
لو تاملنا في الآية المباركة (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ(. (1) نجد اسلوب وطريقة الخطاب المقدس لعبد عاص ، حيث عاتب الله سبحانه وتعالی إبليسَ لعدم امتثاله لدعوة الجليل العزيز للامر الالهي .
قال الإمام قدِّس سرُّه نقلاً عن العارف الكامل كمال الدين عبد الرزاق الكاشاني في تأويلاته:
(الإنسان هو الكون الجامع الحاصر لجميع مراتب الوجود فربُّه الذي أوجده فأفاض عليه كماله، هو الذات باعتبار جميع الأسماء بحسب البداية المُعبَّر عنه بالله، ولهذا قال تعالى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي بالمتقابلين كاللطف والقهر والجلال والجمال الشاملين لجميعها ).(2)
وأمّا سائر الموجودات فقد خُلقت بيدٍ واحدة إمّا يد الجلال أو يد الجمال فالملائكة مثلاً مظاهر جمال الله سبحانه، وكذلك كثير من النباتات والجمادات كما أنَّ قسم من الجمادات والحيوانات قد تجلَّى فيها الجلال وأمّا الإنسان فهو الكون الجامع (وفيك انطوى العالم الأكبر) ثمَّ إنَّ قوله تعالى ما منعك؟ عتابٌ وهذا العتاب يدلُّ على أنَّ إبليس كان عالماً بخصوصيّات آدم عليه السلام وكان يعلم أنَّه لابدَّ أن يخضع له بالسجود حتَّى لو لم يكن هناك أمرٌ إلهي ناهيك عمّا لو كان أمرٌ في البين كما هو كذلك.
من هم العالون؟
موقف إبليس السلبي تجاه أمر الله وعدم سجوده لآدم عليه السلام لا يخلو من أحد الوجهين:ألف: أنَّه نابع عن الروحيَّة الاستكبارية الكامنة فيه أستكبرت وكان كذلك.
ب: أنَّه ممن لم يُطلب منه أن يسجد لآدم لعلوِّه وسموِّ مرتبته أم كنت من العالين.
وهاهنا سؤال يطرح نفسَه وهو: من هم العالون؟
ومن المعلوم أنَّ العالين هم الذين من أجلهم قد أمر الله أن يَسجد الملائكة لآدم عليه السلام ولولاهم لم يخلق الله آدما ولا كان زيد في الوجود ولا عمر وهذا واضح عند التمعُّن في ما ذكرنا سابقاً، على أنَّ هناك حديثٌ نقله الشيخ الصدوق رحمه الله في كتابه كتاب فضائل الشيعة:
(باسناده عن أبي سعيد الخدرى قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ اقبل إليه رجل فقال يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز و جل لإبليس استكبرت أم كنت من العالين فمن هم يا رسول الله الذين هم أعلى من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين كنا في سرادق العرش نسبح الله وتسبح الملائكة بتسبيحنا قبل أن يخلق الله عز وجل آدم بألفي عام، فلما خلق الله عز وجل آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له ولم يأمرنا بالسجود فسجدت الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس فانه أبي أن يسجد فقال الله تبارك وتعالى استكبرت أم كنت من العالين أي من هؤلاء الخمس المكتوب أسماؤهم في سرادق العرش).
وقد نقل في كتاب كنز العمال أيضاً.
إبليس يبرِّر موقفَه
من خصوصيات العبد المؤمن أن يُسلِّم جميع أموره إلى مولاه ويعلم أنَّه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فهو الفقير بالذات كما أنَّ ربَّه هو الغني بالذات فالتساؤل والتردُّد في قبال أوامره تعالى دليل على عدم الإيمان به فكيف بالوقوف ومحاولة تبرير الموقف وتوجيه الجريمة وذلك بالقياس الباطل، وهذا ما صدر من إبليس وعلَّم أولياءه حيث اعتمدوا على نفس الأسلوب فانظر إلى طريقة توجيه إبليس ومستوى جهله بل تجاهله:(قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)(3)
(قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين* قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون، قال فاخرج منها فإنك رجيم).(4)
وإطلاق كلمة بشر يدلُّ على أنَّ إبليس تغافل عن الجانب الإنساني والنوراني فيه وقايس ما خُلق به هو النار ما خلق به آدم الطين ومن الطبيعي أنَّ هذا النمط من القياس ليس صحيحاً من جهات شتَّى:
منها: ما ورد الإشارة إليها سابقاً من أنَّ اللازم على العبد تسليم جميع أموره إلى مولاه لا ينحرف عنه قيد أنملة لأنَّ دينَ الله لا يُصاب بالعقول وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك نكتفي بحديثين منها:
(ابن عصام عن الكلينى عن القاسم بن العلاء عن إسماعيل بن على عن ابن حميد عن ابن قيس عن الثمالى قال قال علي بن الحسين عليه السلام عليه السلام: إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة و الآراء الباطلة و المقاييس الفاسدة و لا يصاب إلا بالتسليم فمن سلم لنا سلم و من اهتدى بنا هدى ومن دان بالقياس و الرأي هلك..).
