التوسّل بالأنبياء والصالحين

التوسّل بذوات الأنبياء والصالحين وجعلهم وسيلة لاستجابة الدعاء، والتنويه بما لهم من المقام والمنزلة عند الله سبحانه هومفهوم هذا التوسّل لأنّ التوسّل بدعائه لأجل أنّه دعاء روح طاهرة، ونفس كريمة، وشخصية مثالية وأفضل الخلائق، ففي
Monday, September 28, 2015
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
التوسّل بالأنبياء والصالحين
التوسّل بالأنبياء والصالحين

 






 

التوسّل بذوات الأنبياء والصالحين وجعلهم وسيلة لاستجابة الدعاء، والتنويه بما لهم من المقام والمنزلة عند الله سبحانه هومفهوم هذا التوسّل لأنّ التوسّل بدعائه لأجل أنّه دعاء روح طاهرة، ونفس كريمة، وشخصية مثالية وأفضل الخلائق، ففي الحقيقة ليس الدعاء بما هو دعاء، وسيلة، وإنّما الوسيلة هي الدعاء النابع عن تلك الشخصية الإلهية التي كرّمها الله وعظّمها ورفع مقامها وذِكراها وقال: { ورفعنا لك ذكرك } (1).
وأمر المسلمين بتكريمه وتعزيره حيث قال: { فالّذين آمنوا به وعزَّروهُ ونصروهُ واتَّبعوا النور الذي أنزل معه أُولئك هم المفلحون } (2) فقوله { عزَّروه } بمعنى أكرموه.
فإذا كان رصيد استجابة الدعاء هو شخصيته الفذّة المثالية، ومنزلته عند الله فالأولى أن يتوسّل بها الإنسان كما يتوسّل بدعائه، فمن اعترف بجواز الأوّل ومنع الثاني فقد فرّق بين أمرين متلازمين، وما دعاهم إلى التفريق بينهما إلاّ صيانة لمعتقدهم.
وبدورنا نغض النظر عن هذا الدليل ونذكر ما ورد في السنّة النبوية مروياً عن طريق صحيح أقرّ به الأقطاب من أهل الحديث.

1 ـ توسلّ الضرير بنبيّ الرحمة

عن عثمان بن حنيف أنّه قال: إنّ رجلا ضريراً أتى النبي فقال: أُدعُ الله أن يعافيني فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ وهو خير.
قال: فادعه قال: فأمره أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه ويصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: " اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه اليك بنبيّك محمّد نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى، اللّهمّ شفّعه فيَّ ".
قال ابن حنيف: " فوالله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضرّ "(3).
إنّ الاستدلال بالرواية مبني على صحّتها سنداً وتمامية دلالتها مضموناً.
أمّا الأوّل: فلم يناقش في صحّتها إلاّ الجاهل بعلم الرجال، حتى أنّ ابن تيمية قال: قد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبي أنّه علّم رجلا أن يدعو فيقول: اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك. وروى النسائي نحو هذا الدعاء "(4).
وقال الترمذي: هذا حديث حق حسن صحيح.وقال ابن ماجة: هذا حديث صحيح.وقال الرفاعي: لا شك أنّ هذا الحديث صحيح ومشهور(5).
وبعد ذلك فلم يبق لأحد التشكيك في صحّة سند الحديث إنّما الكلام في دلالته وإليك البيان:
إنّ الحديث يدل بوضوح على أنّ الأعمى توسّل بذات النبي بتعليم منه (صلى الله عليه وآله وسلم) والأعمى وإن طلب الدعاء من النبي الأكرم في بدء الأمر إلاّ أنّ النبي علّمه دعاء تضمن التوسّل بذات النبي، وهذا هو المهم في تبيين معنى الحديث.
وبعبارة ثانية: أنّ الذي لا ينكر عند الإمعان في الحديث أمران:
الأوّل: أنّ الراوي طلب من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الدعاء ولم يظهر منه توسّل بذات النبي.
الثاني: أنّ الدعاء الذي علّمه النبي، تضمّن التوسّل بذات النبي بالصراحة التامة، فيكون ذلك دليلا على جواز التوسّل بالذات.
وإليك الجمل والعبارات التي هي صريحة في المقصود.

