التشيّع في مصر

يقول المقريزي كان التشييع معروفا بأرض مصر قبل ظهور الفاطميين. وينقل رواية الكندي في كتاب " الموالي " عن عبد الله بن لهيعة أنه قال قال يزيد بن أبي حبيب: نشأت بمصر وهي علوية فقلبتها عثمانية
Monday, November 23, 2015
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
التشيّع في مصر
التشيّع في مصر

 






 

يقول المقريزي كان التشييع معروفا بأرض مصر قبل ظهور الفاطميين. وينقل رواية الكندي في كتاب " الموالي " عن عبد الله بن لهيعة أنه قال قال يزيد بن أبي حبيب: نشأت بمصر وهي علوية فقلبتها عثمانية.. (1)
ويذكر لنا التاريخ ثورة محمد بن أبي حذيفة في مصر عام 35 هـ والتي خلع فيها والي عثمان عقبة بن عامر وجمع الناس وألبهم على عثمان ودخل في صدام مع أنصاره في مصر وحبس بعضهم بعد أن تمكن منهم وهم " بسر بن أرطأه " و " معاوية بن خديج ". ثم بعث ابن أبي حذيفة بقوة إلى عثمان بالمدينة ساهمت في الثورة عليه وقتله..
وحين عادت القوة إلى مصر بعد مصرع عثمان دخلت البلاد وهي ترتجل:
خذها إليك واحذرن أبا الحسن * إنا نمر الحرب إمرار الوسن
بالسيف كي تخمد نيران الفتن
فلما دخلوا المسجد صاحوا لسنا قتلة عثمان ولكن الله قتله.. (2)
وكان من أمر شيعة عثمان أن جمعوا صفوفهم وانطلقوا إلى معاوية وبايعوه على الطلب بدم عثمان. فسار بهم معاوية إلى الصعيد وهزم أصحاب ابن أبي حذيفة..
وبعث ابن أبي حذيفة بجيش آخر عليه قيس بن حرمل فاقتتلوا في (خربتا) أول شهر رمضان عام 36 هـ فقتل قيس وسار معاوية إلى مصر فخرج إليه ابن أبي حذيفة في أهل مصر فمنعوه أن يدخلها ثم حدث اتفاق بين الطرفين على أن يسلم قادة الشيعة الثلاثة أنفسهم لمعاوية كرهائن إلى حين يتم القبض على قتلة عثمان إلا أن معاوية غدر بالقادة الثلاثة واستولى على مصر.. (3)
ولما بلغ علي بن مصاب أبي حذيفة بعث قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري على مصر فدخلها سنة سبع وثلاثين واستمال الخارجين بأهل خربتا ومصر يومئذ من جيش علي إلا أهل خربتا الخارجين بها.. (يروي ابن تغري: وأقامت شيعة عثمان بخربتا إلى أن جاء معاوية من الشام إلى مصر فخرج إليه ابن أبي حذيفة بأصحابه فمنعوه من الدخول إلى الفسطاط ثم اتفقا على أن يجعلا رهنا ويتركا الحرب. فاستخلف محمد بن أبي حذيفة على مصر الحكم بن الصلت وخرج في الرهن وعدة من قتلة عثمان فلما وصلوا إلى معاوية قبض عليهم وحبسهم وسار إلى دمشق. فهربوا من السجن فتتبعهم أمير فلسطين حتى ظفر بهم وقتلهم في ذي الحجة عام 36 هـ ..)
ثم أوقع معاوية بين قيس والإمام علي. وتم عزل قيس وتولية محمد بن أبي بكر الذي لم يتمكن من الصمود أمام جيش معاوية بقيادة عمرو بن العاص وسقط قتيلا في عام 38 هـ ولم يمكث في الحكم سوى خمسة أشهر.. (يروي ابن تغري: لما اختل أمر مصر على محمد ابن أبي بكر وبلغ علي قال: ما لمصر إلا أحد الرجلين صاحبنا الذي عزلناه قيس بن سعد - ومالك بن الحارث الأشتر. وكتب عيون معاوية إليه بولاية الأشتر على مصر فشق عليه وعظم ذلك لديه. فكان أن دبر قتله بالسم ومات بالقرب من عين شمس..)
