِوار ، فقد جاء فيها : « وحقّ جارك فحفظه غائباً، وإكرامه شاهداً ، ونصرته إذا كان مظلوماً ، ولا تتبع له عورة ، فإن علمت عليه سوءاً سترته عليه ، وإن علمت أنّه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه ، ولا تسلمه عند شدائده ، وتقيل عثرته ، وتغفر ذنبه ، وتعاشره معاشرة كريمة ، ولا تدّخر حلمك عنه إذا جهل عليك ، ولا تخرج أن تكون سلماً له، ترد عنه لسان الشتيمة ، وتبطل فيه كيد حامل النميمة. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله » (4)
هذه الفقرة من رسالة الحقوق المنسوجة بلغة قوية الإيحاء ، نجد فيها نظرة أعمق وأرحب لحقوق الجّار ، فهي ترسم علاقة تكاملية بين المتجاورين ، وتعقد بينهم أواصر أُخوّة حقيقية. فنلاحظ أنّ للجّار حق الحفظ في غيبته ، وحق الإكرام في إقامته ، وحق النصرة عند مظلوميته ، وفوق ذلك له حقوق إضافية منها :
حق الستر ، والنصيحة ، والمغفرة ، والمعاشرة الحسنة.
وقد تناول شارح رسالة الحقوق هذه الفقرة مبيناً أنّ الإسلام قد اعتنى بحق الجار وجعله عظيماً ، يكاد يكون ـ حسب تعبيره ـ من أعظم الحقوق الإنسانية ، واستدل على ذلك بوصايا جبريل عليه السلام المتكررة للرسول صلی الله عليه وآله وسلم حول الجار ، وبالآية المتقدمة من سورة النساء ، ثم استأنف قائلاً :
وعلى هذا فالوصاية بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلماً كان أو كافراً.
والإحسان قد يكون بمعنى المواساة ، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه ، فيحسن أن يتعاون الجاران ويكون بينهما الرحمة والاحسان ، فاذا لم يُحسن أحدهما إلى الآخر فلا خير فيهما لسائر الناس ـ إلى أن قال :
على هذا المنهج القويم من القرآن ، وهذا الأسلوب المنير من السنة ، سار الإمام زين العابدين عليه السلام في هذا الفصل من رسالته الخالدة في التنويه بحق الجار والعناية والاهتمام به ، أَلا تنظر إليه قائلاً : « وحق جارك حفظه غائباً وإكرامه شاهداً ونصرته إذا كان مظلوماً .. ». يعني :
يجب حفظه إذاً ... بمعنى ان لا يخونه وأن يكون أميناً على ما ائتمنه عليه ، وإكرامه واحترامه والحفاوة به إذا حضر ، ونصره ومعونته إذا ألمَّ به خطب أو نزل به ضرٌّ.
ويجب على ما قرّره عليه السلام ستره ما أمكن ، فالله يحب الساترين ، ويكره الفضيحة والافشاء ، ويكره التجسس والمراقبة ، فإن ظهر على الجار شيء ما مِن دون تجسس أو مراقبة ، فعلى جاره أن يكتم كل ما عرف ، وأن يكون حصناً حصيناً لهذا السر الذي بيده مفتاحه. ويجب أن ينصره إذا سمع عليه مقالة سوء ، ويكره الله أن يستمع إلى قوم ينوشون جاراً بالسوء وفسق اللِّسان وهو عنهم راض ، وأن يقيل عثرته ، وينهضه من كبوته ، ويُغضي عن بعض ما قد يسوء من أعماله ، فان الإنسان معرّض للخطأ ، وأن يمنعه ، ويذود عنه ، ويدفع كل ما يضر به ) (5)
وهنا يبدو من الضروري بمكان ، الإشارة إلى أن أئمة أهل البيت : لم يختص تميّزهم عن غيرهم بنظرتهم العميقة لمعنى الجوار ، وهو الصبرعلى الاذى وليس كف الأذى كما قال العبد الصالح عليه السلام :
« ليس الجوار كف الأذى ، ولكن حسن الجوار صبرك على الأذى » (6)
وإنما تميزوا أيضاً بتجسيدهم هذا المفهوم من عالم المعنى إلى عالم الحس والواقع.
لقد ترجم أهل البيت أقوالهم إلى سلوك سوّي ، أصبح قدوة حسنة لمن أراد الاقتداء به. فعلى سبيل المثال لا الحصر ، كان الإمام السجاد عليه السلام ، حريصاً على أداء حقوق الآخرين ، وان كانوا من أعدائه .. جاء في رواية الواقدي :
إنّ هشام بن اسماعيل بن هشام بن الوليد المخزومي كان والياً على المدينة لعبد الملك بن مروان ، وقد أساء جِوار الإمام ولحقه منه أذى على حد تعبير الراوي ، فلما مات عبدالملك ، عزله الوليد بن عبدالملك ، وأوقفه للناس ؛ لكي يقتصوا منه ، فقال :
والله إني لا أخاف إلاّ علي بن الحسين ، فمر عليه الإمام ، وسلم عليه ، وأمر خاصته أن لا يتعرض له أحد بسوء ، وأرسل له : « إن كان أعجزك مال تؤخذ به ، فعندنا ما يسعك ، ويسد حاجتك ، فطب نفساً منّا ، ومن كل من يطيعنا » ، فقال له هشام بن اسماعيل : الله أعلم حيثُ يجعل رسالته (7)
وكان الإمام السجاد عليه السلام يدعو لجيرانه بكلمات بلغت الغاية في الرّقة ، ضمّنها ما لهم من الحقوق ، وصبها في قالب الدّعاء.
تمعّن في هذا الدّعاء من أدعية الصحيفة السجادية ، الذي يفيض بالمعاني ، ويحمل أجمل المشاعر :
« اللّهُمَّ تولَّني في جيراني باقامة سُنَّتكَ ، والاَخذ بمحاسن أدَبك في إرفاقِ ضعيفهم ، وسدْ خلّتهم ، وتَعهُّد قادمهم ، وعيادة مريضهم، وهداية مسترشدهم ، وكتمان أسرارهم ، وستر عوراتهم ، ونصرة مظلومهم ، وحُسن مواساتهم بالماعون ، والعود عليهم بالجدَةِ والاِفضال ، واعطاء ما يجبُ لهم قبل السؤالِ والجود بالنَّوال ـ اي العطاء ـ يا أرحم الراحمين » (8)
المصادر :
1- النساء 4 : 36
2- مجمع البيان في تفسير القرآن 2 : 98. منشورات دار مكتبة الحياة ـ بيروت.
3- الدّر المنثور ، السيوطي 6 : 95.
4- شرح رسالة الحقوق ، القبانچي 2 : 169.
5- شرح رسالة الحقوق ، القبانچي 2 : 191.
6- أُصول الكافي 2 : 636 ـ 637 / 9 باب 24 من كتاب العشرة ، كنز العمال : ح 4422.
7- سيرة الائمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ، القسم الثاني : 149.
8- الصحيفة السجادية الكاملة : 132 دعاء 26 ، نشر وتحقيق مؤسسة الإمام المهدي (عج) ط 1.
/ج