1 ـ اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك:

إنّ كلمة "بنبيّك" متعلقة بفعلين هما "أسألك" و "أتوجّه إليك" والمراد من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه القدسية وشخصيته الكريمة لا دعاؤه.
وتقدير كلمة "دعاء" قبل لفظ "بنبيّك" حتى يكون المراد هو "أسألك بدعاء نبيّك أو أتوجّه إليك بدعاء نبيّك" تحكّم وتقدير بلا دليل. وتأويل دون مبرّر ولو أنّ محدثاً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجَهْمية والقدريّة.

2 ـ محمد نبي الرحمة:

لكي يتّضح أنّ المقصود هو السؤال من الله بواسطة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وشخصيته فقد جاءت بعد كلمة "بنبيّك" جملة "محمد نبي الرحمة" لكي يتّضح نوع التوسّل والمتوسّل به بأكثر ما يمكن.

3 ـ يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي:

إنّ جملة "يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي" تدل على أنّ الرجل الضرير ـ حسب تعليم الرسول ـ اتّخذ النبي نفسَه، وسيلة في دعائه أي أنّه توسّل بذات النبي لا بدعائه (صلى الله عليه وآله وسلم).

4 ـ وشفّعه فيّ:

إنّ قوله "وشفّعه فيّ" معناه يا رب اجعل النبي شفيعي وتقبّل شفاعته في حقّي، وليس معناه تقبل دعاءه في حقّي، فإنّه لم يرد في الحديث أنّ النبي دعا بنفسه حتى يكون معنى هذه الجملة: استجب دعاءه في حقّي.
ولو كان هناك دعاء من النبي، لذكره الراوي إذ ليس دعاؤه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأُمور غير المهمّة حتى يتسامح الراوي في حقّه.
وحتى لو فرضنا أنّ معناه "تقبّل دعاءه في حقّي" فلا يضر ذلك بالمقصود أيضاً، إذ يكون على هذا الفرض هناك دعاءان: دعاء الرسول ولم يُنْقَل لفظه، والدعاء الذي علّمه الرسول للضرير، وقد جاء فيه التصريح بالتوسّل بذات النبي وشخصه وصفاته، وليس لنا التصرّف في الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير، بحجّة أنّه كان هناك للرسول دعاء.
لقد أورد هذا الحديث النسائي والبيهقي والطبراني والترمذي والحاكم في مستدركه ولكن الترمذي والحاكم ذكرا جملة "اللّهمّ شفّعه فيه" بدل "وشفّعه فيّ".

إجابة على سؤال

إنّ من يمنع التوسّل بشخصية الرسول المثالية لمّا وقع أمام هذا الحديث تعجّب عاضّاً على انملته فحمل الحديث على أنّه من قبيل التوسّل بدعاء الرسول لا بشخصه وذاته الكريمة مستدلاًّ بقول الضرير "ادعو الله أن يعافيني" وقد خلط بين أمرين:
الأوّل: المحاورة الابتدائية التي وقعت بين النبي والضرير، فكان المطلوب بلا شك، هو طلب الدعاء من النبي، وهذا ما لا ينكره أحد، إنّما الكلام فيما يأتي.
الثاني: الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير فإنّه تضمّن التوسّل بذات النبي ولا يمكن لأحد أن ينكر التصاريح الموجودة في الحديث.
والتصرّف في النصّ الثاني بحجة أنّ الموضوع في المحاورة الأُولى هو طلب الدعاء، تصرف نابع من اتخاذ موقف مسبق قبل النظر إلى الحديث، فإنّ الأعمى لم يدُر في خلده في البداية سوى دعاء الرسول المستجاب، ولكن الدعاء الذي علّمه الرسول أن يدعوَ به بعد التوضّؤ، مشتمل على التوسّل بذات النبي.
قال الدكتور عبد الملك السعدي: وقد ظهر في الآونة الأخيرة أُناس ينكرون التوسّل بالذات مطلقاً، سواء كان صاحبها حيّاً أو ميّتاً.
وقد أوّلوا حديث الأعمى وقالوا: إنّ الأعمى لم يتوسّل ولم يأمره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به بل قال له: صلِّ ركعتين ثم اطلب منّي أن أدعو لك ففعل.
وأنت يا أخي عليك أن تقرأ نص الحديث هل يحتمل هذا التأويل، وهل فيه هذا المدّعى؟ أم أنّه أخذ يطلب من الله متشفعاً بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يدع له (صلى الله عليه وآله وسلم). ولو أراد منه ذلك لاستجاب له أوّل مرّة حيث طلب منه الدعاء بالكشف عن بصره فأبى إلاّ أن يصلّي ويتولّى الأعمى بنفسه الدعاء(6).

