الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظر عليه السلام قضية أساسية في عقيدة المسلمين وقد شغلتهم وما تزال منذ بشّر خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم به ، وأكّد ظهوره في آخر الزمان في أحاديث جمّةٍ ، وفي موارد ومناسبات لا تحصى كثرة بلغت حدّ التواتر ، فصار الاعتقاد به من ضروريات الاسلام .
ومع ذلك كلّه فقد نجم في القرون الماضية وفي قرننا الحالي من أنكر وشكّك فيه إمّا تأثراً بمناهج مادية او بسبب عصبية مذهبية أو لجهلٍ بما أودع في الصحاح والمسانيد والسنن ومئات الروايات (1) عن طريق الفريقين السنّة والشيعة ، ولقد ألّف العلماء المتقدمون والمتأخرون عشرات الكتب كما كُتبت فصول أو دراسات تضمنت أدلةً معتبرة واحتجاجات سليمة وقوية على وجود المهدي وصدق القضية بما لا ينبغي معه أن يرتاب فيه مسلم صحيح العقيدة يؤمن بما يخبر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
ولقد بلغ من رسوخ هذه العقيدة في الامّة المسلمة أن استغلّها بعض الأدعياء ، وادّعوا المهدوية ، ولكن سرعان ما انكشفوا وافتُضحوا ، كما افتُضح أدعياء النبوّة ، وقد حاول الدكتور أحمد أمين في كتابه (المهدوية في الاسلام) أن يجعل من ادّعاء المهدوية سبباً للطعن على فكرة المهدي وأصالتها ، ولكن العكس هو الصحيح . فالادّعاء يدلّ على أنّ المدّعين يستغلّون حقيقيةً موضوعيةً ، واعتقاداً راسخاً عند الناس ، ثمّ لو صحّ أنّ الادّعاء مبطل لأصل القضية ، فلازم ذلك إبطال النبوّات لكثر المدّعين بها .
والأمر المثير للعجب أن يتصدى بعض أدعياء العلم والمعرفة قديماً وحديثاً للتشكيك والتشويش على الأمة المسلمة ، لا لشيءٍ الاّ بسبب قصور فهمهم عن إدراك أسرار هذه العقيدة ، ومقاصدها السامية ، أو بسبب غرض آخر ، ومن هؤلاء في عصرنا الحديث المستشرقون وتلامذتهم من أمثال گولدزيهر ، وفلهاوزن ، وفان فلوتن ، ومكدونالد ، وبرنارد لويس ، ومونتغمري وات ، وماسنيون وغيرهم ممن تبعهم من تلامذتهم من أبناء الإسلام ، وسار على منهجهم في إثارة الشبهات والتشكيك بعقائد الإسلام ومقولاته وفي القرآن الكريم والسنّة المطهرة ، ثمّ سلك هذا المسلك الوهابية ومن سار في ركابهم من أبناء الشيعة والسنّة في التشكيك بعقيدة المهدي المنتظر ، وليس لدى جميع هؤلاء ما يدعم إنكارهم من الأدلة والمستمسكات الموثوقة ، بل الدليل قائم على خلاف مذاهبهم والبرهان ساطع وقاطع على صحة العقيدة في المهدي ؛ لثبوت التواتر كما حكاه غير ، ومنهم البرزنجي في الإشاعة لأشراط الساعة ، والشوكاني في التوضيح كما سيأتي .
والغريب أنّ هؤلاء يتوسّلون بنفس الذرائع ، ويتعلّلون بنفس التعلّلات التي توسّل بها منكرو ما جاء من أنباء الغيب التي احتواها القرآن الكريم ، أو التي نطق بها الرسول الكريم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كإنكارهم الإسرار والمعراج (2) .
إنّ قراءة متأنية لما أثاره المشككون من إشكالات ، وما يطرحونه هذه الأيام من تشويشات ، كمافي مزاعم وادّعاءات السائح ، والقصيمي ، وغيرهم من المشوّشين ـ وهي لا تختلف عمّا طرحه الخصوم من قبلهم ـ الذين هم عن العلم بعيدون ، وبمعرفة علم الحديث ر وايةً ودرايةً أبعد ما يكونون ، وبحقائق التاريخ ووثاقئه على أتمّ الجهل أو العناد ، إنّ هذه القراءة ستوقفنا على سذاجة تفكيرهم وسُقم واختلال مناهجهم في التعامل مع هذه القضية الخطيرة (3) .
