من أهمّ المسائل التاريخيّة في حياة الإمام الرضا عليه السلام حادثة توليته للعهد، ولأجل توضيح بعض التفاصيل المتعلّقة بهذه المسألة لا بدّ من البحث في الأمور التالية:
أهداف المأمون من تولية الإمام الرضا عليه السلام
لا بدّ أن نعلم أنّ دوافع المأمون من جعل الإمام عليه السلام وليّاً لعهده لم تكن نابعة من ولائه لأهل البيت عليهم السلام بل كان ميله لهم مصطنعاً، إذ لا يعقل أن يضحّي بالحكم الّذي قَتَل من أجله أخاه والآلاف من الجنود والقادة، ثمّ يسلّمه بكلّ سهولة إلى غيره.وفعلاً لم يدم الأمر طويلاً ـ كما أخبر الإمام عليه السلام ـ فقد اغتيل الإمام الرضا عليه السلام ورحل إلى ربّه على الرغم من أنّه كان سالماً في بدنه من الأمراض، بينما بقي المأمون على رأس السلطة حيّاً بعد الإمام عليه السلام.
وأهداف المأمون ودوافعه كانت نابعة من مصلحة الحفاظ على حكمه، وإلّا فما معنى التلويح والتهديد بالقتل لإجبار الإمام عليه السلام على قبول ولاية العهد؟!
ويمكن تحديد أهداف المأمون في النقاط التالية:
1ـ تهدئة الأوضاع المضطربة
اضطربت أوضاع الحكم بسبب القتال الدامي بين الأخوين (الأمين والمأمون)، إضافة إلى قيام الثورات والحركات المسلّحة، وازدياد عدد المعارضين لحكمه. فأراد المأمون من تقريب الإمام عليه السلام استقطاب أعوانه وأنصاره، وإيقاف حركاتهم المسلّحة ليتفرّغ إلى بقيّة الثائرين والمتمرّدين الّذين لا يُعتد بهم قياساً للثوّار العلويّين.وأراد كسب ودّ الأغلبيّة العظمى من المسلمين لارتباطهم العاطفي والروحي بالإمام عليه السلام ، وخصوصاً أهل خراسان الّذين أعانوه على احتلال بغداد، والشاهد على ذلك استقبال الإمام عليه السلام من قبل عشرين ألف عالم وفقيه وصاحب حديث في نيسابور.
وبتقريب الإمام عليه السلام كان يمكن امتصاص نقمة المعارضة وتفويت الفرصة عليها للمطالبة بالحكم.
2ـ إضفاء الشرعيّة على الحكم القائم
لم يصل المأمون إلى الحكم بطريقة شرعيّة، وكان إقرار حكمه من قبل الفقهاء نابعاً من الترغيب والترهيب، أو استسلاماً للأمر الواقع، وعدم القدرة على تغييره.لذا، فإنّ ما قام به المأمون من تولية الإمام عليه السلام يُمكن أن يحقّق له ما يصبو إليه من إضفاء الشرعيّة على حكمه، مستفيداً من الولاء الفكريّ والعاطفي للإمام عليه السلام في نفوس المسلمين.
3ـ منع الإمام من الدعوة لنفسه
الإمام مسؤول عن دعوة الأمّة للارتباط بالإمام الحقّ والمنهج الحقّ. والمتعارف عليه أنّ وليّ العهد يدعو للحاكم الفعليّ ثمّ لنفسه. ومن هنا كان تفكير المأمون منصبّاً على توجيه دعوة الإمام لنفسه. وقد صرّح بهذه الحقيقة بقوله: قد كان هذا الرجل مستتراً عنّا يدعو إلى نفسه دوننا، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه إلينا(1).4ـ إبعاد الإمام عن قواعده
إنّ وجود الإمام عليه السلام في العاصمة بعيداً عن مدينة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم يعني انفصاله عن قواعده الشعبيّة، وتحجيم الفرص المتاحة للاجتماع بوكلائه ونوّابه المنتشرين في شرق الأرض وغربها، ومن جهة أخرى جعل الإمام تحت الرقابة المباشرة من المأمون الّذي قام بتقريب وإغراء هشام بن إبراهيم الراشديّ ـ وكان من خواصّ الإمام ـ وولّاه حجابة الإمام عليه السلام ، فكان ينقل الأخبار إليه، ويمنع من اتّصال كثير من مواليه به، وكان لا يتكلّم في شيء إلّا أورده على المأمون(2).5ـ إبعاد خطر الإمام عن الحكم القائم
إنّ توسّع القاعدة الشعبيّة للإمام عليه السلام كان يشكّل خطراً حقيقيّاً على حكم المأمون بعد التصدّع الّذي حدث في البيت العبّاسيّّ، وخاصّة بعد قيام الثورات المسلّحة، فلو تُرك الإمام عليه السلام في المدينة لأدّى ذلك إلى ضعف السلطة القائمة. وبهذا الصدد قال المأمون: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لا نسدّه، ويأتي علينا ما لا نطيقه(3).