التوسّل بذات النبيّ بعد رحيله

إنّ الصحابي الجليل عثمان بن حنيف فهم من الحديث السابق أنّ التوسّل بذات النبي وشخصه يعم حياته ومماته، فلأجل ذلك عندما رجع إليه بعضُ أصحاب الحاجة علّمه نفس الدعاء الذي علّمه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) للضرير ومن حسن الحظ كان توصّله ناجحاً.
روى الطبراني عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن عمّه عثمان بن حنيف، أنّ رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان (رضي الله عنه)في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقى ابن حنيف فشكى ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضّأ، ثمّ ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثم قل: " اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي " فتذكر حاجتك ورح إليَّ حتى أروح معك.
فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثمّ أتى باب عثمان بن عفان (رضي الله عنه)فجاء البوّاب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان (رضي الله عنه) فأجلسه معه على الطنفسة فقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له ثم قال له: ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت الساعة؟ وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها.
ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمته فيّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلّمته، ولكنّي شهدت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وأتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أفتبصر؟ فقال: يا رسول الله ليس لي قائد وقد شقّ عليّ.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ائت الميضأة فتوضّأ ثمّ صلّ ركعتين، ثمّ ادع بهذه الدعوات.
قال ابن حنيف: فوالله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ قط(7).
إنّ دلالة الحديث على جواز التوسّل بذوات الصالحين وأخصّ منهم الأنبياء أمر لا سترة فيه، نعم بعض من لا يروقه هذا النوع من التوسّل، أراد التشكيك في الرواية بوجهين، فقال:
أوّلا: إنّ معنى التوسّل عند الصحابة هو دعاء الشخص المتوسّل به إلى الله تعالى بقضاء حاجة المتوسّل لا كما يعرفه القوم في زماننا هذا من التوسّل بذات المتوسّل به.
ثانياً: لو كان دعاء الأعمى الذي علّمه رسول الله دعاءً ينفع في كلّ زمان ومكان لما رأينا أيّ أعمى على وجه البسيطة(8).
يلاحظ على كلامه الأوّل: بأنّه من غرائب الكلام فقد جعل من مذهبه دليلا على ضعف الرواية، وهو أنّ معنى التوسّل عند الصحابة هو التوسّل بدعاء الشخص لا بذاته. فمن أين علم أنّه مذهب الصحابة وهل أنّ مذهبهم يُعرف من خلال أحاديثهم، مع أنّ الحديثين المرويين عن طريق ذلك الصحابي الجليل عثمان بن حنيف يدلاّن على خلافه؟
وأمّا الثاني: فهو إطاحة بالوحي، وازدراء به، ولو صحّ ما ذكره فلقائل أن يقول: لو صحّ قوله سبحانه: { ادعوني أستجب لكم } (9) يجب أن لا يبقى على وجه البسيط ذو عاهة.
والجواب عن تلك الوسوسة في كلا المقامين واحد، وهو أنّ الدعاء مقتض لنزول الرحمة ودفع الكُربة ولكن ليس السبب تاماً لنجاح المقصود، بل له شروط وله موانع وعوائق، ولأجل ذلك نرى أنّ بعض الأدعية لا تستجاب، مع أنّه سبحانه يحثّ على الدعاء وأنّه يستجيب دعاء من دعاه، ويقول: { وقال ربُّكم ادعوني أستجب لكم }.