ومن هنا كان تصدي الإمام الشهيد الصدر رضي الله عنه لها بالبحث والدراسة وفق منهج علمي جديد ، يعتمد النقل الصحيح ، والدليل العقلي السليم ، ومناقشة القضية مناقشةً هادئة رصينة متعرضاً لكل الإشكالات المثارة في المقام . والواقع أننا إزاء ما أثاره الخصوم قديماً وحديثاً لم نجد ـ في حدود تتبعنا القاصر ـ من درسها وناقشها بمثل هذا المنهج والأسلوب الذي اتّبعه الإمام الشهيد الصدر رضي الله عنه ، كما سيتضح للقارئ العزيز .
ولعلّ من المناسب في هذه المقدمة أن نتعرّف على جملة حقائق أو ملاحظات يمكن ان تشكل مدخلاً مناسباً لبحث السيد الشهيد محمد باقر الصدررضي الله عنه الذي وفقنا والحمد لله إلى تحقيقه تحقيقاً علمياً حديثاً .
منهج المشككين
ينطلق المنكرون للإمام المهدي المنتظر عليه السلام من دوافع ومنطلقات لا تنسجم مع منهج الإسلام العام في طرح العقائد والدعوة إلى الإيمان بها . فمنهج الإسلام الذي يعتمد على العقل والمنطق والفطرة ، يقوم في جانب مهمٍ منه على ضرورة الإيمان بالغيب . وتتكرر الدعوة في القرآن الكريم إلى ذلك ؛ إذ هناك عشرات الآيات (4) التي تتحدث عن الغيب والدعوة إلى الإيمان به ، والمدحة عليه كما في قوله تعالى : (آلمَ ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيبَ فِيهِ هُدىً لِلمُتَّقِينَ * اَلّذيِنَ يُؤمِنُونَ بِالغَيبِ) البقرة : 2 ـ 3 ، وفي الحديث النبوي الشريف (5) كذلك ؛ إذ هناك مئات الروايات وبصورٍ متنوعة وعديدة وكلّها تؤكّد الإيمان بالغيب وعلى أنه جزء لا يتجزأ من العقيدة ، وأنّ هذا الغيب سواء تعقّله الإنسان وأدرك جوانبه أو لم يستطع إدراك شيء منه وخفيت عليه أسراره ، فإنه مأمور بالإيمان ، غير معذورٍ بالإنكار ، بلحاظ أنّ مثل هذا الإيمان هو من لوازم الاعتقاد بالله تعالى ، وبصدق سفرائه وأنبيائه الذين يُنبئون ويُخبرون بما يُوحى اليهم ، كما هو الأمر في الإيمان بالملائكة وبالجن وبعذاب القبر وبسؤال الملكين (منكر ونكير) وبالبرزخ (6) وبغير ذلك من المغيّبات التي جاء بها القرآن الكريم أو نطق بها الرسول الأمين ونقلها إلينا الثقات المؤتمنون . وإذن فكلّ تشكيك بشأنها ـ أي قضية المهدي ـ إنما يتعلق بأصل التصديق بالغيب ، والكلام فيه يرجع إلى هذا الأصل .
ومن هنا حاول المنكرون لعقيدة المهدي عليه السلام أن يهربوا ، وينأوا بأنفسهم عن طائلة ذلك الاعتقاد ، فلجأوا إلى التشكيك بالأخبار الواردة بشأنه أو تضعيف أسانيدها كما فعل ابن خلدون في تاريخه في الفصل الثاني والخمسين الذي عقده في أمر الفاطمي ، حيث ضعّف الأحاديث المروية في المهدي مع اعترافه بظهور المهدي آخر الزمان ، وبصحة بعض الأحاديث المروية بشأنه . وتبعه عدد من المقلدين أمثال علي حسين السائح أستاذ كلية الدعوة الإسلامية في ليبيا في بحثه (تراثنا وموازين النقد) (7) إذ تعرّض فيه لموضوع المهدي المنتظر ، وتعلق بالخيوط العنكبوتية التي نسجها ابن خلدون حول عقيدة المهدي ، وحسب أنه لجأ إلى ركن شديد ، وأنه سيرقى عليها إلى السماء ، غافلاً عن أنه تشبث بأوهن البيوت .
وعندما اصطدم هؤلاء بعد إمكانية ردّ تلك الروايات أو تضعيفها لكثرتها ، وتعدد طرقها ، وصحة أسانيد عدد كبير منها كما أثبتها أئمة الحديث (8) ، لجأوا مرةً أخرى إلى احاطة أمر المهدي بالأساطير التي اخترعوها ، كاختراعهم أكذوبة السرداب التي لا أصل لها عند المعتقدين به ، وقد ناقشها الشيخ العلامة الأميني مناقشة وافية أبان فيها تخبط الخصوم في الأساطير التي نسجوها تارةً في موقع السرداب ـ إذا اختلفوا فيه اختلافاً مضحكاً ـ وتارةً اُخرى في مواقف الشيعة وطقوسهم المزعومة حول السرداب (9) .