6 ـ تشويه سمعة الإمام عليه السلام
أجاب الإمام عليه السلام المأمونَ موضِّحاً دوافعه بقوله: "تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ عليّ بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً بالخلافة؟!"(4).وصرّح المأمون بذلك للعبّاسيّين بقوله:...ولكنّنا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتّى نصوّره عند الرعايا بصورة من لا يستحقّ هذا الأمر(5).
7 ـ تفتيت جبهة المعارضة
إنّ المعارضين لحكم المأمون سينظرون إلى الإمام الرضا عليه السلام على أنّه جزء من الحكم القائم، وتتعمّق هذه النظرة حينما يجدون أنّ بعض ولاة المأمون هم من أهل بيت الإمام عليه السلام أو من أتباعه. وإضافة إلى ذلك فإنّ الوالي مكلّف بقمع أيّ حركة مسلّحة، وفي هذه الحالة ستكون المعارضة وجهاً لوجه أمام الولاة المحسوبين على الإمام عليه السلام ممّا يؤدّي إلى تفتيت جبهة المعارضة. والأهمّ من ذلك أنّ الفساد الإداريّ والحكوميّ سَتُلقى مسؤوليّته على هؤلاء الولاة باعتبارهم من أركان الحكم القائم.مبرّرات قبول الإمام الرضا عليه السلام ولاية العهد
لقد قبل الإمام عليه السلام ولاية العهد، ولكن بعد أن عرف أنّ ثمن رفضه لها لن يكون غير نفسه الّتي بين جنبيه. هذا عدا عمّا سوف يتبع ذلك من تعرّض شيعته وأنصاره إلى أخطارٍ هم في غنى عنها...وفي ذلك يذكر الشيخ الصدوق رحمه الله نقاشاً جرى بين المأمون والإمام عليه السلام ، حيث قال المأمون للإمام عليه السلام : يا ابن رسول الله قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك، وأراك أحقّ بالخلافة منّي.
فقال الإمام عليه السلام : "بالعبوديّة لله عزَّ وجلَّ أفتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالغنائم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله تعالى".
فقال المأمون: إنّي قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك!
قال الإمام عليه السلام : "إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز لك أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك".
فقال المأمون: يا ابن رسول الله لا بدّ من قبول هذا الأمر. قال الإمام عليه السلام : "لست أفعل ذلك طايعاً أبداً".
فما زال يجهد به أيّاماً، فلمّا يئس من قبوله, عرض عليه ولاية العهد، ثمّ جرى بينهما كلام أوضح فيه الإمام عليه السلام دوافع المأمون من ذلك، فغضب المأمون ثمّ قال: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلّا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلّا ضربت عنقك.
فقال الإمام عليه السلام : "قد نهاني الله عزَّ وجلَّ أن أُلقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا، فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أن لا أُولّي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقضنَّ رسماً ولا سنّة، وأكون في الأمر بعيداً مشيراً".
فرضي منه بذلك، وجعله وليّ عهده، والإمامُ عليه السلام كاره لذلك"(6).