ويبدو أن محمد بن أبي بكر استفز القوم في مصر كما لم يتمكن من التصدي لهذا التحدي الخارجي القادم من الشام بالإضافة إلى مواجهة الفتن في الداخل..
وبعد سقوط بني أمية وقيام دولة بني العباس ظهرت دعوة بني حسن بن علي بمصر وتكلم الناس بها. وبايع كثير منهم لعلي بن محمد بن عبد الله. وكان أول علوي قدم مصر. وقام بأمر دعوته خالد بن سعيد بن حبيش الصوفي من خاصة الإمام علي وشيعته وحضر الدار في قتل عثمان.. (4)
وما زالت شيعة علي بمصر إلى أن ورد كتاب المتوكل على الله إلى مصر يأمر فيه بإخراج آل أبي طالب من مصر إلى العراق فأخرجوا في رجب عام 236 هـ ..
واستتر من كان بمصر على رأس العلوية. وقام يزيد بن عبد الله أمير مصر يومئذ بتتبع الروافض وحملهم إلى العراق..
ومات المتوكل وجاء المستنصر فورد كتابه إلى مصر بألا يقبل علوي ضيعه.
ولا يركب فرسا. ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها. وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد. ومن كان بينه وبين أحد من الطالبيين خصومة قبل قول خصمه فيه ولم يطالب ببينة..
وجاء المستعين واستمرت سياسة التهجير لشيعة مصر من الطالبيين..
وهذه السياسة التي مارستها حكومات بني العباس ضد أبناء آل البيت في مصر إنما كان الهدف منها القضاء على الوجود الشيعي في مصر بنفي قيادات الشيعة والعناصر الفاعلة في دائرتها ليتم عزل جماهير الشيعة تمهيدا لاحتوائها وتصفيتها..
وفي عام 252 هـ قامت ثورة شيعية بالإسكندرية بقيادة جابر بن الوليد المدلجي واجتمع إليه خلق كثير من بني مدلج وهزم جيش العباسيين وقوي أمره وأتاه الناس وتمكن من السيطرة على الوجه البحري. إلا أن هذه الثورة لم تنجح..
ثم حدثت ثورة أخرى صغيرة قادها بغا الأكبر - يمتد نسبه إلى الحسين - في الصعيد. وقامت بعدها ثورة أخرى قادها بغا الأصغر فيما بين الإسكندرية وبرقة في عام 255 هـ . في عهد ابن طولون وسار في جمع إلى الصعيد لكنه قتل..
وثار ابن الصوفي العلوي في الصعيد واستولى على إسنا وهزم جيش ابن طولون لكنه هزم في إخميم وفر إلى مكه وقبض عليه ابن طولون بعد ذلك..
وفي عهد خمارويه بن أحمد بن طولون ظهر رجل ينكر أن أحدا خيرا من أهل البيت فوثب عليه العامة وضرب بالسياط في عام 285 هـ ..
وحدث صدام بين جمع من الأهالي والجند أمام الجامع العتيق - جامع عمرو - بسبب لوحة على باب الجامع ذكر فيها الصحابة والقرآن. وأراد الأهالي خلعها فتصدى لهم الجند ووقعت إصابات في الجانبين..
يقول المقريزي: وما زال أمر الشيعة يقوى في مصر إلى أن دخلت سنة 350 هـ ففي يوم عاشوراء وقعت منازعة بين الجند وبين جماعة من الرعية عند قبر كلثوم العلوية بسبب ذكر السلف والنوح وقتل فيها جماعة من الطرفين.. وتعصب السودان - الجنود - على الرعية فكانوا إذا لقوا أحدا قالوا: من خالك..؟ فإن لم يقل معاوية بطشوا به وشلحوه. ثم كثر القول: معاوية خال علي..
وكان على باب الجامع العتيق شيخان من العامة يناديان في كل يوم جمعة في رجوة الناس من الخاص والعام: معاوية خالي وخال المؤمنين. وكاتب الوحي ورديف رسول الله - وهذا أحسن ما يقولونه - وإلا فقد كانوا يقولون: معاوية خال علي من ها هنا - ويشيرون إلى أصل الأذن - ويلقون أبا جعفر الحسيني فيقولون له ذلك في وجهه. وكان بمصر أسود يصيح دائما: معاوية خال علي فقتل بتنيس أيام القائد جوهر..
