وهو الإمام الثامن من أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - القائم بالإمام بعد أبيه موسى بن جعفر - عليهما السلام - لفضله على جماعة أهل بيته وبنيه واخوته في عصره، ولعلمه وورعه وكفاءته لمنصب الإمامة، مضافاً الى النصوص الواردة في حقّه من أبيه على إمامته(1).
ولد في المدينة سنة 148 هجري، واستشهد في طوس من أرض خراسان في صفر 203 هجري، وله يومئذ 55 سنة، وكانت مدة إمامته بعد أبيه 20 سنة(2).
قال الواقدي: علي بن موسى، سمع الحديث من أبيه وعمومته وغيرهم، وكان ثقة يفتي بمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن نيف وعشرين سنة، وهو من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة(3).
قال الشيخ كمال الدين بن طلحة: ومن أمعن نظره وفكره، وجده في الحقيقة وارثهما ( المراد علي بن ابي طالب وعلي بن الحسين - عليهما السلام -) نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفعت مكانته، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته، وفوّض اليه امر خلافته، وعقد له على رؤوس الأشهاد عقد نكاح ابنته، وكانت مناقبه عليّة، وصفاته ثنيّة، ونفسه الشريفة زكيّة هاشميّة، وارومته النبوية كريمة(4).
وقد عاش الإمام الرضا - عليه السلام - في عصر ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية ، وكثرت الترجمة لكتب اليونانيين والرومانيين وغيرهم، وازداد التشكيك في الاصول والعقائد من قبل الملاحدة واحبار اليهود، وبطارقة النصارى، ومجسّمة اهل الحديث.
وفي تلك الأزمنة أُتيحت له - عليه السلام - فرصة المناظرة مع المخالفين على اختلاف مذاهبهم، فظهر برهانه وعلا شأنه. يقف على ذلك من اطّلع على مناظراته واحتجاجاته مع هؤلاء(5).
ولأجل ايقاف القارئ على نماذج من احتجاجاته نذكر ما يلي:
دخل أبو قرة المحدّث على أبي الحسن الرضا - عليه السلام - فقال: روينا أنّ الله قسّم الرؤية والكلام بين نبيّين، فقسم لموسى - عليه السلام - الكلام ولمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم الرؤية.
فقال أبو الحسن - عليه السلام -: «فمن المبلّغ عن الله إلى الثقلين الجنّ والإنس: إنّه {لا تدركه الأبصار}، و{لا يحيطون به علماً}، و{ليس كمثله شيء}، أليس محمد صلى الله عليه وآله وسلم»؟ قال: بلى.
قال:« فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله، فيقول: {لا تركه الأبصار}، و{لا يحيطون به علماً}، و{ليس كمثله شيء}، ثمّ يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً، وهو على صورة البشر. أما تستحيون؟! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا: أن يكون أتى عن الله بأمر ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر».
فقال أبو قرة: فإنّه يقول: {ولَقَد رَآهُ نزلةً أُخرى}.
فقال أبو الحسن - عليه السلام -: «إنّ بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: {ما كذب الفؤادُ ما رأى} يقول: ما كذب فؤاد محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ما رأت عيناه ثمّ أخبر بما رأى فقال: {لَقَد رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبرى} فآيات الله غير الله، وقال: {لا يُحيطون بِهِ عِلما} فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة».
فقال أبو قرة: فتكذّب بالرواية؟
فقال أبو الحسن: «إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذّبتها، وما أجمع المسلمون عليه : إنّه لا يحاط به علماً، ولا تركه الأبصار، وليس كمثله شيء»(6).
ولما انتشر علم الإمام وفضله، أخذت الأفئدة والقلوب تشدّ اليه، وفي الأمّة الإسلامية رجال واعون يميزون الحق من الباطل، فكثر التفاف المسلمين حول الإمام الرضا - عليه السلام - وازدادت أعدادهم، ممّا دفع بالخلافة العباسية الى محاولة سحب البساط من تحت أرجل الإمام - عليه السلام - وأعوانه قبل أن تستفحل الامور ويصعب السيطرة على الموقف بعدها، فلجا المأمون إلى مناورة ذكية ماكرة استطاع من خلالها قلب تيار الأحداث لصالحه، حيث استقدم الإمام الرضا - عليه السلام - وجملة من وجوه الطالبيين الى مقر الحكومة آنذاك في مرو من مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، معززين مكرّمين حتى أنزلوهم الى جوار مقر الخلافة ريثما يلتقي المأمون بالإمام علي بن موسي - عليه السلام -.