وفي رواية أُخرى أنّ المأمون قال للإمام عليه السلام : "إنّ عمر بن الخطّاب جعل الشورى في ستّة، أحدهم جدّك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وشرط فيمن خالف منهم أن يضرب عنقه، ولا بدّ من قبولك ما أريده منك، فإنّي لا أجد محيصاً منه"(7).
وقد صرّح الإمام عليه السلام باضطراره للقبول، وكان يقول: "قد علم الله كراهتي لذلك، فلمّا خُيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل"(8).
وقيل له: يا ابن رسول الله ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟
فقال عليه السلام : "ما حمل جدّي أمير المؤمنين على الدخول في الشورى"(9).
والإمام عليه السلام لم يستسلم للقبول خائفاً من قتله، وإنّما سيكون قتله سبباً في خسارة الحركة الرساليّة, لحاجتها إلى قيادته في هذه المرحلة، وسيكون قتله مقدّمة لقتل أهل بيته، أو يؤدّي إلى ردود أفعال مسلّحة غير مدروسة بدافع الانتقام، وبالتالي تنهار القوّة العسكريّة دون أن تغيّر من الأحداث شيئاً.
على أنّه لا يخفى وجود أسباب ومبرّرات أخرى قد تكون دافعاً لقبول الإمام عليه السلام بهذه الولاية، منها:
1ـ استثمار الظروف لإقامة الدِّين وإحياء السنّة
إنّ الحرّيّة النسبيّة الممنوحة للإمام الرضا عليه السلام ولأهل بيته وأنصاره هي فرصة مناسبة لتبيين معالم الدِّين وإحياء السنّة النبويّة ونشر منهج أهل البيت عليهم السلام في مختلف الأوساط الاجتماعيّّة والسياسيّة، وخصوصاً في البلاط الحاكم عن طريق الالتقاء بالوزراء والخواصّ والخدم والحرّاس وغيرهم، وقد صرّح الإمام عليه السلام بذلك قائلاً:"اللّهمّ إنّك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة، وقد أُكرهت واضطررت كما أشرفت من قبل عبد الله المأمون على القتل متى لم أقبل ولاية عهده... اللّهمّ لا عهد إلّا عهدك، ولا ولاية إلّا من قبلك، فوفّقني لإقامة دينك، وإحياء سُنّة نبيّك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّك أنت المولى وأنت النصير، ونعم المولى أنت، ونعم النصير"(10).
وقد سمحت الظروف للإمام عليه السلام لتبيين المنهج السليم أمام الوزراء والقضاة والفقهاء وأهل الديانات الّذين جمعهم المأمون لمناظرة الإمام عليه السلام ، إضافة إلى قيامه بتوجيه المأمون إلى اتخاذ الرأي الأصوب مهما أمكن.
2ـ تصحيح الأفكار السياسيّة الخاطئة
من الأفكار السائدة عند كثير من المسلمين عدم ارتباط الدِّين بالسياسة، وأنّه لا يليق بالأئمّة والفقهاء أن يتولّوا المناصب السياسيّة، وأنّ المتّقي هو الزاهد في السلطة والخلافة. وقد حاول العبّاسيّون تركيز هذا المفهوم عند المسلمين، فأراد الإمام الرضا عليه السلام بقبوله ولاية العهد أن يصحّح هذه الأفكار السياسيّة الخاطئة، ويوضّح للمسلمين وجوب التصدّي للحكم في الظروف المناسبة.والأفكار الخاطئة حقيقة قائمة، فقد دخل أحد أنصار الإمام عليه وقال له: يا ابن رسول الله إنّ الناس يقولون: إنّك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا(11).
ولا يمكن إزالة هذه الأفكار إلّا بتربية مكثّفة تحتاج إلى وقت طويل، اختصرها الإمام الرضا عليه السلام في موقفه العمليّ بقبول ولاية العهد.
