
على ضوء التوجه العام والواقع الجديدين، انطلق علماء دولة الخلافة ليبحثوا عن كل ما صدر عن نبيهم من قول أو فعل أو تقرير قبل مائة عام!
وأوجدوا ضوابط علمية لعمليتي كتابة ورواية سنة الرسول من قول، أو فعل، أو تقرير، وبذلوا جهودا مضنية للوقوف على كل ما قاله رسول الله بالفعل في كل أمر من الأمور، وفي أي شخص من الأشخاص، أو أية جماعة من الجماعات، حتى أنهم رووا الأحاديث المتعلقة بعلي بن أبي طالب، وأهل بيت النبوة الذين صبت عليهم دولة الخلافة كل غضبها ونقمتها وقوتها! فرويت الأحاديث التي تتحدث عن مكانة علي، وقربه من النبي، وجهاده المميز وسجله الحافل بالأمجاد، ورويت أحاديث تتحدث عن مكانة أهل بيت النبوة، وآل محمد وتميزهم عن غيرهم من المسلمين، والتي تبرز دور آل محمد بالدفاع عن دعوة الإسلام، وإقامة دولته الأولى، ومعاناتهم الكبرى، باحتضان النبي، والدفاع عنه، والجهاد بين يديه!
وأبعد من ذلك أن علماء دولة الخلافة قد رووا أحاديثا عن رسول الله عن عداوة أبي سفيان وبنيه خاصة، والبطن الأموي عامة لله ورسوله، وعن قيادتهم لجبهة الشرك طوال فترة ال 15 سنة التي سبقت الهجرة، وأنهم حاربوا الإسلام ونبيه طوال مدة الثماني سنوات التي تلت الهجرة، وأنهم قد استعدوا العرب واليهود على رسول الله، وأعظم من ذلك، فقد روى العلماء أحاديثا عن رسول الله، بأن الحكم بن العاص وذريته هم أعداء الله ورسوله، وأن الله قد لعنهم على لسان نبيه، ومع هذا آلت خلافة الرسول لذرية الحكم، في الوقت الذي كانت فيه ذرية النبي وآل النبي يتعرضون للتقتيل والتشريد والتطريد! بعد أن فرضت الدولة على العامة والخاصة لعنهم.
وروى علماء دولة الخلافة أحاديث عن رسول الله تبين مكانة فاطمة الزهراء، وابنيها الحسن والحسين، عند رسول الله، وقرابتهم القريبة، ومنزلتهم الرفيعة في قلبه الشريف. لقد أذهلت تلك المرويات العامة والخاصة من المسلمين، وربطوها بالمحن والمآسي والآلام التي تجرعها أهل بيت النبوة مجتمعين ومنفردين!
وبدأت قلوب المسلمين تتعاطف مع أهل البيت، وتتيقن أن خللا كبيرا قد حدث، وأن لأهل بيت النبوة قضية عادلة لم تلق أبدا آذانا صاغية طوال التاريخ!
وفجأة قررت جموع دولة الخلافة أن تعتبر عليا بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين، وأن تعترف به وبابنيه الحسن والحسين، كعمداء لآل محمد الذين لا تجوز صلاة المسلم بغير الصلاة عليهم! وأنهم والسيدة الزهراء هم أهل بيت النبوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، واكتشفت تلك الجموع أنها قد سارت طويلا بالخط المعاكس للطريق الإلهي.
وشعرت تلك الجموع بالندامة لأنها خذلت عليا وحسنا وحسينا، وسمت الحسن، وقتلت الحسين وهما ابنا رسول الله ومزقت آل محمد في كربلاء، أو على الأقل لأنهم قتلوا أمامها دون أن تنصرهم أو تحرك ساكنا.
وهذا انقلاب حقيقي وثورة فعلية تحدث في نفسية تلك الجموع التي استجابت لمعاوية، وخلفاء بني أمية، ولعنت الإمام علي في العشي والأبكار، وتعبدت بكرهه وكراهية أهل بيت النبوة طمعا بدنيا معاوية وشيعته!
