
قد يصور البعض أن مبحث الأذان يختلف عن الإقامة ، لكون الأول خارجا عن حقيقة الصلاة والثاني داخل فيها ، فتجوز الزيادة والنقصان في الأوّل ولا تجوز في الثاني ، لكون الأذان إعلاما فقط ، أما الإقامة فهي من الصلاة.
اختلف الفقهاء في ذلك ، فالنزرُ القليل اعتبروها من الصلاة ، والجُلُّ الأعظم جعلوها خارجة عنها.
ولكن مما لا يخفى على الباحث البصير أنّ الأذان والإقامة خارجان عن حقيقة الصلاة جزءً وشرطا ، إذ النداء للشيء غير نفس الشيء ، بل في بعض فصولهما كالحيعلات الثلاث ما يدل على عدم إرتباطهما بالصلاة أصلاً ، لكونهما ليسا أذكارا ، والصلاة إنّما هي الذِّكر.
والفرق بينهما أنّ الأذان هو نداء ودعوة للغائبين ، والإقامة هي تنبيه للحاضرين المجتمعين في المسجد ، وذلك لإمكان اشتغالهم بالكلام والأُمور الحياتية الاُخرى ، فربّما لا يلتفتون إلى قيام الصلاة إلاّ بعد قول الإمام « قد قامت الصلاة ».
ويؤيد ما قلناه ورودهما معا في بعض الأخبار ، فقد يسمّى الأذان إقامة ، والإقامة أذانا في الأخبار الواردة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام، بل إنّ إطلاق النداء على الإقامة يؤكّد معنى الإعلامية فيهما معا.
إنّ كونهما نداءً ، دليل على خروجهما عن حقيقة الصلاة وعدم تقوّمها بهما ، فلا يمكن لأحدٍ أن يفتي ببطلان الصلاة لو وقعت بدونهما أو بدون أحدهما.
نعم ، لا ننكر وجود فروق بينهما ، لكنها لا تكون بحدٍّ توجب القول بأن الإقامة جزء من الصلاة ، فإنّ القول بعدم جواز الالتفات في الإقامة وجوازه في الأذان ، أو لزوم الطهارة والوضوء في الإقامة بخلاف الأذان ، أو جواز الفَصْل بين الأذان والإقامة وعدم جواز الفصل بين الإقامة والصلاة ، أو لزوم التوجّه إلى القبلة في الإقامة دون الأذان ، إلى غيرها من الأمور الكثيرة الملحوظة في الإقامة دون الأذان ، لا توجب حكما شرعيا وتَقَوُّما ذاتيّا آخر بحيث تعدّ الإقامة من الصلاة دون الأذان.
إذ روى الشيخ عن محمد الحلبي ، قال : سألتُ أبا عبداللّه عليه السلام عن الرجل يتكلم في أذانه أو في إقامته؟ قال : لا باس (1)
وعن الحسن بن شهاب ، قال : سمعت أبا عبداللّه يقول : لا باس أن يتكلّم الرجل وهو يقيم الصلاة ، وبعدما يقيم إن شاء (2)
وعن حماد بن عثمان ، قال : سألت أبا عبداللّه عن الرجل يتكلم بعدما يقيم الصلاة ، قال : نعم (3)
وعن عبيد بن زرارة قال : سألتُ أبا عبداللّه ، قلت : أيتكلم الرجل بعدما تقام الصلاة؟ قال : لا باس (4)
وفي ما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة ، عن أبيه ، قال : سألتُ أبا جعفر عن رجل نسي الأذان والإقامة حتّى دخل في الصلاة ، قال : فليمض في صلاته ، فإنّما الأذان سنّة (5)
فلو كانت الإقامة من الصلاة فلا وجه لتعليل المضيّ في الصلاة مع نسيانه الإقامة.
هذه الروايات وغيرها تحدّ من رواية عمرو بن أبي نصر (6) وأبي هارون المكفوف (7) ، ومحمد بن مسلم (8) ، الناهية عن التكلّم حين الإقامة.
ومقتضى الجمع بين الطائفتين هو حمل الروايات الناهية على الكراهة ، مضافا إلى أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي الحكم بالكراهة ، لأنّ المقيم ليس بداخل في الصلاة واقعا حتى ينبغي له ترك الكلام.
