يعتقد البعض ان الاِمامة «تمثّل نقطة الخلاف الوحيدة بين السُنّة والشيعة»، ارتأينا أن نوضّح بعض الحقائق التي عزف عن ذكرها هؤلاء ، متناولين في القضية نقاطاً عديدة:
* النقطة الاَولى: في النصّ:
«إذن القضية أنّهم جعلوا الاِمامة بالتعيين، وقالوا بروايات انفردوا بها: أنّ الاِمام والوصيّ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الاِمام عليّ..».نعم، فالشيعة قائلون بالنصّ في مقابل غيرهم الّذين اضطربوا تارة فقالوا بالنصّ على أبي بكر، وتذبذبوا أُخرى فادّعوا الاِجماع عليه، وثالثة جعلوا الشورى هي الاَساس في الاِمامة والخلافة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن المناسب في المقام التعرّض إلى أُمور، منها:
*أ ـ تعريف الاِمامة في كتب الفريقين:
يقول السعد التفتازاني في تعريفها أنّ: «الاِمامة رئاسة عامّة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم»(1) .وأمّا علاّمتنا الحلّي فيقول: «الاِمامة رئاسة عامّة في اُمور الدين والدنيا لشخص نيابة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم»(2) .
ومن الواضح أنّ الفريقين من حيث المبدأ اتّفقوا على تعريف الاِمامة من حيث المفهوم، ولكنّهم اختلفوا في من له الاِمامة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من جهة، وأنّها هل هي منصب عاديّ أم أنّها منصب ربّاني من جهة أُخرى(3) .
*ب ـ الخلافة عند أهل السُنّة:
قال: «أهل السُنّة يعتبرون أنّ الاِمامة بمعنى الخلافة جزء من الشورى، وأنّها جزء من سلطة الاَمّة، وأن الاِمامة بـ (البيعة) و(الاختيار) و(الشورى)، بينما الشيعة يعتبرون الاِمامة بـ (النصّ) و(التعيين من السماء) لهؤلاء الاَئمّة، وأنّ الاَمّة لا شأن لها في اختيار الاِمام، والشورى لا دخل لها في اختيار الاِمام، والبيعة لا دخل لها في اختيار الاِمام».وقال أيضاً: «الميادين الحقيقية للاجتهاد يتميّز بها الفكر السُنّي كفكر عقلاني في النظر إلى الاَمور وإلى الشورى وإلى سلطان الاَمّة، أين هو التميّز بين مذهبين؟! أحدهما يقول: إنّ الاَمّة لا شأن لها بالدولة والسياسة والاِمامة، ومذهب يقول: إنّ الاَمّة هي المعصومة (لا تجتمع أُمّتي على ضلال)، وفيه العصمة للاَمّة.. والشورى للاَمّة.. والسلطان للاَمّة».
والحقّ أنّ المتتبّع لما قيل عن الخلافة في كتب أهل السُنّة يستخلص ـ كما أشرنا ـ أنّ القول بصحّتها لاَبي بكر يرجع إلى ثلاثة آراء:
*الاَوّل: في النصّ عليه:
وهذا لم يذكره الدكتور نفسه لوضوح أنّهم لا يقولون بالنصّ، إذ لا محصّل له ولا دليل عليه سوى ما ادّعاه بعض أهل السُنّة أمثال البكرية، وهو قول شاذّ لم يلتزم به أحد من أكابرهم لضعف الاَدلّة عليه، ولم يصل إلينا أنّ أبا بكر احتجّ على أحد بالنصّ عليه من قبل النبيّ، وإلاّ لما حصل في سقيفة بني ساعدة ما حصل!!*الثاني: في الاِجماع عليه:
ودليلهم ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تجتمع أُمّتي على ضلال» أو: «على خطأ» كما في بعض النصوص، ونحن لو سلّمنا بها وبصدورها منه صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ أنّها لا تنفع في مقام الاستدلال على خلافته، لاَنّها خارجة تخصّصاً، إذ كيف يُدّعى إجماع الاَُمّة على صحّة خلافة أبي بكر وفيها من الصحابة الكبار الّذين كانوا يعارضونها، أبرزهم الاِمام عليّ عليه السلام والعبّاس بن عبدالمطلّب والفضل ابن عبّاس وخالد بن سعيد والمقداد بن الاَسود الكندي وسلمان الفارسي وأبو ذرّ الغفاري وعمّار بن ياسر والبراء بن عازب، وغيرهم، خصوصاً من بني هاشم.وهذا اليعقوبي يصرّح في تخلّف عليّ عليه السلام وبعض الصحابة عن بيعة أبي بكر.