(ولم يجد العلماء صعوبة تذكر بكتابة ورواية الأحاديث التي احتضنتها دولة الخلافة، والتي كانت منسجمة مع توجهات تلك الدولة، ومع تاريخها السياسي، لأن تلك الأحاديث كانت مروية ومكتوبة بالفعل، وجاهزة، وكانت تشكل المناهج التربوية والتعليمية لدولة الخلافة، حيث كان تعلمها مفروضا على الخاصة والعامة، فنقلها العلماء كما هي، مسلمين بصحتها سندا لكثرة تداولها بين الناس، ولأنها جزء لا يتجزأ من وثائق الدولة الرسمية التي عمل بها المجتمع، بل والأعظم من ذلك أنها قد صارت أحد مقاييس الصحة لما يروى من الحديث، فإذا تعارض حديث مع الأحاديث التي تبنتها الدولة، فهذا الحديث موضع شك!
والمخرج يكمن بتضعيف رواته، أو أحد رواته أو تكذيبهم، أو تكذيب بعضهم، بمعنى أن المناهج التربوية والتعليمية لدولة الخلافة كانت بمثابة رقيب ضمني على ما يروى من أحاديث الرسول، فأي حديث يتفق مع هذه المناهج فهو صحيح وما يعارضها فهو موضع شك، ومع هذا لم تكن هنالك موانع فعلية من رواية أي حديث، وهذا بحد ذاته إنجاز، بل وثورة فعلية كبرى أطل من أبوابها ونوافذها الرأي الآخر مدعوما بالسند الشرعي، وهذا ما كان ممنوعا طوال التاريخ.
والخلاصة أن علماء دولة الخلافة لم يتوقفوا أبدا عن تقييد كل ما ذكر بأنه قد صدر عن الرسول، فكانوا يروونه، ويقيسونه بموازينهم العلمية التي أوجدوها خصيصا لهذه الغاية، ويخرجونه للناس ويكتبونه بصحاحهم أو مسانيدهم، أوتواريخهم، أو سيرهم أو مؤلفاتهم، إنها انطلاقة عظيمة لإحياء كل ما وأدته دولة الخلافة عبر تاريخها السياسي الطويل!
ومن الطبيعي أن تعترض هذه الانطلاقة الكبرى معوقات كبرى أيضا فظهر الكذابون الذين تعمدوا الكذب على رسول الله، إما تأييدا لتاريخ قد استقر، أو دفاعا عما تهوى الأنفس، أو نكاية وإرغاما لأنف خصم، وقد يكون الكذب لصالح الرسول كما زعم بعضهم حيث قالوا: (إننا لا نكذب على الرسول إنما نكذب له)، وبرع بعض الرواة بالرواية كما وكيفا وخلطوا فهمهم لما سمعوه من الرسول، بآرائهم الشخصية، وسوقوا الاثنين معا، فإما أن ترفضهما معا أو تقبلهما معا!
ومع هذا فقد تمخضت تلك الانطلاقة الكبرى عن ثروة علمية عظمي، تجد فيها الجزء الأعظم من الحقيقة، التي تطمئن بها القلوب. لكن لا أحد من علماء دولة الخلافة قد أدعى بأن ما أخرجه من الأحاديث هو عين ما صدر عن رسول الله باللفظ والمعنى، بلا زيادة ولا نقصان والأحاديث التي وصلتنا عن النبي بهذا الوصف: (لفظا ومعنى، وبلا زيادة أو نقصان) أندر من النادر! وهكذا ألحقت دولة الخلافة بالعالم والعلم خسارة فادحة عندما منعت رواية وكتابة أحاديث الرسول، بالوقت الذي أجازت فيه رواية وكتابة حتى الخرافات والأساطير، ولولا جهود العالم لضاع الأثر والعين معا، ولكن الله غالب على أمره.
وتمخضت تلك الانطلاقة الكبرى عن تدوين الكم الهائل من الأحاديث في مجموعة كبيرة من كتب الحديث أبرزها عند أهل السنة ستة كتب عرفت بالصحاح وهي: (صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن ابن ماجة، وسنن الترمذي، وسنن النسائي)، ومنهم من يقدم سنن الدارمي على سنن النسائي، بالإضافة إلى المستدركات على هذه الصحاح، ومجموعة من المسانيد
رواية وكتابة الحديث عند أهل البيت وأوليائهم
أهل البيت بما ورثوه من علمي النبوة والكتاب، وبما خصهم الله به من مكانة، لا ترقى إليها مكانة، وبما أسند إليهم من وظائف وتكاليف شرعية، على يقين تام ومطلق بعمق الارتباط والتكامل والتعاضد بين كتاب الله القرآن الكريم وبين بيان النبي لهذا الكتاب، مثلما هم على يقين تام بأن أحدهما لا يغني عن الآخر. وهم على علم بتركيز النبي المكثف والخاص على هذه الناحية.وقد تحدث أئمة أهل البيت عن مجموعة حقوقية شرعية كبرى قد ورثوها عن رسول الله اسمها (الجامعة) أملاها رسول الله وكتبها الإمام علي بن أبي طالب بخط يده، وكلف رسول الله عليا أن يحتفظ بها، وأن يورثها للأئمة من بعده وهي تشتمل على العلم كله، القضاء والفرائض، وما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش، وما خلق الله من حلال ولا حرام إلا وضوابطه بهذه الجامعة، وأن هذه الجامعة لم تدع لأحد كلاما. ويبدو أن هذه المجموعة قد أملاها رسول الله خصيصا للأئمة القادة من أهل البيت ليحكموا بها إذا تولوا حكم الناس، لأن فيها حكم الله.