وقد تكون حرمة الكلام (9) مختصة على أهل المسجد رعايةً لمصالح الجماعة ، لرواية ابن أبي عمير ، قال : سألتُ أبا عبداللّه عن الرجل يتكلّم في الإقامة؟ قال : نعم ، فإذا قال المؤذن « قد قامت الصلاة » ، فقد حرم الكلام على أهل المسجد ، إلاّ أن يكونوا قد اجتمعوا من شتى وليس لهم إمام ، فلا باس أن يقول بعضهم لبعض : تقدم يا فلان (10)
وقد ورد في روايات أهل البيت بأنّ مفتاح الصلاة التكبير وتحليلها التسليم (11) ، فلو كانت الإقامة جزءا أو شرطا لكان اللاّزم القول أنّ مفتاحها الإقامة.
وقد سُئل الصادق عن الرجل ينسى تكبيرة الافتتاح ، قال (عليه السلام) : يعيد الصلاة (12)
وعن علي بن يقطين ، قال : سألت أبا الحسن عن الرجل ينسى أن يفتتح الصلاة حتى يركع ، قال : يعيد الصلاة (13) ، إلى غيرها من الروايات الكثيرة في هذا الباب.
وبعد هذا ، فلا يمكن لأحدٍ أَن يحتاط في عدّ الإقامة جزءا ؛ بمجرّد ملاحظة الفوارق الموجودة بينها وبين الأذان ، إذ أنّا نجد غالب هذه الفوارق مجتمعة في التكبيرات السبع المستحبّة قبل تكبيرة الإحرام ، وفي دعاء التوجّه إلى الصلاة ، وعند القيام إليها ، لكنّا لا نرى أحدا من الفقهاء يقول بجزئيّتها في الصلاة مع اشتراطهم فيها الطهارة ، والاستقبال ، وعدم جواز الالتفات ، وعدم الفصل بينها وبين الصلاة ، إلى غيرها من الامور السابقة.
فالأذان على نحوين :
1 ـ الأذان الإعلامي : وهو ما شرّع لإعلام البعـيد ، وهو المعروف اليوم والذي يطلق عليه لفظ « الأذان ».2 ـ الأذان الصلاتي أو الفرضي : وهو ما شـرّع لإعلام القريب الجالس في المسجد بإيذان وقت الصلاة ، وهو ما يسمّى اليوم بالإقامة.
وكلاهما حقيقة واحدة وليسا بواجبين لا اسـتقلاليا ولا شـرطيا للجماعة ، أو لأصل كل صلاة ، إذ أنّ القول بالوجوب مسـاوقٌ للقول بوجوب الجماعة ، وهو ما لا يقوله أحد من أصحابنا.
لا نريد تسليط الضوء على الأذان الصلاتي « أي الإقامة » بقدر ما نريد توضيح الأذان الإعلامي ، وكيف أمكن لهذا الإعلام أن يحظى بدور يمكّنه أن يصير شعارا لمذهب يعتنقه مئات الملايين ، ويكون صَرْحا عقائديّا لأ مّة مجاهدة.
فالكلام عن الأذان الإعلامي أسهل من الكلام عن الأذان الصلاتي عند من يعتقد بأنّ الإقامة من الصلاة ، لكنّه خطأ ، فهما سيّان بنظرنا ولا تمايز أساسيّا بينهما ، وإن كان بحثنا يدور في الأعمّ الأغلب عن الأذان الإعلامي.
والمفوّضة لعنهم اللّه قد وضعوا أخبارا وزادوا في الأذان « محمد وآل محمد خير البرية » مرّتين ، وفي بعض رواياتهم بعد أشهد أن محمدا رسول اللّه ، « أشهد أنّ عليّا وليُّ اللّه » مرّتين ، ومنهم من روى بدل ذلك : « أشهد أن عليّا أمير المؤمنين حقّا » مرّتين ، ولا شك أنّ عليّا وليّ اللّه ، وأنّه أمير المؤمنين حقا ، وأنّ محمّدا وآله خير البرية ، ولكنّ ذلك ليس في أصل الأذان ، وإنّما ذكرت ذلك ليُعرف بهذه الزيادة المتّهمون بالتفويض المدلِّسون أنفسهم في جملتنا (14)
وهذا النص يحمل في طياته ثلاث دعاوى أساسية يجب الوقوف عندها وتوضيحها.
الأُولى : أنّ الشهادة الثالثة هي من فعل المفوّضة الملعونة ، لقوله : « والمفوّضة لعنهم اللّه ».
الثانية : أنّ المفوّضة « قد وضعوا أخبارا » في الشهادة الثالثة. ومن المعلوم أنّ الرواية الموضوعة غير الرواية الضعيفة.
الثالثة : قوله : « وزادوا » ، يَدُلُّ على أنّهم أتوا بتلك النصوص على نحو الجزئية ، والشـيخ لا يرتضيها لقوله : « ولكن ذلك ليس في اصل الأذان ».