وذاك البلاذري في أنسابـه(4) وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة(5) زـ ينقلان أنّ أبا بكر بعث عمر إلى عليّ عليه السلام حين رفض البيعة له وقال: «ائتني به بأعنف العنف» فلمّا أتاه جرى بينهما كلام، فقال عليه السلام: «احلب حلباً لك شطره، والله ما حرصك على إمارته اليوم إلاّ ليؤثرك غداً»..
ويبقى أن نسأل أين هو هذا الاِجماع للاَمّة؟!
*الثالث: في الشورى:
في الواقع يتساءل الاِنسان عن تلك الشورى التي كانت محور الخلافة عند أهل السُنّة، حتّى جعل الدكتور يميّز بين المذهبين معتبراً أنّ الشيعة عندما يقولون بالعصمة للاَئمّة بالنصّ عليهم يسلبون الاَمّة حقّها..وهذا في الحقيقة جهل من الدكتور لحقيقة التشيّع، وسنوافيه بالحقّ عند البحث في العصمة، إلاّ أنّ القول بأنّ الشورى هي التي تعصم الاَمّة من الخطأ، وأنّ الخلافة هي جزء من الشورى يستلزم بطلان خلافة الاَوّل والثاني!
وتوضيح ذلك في ما يلي:
* 1 ـ الشورى والسقيفة:
إنّ من سبرَ أغوار السيرة وتتبّع مجرى الاَحداث في سقيفة بني ساعدة، يتّضح له أنّ ما جرى لم يكن في الحقيقة شورى، وإنّما نزاع ومشاحنة حادّة على السلطة.وأين هي تلك الشورى التي ليست لها ضوابط محدّدة، حتّى وصلت إلى حدّ السباب والهمّ بالقتل؟!
وحتّى لا نكون من أصحاب الشعارات البرّاقة.. لا بأس بالعودة إلى الوراء قليلاً وإلقاء نظرة سريعة من نافذة سقيفة بني ساعدة، حتّى يعلم الخبر كما في كتب أهل السُنّة.
نقل الطبري في تاريخه أنّ الحبّاب بن منذر، الصحابي البدري، عندما ارتفعت الاَصوات ردّ على عمر قائلاً: «يا معشر الاَنصار! أملكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الاَمر، فإنْ أبوا عليكم ما سألتموهم فاجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم الاَمور...
فقال عمر: إذاً يقتلك الله!
قال الحبّاب: بل إيّاك يقتل!»(6) .
وهذا الطبري من نفس الجزء، وأحمد في مسنده ينقلان قول بعضهم: «أُقتلوا سعداً قتله الله، إنّه منافق أو صاحب فتنة» وقد قام عمر على رأسه ويقول: «لقد هممتُ أن أطأك حتّى تندر عضوك أو تندر عيونك»(7) ُع.
وقد نقل الطبري أيضاً وفي نفس المصدر، وكذا في السيرة الحلبية أنّ قيس بن ساعدة أخذ بلحية عمر، فقال له الاَخير: «والله لـو حصصت منه شعرة ما رجعتَ وفي فيك واضحة! أو: لخفضت منه شعرة ما رجعتَ وفي فيك جارحة»(8) ..