وما كان من المأمون إلاّ أن بعث إلى الإمام الرضا - عليه السلام - قبل اجتماعه به: إنّي أريد أن أخلع نفسي من الخلافة وأقلّدك إيّاها فما رأيك؟ فأنكر الرضا - عليه السلام - هذا الامر وقال له: «أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا الكلام وأن يسمع به احد» فرد عليه الرسالة: فإذا أبيت ما عرضت عليك فلابد من ولاية العهد بعدي، فأبى عليه الرضا اباءً شديداً.
فاستدعاه وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرياستين - ليس في المجلس غيرهم - وقال له: إنّي رأيت أن اقلّدك أمر المسلمين وأفسخ ما في رقبتي وأضعه في رقبتك.
فقال له الرضا - عليه السلام -: «الله الله يا أمير المؤمنين إنّه لا طاقة لي بذلك ولا قوّة لي عليه».
قال له: فإنّي موليك العهد من بعدي.
فقال له: «اعفني من ذلك يا أمير المؤمنين».
فقال له المأمون - كلاماً فيه التهديد له على الامتناع عليه وقال في كلامه -: إنّ عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدّك أمير المؤمنين - عليه السلام - وشرط فيمن خالف منهم أن يضرب عنقه، ولابد من قبولك ما اريد منك فإنّي لا اجد محيصاً عنه.
فقال له الرضا - عليه السلام - : «فإنّي أجيبك الى ما تريد من ولاية العهد على أنّني لا آمر، ولا أنهى، ولا أفتي، ولا أقضي، ولا أولي، ولا أعزل، ولا أغير شيئاً ممّا هو قائم» فأجابه المأمون الى ذلك كلّه(7).
أقول: ليس بخاف على ذي لب مغزى اصرار المأمون على تولية الإمام الرضا - عليه السلام - لمنصب ولاية العهد، وتبدو هذه الصورة واضحة عند استقراء الاحداث التي سبقت او رافقت هذه المؤامرة المحكمة.
فعندما قدّم هارون الرشيد ولده الامين رغم اقراره ومعرفته بقوة شخصية المأمون وذكائه قياساً بأخيه المدلل الذي لا يشفع له إلاّ مكانة أمّه زبيدة الحاكمة في قصر الرشيد، كان يعني ذلك ايذاناً بقيام الفتنة التي حصلت من بعد وراح ضحيتها عشرات الالوف وعلى رأسهم الأمين الذي وقف العباسيون إلى صفّه وقاتلوا معه، ولما انتقلت السلطة بأكملها الى المأمون المستقر في خراسان والمدعوم بأهلها آنذاك، فقد واجه خطر نقمة اكثر العباسيين وعدائهم له وتحيّنهم الفرص السانحة للانقضاض عليه وعلى حكمه.
وفي الجانب الآخر كان الشيعة في كلّ مكان يرفضون ويناصبون الخلافة العباسية العداء نتيجة سوء صنيعهم وظلمهم للعلويين ولآل البيت خاصة، والذين يشكل شيعة خراسان جانباً مهماً منهم.
وكان في أوّل سنة لخلافة المأمون أن خرج السري بن منصور الشيباني المعروف بأبي السرايا في الكوفة منادياً بالدعوة لمحمد بن ابراهيم بن إسماعيل بن الحسن بن الحسن بن علي - عليه السلام - حيث بايعه عامة الناس على ذلك.
وفي المدينة خرج محمد بن سليمان بن داود بن الحسن، وفي البصرة علي بن محمد بن جعفر بن علي بن الحسين وزيد بن موسى بن جعفر الملقب بزيد الغار، وفي اليمن ابراهيم بن موسى، ومن ثمّ فقد ظهر في المدينة أيضاً الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين المعروف بالافطس.
