قال الله تعالى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) و عدد المستعاذ منه ثم ختم إلى آخر السورة بقوله (وَ مِنْ شَرِّ حاسِد إِذا حَسَدَ) و قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)إياكم و ثلاث خصال فإنهن رأس كل خطيئة
إياكم و الكبر فإن إبليس حمله الكبر على ترك السجود لآدم فلعنه الله و أبعده و إياكم و الحرص فإن آدم حمله الحرص على أن أكل من الشجرة و إياكم و الحسد فإن قابيل حمله الحسد على قتل أخيه هابيل
و الحاسد جاحد لأنه لم يرض بقضاء الله و اعلم أن الحسود لا يسود و جاء في تأويل قوله تعالى( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ )الحسد و قال في بعض كتبه الحاسد عدو نعمتي و الحسد يبين في الحاسد قبل المحسود.
و قال أمير المؤمنين (عليه السلام)لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله و قال بعضهم الحمد لله الذي لم يجعل في قلوب الأمراء و لا الولاة ما في قلب الحاسد فكان يهلك الناس جميعا و روي أن في السماء الخامسة ملكا تمر به الأعمال فربما مر به عمل كالشمس يضيء نورا فيرده و يقول هذا فيه حسد فاضربوا به وجه صاحبه و ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم إلا الحاسد و كل واحد في رضاه سبيل إلا الحاسد لا طريق إلى رضاه لأنه لا ترضيه إلا زوال نعمة المحسود و من علامات الحاسد أنه يشمت بزوال نعمة الذي يحسده و بمصائبه و من علاماته أيضا أنه يتملق إذا حضر و يغتاب إذا غاب عنه من يحسده و روي أن موسى (عليه السلام)رأى رجلا عند العرش فغبطه و قال يا رب بم نال هذا ما هو فيه من صنعه تحت ظلال عرشك فقال إنه لم يكن يحسد الناس و الحاسد إذا رأى نعمة بهت و إذا رأى عثرة شمت و ينبغي لمن أراد السلامة من الحاسد أن يكتم عنه نعمته
و أعظم الأخلاق المذمومة الحسد و الغيبة و الكذب و إذا كان الحاسد همه نشر خصائل المحسود فإنه ينشر فضائله من حيث لا يعلم و لقد أحسن الشاعر في قوله شعرا :
و إذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
و لقد أحسن الشاعر أيضا :
و كيف يرجى ود حسود نعمة *** إذا كان لا يرضيه إلا زوالهاقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب فلا تحاسدوا و قال أمير المؤمنين (عليه السلام)و لا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب و إذا كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)و أمير المؤمنين (عليه السلام)قد شهدا بأن الحسد يأكل الإيمان و الحسنات فأي شيء يبقى مع العبد بعد ذهاب الإيمان و الحسنات فتحرزوا منه تستريح قلوبكم و أبدانكم من التعب و الإثم و لقد سرني أني مثلت في نفسي إن عقلي لو تحول إلى رأس غيري لم أحسده إذ قد فات الأمر في ذلك و لم يبق إلا الصبر و الاحتساب و أن الحزن و الحسد بعد فوات ذلك مصيبة ثانية فتمثلوا رحمكم الله آخر الأمر تستريحوا و تفوزوا فالعاقل يحسب آخر الأمور فيقف عندها و لا يتجاوزها و متى كان الغالب على القلب الفكر و على اللسان الذكر فإن العبد لا يتخلى مع ذلك لحسد و لا لشيء من المعاصي و غيرها إن الذكر و الفكر سيف قاطع لكل شيطان من الجن و الإنس و جنة واقية من الغفلة و خير الذكر الخفي .
المراقبة لله تعالى
قال وَ كانَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْء رَقِيباً و قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) لبعض أصحابه اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك و هذا إشارة إلى المراقبة لأن المراقبة على العبد باطلاع الرب عليه في كل حالاته و ملاحظة الإنسان لهذا الحال فهو المراقبة و أعظم مصالح العبد استحضاره مع عدد أنفاسه إن الله تعالى عليه رقيب و منه قريب يعلم أفعاله و يرى حركاته و يسمع أقواله و يطلع على أسراره و أنه يتقلب في قبضته و ناصيته و قلبه بيده و أنه لا طاقة له على التستر عنه و لا على الخروج عن سلطانه قال لقمان لابنه يا بني إذا أردت أن تعصي الله فاطلب مكانا لا يراك فيه إشارة منه له أنك لا تجد مكانا لا يراك فيه فلا تعصه و قال تعالى (وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ )و كان بعض العلماء يرفع شابا على تلاميذه كلهم فلاموه في ذلك فأعطى كل واحد منهم طيرا و قال اذبحه في مكان لا يراك فيه أحد فجاءوا كلهم بطيورهم و قد ذبحوها فجاء الشاب بطيره و هو غير مذبوح فقال له لم لا تذبحه فقال لقولك لا اذبحه إلا في موضع لا يراك فيه أحد و لا يكون مكانا إلا يراني فيه الواحد الأحد الفرد الصمد فقال له أحسنت ثم قال لهم لهذا رفعته عليكم و ميزته منكم و من علامات المراقبة إيثار ما آثر الله و تعظيم ما أعظم الله و تصغير ما صغر الله فالرجاء يحثك على الطاعات و الخوف يبعدك عن المعاصي و المراقبة تؤدي إلى طريق الحياء و تحمل من ملازمة الحقائق و المحاسبة على الدقائق و أفضل الطاعات مراقبة الحق سبحانه و تعالى على دوام الأوقات و من سعادة المرء أن يلزم نفسه المحاسبة و المراقبة و سياسة نفسه باطلاع الله و مشاهدته لها و أنها لا تغيب عن نظره و لا يخرج عن علمه و ينبغي للواعظ غيره أن يعظ نفسه قبلهم و لا يغره اجتماع الناس عليه و الاستماع منه فإنهم يراقبون ظاهره و الله شهيد على ما في باطنهو روي أن بعضهم رأى شابا حسن العبادة و الاجتهاد فقال يا فتى على ما بنيت أمرك فقال على أربع خصال فقال و ما هي قال علمت أن رزقي لا يفوتني منه شيء و أن وعد الله حق فاطمأننت إلى وعده و الثانية علمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به و الثالثة أن أجلي يأتيني بغتة فبادرته و الرابعة علمت أني لا أغيب عن نظر الله تعالى في سري و علانيتي فأنا مراقب في كل أحوالي .