وقد ذكر الطبري في المصدر السابق عن أحدهم قوله: «إنّي لاَرى عجاجة لا يطفئها إلاّ الدم».
وهذا ابن هشام في السيرة النبوية ينقل عن عمر قوله: «كثر اللغط وارتفعت الاَصوات حتّى تخوّفت الاختلاف»(9) ...
وهل مثل هذا الاجتماع وبهذه الكيفية يسمّى شورى؟!!
وهل إنّ مثل هذه البيعة هي التي ترتضيها الاَمّة؟!
الجواب هو ما تلفّظ به عمر نفسه عندما قال:
«كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهلية وقى الله المسلمين شرّها».
وبلفظ آخر: «كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمّت، وإنّها قد كانت كذلك إلاّ أنّ الله قد وقى شرّها، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين، فإنّه لا بيعة له»(10) .
* 2 ـ الشورى وخلافة الثاني:
لو صحّ ما قاله الدكتور بأنّ الشورى هي المقوّم للخلافة، فأين هي وأين هو سلطان الاَُمّة في خلافة الثاني؟!لاَنّك لو ألقيت نظرة سريعة في صفحات التاريخ لعلمت أنّها ـ أي خلافة عمر ـ لم تكن سوى استخلافاً، يقول ابن قتيبة: «دعا أبو بكر عثمان فقال: أكتب عهدي. فكتب عثمان وأملى عليه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا نازحاً عنها، وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها، إنّي أستخلف عليكم عمر بن الخطّاب...»(11) وزاد ابن الاَثير في الكامل في التاريخ أنّ أبا بكر غُشي عليه فأكمل عثمان وكتب فيه استخلاف عمر فأفاق أبو بكر وقال: «إقرأ عليَّ. فقرأ عليه، فكبّر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي»(12) .
ومن الثابت أيضاً قول عمر كما نقـل الطبري، وفي تاريخ الخلفاء: «لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيّاً استخلفته، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً استخلفته»(13) .
* 3 ـ الشورى في الميزان:
ولنا الحقّ أن نقول: ترى هل أدركَ ابو بكر أنّ الاستخلاف هو أفضل السبل لاِبعاد الاَمّة عن الفتنة، وأنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يدرك هذا السبيل؟!نقول أيضاً: أترى أنّ عمر أدرك بنفسه أهمّية أن يعيّن هو أسماء الّذين سيشكّلون الشورى من بعده، والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد خفي عليه هذا الاَمر؟!
وكيف يعقل أن يبيّن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صغائر الاَُمور وأحكامها حتّى التخلّي وينسى أن يبيّن للناس أحكام تلك الشورى المزعومة ووظائفها، التي إليها يرجع مصير الاَُمّة، فلا يعيّن أفرادها ولا يبيّن أحكامها؟!
كلّها أسئلة ليس لها من جواب!
غير أنّ الشورى لم تكن مفهوماً مرتكزاً بين الصحابة حتّى عند أبي بكر وعمر، ولا كانت أساساً تبني عليه الاَُمّة صلاحها.
والذي يثبت ـ حقّاً ـ أنّ الشورى ليست هي الجزء المقوِّم للخلافة، وما ادّعي من دلالة بعض الآيات عليها ليس واضحاً، وهو خارج عن محلّ البحث بالاِضافة إلى أنّها منقدحة بترك الخلفاء لها، ومجملة لم يبيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحكامها لو صحّ الاستدلال بها... فيبقى أن نعود إلى النصّ لنرى مدى صحّة ما اعتقد به الشيعة في النصّ على عليّ عليه السلام.