ولجأ آخرون إلى انكار ولادته الميمونة بإقراء ذوي المطامع (10) او الطموح السياسي والاجتماعي لتبني هذا الإنكار والإفادة منه ، إلى غير ذلك من التعلقات الواهنة التي تسقط لدى عرضها على الحقائق الوفيرة ، فضلاً عن مقتضيات الأحاديث الصريحة الصحيحة .
وبالجملة فإنّ منهج المشككين لم يخرج عن مثل تلك المنطلقات والتوهمات أو المغالطات المنكرة ، فضلاً عن تعارضه مع الأصول المعتبرة الدينية والروائية .
ولعل من المناسب أن نورد ضمن هذا المنهج ما ذهب إليه بعض المعاصرين من أمثال إحسان إلهي ظهير والبنداري (11) والسائح ، ومن احتذى حذوهم ، وقلّدهم تقليداً أعمى من المنسوبين إلى الشيعة .
وملخّص ما أثاروه واستندوا إليه أمور نذكرها كما وردت على ألسنتهم ، ثمّ نناقش أسس مدّعياتهم ومنهجهم ، وذلك كما يأتي :
1 ـ قالوا : إنّ الشيعة وقعوا في حيرة واضطراب بعد وفاة الإمام العسكري ، وخاصة فيما يتعلق بولادة الإمام المهدي (محمد بن الحسن) ؛ لوجود الغموض فيما ورد عنه من طريق الأئمة عليهم السلام عندما سُئلوا عنه .
2 ـ قالوا : إنّ الشيعة انقسموا وتفرقوا إلى أربع عشرة فرقة في مسالة الإمام بعد وفاة الامام الحسن العسكري ، وأن أمر الإمام المهدي لو كان واضحاً ومهماً وجزءاً من المذهب الجعفري لما جاز الاختلاف فيه ، ولما أمكن ان يبقى امره سرّاً غامضاً .
3 ـ زعموا أن الروايات التي تتحدث عن هوية الإمام المهدي ضعيفة وموضوعة ومختلفة ، سواء منها ما يتعلق باسم أمّه ، أم بتاريخ ولادته ، أم بما لابسَ ولادته ، أم بغيبته وسفرائه.
وقد ختم أحدهم تخرَصاته زاعماً بأنه لم يرفض إمامأ ثبت وجوده من أهل البيت ، إنما حصل عنده شكّ بولادة الإمام الثاني عشر ؟ لعدم توفر الأدلة الكافية- بحسب زعمه- أو لعدم قناعته بها أي بالأدلة المذكورة ، وذكر أنه لايستبعد أن يطيل الله عمر إنسان كما أطال عمر النبي نوح عليه السلام ، بالرغم من عدم الحاجة والضرورة إلى ذلك. وأنه يبحث عن الأدلة التي تثبت أن الله تعالى قد فعل هذا بشخصِ آخر ، لأنه لا يمكن أن يعتقد بحدوث هذا عن طريق القياس والتشبيه ، ثم قال : «وقد كان سيدنا الصادق يرفض القياس بالأُمور الفرعية الجزئية فكيف في الأمور التاريخية والعقائدية» .
هذا ملخص ما أوردوه وانفتقت به عبقرياتهم وهم يحسبون أنهم جاءوا بما لم يتنبه إليه الأوائل.
وردّاً على هذه الإشكالات ، وجوابأ عن هذه الإثارات ، نقول :
أولأ ـ إن وجود الغموض في تحديد هوية الإمام المهدي ، ووقوع الحيرة لدى الشيعة ـ لو صخّ كما صوّره الخصم وضخّمه ـ هو دليل على الخصوم وليس لهم ، إذ عدم تحديد الهوية والإصرار على بقاء الأمرسرّاً دليلٌ على وجود الإمام والخوف عليه من الأعداء لا على عدم وجوده ، كما توهّموا.
فالأئمة عليه السلام -كما وردت الروايات (12) ـ لم يريدوا الكشف عن التفاصيل المتعلقة بحياة الإمام المهدي وولادته الميمونة ، لمعرفتهم بتكالب الأعداء في طلبه ، وجدّهم وتربّصهم به ، وقد كانوا يبثون العيون ويترصدون كلّ حركة للعثور على الإمام والتخلص منه ، بعد أن أيقنوا بالأمر وشاهدوا ترقّب الأُمّة وتطلعها لمقدمه الشريف ليملأ الأرض قسطأ وعدلأ بعد أن ملئت ظلمأ وجورأ.