الفراسة بنور الله تعالى
قال الله تعالى( إِنَّ فِي ذلِكَ لَ آيات لِلْمُتَوَسِّمِينَ )قيل المتفرسون قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله يعني وهبه الله له و روي عن أويس ره لما قصده حيان بن هرم قال له حين رآه السلام عليك يا أخي حيان بن هرم فقال له من أين لك معرفتي و لم ترني فقال له المؤمن ينظر بنور الله و إن أرواح المؤمنين تسأم كما تسأم الخيل و الفراسة أنوار سطعت في القلوب بحقائق الإيمان و معرفة تمكنت في النفوس فصدرت من حال إلى حال حتى شهدت الأشياء من حيث أشهدها سيدها و مولاها فنطقت عن ضمائر قوم و أمسكت عن آخرين و الفراسة أيضا نتيجة اليقين و طريق المؤمنين.و سئل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)عن قوله تعالى فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ قال يقذف في قلبه نورا فينشرح و يتوسع و التفرس من خواص أهل الإيمان سطعت في قلبه أنوار فأدرك بها المعاني و من غض بصره عن المحارم و أمسك نفسه عن الشهوات و عمر باطنه بصفاء السريرة و مراقبة الله تعالى و ظاهره باتباع الكتاب و السنة و لم يدخل معدته الحرام و حرس لسانه من الكذب و الغيبة و لغو القول لم تحط فراسته و ينبغي لمن جالس أهل الصدق أن يعاملهم بالصدق فإن قلوبهم جواسيس القلوب و ينبغي السكون معهم لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ يعني المعلوم لهم الصدق و هم أهل بيت محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)و الدليل على صدقهم قوله تعالى( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ).
و الكذب أيضا رجس و قال (صلی الله عليه وآله وسلم)إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله و عترتي أهل بيتي و إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فأمر باتباعهم إلى يوم القيامة فدل ذلك على أن في كل زمان يكون منهم من يقوم بالكتاب و العمل به في تفسيره و تفصيل حلاله و حرامه و لم يقل بذلك سوى الشيعة الاثني عشرية فدل هذا التفصيل على صدقهم أيضا فيجب الكون معهم و أن الصدق مفتاح كل خير و مغلاق باب كل سوء و ما لزمه إلا كل من نجا من ورطات الذنوب و فضيحات العيوب و قال أمير المؤمنين (عليه السلام)الصادق على شرف منجاة و كرامة و الكاذب على شفا مهوات و مهانة و قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)لا يزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صديقا و لا يزال يكذب حتى يكتبه الله كذابا و الصدق عماد الدين و نجاة المسلمين و هو تالي درجات النبوة و رأس أمر الفتوة و موجب مرافقة النبيين قال الله تعالى فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً و الصادق اسم لازم للصدق و الصديق البالغ فيه المتحري له في أقواله و أفعاله و كل حالاته التي يصدق قوله و فعله و من أراد أن يكون الله معه فيلزم الصدق فإن الله تعالى يقول إن الله مع الصادقين و المداهن لا يشم رائحة الجنة و الصادق الذي لو كشف سره لما خالف ظاهره و قد قال الله تعالى فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني في أنكم أحباء الله تعالى و أولياءه لأن الحبيب يتمنى لقاء حبيبه و الصدق علامة صحة المعرفة و المهابة و المراقبة له لمشاهدة حال المخلوقين في أسرارهم و خلواتهم و معاملة الله بالصدق ساعة خير من الضرب بالسيف في سبيل الله سنة و من عامل الله تعالى بالصدق في عباده أعطاه الله من نور الفراسة ما يبصر به كل شيء من عجائب الدنيا و الآخرة فعليكم بالصدق من حيث يضركم فإنه ينفعكم و إياكم .
و الكذب من حيث ينفعكم فإنه يضركم و علامة الكذب السرعة باليمين من غير أن يحلفه أحد فإنه لا يحلف الرجل في حديثه إلا لإحدى خصال ثلاث إما لعلمه أن الناس لا يصدقونه إلا إذا حلف لمهانته عندهم أو لتدليس كذبه عندهم أو للغو في المنطق يتخذ حلفه حشوا في كلامه و الصدق مجلبة للرزق لقوله (صلی الله عليه وآله وسلم)الصحة و الصدق يجلبان الرزق و الصدق هو أصل الفراسة و الفراسة الصادقة هي أول خاطر من غير معارض فإن عرض عارض فهو من وساوس النفس و جاء في قوله تعالى أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ أي ميت الذهن فأحياه الله بنور الإيمان و الفراسة و جاء في قوله تعالى كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِج مِنْها يعني الكافر في ظلمات كفره لا نور له و لا فراسة و لا سبب يستضيء به عند ظلمة نفسه فاعتبروا يا أولي الألباب .
المصدر :
ارشاد القلوب / الشیخ ابو محمد الحسن بن محمد الدیلمی
/ج