* ج ـ أدلّة الشيعة على إمامة عليّ عليه السلام:
قال: «قالوا بروايات انفردوا بها...».لا أدري كيف توصّل الدكتور إلى هذه النتيجة؟! مع العلم بأنّ كتب الشيعة تزخر بالاِثباتات والاَدلّة التي ذُكرت في كتب الفريقين، وقد حُقّقت في محلّها، إلاّ أنّنا تفنيداً لِما ادّعيَ نبحث في بعضها اختصاراً، معتمدين على شواهد من القرآن والسُنّة يؤيّدها حكم العقل، مع ذِكر أهمّ المصادر لاَهل السُنّة.
* 1 ـ فاتحة الكلام:
وهي في مقدّمة عقلية مفادها أنّ الاِمامة «كالنبوّة، لطفٌ من الله تعالى، فلا بُدَّ أن يكون في كلّ عصر إمام هادٍ يخلف النبيّ في وظائفه، من هداية البشر، وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين، ولـه ما للنبيّ من الولاية العامّة على الناس لتدبير شؤونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم ورفع الظلم والعدوان من بينهم.وعلى هذا، فالاِمامة استمرار للنبوّة، والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الاَنبياء هو نفسه يوجب أيضاً نصب الاِمام بعد الرسول، فلذلك نقول: إنّ الاِمامة لا تكون إلاّ بالنـصّ من الله تعالى على لسان النبيّ أو على لسان الاِمام الذي قبله»(14) .
إذن فالقضية هي أنّ الاِمامة مقتضى لطف الله عزّ وجلّ بعباده، وكماله المطلق، حتّى يعرف الناس طريق سعادتهم وصلاحهم.
* 2 ـ من أدلّة الشيعة في القرآن:
نكتفي منها بآية الولاية، وهي قوله تعالى: (إنّما وليّكم الله ورسوله والّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)(15) وهي آية مباركة نزلت في حقّ عليّ عليه السلام وروايات الخاصّة والعامّة متضافرة على نزولها في حقّه عليه السلام وقد نقل العلاّمة الاَميني في الغديـر(16) 66 مصدراً من مصادر أهل السُنّة، نذكر منها:ذخائر العقبى ـ لمحبّ الدين الطبري وتفسير ابن كثير ، والنسائي في صحيحه، وابن جرير الطبري في تفسيره، والحافظ الطبراني في معجمه الاَوسط، والزمخشري في الكشّاف ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، والقاضي البيضاوي في تفسيره ، والسيوطي في الدرّ المنثور...(17)
ولفظ الحديث، أنّه روي: «عن أنس بن مالك أنّ سائلاً أتى المسجد وهو يقول: من يقرض الملّي الوفي، وعليٌّ عليه السلام راكع يقول بيده خلفه للسائل، أي: اخلع الخاتم من يدي.
قال رسول الله: يا عمر! وجبت.
قال: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، ما وجبت؟!
قال: وجبت له الجنّة، وما خلعه من يده حتّى خلعه الله من كلّ ذنبٍ ومن كلّ خطيئةٍ.
قال: فما خرج أحد من المسجد حتّى نزل جبرئيل بقوله عزّ وجلّ: (إنّما وليّكم الله ورسوله والّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) فأنشأ حسّان بن ثابت يقول:
أبا حسـن تـفـديـك نفسي ومهجتي * و كل بطيء في الهدى ومسارع
أيذهب مـدحي والمحبّين ضائعاً؟! * وما الـمدح في ذات الاله بضائع
فأنتَ الذي أعـطـيتَ إذ أنتَ راكـعٌ * فدَتْك نـفـوس القوم يا خيرَ راكع
بـخـاتمـِكَ المـيـمون يا خـيـرَ سيّــد * ويا خــيــرَ شـارٍ ثـمّ يا خير بائعِ
فـأنـزل اللهُ فــيــك خـــيــَر ولايـــةٍ * وبيّنها في محكـمـات الشـرائـعِ»
ولفظ «الوليّ» في الآية دالٌّ على الاِمامة لمن أنصف وترك التعصّب، وتفسيرها بالمحبّ والناصر خلط للمتعلّق بالمفهوم، على أنّه أوّل ما يتبادر للذهن معنى «الوليّ» بمعنى المتصرّف، ولذا لا يشكّ أحد في أنّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم كما في مسنـد أحمـد: «أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل» على أنّ المراد منه التصرّف لا الحبّ والنصرة..