وقد قام خصوم الشيعة في مصر بمظاهرة في عهد كافور الأخشيدي يطالبونه فيها بنصرة إخوانهم الذين ثار عليهم الطالبيين بمكة..
واستمرت مطاردة الشيعة وضربهم كلما ظهرت لهم شعيرة أو ارتفع لهم صوت وضرب رجل شيعي بالسياط وجعل في عنقه غل وحبس حتى مات وأراد العامة نبش قبره إلا أن جند كافور منعوهم..
وفي عام 356 هـ كتب على المساجد ذكر الصحابة والتفضيل أي تفضيل أبي بكر على علي. لكن كافور أمر بإزالته..
ومثل هذا السرد التاريخي إن دل على شئ فإنما يدل على أن الشيعة كان لها وجودها البارز والفعال على الساحة المصرية وفي قلب القاعدة الشعبية. وهذه الوقائع تشهد على هذا فهي رد فعل سني تجاه هذا التواجد المستفز لهم..

بين العباسيين والفاطميين:

وبعد سقوط الأخشيديين ودخول الفاطميين مصر ظهر مذهب التشيع وأذن في مساجد مصر الجامعة وغيرها: حي على خير العمل. وبدأت الشعارات الشيعية تبرز على ساحة الواقع ومنها الجهر بأفضلية علي والصلاة عليه وعلى الحسن والحسين وفاطمة.
ودارت الدائرة وهم جوهر الصقلي بإحراق رحبة الصيارفة بسبب تظاهرهم ضد الحكومة رافعين شعار: معاوية خال علي..
وصدر الأمر بالجهر بالبسملة وكتب على سائر الأماكن في مصر: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي. وأمر بالصوم والفطر على مذهب الشيعة. وقطعت صلاة التراويح من جميع البلاد المصرية..
وفي ربيع 385 هـ جلس القاضي محمد بن النعمان على كرسي بالقصر في القاهرة لقراءة علوم أهل البيت. وتسارع الناس إلى الدخول في الدعوة فقدموا من سائر النواحي والضياع فكان للرجال يوم الأحد والنساء يوم الأربعاء. للأشراف وذوي الحاجة يوم الثلاثاء. وتزاحم الناس على الدخول في الدعوة فمات عدة من الرجال والنساء.. (5)
ولم تواجه جماهير السنة في مصر أية ضغوط من قبل الدولة الفاطمية لإجبارها على التخلي عن مذهبها كما أشاع خصوم الفاطميين. وإنما الجماهير هي التي زحفت طواعية نحو دعوة آل البيت حتى تحول أنصار مذهب السنة إلى أقلية.
وقد كانت الحرب الدعائية على أشدها ضد الفاطميين من قبل العباسيين في بغداد. ومن صور هذه الحرب إعلان العباسيين وثيقة وقع عليها وجهاء من السنة.
والشيعة تدعي بطلان دعوى الفاطميين في الانتساب إلى آل البيت..
وقد تأثرت الكتابات التاريخية التي رصدت تلك الفترة بهذه الحرب وانحازت إلى صف العباسيين السنة. وبرز هذا الأمر بوضوح بعد سقوط الدولة الفاطمية على أيدي الأيوبيين.. (وقد اتفق جميع المؤرخين على تشويه الفاطميين لكونهم شيعة. ويبدو ذلك بوضوح عند مؤرخي فترة ما قبل سقوط الدولة الفاطمية الذين كانت تحرضهم بغداد. كما يبدو عند مؤرخي فترة الأيوبيين وما بعدهم. انظر تأريخ الخلفاء للسيوطي والذي أرخ فيه لجميع الخلفاء المسلمين عدا الفاطميين الذين استثناهم عن عمد في كتابه.وانظر النجوم الزاهرة. والكامل لابن الأثير والبداية والنهاية لابن كثير وبدائع الزهور في وقائع الدهور. والروضتين في أخبار الدولتين..)
ويدافع المقريزي عن حملات التشكيك التي وجهت للفاطميين في مسألة نسبهم لآل البيت ومحاولة نسبتهم لليهود والمجوس..