وكيف لا يحرص الأئمة عليهم السلام على حياته العزيزة ، وقد فعل سلاطين الجور الأفاعيل ، وارتكبوا الحماقات والشناعات بحق أهل البيت وذرية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ طاردوهم وسجنوهم وأذاقوهم التشريد والقتل أخذاً بالظِنّة والتُهمة والوشاية المغرضة ، ودونك التاريخ فاقرأ في (مقاتل الطالبيين) للأصفهاني العجب العجاب.
وإذن فكيف يكون الحال وقد اطلع هؤلاء السلاطين على الروايات في صحاح المسلمين ومسانيدهم عن المهدي من العترة الطاهرة ، ومن ذرية فاطمة ومن أولاد الحسين تحديدأ ، وأنه سيظهر ليملأها قسطأ وعدلأ ، فهذه المعرفة اليقينية قد خلقت شعورأ قويأ لدى الحكام الظلمة بأن عروشهم ستنهار. وكان هذا الهاجس هو الذي يفسّر لنا تلك الإجراءات الغريبة وغير الاعتيادية التي اتخذتها السلطة الحاكمة عند سماع نبأ وفاة الإمام الحمسن العسكري عليه السلام مباشرة ، وليس هناك من تفسير معقول سوى اعتقادهم بوجود الإمام الثاني عشر الحجة ابن الحسن ، وأنه الإمام الموعود كما نطقت به الأخبار المتواترة لدى السُنّة والشيعة ، ولذا أسرعوا إلى دار الإمام عليه السلام واتخذوا مثل تلك الإجراءات الاستثنائية بدءأ من التفتيش الواسع والدقيق ، إلى حبس جواري الإمام وإخضاعهن للفحص (13) ، كل ذلك في محاولة يائسة للقبض على الإمام. ولا عجب فقد حصل ذلك من نظرائهم ، وحدّثنا القرآن الكريم عن فعل فرعون للقبض على النبي موسى عليه السلام فنجّاه الله من الكيد.
ومن هنا نفهم السبب في إخفاء الإمام الصادق عليه السلام هوية المهدي والتفاصيل المتعلقة بهذا الأمر.
وليست الحيرة بعد ذلك والاضطراب إلأ حالة طبيعية في ظل مثل تلك الظروف والملابسات الخاصة التي رافقت قضية المهدي عليه السلام في وجوده وولادته ، وشغب السلطة وتمويهاتهم وإعلامهم الزائف. وإذن فليست (الحيرة) إلأ بسبب تلك الظروف والملابسات ، فضلأ عن أن الروايات الواردة عن الأئمة عليهم السلام قد أشارت إلى وقوع مثل هذه الحيرة والفتنة والتفرق ، كما نقل ذلك ابن بابويه القمي في (التبصرة) ، والشيخ النعماني في (الغيبة) الباب الثاني عشر.
ثانيأ ـ قولهم بضعف الروايات واختلاقها ، ولا ندري هل أنّهم يفرّقون بين الضعيف والموضوع أم هما عندهم سواء ؟ ثم لماذا هذا الخلط المقصود بين مسألة وجود الإمام الحجة الثابتة بالطرق الصحيحة وبين بعض الروايات التي تلابس (حدث الولادة) ؟ والعجب من ركوب هؤلاء جميعأ هذه الجرأة المفضوحة إذ إن روايات (المهدي) لم تروها كتب الشيعة فحسب ، ولم ترد عن طرقهم فقط ، وإنما روتها الصحاح والمسانيد والجوامع الحديثية المعتبرة كصحيح أب داود ، وصحيح البخاري وشروحه ، ومسند أحمد بن حنبل ، وجامع الطبراني ، وجمعها السيوطي في العرف الوردي (14) من عدة طرق ، وحكى تواترها البرزنجي في الإشاعة (15) ،
وكذا الشوكاني في التوضيح ، ونقل ذلك أخيرأ الشيخ منصور علي ناصف! في غاية المأمول (16) .
فانظر إلى جهل المشككين كيف رموا ما صحّ وتواتر عند جمهور المسلمين من السُنّة والشيعة بالوضع والاختلاق واعجب لجرأتهم وشغبهم! إذ لايصحّ بعد ذلك شيئ مما تناقله الرواة من حوادث التاريخ ، وأسماء الأعلام ، وآراء المذاهب الختلفة.
ثالثأـ استدل بعضهم على نفي وجود الإمام المهدي وولادته بقوله : إن الشيعة اختلفوا في المهدي وانقسموا ـ على حدّ زعمه ـ إلى سبع عشرة فرقة بعد وفاة الحسن العسكري عليه السلام ، وهذا يدل ـ بحسب زعمه ـ على عدم وجود الإمام!!