مناقشة في سند الرواية

لقد تعرّفت على تمامية دلالة الرواية وهناك من يريد المناقشة في سندها، ولا يخدش إلاّ لأنّ الرواية تضاد لعقيدته فيقول:
إنّ في سند هذا الحديث رجلا اسمه روح بن صلاح وقد ضعّفه الجمهور وابن عديّ وقال ابن يونس: يروي أحاديث منكرة(10).
أظنّ أنّ الكاتب لم يرجع إلى مصدرها وإنّما تبع تقوّل الآخرين، ونحن نضع أمامك سند الحديث من المصدرين اللذين روي عنهما الحديث ولا ترى فيهما أثراً من روح بن صلاح وإليك السند:
روى الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدّثنا طاهر بن عيسى بن قريش المصري المقري: ثنا أصبغ بن الفرح: ثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي، عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف، عن عمّه عثمان بن حنيف(11).

ورواه البيهقي بالسند التالي:

أخبرنا أبو سعبد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد (رحمه الله): أنبأنا الإمام أبوبكر محمد بن علي بن الشاشي القفال قال: أنبأنا أبو عروبة: حدّثنا العباس بن الفرج: حدّثنا إسماعيل بن شبيب: حدّثنا أبي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المديني... إلخ السند(12).
وأنت ترى أنّه ليس في طريق الرواية روح بن صلاح بل هو روح بن القاسم والكاتب صرّح بأنّ الرواية رواها الطبراني والبيهقي، وهذا يعرب عن أنّ الكاتب لم يرجع إلى المصدرين وإنّما اعتمد على تقوّل الآخرين.
نحن نفترض أنّه ورد في سند الرواية روح بن صلاح ولكن ما ذكره من أنّ الجمهور ضعّفوه أمر لا تصدّقه المعاجم الموجودة فيما بين أيدينا، وإنّما ضعّفه ابن عدي وفي الوقت نفسه وثّقه ابن حِبّان والحاكم. قال الذهبي: روح بن صلاح المصري يقال له ابن سيّابة ضعّفه ابن عدي، يكنّى أبا الحارث وقد ذكره ابن حبان في الثقات وقال الحاكم: ثقة مأمون(13).

سيرة الأُمم في توسّلهم بالذوات الطاهرة

لم يكن التوسّل بالصالحين والطيبين والمعصومين والمخلصين من عباد الله أمراً جديداً في زمن النبي وبعده بل كان ذلك امتداداً للسيرة الموجودة قبل الإسلام، ونحن نضع أمامك قسماً من هذه التوسلات لتكون على علم بأنّ الفطرة السليمة تدعو الإنسان إلى التوسّل بالموجودات الطاهرة لجلب رحمته تعالى.

1 ـ استسقاء عبد المطلب بالنبي وهو رضيع

إنّ عبد المطلب استسقى بالنبي الأكرم وهو طفل صغير، حتى قال ابن حجر: إنّ أبا طالب يشير بقوله:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي معه غلام(14).