وهكذا فقد اندلعت في انحاء الدولة الكثير من الثورات تناصرها الآلاف من الناس الذين ذاقوا الامرّين من حكم الطواغيت والظلمة.
وهكذا فقد ادرك المأمون مدى تأزّم الموقف وتخلخل وضع الحكومة آنذاك، فلم يجد بداً من تظاهره امام الرأي العام الشيعي - الذي كان من أقوى التيارات المؤهلة للاطاحة بالخلافة العباسية دون أي شك - بتنازله عن الخلافة - التي قتل اخاه من اجلها - الى الإمام الرضا - عليه السلام - إمام الشيعة وقائدهم.
وهكذا فبعد قبول علي بن موسى الرضا - عليهما السلام - بولاية العهد قام بين يديه الخطباء والشعراء، فخفقت الألوية على رأسه، وكان فيمن ورد عليه من الشعراء دعبل بن علي الخزاعي، فلمّا دخل عليه قال: قلت قصيدة وجعلت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك، فأمره بالجلوس حتى خفّ مجلسه ثمّ قال له: «هاتها» فأنشد قصيدته المعروفة:
مدارس آيات خلت من تلاوة *** ومنزل وحي مقفر العرصات
لآل رسول الله بالخيف من منى *** وبالركن والتعريف والجمراتِ
ديار علي والحسين وجعفر *** وحمزة والسجاد ذي الثفناتِ
ديار عفاها كلّ جون مبادر *** ولم تعف للأيام والسنواتِ
إلى أن قال:
قبور بكوفان وأُخرى بطيبة *** وأُخرى بفخ نالها صلواتي
وقر ببغداد لنفس زكية *** تضمّنها الرحمن بالغرفاتِ
فأمّا المصمات التي لست بالغاً *** مبالغها مني بكنه صفاتِ
إلى الحشر حتى يبعث الله قائماً *** يفرِّج منها الهم والكربات
إلى أن قال:
ألم تر أنّي مذ ثلاثين حجة *** أروح وأغدو دائم الحسرات؟
أرى فيئهم في غيرهم متقسما *** وأيديهم من فيئهم صفرات
إذا وتروا مدّوا إلى أهل وترهم *** أكفّاً من الأوتار منقبضات
حتى أتى على آخرها، فلمّا فرغ من إنشادها قام الرضا - عليه السلام - فدخل الى حجرته وأنفذ اليه صُرّة فيها مائة دينار واعتذر اليه، فردّها دعبل وقال: والله ما لهذا جئت، وإنّما جئت للسلام عليك والتبرّك بالنظر الى وجهك الميمون، وإنّي لفي غنى، فإن رأيت أن تعطني شيئاً من ثيابك للتبرّك فهو أحب إليّ. فأعطاه الرضا جبّة خز وردّ عليه الصرّة(8).
كان الإمام في مرو يقصده البعيد والقريب من مختلف الطبقات وقد انتشر صيته في بقاع الارض، وعظم تعلّق المسلمين به، ممّا أثار مخاوف المأمون وتوجّسه من ان ينفلت زمام الامر من يديه على عكس ما كان يتمناه، وما كان يبتغيه من ولاية العهد هذه، وقوّى ذلك الظن أنّ المأمون بعث اليه يوم العيد في أن يصلّي بالناس ويخطب فيهم فأجابه الرضا - عليه السلام - : «إنّك قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول الامر، فاعفني في الصلاة بالناس». فقال له المأمون: إنّما أريد بذلك ان تطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضلك.
ولم تزل الرسل تتردّد بينهما في ذلك، فلمّا ألحّ عليه المأمون، أرسل اليه الرضا: « إن أعفيتني فهو أحبّ إليّ وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين - عليه السلام -» فقال المأمون: أُخرج كيف شئت. وأمر القوّاد والحجاب والناس أن يبكروا الى باب الرضا - عليه السلام -.