يقول المقريزي: وهذه أقوال إن أنصفت يتبين لك أنها موضوعة. فإن بني علي قد كانوا إذ ذاك على غاية من وفور العدد وجلالة القدر عند الشيعة. فما الحامل لشيعتهم على الإعراض عنهم والدعاء لابن مجوس أو لابن يهودي. فهذا مما لا يفعله أحد ولو بلغ الغاية في الجهل والسخف.. وإنما جاء ذلك من قبيل ضعفة خلفاء بني العباس عندما غضوا بمكان الفاطميين. وأسجل القضاء بنفيهم من نسب العلويين وشهد بذلك من أعلام الناس جماعة منهم الشريفان الرضي والمرتضى وأبو حامد الإسفراييني في عدة وافرة عندما جمعوا لذلك في سنة 402 هـ أيام القادر.. وكانت شهادة القوم في ذلك على السماع لما اشتهر وعرف بين الناس ببغداد وأهلها إنما هم شيعة بني العباس الطاعنون في هذا النسب والمتطيرون من بني علي الفاعلون فيهم منذ ابتداء دولتهم الأفاعيل القبيحة. فنقل الأخباريون وأهل التاريخ. ذلك كما سمعوه ورووه حسبما تلقوه من غير تدبر.. (6)

الفاطميون ومصر:

لم تستفد مصر من ولاتها الذين حكموها منذ الفتح الإسلامي قدر ما استفادت وانتفعت من الفاطميين على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية وأن بناء القاهرة والجامع الأزهر لهما خير دليل على ذلك..
والتاريخ يحدثنا عن نهضة واسعة في الحياة الفكرية والأدبية في العصر الفاطمي كما يحدثنا عن ازدهار العلوم الفلسفية والرياضيات والفلك والتنجيم والطب.
ويقول الدكتور محمد كامل حسين:.. في العصر الفاطمي نرى تطورا جارفا في الحياة الفكرية ولا سيما في العلوم الفلسفية على اختلاف ألوانها وفنونها. إذ ازدهرت هذه العلوم ورعاها الخلفاء الفاطميون. بل كان هؤلاء الخلفاء من العلماء المبرزين في بعض هذه العلوم. وخاصة في الإلهيات والفلك.. وقد اهتم الفاطميون برصد النجوم واهتموا بعلماء الرياضيات اهتماما خاصا.. كما اهتموا بالشعر واتخذوه وسيلة من وسائل دعوتهم السياسية. وكان الفاطميون أساتذة فن الدعاية واتخذوا لها كل الوسائل الممكنة في عصرهم وجندوا للدعاية كل من يفيدهم في هذا المضمار.. ولا أكاد أعرف دولة من الدول الإسلامية أقامت للشعراء هذا التمجيد.
أو اهتمت بهم هذا الاهتمام فلا غرو إذا إن ازدهر الشعر المصري ازدهارا لم يعرف من قبل.. ويقول الدكتور عبد المنعم الماجد:.. ويرجع الفضل إلى الفاطميين في خلق أهمية مركز مصر الدولي للتجارة. إذ أنهم عرفوا مزايا الموقع الجغرافي لمصر في مفترق القارات لتربط بين عالمين ولكي يسهل الفاطميون نقل التجارة بين الشرق والغرب فتحوا القنال بين النيل والبحر الأحمر وهو ما عرف في عهد المستنصر بالخليج الحاكمي نسبة إلى الحاكم بأمر الله..
وقد ذكر الرحالة ناصر خسرو عندما مر بمصر في تلك الفترة: أن المصريين كانوا في حالة حسنة جدا. وأنه رأى أموالا يملكها بعض المصريين لو ذكرها أو وصفها لما صدقه أحد. فهي لا تقع تحت تحديد أو حصر. وهي للنصارى والمسلمين على السواء..
وذكر أيضا: وقد رأيت الأمن والعدل فيما رأيت من بلاد العرب والعجم في أربعة مواضع: الأول بالدشت أيام نشكر خان. والثاني بالديلم أيام أمير الأمراء جستان بن إبراهيم والثالث بمصر أيام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والرابع بطبس أيام الأمير أبي الحسن بن محمد. فلم أسمع على كثرة ما سافرت بهذه الجهات عن الأمن ولم أره..