* والحاصل
أنّ الروايات التي فسرّت الآية لم ننفرد بها، وهو القدر المتيقّن في المقام، فلا يصحّ ما قاله الدكتور من أنّنا انفردنا بالروايات الدالّة على إمامة عليّ عليه السلام، وسنشير إلى آيات أُخرى من هذا القبيل عند البحث في العصمة.* 3 ـ من السُنّة النبويّة:
وهي كثيرة جداً، وإنّما نكتفي بما يناسب البحث:* * حديث الدار في يوم الاِنذار:
وهو من الاَحاديث التي لا شكّ في صحّتها، وقد ذكرته كتب الفريقين في الصحاح وغيرها...منها: ما أخرجه أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره الكشف والبيان عن البراء بن عازب قال: «لمّا نزلت هذه الآية: (وأنذر عشيرتك الاَقربين) جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني عبدالمطّلب وهم يومئذٍ أربعون رجلاً... ثمّ أنذرهم رسول الله فقال: يابني عبدالمطّلب! إنّي أنا النذير إليكم من الله عزّ وجلّ والبشير، فأسلموا، وأطيعوني تهتدوا.
ثمّ قال: من يؤاخيني ويؤازرني، ويكون وليّي ووصيّي بعدي، وخليفتي في أهلي، يقضي ديني؟!
فسكت القوم، فأعادها ثلاثاً، كلّ ذلك يسكت القوم ويقول عليٌّ: أنا.
فقال في المرّة الثالثة: أنت.
فقام وهم يقولون لاَبي طالب: أطع ابنك، فقد أُمِّر عليك!
هذا، وقد أُخرج الحديث بطرق متعدّدة، وفي صورٍ مختلفة، منها ما ذكره أحمد بن حنبل في مسنده 1/111، وتاريخ الطبري 2/62، والكامل في التاريخ 2/40، والنسائي في الخصائص: 18، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3/200، والسيوطي في جمع الجوامع 6/408، والحلبي في سيرته 1/304. وفي الحديث دلالة واضحة على الوصاية والخلافة من بعده وإنْ عزَّ على بعضهم الاِقرار بها! كما فعل الطبري في تفسيـره 19/74 عند قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أيّكم يؤازرني على هذا الاَمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ «مستبدلاً» الكلمتين الاَخيرتين بـ «كذا وكذا»!!.
وهكذا فعل ابن كثير في تفسيره أيضاً 3/351!!
ولا أعتقد أنّ لهذا مبرراً سوى إنّه تحريف للكلم عن مواضعه.
* حديث المنزلة:
وهو حديث متواتر متّفق على صدوره من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رواه جمع المحدّثين بما فيهم أصحاب الصحاح، كالبخاري في صحيحه 5/24، ومسلم في صحيحه 6/120 ـ 121، والترمذي في جامع الصحيحين 13/175، والنسائي في الخصائص: 14، وابن كثير في البداية والنهاية 7/340، وابن الاَثير في أُسد الغابة 4/26، وأحمد بن حنبل في المسند 2/74.ونصّ الحديث ـ كما فى البخاري ـ أنّه لمّا أراد الرسول الخروج إلى غزوة تبوك خرج الناس معه، فقال عليّ: «أخرج معك؟».
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا».
فبكى عليٌّ، فقال له رسول الله: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي، إنّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي».
* حديث الغدير:
كأنّ الدكتور قد غاب عن ذهنه أنّ عمدة الاَدلّة عند الشيعة الدالّة على النصّ هو حديث الغدير، الذي نصَّ على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، وقد تحقّق عند الجميع بأنّه قد روي، وثبت عند الفريقين.وقد ورى ابن عساكر في تاريخ دمشق 2/45، قال: «أخبرنا... عن حذيفة بن أُسيد، قال: لمّا قفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حجّة الوداع نهى الصحابة عن شجرات البطحاء متقاربات أن ينزلوا حولهنّ، ثمّ بعث(18) إليهنّ فصّلى تحتهنّ.