ولعل من المناسب أن ننبه إلى أنّ الاختلاف حول موضوع أو قضية أو شخص لا يستلزم العدم ، إذ لو جرينا على هذا المنطق لما قامت عقيدة ، ولا ثبت دين ، ولا استقام شأن من الشؤون ، فالاختلاف قائم دائم في العقائد ، وفي التواريخ ، وفي الشخصيات ، وفي الحوادث الواقعة ، وفي الفروع ، وفي سائر الأمور. وقد تفرّق أبناء الفرقة الواحدة إلى فرقِ وطوائف واتجاهات وآراء كما حدث عند المعتزلة والخوارج والأشاعرة (17) وغيرهم.. ثم ألم تسمع بما تناقله أهل الحديث من الرواية المشهورة وهي قوله صلى الله عليه وآله وسلم ،... وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة (18) .
ونتساءل هنا ، حول أيّ شيء كان الافتراق ؟ وهل يستلزم ذلك نفي ما تفرقوا (فيه) لهذا السبب ؟! وإذن لا تبقى عقيدة ، ولا تسلم حقيقة ، ولا يستقيم أمرٌ بسبب وقوع الافتراق والانقسام في ذلك بحسب هذا المنطق .
والسؤال الأهم ، ما هي هذه الفرق التي انقسم إليها الشيعة بعد وفاة الإمام العسكري ؟ وما هي تسمياتهم ؟ ومن هم زعاء ورجال هذه الفرق المزعومة ؟ لقد قال الشهرستاني في الملل والنحل : «وأما الذين قالوا بإمامة الحسن ـ العسكري ـ : فافترقوا بعد موته إحدى عشرة فرقة ، وليست لهم ألقاب مشهورة ، ولكنّا نذكر أقاويلهم . . » (19) .
وإذن فهو لا يعرف أسماءهم ولا رجالهم ، وهم حسب زعمه إحدى عشرة فرقة ، أما هؤلاء المقلدون الكذّابون من أمثال إحسان إلهي ومن تابعه أخيرأ فقد زادوا العدد فرقأ أخرى ليس لها اسم ولا رسم ، حتى أوصلها أحد هؤلاء المفضوحين إلي سبع عشرة فرقة !! وأنّي لهم بمعرفتها وهي من مختلقاخهم ؟ ولذا لم يذكر أحد منهم زعيماً أو رجلأ معروفأ في التاريخ من هذه (السبع عشرة) فرقة ، بل ولم يجرأ أحد هؤلاء المفترين على الشيعة أن يشير إلى مكان أو زمان وجودهم.
ويحسن أن ننقل تعليقة العلأمة عبدالحسين شرف الدين في الفصول المهئة حول هذه الكذبة التي أطلقها الشهرستاني في ملله ، قال العلأمة معقبأ : « وليته أسند شيئأ من الأقاويل التي نقلها عن تلك الفرق إلى كتاب يتلى أو شخص خلقه الله تعالى! وليته أخبرنا عن بلاد واحدة من تلك الفرق أو زمانها أو اسمها! فبالله عليك ، هل سمعت بفرق متخاصمةِ! ، ونحل آراؤها متعاركة لا يُعرف لهم في الأحياء والأموات رجلٌ ولا امرأةٌ ؟! ولا يوجد في الخارج الم مسمّى ولا اسم ؟!! » (20)
والظاهر أنّ أحدهم قد أدرك خطأه واشتباهه فقال أخيراً : إنّي لم أرفض إمامأ ثبت وجوده من أهل البيت عليهم السلام ، وإنمّا حصل عندي شك بولادة الإمام الثاني عشر . زاعمأ أنّ السبب هو عدم توفر إلاّدلة الكافية ، أو عدم قناعته بالأدلة!!
والسؤال الذي نثيره هنا هو ، عن أي نوع من الأدلة يبحث هؤلاء ؟ وهل هناك أدلة أقوى من إطباق الطائفة وعلماء الأمّة ورواتها الثقات على مثل هذا الأمر ، أعني ولادة الإمام الحجة ابن الحسن ؟ إذ ليس هناك من سبيل إلى ثبوت مثل هذه الأمور إلأ الخبر الصحيح ، وتوفر الشواهد ، وقيام القرائن والمؤيدات من العقل والمنطق ، وقد ثبت من كل هذه الجهات.
ولعل من المناسب الإشارة إلى ما حققه السيد ثامر العميدي في كتابه (دفاع عن الكافي) الجزء الأؤل ، وأثبت ولادة الإمام واستمرار وجوده الشريف بالروايات والأحاديث الصحيحة ، ثم بالنقل التاريخي المتواتر ، كما أورد اعترافات وشهادات الفقهاء والمحدّثين والمفسّرين والمؤرخين وأهل التحقيق والأدباء والكتاب ، وكلهم من أهل السُنّة بولادة المهدي محمد بن الحسن العسكري ، ونقل ذلك عنهم بدءأ من بداية القرن الرابع الهجري كالروياني في المسند ، وسهل بن عبدالله البخاري (ت / 1 34 هـ) في سر السلسلة العلوية ، والخوارزمي (ت / 387هـ) في مفاتيح العلوم طبعة ليدن 1895 م.