لقد أصبحت مصر لأول مرة في التاريخ مركز الحكم والتوجيه وتحولت القاهرة إلى عاصمة للعالم الإسلامي كما أصحبت منارة العلم وقبلة المتعلمين وذلك بفضل الفاطميين الشيعة. وكانت الدولة الفاطمية تمتد من أقصى المحيط الأطلسي إلى الفرات وبلغت دعوتها إلى أقصى انتشارها ووصل غناها إلى الذروة. وهكذا كان حال الدولة الفاطمية حين تسلمها المستنصر بالله الخليفة الثامن من خلفاء الفاطميين..
وكانت الدولة الفاطمية في خلافة الظاهر والد المستنصر في غاية الاستقرار والرفاهية ولأجل ذلك مال الظاهر إلى الدعة والراحة ولما جاء المستنصر ركن إلى هذا الحال..
وقد ازدهرت الحركة العمرانية في عهد الفاطميين كما ازدهرت صناعة النسيج واشتهرت مصر بصناعة أنواع خاصة من النسيج. وكانت الحكومة تقوم بكسوة موظفيها في الصيف والشتاء وكسوة العامة من الفقراء والمحتاجين..
ولم تكن المواكب المترفة غاية الترف التي كانت تخرج في شوارع القاهرة في المناسبات الدينية كعيد الفطر والأضحى وبداية رمضان وكذلك في عيد ميلاد الخليفة - هذه المواكب تشير في دلالة واضحة إلى حالة الرخاء والسعة التي كانت تعيشها في تلك الفترة..
وجميع أفراد الشعب كانوا يتأنقون لهذه المواكب فيلبسون أغلى الملابس وأروعها والتي كانت تصنع في دور الطرز المصرية. وهي أماكن لصناعة الملابس أغلبها مذهبة. يشملها زي مصري عام ذو أكمام واسعة.. وقد بلغت الناس غاية التأنق في عهد الظاهر.. يقول الدكتور حسن إبراهيم حسن:يعتبر عهد العزيز بالله الفاطمي عهد يسر ورخاء وتسامح ديني وثقافة لا غرو.. وقد أنشئ في عهد الحاكم دار الحكمة التي كان يشتغل بها كثير من القراء والفقهاء والمنجمين والنحاة واللغويين وألحق بها مكتبة أطلق عليها دار العلم حوت كثيرا من أمهات الكتب مما ألف في مصر وغيرها من البلاد الإسلامية / تاريخ الإسلام السياسي والثقافي والاجتماعي.)
وكان الخليفة العزيز يقول: أحب أن أرى النعم عند كل الناس ظاهرة. وأرى عليهم الذهب والفضة والجوهر. ولهم الخيل واللباس والضياع والعقار. وأن يكون ذلك كله من عندي..
ويروي المؤرخون الكثير عن عدل المستنصر ورحمته بالناس فقد كان يعطي الدواء لمن يطلبه بالمجان ويخالط الناس ويسمع شكواهم وقد أحبته الرعية حبا شديدا..
كما يروى أن النفقة على قافلة الحج في عهد المستنصر بلغت مائتي ألف دينار ولم تبلغ هذه النفقة مثل ذلك في دولة من الدول حيث كانت تشمل ثمن الطيب والشمع والحماية والصدقة وأجرة الجمال ومعونة خدم القافلة ومن يسير معها من العسكر الذين بلغت نفقاتهم في عهد المستنصر ستين ألف دينار زيادة على مرتباتهم أو ألف دينار في اليوم..
وقد أنشأ الحاكم بأمر الله دار الحكمة أو دار العلم في عام 395 هـ وزودها بالكتب من كل نوع في العلوم والآداب والعقائد وكان الطلاب يفدون إليها من شتى الأقطار. فكانت أشبه بجامعة تتكون من عدة كليات.. وكانت خزانة الكتب في زمن المستنصر لا نظير لها في جميع بلاد الإسلام وهي تتكون من أربعين خزانة فيها أكثر من مائتي ألف كتاب وعدد كبير من الكتاب والنساخ..
وبلغ عدد المساجد في مصر آنذاك ستة وثلاثون ألف مسجد في جميع المدن والقرى ولكل مسجد يقع في حدود الدولة من الشام إلى القيروان نفقات يقدمها الخليفة المستنصر من زيت وحصير وسجاجيد للصلاة ورواتب للقوام والفراشين والمؤذنين وغيرهم..