2 ـ استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام

أخرج ابن عساكر عن أبي عرفة، قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش، يا أبا طالب أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنّه شمس دجى تجلّت عن سحابة قتماء، وحوله أُغيلمه، فأخذ النبي أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذَ إلى الغلام وما في السماء قزعة، قأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادي، وأخصب النادي، والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل(15)
وقد كان استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام، بل استسقاء عبد المطلب به وهو صبي أمراً معروفاً بين العرب، وكان شعر أبي طالب في هذه الواقعة مما يحفظه أكثر الناس.
ويظهر من الروايات أنّ استسقاء أبي طالب بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان موضع رضا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) فانّه بعدما بعث للرسالة استسقى للناس فجاء المطر وأخصب الوادي فقال النبي: لو كان أبو طالب حيّاً لقرّت عيناه، ومن ينشدنا قوله؟ فقام علي (عليه السلام) وقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنّك أردت قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل(16)
إنّ التوسّل بالأطفال في الاستسقاء أمر ندب إليه الشارع، قال الدكتور عبد الملك السعدي: " من السنّة أن نُحرج معنا إلى الصحراء الشيوخ والصبيان والبهائم لعلَّ الله يسقينا بسببهم "(17).
هذا هو الإمام الشافعي يقول في آداب صلاة الاستسقاء: " وأحب أن يخرج الصبيان، ويتنظفوا للاستسقاء، وكبار النساء، ومن لا هيبة منهنّ، ولا أحبّ خروج ذات الهيبة، ولا آمر بإخراج البهائم "(18).
فما الهدف من إخراج الصبيان والنساء الطاعنات في السن، إلاّ استنزال الرحمة بهم وبقداستهم وطهارتهم؟ كل ذلك يعرب عن أنّ التوسّل بالأبرياء والصلحاء والمعصومين مفتاح استنزال الرحمة وكان المتوسّل يقول: ربّي وسيّدي!! الصغير معصوم من الذنب، والكبير الطاعن في السن أسيرك في أرضك، ولكتا الطائفتين أحقّ بالرحمة والمرحمة. فلأجلهم أنزل رحمتك علينا، حتى تعمّنا في ظلّهم.
إنّ الساقي ربّما يسقي مساحة كبيرة لأجل شجرة واحدة، وفي ظلّها تُسقى الأعشاب وسائر الخضراوات غير المفيدة.