ثمّ قام فقال: أيّها الناس! قد نبّأني اللطيف الخبير، أنّه لم يعمّر نبيٌّ إلاّ مثل نصف عمر الذي يليه من قبله، وإنيّ لاَظنّ أنّه يوشك أن أُدعى فأُجيب...
ثمّ قال: أيّها الناس! إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وإنّي أوْلى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه.
ثمّ قال: أيّها الناس! إنّي فرطكم وإنّكم واردون عليَّ الحوض... وإنّي سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما! الثقل الاَكبر: كتاب الله سبب طرفه بيد الله عزّ وجلّ، وطرف بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تضلّوا ولا تبدّلوا؛ والثقل الاَصغر: عترتي أهل بيتي، فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».
وقد ذكر الشيخ أبو طالب تجليل التبريزي في كتابه شبهات حول الشيعة(19) عدداً من الاَسانيد المنتهية إلى صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من كتب أهل السُنّة وصلت إلى 245 طريقاً ذُكرت في:
مسند أحمد بن حنبل ، الخصائص ـ للنسائي ـ ، صحيح الترمذي ، المستدرك على الصحيحين ، تفسير ابن كثير ، سنن ابن ماجة ، تاريخ دمشق: ذُكر في ما يقارب 29 موضعاً في الجزء الثاني منه، ، تاريخ بغداد ، مجمع الزوائد، كفاية الطالب، الاِصابة، الكنى والاَسماء، مناقب ابن المغازلي، أُسد الغابة، المعجم الكبير، البداية والنهاية، ميزان الاعتدال، فرائد السمطين، الكنى للبخاري، الجرح والتعديل، وغيرها من المصادر التي يطول البحث فيها ولا تدع مجالاً للشكّ في صدور الحديث.(20)
كما يمكن الرجوع إلى الجزء الاَول من كتاب الغـديـر للعلاّمة الاَميني، لتعرف أنّ النصّ لم ينفرد به الشيعة، بل رواه 12 صحابياً، و84 تابعياً، و360 من أئمّة الحديث وحفّاظه.
نعم، يبقى النقاش في الدلالة، وهي واضحة لمن جرّد ذاته عن العصبية، إذ لا معنى لاَنْ يجمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس قبل ارتحاله إلى العليّ القدير بشهرين وعدّة أيّام ليحثّ الناس على نصرة عليّ دون استخلافه، إذ إنّ نصرته تحصيل حاصل يعرفها جميع المسلمين آنذاك، فلا بُدّ أن يكون المعنى هو تنصيب عليّ عليه السلام خليفة لا غير، وإلاّ فما معنى أن يعقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجالس تهنئة وتبريك، ويأمر أصحابه بالتهنئة لعليّ عليه السلام ومنهم عمر بن الخطاب الذي هنّأ عليّاً بقوله: «بخٍ بخٍ لك يا عليّ، أصبحت مولانا ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة» وقد نقل العلاّمة الاَميني في كتابه المذكور لحديث التهنئة؛ ستّين مصدراً من مصادر أهل السُنّة(21) .
* حديث الثقلين:
وهو حديث مشهور متّفق عليه بين المسلمين، وقد رواه من العامّة الترمذي في جامع الصحيح ، الطبراني في المعجم الكبير ، الحاكم في المستدرك على الصحيحين ، الهيثمي في مجمع الزوائد ، المتّقي في كنز العمّال ، ابن الاَثير في جامع الاَصول، ابن كثير في تفسير القرآن العظيم ، السيوطـي في الدرّ المنثور، مسلم في الصحيح ، ابن كثير في البداية والنهاية ، وغيرهم...(22)ولفظ الحديث ـ كما في كنز العمّال ـ عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنّي تركت ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الاَرض؛ وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما».