كما أورد اعترافات من رجال القرن الخامس إلى القرن الرابع عشر ، ومنهم : أبو نعيم الأصفهاني (ت / 430 هـ) في الأربعين حديثأ ، ويحيى بن سلامة الخصفكي الشافعي (ت / 568 هـ) كما في تذكرة الخواص لابن الجوزي ، ومحيي الدين بن عربي (ت / 638هـ) في الفتوحات المكية على مانقله الشعراني في اليواقيت والملك المؤيد أبي الفداء إسماعيل بن علي (ت / 732 هـ) في المختصر في أخبار البشر ، وابن الصباغ المالكي (ت / 855 هـ) في الفصول المهمة ، وجلال الدين السيوطي (ت / 911هـ) في إحياء المَيْت ، وابن طولون الحنفي مؤرخ دمشق (ت / 953هـ) في كتابه الائمة الاثنا عشر ، وأحمد بن يوسف أبوالعباس القرماني الحنفي (ت / 1019هـ) في كتابه أخبار الدول ، والشبراوي الشافعي (ت / 1171 هـ) في الإتحاف بحب الأشراف ، ومحمد أمين السويدي (ت / 1246هـ) في سبائك الذهب ، وأخيرأ الزركلي (ت / 1396هـ) في الأعلام ، وهذا الكمُّ الكبير من الروايات والنقول والشواهد والشهود ألا تكفي للاقتناع بوجود شخصِ وولادته ؟ وإذا لم! يكن ذللث كله كافيأ ودليلاً ، فلازمه بالضرورة الشك في كل الحوادث الماضية والشخصيات العلمية والتاريخية وما جرى في غابر الزمن البعيد والقريب ، وعند ذاك لا يصحّ شيء ، ولا يثبت شيء ، فهل هذا يُرضي مثل هؤلاء المتطفلين على البحث والتحقيق ؟!
وأما إذا كان الأمر من جهة تعقل الموضوع ، فدونك (مجث حول المهدي) للشهيد الصدر رضي الله عنه ـ وهو هذا الكتاب الذي بين يديك ـ فهو الشافي الكافي ، والحجة الدامغة والبرهان القاطع لمن يفكر بعقله ، ولا يتعبد بما نقله وحكاه ذوو الأغراض المعروفة ، والمغالطات المفضوحة أمثال ظهير والبنداري وغيرهم.
ولعل من الأمور التي تدُلّك على المغالطة المفضوحة هو قولهم : «لا نستبعد أن يطيل الله عمر إنسان... ولكن لا يمكن الاعتقاد بحدوث هذا عن طريق القياس ، وقد كان سيدنا الصادق يرفض القياس في الفروع ، فكيف في الأمور التاريخية والعقائدية ؟! ».
وقد فاتهم أن القياس هنا أمر وارد ، ودليل معتبر عند أهل المنطق وأهل النظر في مثل هذه الموارد التي قد لا يدركها الإنسان إلأ عن طريق التشبيه والقياس ، وهو أُسلوب علمي ، ومنهج قرآني (ويَضرِبُ اللهُ الأَمثال لِلنَّاسٍ) (21)، وقال تعالى حاكياً قول المنكرين لبعض الأُمور الاعتقادية كالمعاد كما في الآية المباركة : (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنِسِيَ خَلقَهُ قَالَ مَن يُحيٍي العٍظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُل يُحيٍيهَا اَلذِي أَنشَأهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ..) (22)
فانظر كيف يتنكب المتطفلون عن المنهج القرآني والعلمي ؟ وانظر إلى عدم تفرقتهم بين القياس في أحكام الشريعة المنهيّ عنه ، لعدم إحراز علة الحكم التي بنى الشارع عليها حكمه ، وبين القياس في مجال المعقولات الذي لا شبهة فيه.
وهكذا نخلص إلى القول أنّ أصحاب هذا المنهج التشكيكي ليس بأيديهم حجة ولا برهان ، ولا يملكون سندأ علميّاً أو تاريخيأ مقبولأ ومنطقيأ في نفيهم وتشكيكاتهم ، وإنما هي مجرد ظنون وأوهام ، أو افتراضات وحدوس تتهاوى أمام الأدلة والبراهين المتينة ، الروائية والتاريخية والعقلية كما سطّرها وحققها المثبتون لولادة الإمام المهدي عليه السلام واستمرار وجوده الشريف المبارك.