ومن المعلوم أنَّ الدين لا يُراد منه العبادات والمعاملات فحسب بل يشمل جميع القضايا التِّي تمسُّ الدين فليس للعقول طريق للوصول إلى كنهها ومحتواها، والدليل عليه الحديث التالي:
(محمد بن الحسن القطان عن عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبي زرعه عن هشام بن عمار عن محمد بن عبد الله القرشى عن ابن شبرمه قال: دخلت أنا وأبو حنيفه على جعفر بن محمد عليه السلام فقال لأبي حنيفة اتق الله ولا تقس الدين برأيك فان أول من قاس إبليس أمره الله عز وجل بالسجود لآدم فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ثم قال أتحسن أن تقيس رأسك من بدنك قال لا قال جعفر عليه السلام: فأخبرني لأي شئ جعل الله الملوحة في العينين والمرارة في الأذنين والماء المنتن في المنخرين والعذوبة في الشفتين قال لا أدرى..الخ الحديث).(5)
ونفس الحديث بتفصيل آخر وأمثلة أخرى نقله صاحب كتاب دعائم الإسلام فراجع.(6)
ولا يخفى على القارئ الكريم أنّنا لا نريد القول ببطلان الاستنتاج العقلي بنحو مطلق حتّى ما اعتمد عليه علماء الأصول من الحسن والقبح العقليَين فإنَّ ذلك بابٌ آخر لا مجالَ للحديث عنه هنا فراجع مظانّه.
منها: أنَّ الله سبحانه يمكنه أن يخلق الأشياء لا من شيء أصلاً فالطين والنار ليس لهما دور في مستوى المخلوق منهما ولا علاقة كبيرة بين المخلوق والمخلوق منه، نعم هناك آثار خاصَّة لخصوص جسم كلٍّ منهما، ومن هنا نشاهد سرعة انتقال الجنّ ودخولهم وخروجهم وحركتهم بحيث لا يمكن رؤيتهم بسهولة، حتى أنَّه تعالى في معجزة العصى شبَّه سرعة العصى واهتزازها بالجان:
(وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان..).(7)
لو قلنا أنَّ الآية تعني الجن كلُّ ذلك لأنَّ الجن قد خُلق من النار والنار سريع الانتقال دون الإنسان الذي خُلق من الطين، ولكن ليست هذه فضيلة في الجنّ مادام أنَّه لا يملك ما يملكه الإنس، ومن هنا نشاهد أنَّ الإنسان لو أراد أن يستغلَّ روحانيته ونورانيته استغلالاً صحيحاً لتمكَّن من الوصول إلى مستويات من الرقي والعلوّ والنورانيَّة ما لا يخطر ذلك لدى الملائكة المخلوقين من النور ناهيك عن الجنّ ولهذا نشاهد وصول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في عروجه إلى مرحلةٍ بحيث (قال جبرئيل تقدَّم يا رسول الله ليس لي أن أجوز هذا المكان و لو دنوت أنملة لاحترقت).(8)
يقول سبحانه وتعالى عنه:
(ثمَّ دنى فتدلَّى فكان قاب قوسين أو أدنى).(9)
وقد وردت الأحاديث الكثيرة التِّي تُفضِّل الإنسان المؤمن على الملائكة وأنَّ:
(الملائكة خدام المؤمنين)(10)
(وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً به) (وإذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة).(11)
منها: أنَّه ما الدليل على أفضليَّة النار على الطين بل ربَّما تكون القضيَّة بالعكس كما ثبت علمياً أهميَّة الطين من نواحٍ مختلفة والجدير بالذكر أنَّه لولا الطين لما أمكن للخبراء أن يُسيطروا على آبار النفط حين حفرها ! فتأمَّل في نتائج ذلك.
ثمَّ إنَّ هناك آيةً تدلّ على مستوى عداوة إبليس لآدم وذريتَه:
(قال أرأيتك هذا الذي كرمت عليَّ لئن أخرتن إلى يوم القيامةِ لأحتنكنَّ ذريته إلا قليلا).(12)
وفي اللغة حنك: يجوز أن يكون من قولهم حنكت الدابة أصبت حنكها باللجام والرسن …. فيكون معناه لأستولين عليهم.
المصادر :
1- ص 75
2- شرح دعاء السحر ص22.
3- بحار الأنوار ج11 ص142 رواية9 باب2. ص 75و76.
4- الحجر32-34.
5- بحار الأنوار ج 2 ص 291 رواية 11 باب 34. ج 2 ص 303 رواية 41 باب 34.
6- بحار الأنوار ج 10 ص 221 رواية 22 باب 13.
7- النمل 10.
8- بحار الأنوار ج 18 ص 380 رواية 86 باب 3.
9- النجم 9.
10- الكافي ج 2 ص 33 رواية 2.
11- الكافي ج 1 ص 34 رواية 1. ج 1 ص 38 رواية 3.
12- الإسراء 62.
/ج