وتحدث الإمام علي عن صحف كثيرة عنده، ووصف تلك الصحف بأنها (قطايع) أي مخصصات رسول الله وأهل بيته. ويروي علماء دولة الخلافة أنه بعد فترة من موت رسول الله جاء علي بن أبي طالب وهو يحمل كتاب الله وتفسيره على ظهره، وأنه قد عرض على قيادة دولة البطون أن يحكم بينهم بما أنزل الله وما أملى رسوله، وأن هذه الدولة رفضت العرض.
ويبدو من كثير من الأحاديث إن لدى أئمة أهل البيت كتابين آخرين قد كتبا بخط الإمام علي وعلى عهد رسول الله، ويسمى أحد هذين الكتابين: (بمصحف فاطمة) وفيه أنباء من الحوادث الكائنة والمتعلقة بالأئمة، أما الكتاب الآخر فيسمى ب (الجفر) وهو يشتمل على أنباء من الحوادث الكائنة عموما). (1).
ومن المؤكد أن ذلك قد حدث بالفعل فرسول الله متيقن أنه ميت لا محالة، وموقن من حاجة الأمة إلى بيان كافة الأحكام الشرعية بيانا قائما على الجزم واليقين، وهو بيانه الشريف، ولأن عليا بن أبي طالب هو المخول شرعا بالبيان بعد وفاة الرسول، ولأنه من الرسول بمنزلة هارون من موسى باعتراف قادة دولة البطون، ولأن الإمام علي أعظم علماءالأمة وأعلمهم بإقرار كافة الخلفاء، ولأنه قارئ كبير في أمة أمية يندر فيها القارئ، ولأنه باب مدينة العلم.
فقد أملى عليه رسول الله الحكم الشرعي لكل شئ، وكلف النبي عليا أن يجمع ذلك في كتاب ليكون مرجعا، للأمة في بيان القرآن بعد وفاة النبي، وكلف النبي عليا أن يحتفظ بهذا الكتاب، وأن يسلمه لأولاده الأئمة ليتوارثوه حسب ترتيب خاص، ويبينونه للأمة بعد وفاة النبي، ويحكمون بموجبه إن سلمت الأمة بحقوقهم، فتكون علوم هذا الكتاب من الأدلة المادية لمرجعيتهم ولحقهم بالقيادة والبيان من بعد النبي. ثم إن سادة أهل بيت النبوة كانوا يقيمون مع النبي في بيت واحد طوال حياة النبي المباركة، وكان النبي يزقهم بالعلم زقا، ويفيض عليهم من عجائب علمه ومن أخبار المستقبل البعيد، وكانت تلك المعارف بكل الموازين ثروة كبرى خصهم الله بها فمن غير المعقول أن لا يحفظوا تلك الثروة ويكتبوها! ليحتجوا بها القوم، ولينتفعوا بها، ويورثوها لذرياتهم تأكيدا للطهر والتميز، ثم إن العلوم التي أفاضها رسول الله على أهل بيته هي بيان للقرآن، ومن الضروري أن يحتفظ بها أهل بيت النبوة ليكون لديهم بيان القرآن، وليحملوا هذا البيان للإنسانية في كل زمن، إن هذا البيان هو علم النبوة، وقد كلف الله نبيه أن يورث الأئمة الأعلام من ذريته علمي النبوة والكتاب.