واعتاد خلفاء الفاطميين أن يقيموا في قصورهم الولائم الفاخرة في الأعياد لعامة الناس حيث تقدم لهم الفطرة وهي حلوى من دقيق وفستق ولوز وبندق وتمر وزبيب وعسل وهي تنشر كالجبل الشاهق على مائدة طويلة بالإيوان الكبير..
وفي عيد الأضحى كان الخليفة ينحر بنفسه الأضاحي إيذانا منه ببدء النحر.
وكانت تنحر في فترة العيد ما يزيد على الألف رأس توزع لحومها على الموظفين وطلبة العلم والقائمين بشئون الجوامع..
إن الدولة الفاطمية التي استقرت بمصر فكانت أوفرها بين الدول بهاء وأبقاها أثرا وما زال الجامع الأزهر غرس الدولة الفاطمية اليانع يقوم منذ ألف عام أثرا خالدا ورمزا باهرا لهذا العصر الزاهر وهذه الدولة المستنيرة العادلة. وربما كان العصر الفاطمي بين عصور مصر الإسلامية الغابرة أجودها من هذه الناحية بالدرس والتمحيص وأحفلها بالمواقف الشائقة وأكثرها سحرا وفتنة وأبعثها إلى التأمل والعطف لأن الخلافة الفاطمية بالرغم مما كان يحيق بأصولها وأمامها من الريب فقد كانت بنظمها الطريفة ورسومها الفخمة وخلالها الباهرة تنثر من حولها فيض من العظمة والبهاء وتطبع العصر بطابع عميق من روحها الباذخ كما يحدثنا التاريخ..
وفي أيام هذه الدولة أخذت أنوار الحضارة الإسلامية تنبثق من هذه المدينة الزاهية على أرجاء الأرض. وأخذ الفن المصري الإسلامي يتألق في جميع نواحيه. وفي رعاية هذه الدولة وثبت العمارة الإسلامية وثبة قوية حتى قاربت الكمال لأن خلفاءها تباروا في إنشاء وتأسيس المساجد الكبرى والحصون والقصور والمناظر والحدائق والبساتين. وفي هذا العصر الزاهي انتشر الزخرف في واجهات المساجد وانتعش التصوير ونبغ المصورون وترقت ودقت صناعة الجص والأخشاب.. وكانت أيامهم كلها أعيادا بما ابتكروه من حفلات جمعت بين جلالة الملك وطرب الشعب وبهجته.. (7)

مواسم الفاطميين:

اشتهر العصر الفاطمي بكثرة المواسم والاحتفالات والإنفاق ببذخ عليها. وقد تفاعل المصريون مع هذه الإحتفالات والمناسبات وأحبوها لما كانت تمثله بالنسبة لهم من أهمية معنوية وترفيهية بالإضافة إلى أهميتها الاقتصادية حيث كانت توزع فيها العطايا من أموال وكسوة وطعام..
وأهم هذه المناسبات التي كان يحتفل بها الفاطميون. مناسبة رأس السنة الهجرية ومناسبة عاشوراء. ومولد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم). وعيد الفطر. وعيد النحر (الأضحى). وليلة النصف من شعبان. ومولد الإمام علي. ومولد الحسن. ومولد الحسين. ومولد فاطمة. عليهم السلام وأول رمضان. وعيد الغدير. وليلة أول رجب ونصفه. وذلك غير المناسبات الأخرى الخاصة بخلفاء الفاطميين..
وقد توقفت معظم هذه الإحتفالات بعد سقوط الفاطميين ولم يبق إلا القليل منها مما تبنته الدول التي قامت بعدهم. وتبنته الطرق الصوفية. توقف الاحتفال بمولد أئمة آل البيت علیهم السلام عدا مولد الامام الحسين علیه السلام . كما توقف الاحتفال بعيد الغدير وكسوة الشتاء والصيف وعاشوراء وشهر رجب. وبقي الاحتفال بليلة النصف من شعبان ورمضان اختصت به الطرق الصوفية. أما الاحتفال برأس السنة الهجرية ومولد النبي وعيد الفطر والأضحى فقد تبنته الدول الأيوبية والمملوكية والعثمانية واستثمرته إعلاميا ودعائيا لصالحها غير أنها قامت بتغيير تواريخ الاحتفال بهذه المناسبات والتي كانت من وضع الفاطميين..