إذن علينا توضيح مغزى كلام الصدوق ببعض البحوث التمهيدية لكي نرى هل أنّ كلامه ; صدر عن حِسٍّ حتى يلزمنا الأخذ به ، أم كان عن حدس يجوز تركه ، بل إلى أيّ مدى يمكن الاعتماد على قناعاته واجتهاداته ; ، وخصوصا أنّه كان يعيش في ظروف صعبة.
إنّ الواقف على مجريات الأحداث بعد رسول اللّه (صلی الله علیه واله وسلم) يعلم ما جرى على آل بيت الرسالة من مظالم من قِبَلِ الحكّام ، وأنَّ الرواة وحتّى الصحابة والتابعين والفقهاء كانوا يتّقون السلطة في نشر رواياتهم وبيان آرائهم ، فلا يمكن معرفة أبعاد صدور أيّ نص منهم ، خصوصا في العصر الأموي والعصر العباسي الأوّل أو الثاني ، إلاّ بعد معرفة الظروف المحيطة به.
ونحن نظرا لحساسية كلام الشيخ ; بدأنا الدراسة بثلاثة مواضيع أساسية كتمهيد لهذه الدراسة :
الأُولى : ارتباط الغلوّ والتفويض بالشهادة الثالثة ، وهل حقا أنّ ما يُؤتى به في الشهادة الثالثة فيه فكر تفويض أم لا؟ بل كيف نشأت فكرة الغلو والتفويض؟ وهل هما مختصان بالشيعة أم أنّهما ظاهرتان أصابتا البشريّة جمعاء ، وجميع الأديان والمذاهب؟ وما هو موقف أهل البيت منها؟ وهل حقا أنّ البغداديين غلاةٌ ، والقميّين مقصّرةٌ؟
الثانية : أشرنا إلى ثلاث نقاط أساسية ـ كنموذج ـ في منهج القميّين والبغداديين في العقائد والرجال ، مؤكّدين بأنّ بعض هذه النقاط أدّت إلى صدور مثل هذا الكلام عن الشيخ الصدوق .
الثالثة : مناقشة دعوى الزيادة من قبل القائلين بها ، وهل حقا أنّ هذه الزيادة من وضع المفوّضة ، وجاء ، على نحو الجزئية ، أم أنّها زيادة موجودة في الروايات وتقال على نحو التفسـيرية وبقصد القربة المطلقة وأمثالها؟
والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن دعوى صدورها عن المفوِّضة وأنّهم وضعوا أخبارا على نحو الجزئية فيها دعوى مجملة ، إذ لا يستطيع أحد بالنظر البدوي الجزم بمقصود الشيخ الصدوق النهائي إلاّ بعد بحث وتمحيص ، وهذا ما يدعو الباحث الموضوعي إلى الوقوف عندها ودراستها بروح علمية نزيهة ، بعيدا عن التقديس ، لكي يرى مدى تطابقها مع الواقع أو بعدها عنه ، وهذا ما نريد توضيحه ضمن النقاط الثلاث اللاحقة ، مع الإشارة إلى غيرها من البحوث الدخيلة في فهم المسألة.
مؤكّدين على أنّ المنهج المتَّبع عند فقهاء ومتكلِّمي مدرسة أهل البيت هو مناقشة الأقوال ، فلا يصان أحد عندهم إلاّ المعصوم ، وليس لهم كتاب صحيح بالكامل إلاّ كتاب اللّه المنزل على رسوله ، فهم يناقشون أقوال علمائهم واجتهاداتهم وإن كان قد وُلِدَ بعضُهُم ـ كشيخنا الصدوق ; ـ بدعاء الإمام الحجة (علیه السلام) ، مع اعتقادهم الكامل فيه بأ نّه الإمام الثقة ، والصدوق في القول والعمل ، والحامل إليهم علوم آل محمد ، لكنّ هذا كلَّهُ لا يمنعهم من الدخول معه في نقاش علميّ منطقيّ رزين ، لأ نّه ; لا يدّعي العصمة لنفسه كما أَنّا لا نقول بعصمته ، وبذلك يكون كلامه ; عرضةً للخطأ والصواب ، وهو كغيره من الفقهاء قد يعدل عمّا كان يقول به ويفتي بشيء آخر غير ما كان يذهب إليه.
وعليه فالشيخ ; لم يتّهم قائل الشهادة الثالثة بالتفويض بل قال : بأنّ المفوّضة وضعوا أخبارا وزادوا في الأذان ، وبين الامرين فرق واضح.