والخلاصة أنه لما قبض الله نبيه، كان أهل بيت النبوة قد وعوا علمي النبوة والكتاب بالتمام والكمال، ووثقوا من هذين العلمين كل ما يحتاج إلى توثيق، فما من سؤال على الإطلاق! إلا ويعرف عميد أهل البيت في زمانه جوابه، وما من أمر من أمور الدنيا والآخرة إلا ويعرف هذا العميد كلياته وتفاصيله الدقيقة، وحكم الشرع الحنيف فيه، وكل هذه المعارف موثقة ومعروفة عندهم ومعلومة علم اليقين.
أثناء مرض النبي الذي قبض منه، تجاهلت بطون قريش البيان النبوة تجاهلا كاملا، واستولت على السلطة، وحجمت أهل بيت النبوة بالقوة، وعتمت على كل فضائلهم وتنكرت لمقامهم ومكانتهم تنكرا تاما، وجردتهم من كافة حقوقهم، ثم أصدرت مراسيم منعت فيها رواية وكتابة أحاديث رسول الله، وقررت أن القرآن وحده يكفي، ولا حاجة لبيان النبي، لأن بإمكان أي إنسان أن يفهم القرآن حسب رأي البطون! ورواية أحاديث النبي وكتابة هذه الأحاديث تسبب الخلاف والاختلاف بين المسلمين، وقيادة البطون ترى أن منع الاختلاف والخلاف يتحقق عندما تمنع رواية وكتابة أحاديث الرسول!
وبدأت قيادة البطون بتطبيق مراسيمها بصراحة تامة، فكانت تحرق كل ما وصل إليها من أحاديث الرسول، وكانت تتصيد كل ما هو مكتوب من أحاديث الرسول فتتلفه، وحرمت مرارا وتكرارا تلك الأحاديث، مثلما حرمت روايتها تحريما كاملا، إلا ما كان يخدم توجهاتها وسياستها، وبهذه الظروف خبأ أهل بيت النبوة كنوز العلم الثمينة والنادرة والتي تلقوها من رسول الله مباشرة، خوفا عليها، وتناقلوها كابرا عن كابر، وأفاضوا منها سرا على أوليائهم، وكانت دولة الخلافة تراقبهم مراقبة دقيقة، وتتمنى لو تجد تلك الكنوز النادرة لتحرقها تحريقا، وتتلفها إلى الأبد.
ونجح أئمة أهل بيت النبوة بإخفاء تلك الكنوز العلمية، ورغم المنع المفروض على رواية الحديث إلا أنهم نجحوا بتسريب الكثير الكثير من معارفهم إلى المسلمين عامة، وإلى أوليائهم خاصة، بالرغم من رقابة الدولة الصارمة، وأدعية الإمام زين العابدين المعروفة من الأمثلة الحية فالأدعية أحاسيس عميقة صادقة استوحاها الإمام من علمي النبوة والكتاب، ومن خلالها بث شكواه ولوعته وحزنه العظيم، ثم كتبها بخط يده لينقلها إلى الأجيال اللاحقة، ومع أنها أدعية إلا أنه كان خائفا عليها كما خافت أم موسى على ولدها، فكان ينقلها من مكان إلى مكان، ومن حرز إلى حرز لأن دولة الخلافة الأموية لو عثرت عليها لمزقتها تمزيقا ولحرقتها تحريقا. لأن دولة الخلافة أرادت أن تمحو من ذاكرة المسلمين نهائيا وإلى الأبد كل الأحكام الشرعية المتعلقة بمنصب القيادة من بعد النبي والمتعلقة بمكانة أهل بيت النبوة، حتى لا يبقى في الشريعة أثر يدين استيلائها على القيادة بالقوة والتغلب وكثرة الأتباع.
وخلال مدة المائة سنة التي حرمت فيها دولة الخلافة كتابة ورواية أحاديث الرسول، عاش الإسلام والفئة المتنورة من المسلمين محنة كبرى، ووطأة عظمي، وكان أهل البيت الكرام أكثر الناس إحساسا بالمحنة والوطأة وما زاد الطين بلة أن المجتمع الإسلامي أو العامة وهم الأكثرية تحولت إلى حارس ومدافع عن شرعية تحريم كتابة ورواية أحاديث الرسول.
ولما تحول الرأي العام، وأقبل علماء دولة الخلافة على كتابة ورواية أحاديث الرسول، ولم تعترض دولة الخلافة على هذا التحول وذلك الإقبال، تنفس أهل بيت النبوة الصعداء، فراقبوا عن كثب عمليتي رواية وكتابة الحديث، ورسموا لها الطريق الأقوم: (سأل رجل الإمام جعفر الصادق عن مسألة فأجابه، فقال الرجل: أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول) ؟.