ولا تزال هذه النظم الفاطمية سائدة في مصر حتى اليوم بالنسبة للاحتفالات الخاصة بالمناسبات التي لا زالت باقية. مثل الموالد وليلة النصف من شعبان ورأس السنة الهجرية وعاشوراء التي غير جوهر الاحتفال بها من الحزن إلى الفرح نكاية بالفاطميين الشيعة الذين كانوا يتخذون من يوم عاشوراء يوم حزن بسبب المذبحة التي وقعت لأبناء الرسول بكربلاء في يوم العاشر من محرم..
وكان الاحتفال بعاشوراء زمن الفاطميين تتعطل فيه الأسواق ويعمل فيه السماط العظيم المسمى بسماط الحزن. وكان يصل إلى الناس منه شئ كثير..
يروي المسبحي: وفي يوم عاشوراء (بداية من عام 396 هـ ) جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق وخروج المنشدين إلى جامع القاهرة (الأزهر) ونزولهم مجتمعين بالنوح والنشيد..
وكان إذا جاء يوم العاشر من محرم يحتجب الخليفة عن الناس فإذا علا النهار ركب قاضي القضاة والشهود وقد غيروا زيهم. ثم صاروا إلى المشهد الحسيني وكان قبل ذلك يعمل في الجامع الأزهر. فإذا جلسوا فيه ومن معهم من القراء والمتصدرين في الجوامع. جاء الوزير فجلس صدرا والقاضي والداعي من جانبيه.
والقراء يقرأون نوبة نوبة. وينشد قوم من الشعراء غير شعراء الخليفة شعرا يرثون به أهل البيت (عليهم السلام)فإن كان الوزير رافضيا - هكذا يقول المقريزي - تغالوا وإن كان سنيا اقتصدوا. ثم يستدعون بعد ذلك إلى القصر حيث يجلسون ويقرأ القراء وينشد المنشدون أيضا. ويفرش سماط الحزن مقدار ألف زبدية من العدس والملوحات والمخللات والأجبان والألبان والأعسال والفطير والخبز المغير لونه - إلى السواد - بالقصد - أي عمدا - ويأكل الجميع من الناس على اختلاف طبقاتهم. فإذا فرغ القوم انفصلوا إلى أماكنهم ركبانا بذلك الزي الذي ظهروا فيه. وطاف النواح بالقاهرة ذلك اليوم. وأغلق البياعون حوانيتهم إلى جواز العصر. فيفتح الناس بعد ذلك ويتصرفون..
ولما زال حكم الفاطميين اتخذ ملوك بني أيوب يوم عاشوراء يوم سرور يوسعون فيه على عيالهم ويتبسطون في المطاعم ويصنعون الحلاوات ويتخذون الأواني الجديدة ويكتحلون ويدخلون الحمام جريا على عادة أهل الشام التي سنها لهم الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان ليرغموا بذلك آناف شيعة علي بن أبي طالب الذين يتخذون يوم عاشوراء يوم حزن على الحسين..
أما يوم الغدير فيوافق الثامن عشر من ذي الحجة وهو يوم وقف الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)
بغدير خم في حجة الوداع وخطب في الصحابة وأوصى بالإمامة لعلي.. (حديث الغدير من الأحاديث المستفيضة. وهو من بين الأسانيد التي يعتمد عليها الشيعة في إثبات وصية الرسول للإمام علي. ونص الحديث كما رواه أحمد بإسناد صحيح: عن سعيد بن وهب وعن زيد بن يثبع قالا: نشد علي الناس في الرحبة: من سمع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم. إلا قام.
قال: فقام من قبل سعيد ستة. ومن قبل زيد ستة. فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لعلي يوم غدير خم: " أليس الله أولى بالمؤمنين؟ قالوا:
بلى. قال: " اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.. وقال فيه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أيضا: أذكركم الله في أهل بيتي..)
وفي هذه المناسبة كانت تزوج الأيامى وتوزع فيه الكسوة وتفرق الهبات. وفيه تنحر الماشية وتعتق الرقاب..