قال: فقعد الناس لابي الحسن - عليه السلام - في الطرقات والسطوح، واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه، فاغتسل ابو الحسن ولبس ثيابه وتعمّم بعمامةٍ، ألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفه، ومسّ شيئاً من الطيب، وأخذ بيده عكازة وقال لمواليه: «افعلوا مثل ما فعلت» فخرجوا بين يديه وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمرة، فمشى قليلاً ورفع رأسه إلى السماء وكبّر وكبّر مواليه معه، فلمّا رآه الجند والقوّاد سقطوا كلّهم عن الدواب الى الارض، ثمّ كبّر وكبّر الناس فخيل إلى الناس أنّ السماء والحيطان تجاوبه، وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لما رأوا الإمام الرضا - عليه السلام - وسمعوا تكبيره، فبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل: إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل فتن به الناس، وخفنا كلّنا على دمائنا، فأنفذ اليه أن يرجع. فأرسل اليه من يطلب منه العودة، فرجع الرضا - عليه السلام - واختلف أمر الناس في ذلك اليوم(9).
وقد أشار الشاعر البحتري الى تلك القصّة بأبيات منها:
ذكروا بطلعتك النبيّ فهللوا *** لما طلعت من الصفوف وكبّروا
حتى انتهيت الى المصلّى لابساً *** نور الهدى يبدو عليك فيظهر
ومشيت مشية خاشع متواضع *** لله لا يزهى ولا يتكبر(10)
إنّ هذا وأمثاله، وبالاخص خروج أخ المأمون زيد بن موسى بالبصرة على المأمون، لأنّه فوض ولاية العهد لعلي بن موسى الرضا الذي كان في تصوّره سيؤدي إلى خروج الامر من بيت العباسيين، كل ذلك وغيره دفع المأمون إلى أن يريح نفسه وقومه من هذا الخطر فدسّ اليه السم على النحو المذكور في كتب التاريخ.
ومن لطيف ما نقل عن أبي نواس أنّه كان ينشد الشعر في كلّ جليل وطفيف ولم يمدح الإمام، ولما عوتب على ذلك من قبل بعض أصحابه حيث قال له: ما رأيت اوقح منك، ما تركت خمراً ولا طرداً ولا معنى إلاّ قلت فيه شيئاً، وهذا علي بن موسى الرضا في عصرك لم تقل فيه شيئاً، فقال أبو نواس: والله ما تركت ذلك إلاّ اعظاماً له، وليس قدر مثلي أن يقول في مثله، ثمّ أنشد بعد ساعة هذه الأبيات:
قيل لي أنت أحسن الناس طراً *** في فنون من الكلام النبيه
لك من جَيِّد القريض مديحٌ *** يثمر الدر في يدي مجتنيه
فعلامَ تركت مدح ابن موسى *** والخصال التي تجمّعن فيه
قلت لا أستطيع مدح إمامٍ *** كان جبريلُ خادماً لأبيه
وقال فيه - عليه السلام - أيضاً:
مطهّرون نقيات جيوبهم *** تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
من لم يكن علوياً حين تنسبه *** فما له في قديم الدهر مفتخر
الله لمّا برا خلقا فأتقنه *** صَفّاكُمُ واصطفاكم أيّها البشر
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم *** علم الكتاب وما جاءت به السور(11)
ولما استشهد الإمام - عليه السلام - دفن في مدينة طوس في قبر ملاصق لقبر هارون الرشيد، وقبر الإمام الرضا الآن مزار مهيب يتقاطر المسلمون على زيارته والتبرك به.
فسلام الله عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حياً.
المصادر :
1- الكافي 1 / 311 - 319 والارشاد 304 - 305، واثبات الهداة 3 / 228 روي فيه 68 نصاً على إمامته
2- الارشاد 304.
3- ابن الجوزي: تذكرة الخواص 315.
4- الفصول المهمة 343 نقلاً عن مطالب السؤول.
5- لقد جمع الشيخ الطبرسي قسماً من هذه الاحتجاجات في كتابه «الاحتجاج» 2 / 170 - 237 طبع النجف.
6- الاحتجاج للطبرسي 2 / 184
7- الارشاد للمفيد 310
8- الفصول المهمّة 246، الارشاد 316، الأغاني 18 / 58، زهر الآداب 1 / 86، معاهد التنصيص 1 / 205، الاتحاف 165، تاريخ دمشق 5 / 234
9- المفيد: الارشاد 312
10- أعيان الشيعة 2 / 21 - 22
11- ابن خلّكان: وفيات الأعيان 3 / 270