والمفهوم من الحديث أنّ ضلال الاَمّة وهديها مرهون باتّباع تلك العترة الطاهرة والتمسّك بها، لاَنّهم ـ أي أهل البيت ـ يدورون مدار القرآن العزيز، وهذا دليل على أنّهم العالمون بتأويله وتفسيره، وأنّهم السبيل الوحيد للنجاة، فكيف لا يكون هذا نصّاً على ولايتهم، وأنّهم الاَوصياء على الناس من بعده وإليهم يرجع في مختلف شؤون الحياة؟!
المصادر:
1- شرح المقاصد في علم الكلام: 234.
2- الباب الحادي عشر مع شرحه النافع يوم المحشر ـ للمقداد بن عبدالله الحلي ـ: 82.
3- كتاب «الاِمامة في أهم الكتب الكلامية، وعقيدة الشيعة الاِمامية»، السيّـد علي الحسيني الميلاني ، ص 44.
4- أنساب الاَشراف ـ للبلاذري ـ 1/587.
5- شرح نهج البلاغة 6/11.
6- تاريخ الطبري 3/209.
7- مسند أحمد 1/56، تاريخ الطبري 3/210.
8- السيرة الحلبية 3/387.
9- السيرة النبوية لابن هشام 2/660.
10- السيرة النبوية 2/658، تاريخ الطبري 2/446.
11- الاِمامة والسياسة 1/18.
12- الكامل في التاريخ 2/292.
13- تاريخ الطبري 5/34، تاريخ الخلفاء: 127.
14- عقائد الاِماميّة ـ للشيخ محمّدرضا المظفّر، منشورات إشكوري، ط 1413 هـ ـ: 92.
15- سورة المائدة 5: 55.
16- الغدير 3/199 ـ 205، وهو للعلاّمة عبدالحسين أحمد الاَميني النجفي، مؤسّسة الاَعلمي، بيروت ط 1994 م.
17- ذخائر العقبى ـ لمحبّ الدين الطبري ـ: 102، وتفسير ابن كثير 2/14، والنسائي في صحيحه، وابن جرير الطبري في تفسيره 6/289، والحافظ الطبراني في معجمه الاَوسط، والزمخشري في الكشّاف 1/347، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3/275، والقاضي البيضاوي في تفسيره 1/345، والسيوطي في الدرّ المنثور 2/293
18- وفي روايات أُخرى: «غدا» أو «عمد» إليهنّ.
19- شبهات حول الشيعة، الشيخ أبو طالب تجليل التبريزي ـ دار القرآن الكريم، إيران ـ قم، ط 1417 هـ.
20- مسند أحمد بن حنبل 1/84 و88 و118 و152 و331، و ج4/281 و370 و372، و ج5/358 و366 و370، الخصائص ـ للنسائي ـ: 4 و21 و24 و26 و40، صحيح الترمذي 13/165، المستدرك على الصحيحين 3/109 و116، تفسير ابن كثير 2/14، سنن ابن ماجة 1/55 ـ 58، تاريخ دمشق: ذُكر في ما يقارب 29 موضعاً في الجزء الثاني منه، منها في ص 18 و19 و28 و30 و53، تاريخ بغداد 2/13 و12/343 و14/236
21- الغدير 1/272 ـ 283.
22- جامع الصحيح 5/621، الطبراني في المعجم الكبير: 127 و157، الحاكم في المستدرك على الصحيحين 3/109، الهيثمي في مجمع الزوائد 9/163، المتّقي في كنز العمّال 1/340، ابن الاَثير في جامع الاَصول 10/470، ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 5/662، السيوطـي في الدرّ المنثور 2/60، مسلم في الصحيح 4/1873، ابن كثير في البداية والنهاية 7/348، (22)
/م