ولا يضير ذلك ما أحيطت به روايات ولادته التي اختلفت من بعض الوجوه ، ومحاولة هذا النفر استغلا لها بصورة غير أمينةٍ ولا دقيقة للتشويش على أصل الموضوع ، وهو ولادة الحجة ابن الحسن محمد المهدي عليه السلام ، وقد ثبت من الطريق الاعتيادي الذي تثبت به الولادات ، وهو شهادة القابلة حكيمة بنت الإمام الجواد ، وعمة الإمام العسكري ، وصحّة الرواية عنها بأسانيد معتبرة صحيحة (23).
وإذا كان هناك من نقل روايات أُخرى سواء في زواج الإمام أبي محمد الحسن العسكري من (نرجس) أمّ الإمام المهدي عليه السلام أم في اسمها ، أم في ولادة المهدي وما جرى ولابس تلك الولادة المباركة ، أم في الاختلاف في تاريخ الولادة «فإن المشهور على ما نقلة الثقات من الشيعة والسنّة ، هو ولادته سنة 255 هـ في الخامس عشر من شعبان ، وأنّ أُمّه هي (نرجس) وكانت جارية عند إحدى أخوات الإمام علي الهادي عليه السلام ، فطلبها الإمام العسكري وتزوجها ، وولدت منه الإمام المهدي ، كما صرّح به الإمام العسكري بسند صحيح لا خدشة فيه » (24) . وقد بشّر الإمام العسكري أصحابه وشيعته خاصة بالمولود المبارك ، وأنه الخلف الحجة الموعود والإمام من بعده .
وأخيرأ لا بدّ من التنبيه أيضأ إلى أنّ منهج هؤلاء المنكرين في قضية الإمام المهدي عليه السلام يقوم على أُسلوب كان قد اتّبعه المستشرقون من قبل في معالجاتهم ومناقشاتهم لعقائد الإسلام ، ونبوّة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء ، ولِمَا جاء في القرآن الكريم من المفاهيم والأفكار والأحكام ، وهذا الأسلوب يتمثل ـ كما يرى المستشرق المنصف آربري (25) ـ « باقتطاع النصوص من سياقها ، وبالتحليل السطحي.. » هذا فضلأ عن المغالطات والمفارقات المنهجية كالإحالة إلى المصادر بصورةٍ غير دقيقة وغير أمينة (26) ، وكالتدليس والكذب في نسبة الآراء ، إذ يوردون نصوصأ ثم يذكرون المصادر جملةً ، على سبيل التمويه ، والأنكى والأعجب أ نّهم ـ وبحسب تحليلهم السطحي ـ يطرحون فهمهم لبعض المطالب على أنه المفهوم والرأي عند المذهب أو الطائفة وهو فهم غير دقيق ، ثم يحاولون أن يحشّدوا النصوص ويقسروها لتتلائم مع تصوراتهم وأفهامهم هُم ، وليس مع ما ذهب إليه المذهب أو مع ما كان مقبولأ ومعتمداً.
وأرى لزاماً عليّ التنبيه أيضأ إلى أمرٍ مهمٍّ ، ذكره العلأمة محمد تقي الحكيم في كتابه الأصول العامة للفقه المقارن قائلاً : «إنّ مجتهدي الشيعة لا يسوّغون نسبة أيّ رأي يكون وليد الاجتهاد إلى المذهب ككل ، سواء كان في الفقه أم الأصول أم الحديث ، بل يتحمل كل مجتهدٍ مسؤولية رأيه الخاص. نعم ما كان من ضروريات المذهب يصحّ نسبته» (27) .
ومن هنا يكون من المجازفة في القول تعميم الرأي الاجتهادي ما لم يَحْظ بالقبول والشهرة. وكذلك الأمر في المجالات الأخرى فإنه لو ذهب أحد المفسرين أو الأخباريين إلى رأي ، أو أخذ برواية ، أو أبدى وجهة نظر معينة ، وحتى لو اعتمد نظرية أو فكرة ، فإنه لايصحّ تحميل المذهب أو الطائفة ذلك ، بل يكون من المنطتي نسبة الرأي إليه ، وتحميله هو اعتماده على هذه الرواية أو تلك ، مع ضرورة الأخذ بنظر الاعتبار منهجه الروائي الخاص. ويكون حينئذ على الباحث العلمي أن يحصّل رأي المذهب من مجموع آراء الفقهاء والعلماء ، واستنادأ إلى المنهج العام لديهم بما في ذلك منهجهم في قبول الأخبار والروايات والأسانيد ، وكذلك يشترط الرجوع إلى ما أصّلوه من المفاهيم والآراء بالرجوع إلى المصادر الأصلية والأساسية لديهم.