وهذا الكلام من الشيخ الصدوق لا ينفي وجود نصوصٍ صريحة عنده صدرت عن الإمام الباقر والصادق والكاظم : دالّة على وجود معنى الولاية والإمامة في الأذان لا على نحو الزيادة والجزئية ، بل على نحو التفسيرية كما جاء في تفسير معنى « حيّ على خير العمل » عن المعصومين ، إذ أراد الإمام الكاظم (علیه السلام) حثّا عليها ودعوة إليها في الأذان ، غيرَ محدِّدٍ (علیه السلام) لصيغها ، فقد تكون : « أشهد أنّ عليا ولي اللّه » وقد تكون : « محمد وعلي خير البشر » وقد تكون : « محمد وآل محمد خير البرية » ، وقد تكون شيئا آخر يرد عنهم : أو يأذنون به ، لكنّها كلّها تتضمن معنى الولاية.
وعلى هذا ، كيف يُتَصَوَّرُ اتّهام شيخنا الصدوق ; القائلين بما يدلّ على الولاية في الأذان بالتفويض ، مع علمه بوجود فصل « حيّ على خير العمل » الدالّ على الولاية لعليّ ولزوم البرّ بفاطمة وولدها في الأذان؟!
وعليه ، فمع وجود نصٍّ صريح واضح من قبل الأئمّة بأنّ « حيّ على خير العمل » هي الولاية ، ووقوفِ الصدوق على ذلك النص ـ وهو المحدّث المتتبّع ـ يفهمنا بأنه ; يعني بكلامه القاصدين للجزئية على نحو الخصوص لقوله ; : « لكن ذلك ليس في أصل الأذان ».
فهل يعقل أن لا يسمح الشيخ للقائلين بها أن يفتحوها بعبارات دالّة عليها ـ مع التأكيد على أنّها ليست جزءً ـ دفعا لاتّهام المتَّهِمِين وافتراءات المُفتَرِين ، أو رفعا لمنزلة الإمام عليّ عند شيعته وعند غيرهم ـ المحظور آنذاك ـ؟! إِنّ الجواب عن ذلك لا يمكن أن يُتَصَوَّرَ في هذا المجال إلاّ من خلال أحد دوافع ثلاثة دفعت الشيخ لهذا القول.
وهي إمّا ظروف التقية التي كان يعيشها الشيخ ، فإنه ; قد يكون قالها حقنا لدماء البقية الباقية من الشيعة ، خصوصاً وأنّ الشيخ كتب «من لا يحضره الفقيه» بقصبة بلخ من أرض ايلاق الواقع حالياً شمالي افغانستان.
أو أنّه قالها تبعا لمشايخه القميين.
أو أنّه قالها بعد أن وجد المفوِّضة ـ الطائفة المنحرفة عن الأمة ـ هم أكثر الناس تبنّيا علنِيّا لهذا الشعار ، وأنَّ قولهم لها كان على نحو الشطرية والجزئية لقوله ; « ولكن ذلك ليس في أصل الأذان » ، وهذا ممّا لا يسمح به الشرع.
المصادر :
1- الإستبصار 1 : 301 / ح 1113 ، تهذيب الأحكام 2 : 54/ح 186 ، وسائل الشيعة 5 : 395/ ح 6900.
2- الاستبصار 1 : 301 / ح 1115 ، تهذيب الاحكام 2 : 55 / ح 188.
3- الاستبصار 1 : 301 / ح 1114.
4- الحدائق الناضرة 7 : 427 ، عن ابن إدريس في مستطرفات السرائر : 601.
5- الاستبصار 1 : 304 / ح 1130 ، تهذيب الأحكام 2 : 285 / ح 1140.
6- الكافي 3 : 304 / ح 10 ، من باب بدء الأذان .. الاستبصار 1 : 301 / ح 1110.
7- الكافي 3 : 306 / ح 20 ، وعنه في الاستبصار 1 : 301 / ح 1111.
8- الاستبصار 1 : 301 / ح 1112 ، تهذيب الاحكام 2 : 55 / ح 191.
9- ومعناها الكراهة هنا.
10- الاستبصار 1 : 302 / ح 1116.
11- تهذيب الاحكام 3 : 270 / ح 755 ، تفسير الإمام العسكري : 521 / وعنه في وسائل الشيعة 1 : 398 / ح 1039.
12- الكافي 3 : 347 / ح 1 ، وسائل الشيعة 6 : 12 / ح 7218 ، منتهى المطلب 1 : 267.
13- الاستبصار 1 : 352 / ح 1329 ، وسائل الشيعة 6 : 13 / ح 7222.
14- من لا يحضره الفقيه 1 : 289 / ح 897 ، وسائل الشيعة 5 : 422.