3 ـ إفشال مخطّطات المأمون
من المتوقّع أنّ المأمون سيقوم بتولية العهد لأحد العلويّين. والعلويّ المنصَّب لولاية العهد، إمّا أن يكون: مساوماً، أو انتهازيّاً، أو مخلصاً قليل الوعي، أو واعياً معرَّضاً للانزلاق في مغريات السلطة. وفي جميع الحالات، فإنّ هذا الموقف سيؤدّي إلى شقّ صفوف أنصار أهل البيت عليهم السلام أو توريط العلويّ بممارسات خاطئة تؤدّي إلى تشويه سمعة أهل البيت عليهم السلام أو إلقاء مسؤوليّة الفساد الاقتصاديّ والأخلاقيّ والإداريّ والسياسيّ عليه.وقد يؤدّي انزلاق من يتولّى العهد من العلويّين إلى قيامه بمعارضة الإمام عليه السلام أو ملاحقة أتباعه وأنصاره.
وبقبول الإمام الرضا عليه السلام لولاية العهد سوف تفوّت الفرصة على المأمون لإمرار مخطّطاته في شقّ صفوف الحركة الرساليّة، أو إلقاء تبعة المفاسد على من يُنسب إلى أهل البيت عليهم السلام .
4ـ تعبئة الطاقات
بعد فشل الثورات العلويّة وانكسارها عسكريّاً، فإنّ الظروف الّتي خلقتها ولاية العهد كانت مساعدة لإعادة بناء القوّة العسكريّّة لأهل البيت عليهم السلام ، وتعبئة الطاقات بعد إيقاف الملاحقة والمطاردة لها، وهي بحاجة إلى قسط من الراحة لإدامة التحرّك فيما بعد، حينما تكون الظروف مناسبة له.خلاصة
• كانت دعوة المأمون للإمام الرضا عليه السلام بعد سنتين من تولّيه السلطة. وكان يكاتب الإمام عليه السلام ويراسله ويضغط عليه من أجل قبول ولاية العهد. وكان الإمام يمانع ولم يبد قبولاً، حتّى استجاب للمأمون تحت ضغط التهديد بالقتل، وكانت بينهما مخاطبات استمرّت حوالي شهرين.• قبل الإمام عليه السلام ولاية العهد بشروط، بعد أن هدّده المأمون بالقتل، ومن هذه الشروط: أن لا يأمر ولا ينهى ولا يقضي ولا يغيّر شيئاً ممّا هو قائم. وفعلاً فإنّ الإمام الرضا عليه السلام حتّى وقت استشهاده بالسمّ لم يتدخّل في أمور الدولة إلا بمقدار ما كان فيه خدمة للعامّة. وكان المأمون يهدف من تولية الإمام عليه السلام ولاية العهد إلى أهداف متعدِّدة أهمّها:
1- تهدئة الأوضاع المضطربة.
2- محاولة إضفاء الشرعيّة على حكمه وسلطته.
3- محاولة التضييق على الإمام الرضا عليه السلام وحجبه عن قواعده في المدينة والعراق.
4- إضعاف المعارضة وخصوصاً الشيعيّة منها.
• ومع كلّ ذلك فالإمام عليه السلام عمل على إفشال ما خطّط له المأمون، حيث تمكّن من تعبئة الجماهير المؤمنة بقيادته فضلاً عن فضح السلوك المنحرف للسلطة العبّاسيّة في مناسبات عديدة، كما تمكّن الإمام عليه السلام من إحياء سنّة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم وآبائه الكرام عليهم السلام .
المصادر :
1- فرائد السمطين، إبراهيم بن محمّد بن المؤيّد بن عبد الله بن عليّ بن محمّد الجويني الخراساني، تحقيق الشيخ محمّد باقر المحمودي: 2/214. منشورات مؤسسة المحمودي، بيروت، ط 1، 1400هـ ـ 1980م
2- بحار الأنوار، م.س: 49/139
3- رفرائد السمطين، م.س: 2/214
4- علل الشرائع، م.س: 238
5- فرائد السمطين، م.س: 2/215
6- علل الشرائع، م.س: 237 و238
7- الإرشاد، م. س: 210
8- عيون أخبار الرضا، م. س: 2/139
9- م.ن: 2/141
10- عيون أخبار الرضا، م. س: 1/19
11- علل الشرائع، م. س: 239
/ج