3 ـ توسّل الخليفة بعمّ النبي: العباس

روى البخاري في صحيحه قال: كان عمر بن الخطاب إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه) وقال: اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، وأنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا، قال: فيُسقون(19).
والحديث صحيح السند فما ظنك برواية رواها الإمام البخاري، لكن من لا يروقه التوسّل بالذوات الطاهرة أخذ يؤوّل الحديث بأنّ الخليفة توسّل بدعاء العباس لا بشخصه ومنزلته عند الله. وأضاف على ذلك أنّه لو كان قصده ذات العباس لكانت ذات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل وأعظم وأقرب إلى الله من ذات العباس، بلا شك ولا ريب، فثبت أنّ القصد كان الدعاء(20).
لا أظنّ أن أحداً يحمل شيئاً من الإنصاف، يسوِّغ لنفسه أن يفسر الحديث بما ذكره أي التوسّل بالدعاء، لأنّ في الموضوع نصوصاً تردُّ ذلك وإليك الإشارة إليها:
1 ـ قول الخليفة عند الدعاء... قال: " اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا ". وهذا ظاهر في أنّ الخليفة قام بالدعاء في مقام الاستسقاء، وتوسّل بعمّ الرسول في دعائه، ولو كان المقصود هو التوسّل بدعائه، كان عليه أن يقول: يا عمّ رسول الله كنّا نطلب الدعاء من الرسول فيسقينا الله، والآن نطلب منك الدعاء فادع لنا(21).
2 ـ روى ابن الأثير كيفية الاستسقاء فقال: استسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة لمّا اشتدّ القحط، فسقاهم الله تعالى به، وأخصبت الأرض، فقال عمر: هذا والله الوسيلة إلى الله والمكان منه. وقال حسان:
سال الإمام وقد تتابع جدبنا فسقى الغمامُ بغُرّة العباس
عمِّ النّبي وصنوِ والده الذي ورث النبي بذاك دون الناس
أحيى الإله به البلاد فأصبحت مخضرّة الأجناب بعد الياس
ولمّا سُقي طفقوا يتمسّحون بالعباس ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين(22).
أمعن النظر في قول الخليفة: هذا والله الوسيلة.
3 ـ ويظهر من شعر حسّان أنّ المستسقي كان هو نفس الخليفة وهو الداعي حيث قال: " سأل الإمام... " وكان العباس وسيلته لاستجابة الدعاء.
قال الدكتور عبد الملك السعدي: " وقد أوّلوا حديث العباس بأنّ عمر طلب من العباس أن يدعو لأنّهم كانوا إذا أجدبوا طلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعو لهم فكذا هنا طلب الدعاء من العباس. وهذا التأويل غير مقبول لوجهين:
الوجه الأوّل: إنّ السنّة أن يدعو الإمام نفسه والقوم يؤمَّنون وهذا ما حصل حيث كان الداعي هو سيدنا عمر لا العباس.
الوجه الثاني: إنّ نص الحديث لا يدل على أنّ عمر طلب الدعاء من العباس بل كان هو الداعي، بدليل قوله: اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل... إلخ وهذا عين الدعاء ولم يرد أيّ لفظ يشير إلى أنّه قال للعباس: ادع لنا بالسقيا.
ومع ذلك فأيّ خلل يحصل في الدين أو العقيدة إذا أجرينا النص على ظاهره وتركنا العناد والتعصّب؟
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: " ويستبين من قصة العباس استحباب الاستسقاء بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوّة وفيه فضل العباس، وفضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقّه(23).
وأظنّ أنّ هذه الروايات الصحيحة لا تبقي شكاً ولا ريباً في خلد أحد في جواز التوسّل بالصالحين.
وأمّا ما ذكره من أنّه لو كان المقصود، التوسّل بذات العباس لكان النبي بذلك أفضل، وأعلم، فيلاحظ عليه أنّ الهدف من إخراج عمّ النبي إلى المصلّى وضمّه إلى الناس هو استنزال الرحمة، فكأنّ المصلّين يقولون ربّنا لو لم نكن مستحقّين لنزول الرحمة، لكن عمّ النبيّ مستحقّ لها، فأنزل رحمتك إليه لتريحه من أزمة القحط والغلاء وعندئذ تعمّ الرحمة لغير العباس، ومن المعلوم أنّ هذا لا يتحقق إلاّ بالتوسل بإنسان حيّ يكون شريكاً مع الجماعة في المصير وفي هناء العيش ورغده لا مثل النبيّ الراحل الخارج عن الدنيا والنازل في الآخرة، نعم يجوز التوسّل بشخصه أيضاً ولكن لا بهذا الملاك بل بملاك آخر لم يكن مطروحاً للخليفة في المقام.
ولو افترضنا صحّة ما يُدَّعى من أنّ الخليفة توسّل بدعاء عمّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنّه عبارة أُخرى عن التوسّل بذات النبيّ لبّاً إذ لولا صلته به لما قُدِّم للدعاء.
المصادر :
1- الانشراح/4
2- الأعراف/157
3- الترمذي: الصحيح، كتاب الدعوات، الباب 119، برقم 3578، وسنن ابن ماجة 1: 441 برقم 1385، مسند أحمد: 4/138 .
4- - مجموعة الرسائل والمسائل: 1/13.
5- الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 158.
6- الدكتور عبد الملك السعدي: البدعة في مفهومها الاسلامي الدقيق، طـ.بغداد شارع المتنبي.
7- المعجم الكبير للحافظ سليمان بن أحمد بن أيّوب اللخمي الطبراني (ت 360 هـ): 9/16 ـ 17، باب ما أسند إلى عثمان بن حنيف، برقم 8310، والمعجم الصغير له أيضاً: 1/183 ـ 184.
8- الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 335.
9- غافر/60
10- الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 237.
11- الطبراني: المعجم الكبير: 9/17، وفي المعجم الصغير له "أصبغ بن الفرج" مكان "أصبغ بن الفرح".
12- البيهقي: دلائل النبوة: 6/168.
13- الذهبي: ميزان الاعتدال: 2/85 برقم 2801.
14- فتح الباري: 2/398، ودلائل النبوة: 2/126.
15- فتح الباري: 2/494، والسيرة الحلبية: 1/116.
16- إرشاد الساري: 2/338.
17- عبد الملك السعدي: البدعة في مفهومها الإسلامي: 49
18- ابن إدريس الشافعي: الأُم: 1/230.
19- البخاري: الصحيح: 2/32 باب صلاة الاستسقاء.
20- التوصل إلى حقيقة التوسّل: 253.
21- صحيح البخاري، باب صلاة الاستسقاء: 2/32.
22- الجزري: أُسد الغابة: 3/111 طبع مصر.
23- عبد الملك السعدي: البدعة في مفهومها الإسلامي: 46.



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.