وعليه فبدون ذلك ، أعني بدون الالتفات إلى هذه الملاحظات المهمة ، فإنّ الباحثين سيقعون بلا أدفى شك في الخلط والمجازفة والاشتباه ، ولايُعفَون حينئذ من سوء القصد ومحاولة المشاغبة والتشويش وهو ما دأبَ عليه أسلافهم من المستشرقين وخصوم الإسلام أو الحاقدين على أهل البيت عليهم السلام ، وعلى مدرستهم الأصيلة في الإسلام الحنيف ، كما هو شأن إحسان إلهي ظهير والجبهان والبنداري وغيرهم في القديم والحديث.
وتبقى كلمة أخيرة فيما يتعلق بالمهدي الموعود عليه السلام بعد ثبوت ولادته الميمونة ووجوده المبارك ، وهي مسألة تعقل أو عقلانية استمرار وجوده الشريف وثبوت ذلك منذ الغيبة الصغرى ، وحتى انقطاع السفارة ثمّ وقوع الغيبة الكبرى . وهنا سيجدُ القارئ الكريم والباحث الطالب للحقيقة سيجد فيما كتبه السيد الشهيد ، ووضّحه من هذه المطالب ، وما ساقه من الأدلّة العقلية والمنطقية والعلمية ما يشفي الغليل ، ويزيل أوهام وتعلقات المشككين .
المصادر :
1- المهدي الموعود المنتظر عند علماء أهل السنّة والإمامية / الشيخ نجم الدين العسكري / منتخب الأثر في الامام الثاني عشر عليه السلام / العلاّمة الشيخ لطف الله الصافي ، وفيه ما مجموعه (6000) ستة آلاف حديث عن طريق الفريقين .
2- تفسير ابن كثير 3 : 9 .
3- راجع مناقشة السائح وأمثاله في (نقد الحديث بين الاجتهاد والتقليد) للسيد محمد رضا الجلالي المنشور في مجلة تراثنا / العددان 32 و 33 ـ السنة الثانية 1413 هـ ـ اصدار مؤسسة آل البيت عليهم السلام .
4- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن مادة (غيب) .
5- كتاب الفتن وعلامات الساعة في الصحاح والمسانيد والسنن . راجع مثلاً : التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول / الشيخ منصور علي ناصف 5 : 300 وما بعدها .
6- التاج الجامع للأصول 1 : 25 .
7- البحث نُشر في مجلة الدعوة الإسلامية الصادرة في ليبيا ، وراجع مناقشته في بحث السيد الجلالي المنشور في مجلة تراثنا المذكور سابقاً .
8- دفاع عن الكافي / ثامر هاشم العميدي 1 : 203 .
9- الغدير 3 : 308 ـ 309 ، / سيرة الائمة الاثني عشر / هاشم معروف الحسني 2 : 559 .
10- دفاع عن الكافي : 1 : 569 / الإرشاد / الشيخ المفيد : ص 345 ، / سيرة الأئمة الاثني عشر / الحسني 2 : 534 ـ 538 .
11- الشيعة والتشيع ـ فرق وتاريخ : وص 261 و 301 / الطبعة الثانية 1384 هـ ـ باكستان .
12- الغيبة للنعماني من أعلام القرن الرابع الهجري / الباب 12 ، الغيبة الكبرى / السيد محمد الصدر
13- الإرشاد / الشيخ المفيد : ص 345.
14- الحاوي للفتاوي / السيوطي 2 : 213 وما بعدها.
15- الإشاعة لأشراط الساعة : ص 87 ـ 22 1 الباب الثالث.
16- غاية المأمول شرح التاج الجامع للأصول 5 : 360.
17- مقالات الإسلاميين للأشعري ، والملل والنحل للشهرستاني ، وفرق النوبختي وغيرها.
18- سنن ابن ماجة 2 : 1321 / 3991 كتاب الفق ـ باب افتراق الأمم.
19- الملل والنحل 1 : 151 و 152.
20- الفصول المهمة ني تأليف الأمة : ص 169.
21- إبراهيم : 25
22- يس 78 ـ 79.
23- أصول الكافي : الجزء الأول ـ كتاب الحجة ، وراجع إثبات الوصية / المسعودي : ص 219.
24- دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 1 : 546 وما بعدها.
25- المستشرقون والإسلام / الدكتور عرفان عبد الحميد : ص 19.
26- إحسان إلهي ظهير في كتابه الشيعة والتشيع ـ فرق وتاريخ ، / كتاب الإمامة والتبصرة من الحيرة لابن بابويه القمي (والد الصدوق) (ت / 329)
27- الأصول العامة للفقه المقارن : ص 596 ، الطبعة ـ الثانية 1979 م ، دار الأندلس ـ بيروت.