فقال جعفر: (مه ما أجبتك فيه من شئ فهو من رسول الله لسنا ممن رأيت في شئ، وقوله: (مهما أجبتك بشئ فهو من رسول الله لسنا نقول برأينا) وقال مرة: (لو أنا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من كان قبلنا، ولكن حدثنا ببينة من ربنا، بينها لنبيه، فبينها لنا) وكان يقول: (لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنها آثار من رسول الله أصل علم نتوارثها كابرا عن كابر، نكتنزها كما يكتنز الناس ذهبهم وفضتهم). (2).
وقول الإمام جعفر هذا دعوة لمن أرادوا البحث عما صدر عن رسول الله ليرجعوا إلى أهل بيت النبوة، فهم وحدهم الذين يملكون مفاتيح البيان النبوي، وهي دعوة من الإمام للمعنيين برواية وكتابة أحاديث الرسول، للفصل التام بين آرائهم الشخصية وما قاله الرسول.
وبدأ أهل البيت يفيضون على الناس مما آتاهم الله من علمي النبوة والكتاب، وبالحدود التي تتقبلها وتتحملها نفسية العامة التي تربت تربية ثقافية مناهضة لأهل بيت النبوة وموالية لدولة الخلافة.
واصطدمت علوم أهل بيت النبوة مع الأحاديث التي تبنتها دولة الخلافة عبر تاريخها السياسي، وسمحت بكتابتها وروايتها، بل واعتبرتها جزءا من مناهجها التربوية والتعليمية، وبحكم العادة والتكرار آمنت العامة بحتمية صدورها عن رسول الله.
واصطدمت روايات أهل بيت النبوة بسيل من روايات الفضائل التي اشتراها معاوية وأولياؤه من الطامعين بدنياه، ثم عممها بقوة الدولة ونفوذها، وأجبر العامة والخاصة على الاقتناع بها والتسليم بصحتها، وذلك لإرغام أنوف أهل بيت النبوة، وتمييز وإبطال الفضائل الحقيقية التي خصهم الله بها!
ومع أن دولة الخلافة لم تعترض على إقبال علمائها على كتابة ورواية أحاديث الرسول، ولم تعترض على تحول الرأي العام وتأييده لهذا العمل، إلا أنها ضاقت ذرعا بأهل بيت النبوة وأوليائهم، وشككت بقدرتهم وبما يروونه، وشككت بحيادهم أيضا. وتأثر علماء الدولة بذلك تأثرا كبيرا، فإذا ثبت لديهم أن هذا الراوي أو ذاك يوالي أهل بيت النبوة أو يقدمهم على غيرهم، أو يقول برئاستهم للأمة، أو بتقدمهم على الخلفاء الثلاثة الأول اعتبروه كاذبا أو غير ثقة، وبالتالي لم يأخذوا بروايته ولما اكتشف بعض علماء الدولة أن الشافعي يوالي أهل بيت النبوة وصفه ابن معين بأنه ثقة!
وعلى أي حال فقد انطلق أولياء أهل بيت النبوة يروون الأحاديث عن الرسول وعن الأئمة وفق القواعد والأصول الشكلية التي كان يروي فيها علماء دولة الخلافة. وكان الشيخ الكليني المتوفى سنة 329 ه أول من ألف موسوعة بالحديث، ثم تلاه الشيخ الصدوق المتوفى سنة 381 ه، ثم الشيخ الطوسي المتوفى سنة 460 ه، ثم المجلسي (البحار) ثم الحر العاملي (الوسائل) وقد أحرقت موسوعة الشيخ الطوسي كما أحرق الكثير من كنوز أولياء أهل بيت النبوة، ولكنهم صمدوا ونقلوا ما وصل إليهم من كنوز وعلوم أهل بيت النبوة التي غطت كل ما يحتاجه الناس في دنياهم وآخرتهم. (3)..
المصادر :
1- بصائر الدرجات ص 144 - 148 - 156 و 160، وأصول الكافي ج 1 ص 241 وص 57 والوافي ج 2 ص 125 ومعالم المدرستين ج 2 ص 300 - 312 وكتابنا الخطط السياسية ص 191 – 197
2- بصائر الدرجات ج 2 ص 29 و 301 وكتابنا الخطط السياسية ص 187 – 189
3- الخطط السياسية ص 192 - 209 لتقف على تفاصيل ذلك .