وفي عيد الفطر يركب الخليفة لصلاة العيد وتفرق الكسوة ويعمل السماط وكذلك في عيد الأضحى الذي تفرق فيه الأضاحي بالإضافة إلى الكسوة والأموال على أرباب السيف والقلم..
وكان الفاطميون بالإضافة إلى ذلك يحتفلون بعيد النيروز ويوزعون فيه أصناف الحلوى..
وفي الاحتفال برأس السنة الهجرية كان الخلفاء يقيمون الولائم ويوزعون الحلوى ويحضر الاحتفال رجال الدولة وأصحاب الرتب وجميع أرباب السيوف والأقلام..
وفي فصل الشتاء كانت توزع كسوة الشتاء. وفي فصل الصيف كانت توزع كسوة الصيف على أهل الدولة وعلى أولادهم ونسائهم..
إن هذه الإحتفالات إنما كانت تعكس الحالة الاقتصادية السائدة في العصر الفاطمي. وهي حالة على ما يبدو من هذه الإحتفالات تدل على رغد العيش واتساع الأرزاق..

الفاطميون والصليبيون:

من بين المطاعن التي وجهت للفاطميين إقامة علاقة مع الصليبيين أعداء المسلمين وقد استغل هذا المطعن في تشويه الفاطميين وإثارة الشبهات من حولهم.
خاصة أن هذا المطعن قد استخدم كوسيلة لتأكيد عداء الفاطميين للمسلمين وميلهم للصليبيين على أساس عقيدتهم الباطنية المعادية للإسلام..
وبات هذا الأمر حقيقة مسلم بها عند الجميع بحيث غطى على كل مآثر الدولة الفاطمية وإنجازاتها..
من هنا استبيحت الدولة الفاطمية وحكامها من قبل المؤرخين الذين رصدوا تاريخها ووقائعها بمنظار الشك. وأعلنوا براءتهم منها وكفرهم بها. حتى إن بعض المؤرخين رفض التأريخ لدولتهم في كتاب له حوى تاريخ الخلفاء..
والحق أن اتهام الفاطميين بالعمالة للصليبيين كاتهامهم بالزندقة والباطنية.
والتشكيك في انتسابهم لشجرة آل البيت واتهامهم بتزوير نسبهم هذا. كل هذه تهم ابتدعت لأغراض سياسية الهدف منها الحط من الفاطميين والقضاء على دعوتهم ونفوذهم بين المسلمين بسبب تبنيهم الخط الشيعي..
إن القضية في الحقيقة هي أكبر من مجرد الاتهام بالتعاون مع الصليبيين. إنها قضية الصراع بين السنة والشيعة..
السنة ممثلة في الدولة العباسية آنذاك..
والشيعة ممثلة في الدولة الفاطمية المواجهة لها..
ومحاولة حصر القضية في دائرة العمالة للصليبيين يعد سطحيا لحركة التاريخ وتعتيما على أحداثه..
لقد قاد العباسيون حملة التشويه والطعن في الفاطميين الذين سلبوهم مركز الريادة والقيادة في العالم الإسلامي بل وكادوا أن يسقطوا دولتهم ويوحدوا المسلمين تحت روايتهم لولا ظهور القرامطة والسلاجقة..
إن العباسيين هم الذين شهروا سلاح السنة في مواجهة الفاطميين وزجوا بالفقهاء في المواجهة حتى يضفوا طابع الشرعية على حربهم السياسية ضد الفاطميين. ويبدو هذا بوضوح من خلال المنشور الذي أصدره العباسيون ينفون فيه نسب الفاطميين ووقع عليه كثير من الفقهاء والرموز الإسلامية السنية البارزة آنذاك..
ومسألة التعاون مع الصليبيين أو الإفرنج حين ظهروا في بلاد المسلمين لا تقتصر على الفاطميين إن صح نسبتها لهم. وإنما هناك صور كثيرة لهذا التعامل برزت في بلاد الشام في وجود الفاطميين وفي عهد الأيوبيين.
فلماذا أثيرت هذه التهمة حول الفاطميين وحدهم وأغفل الباقون..؟
والجواب واضح.
لقد جعلت حالة العداء الكامنة في نفوس المؤرخين السنة تجاه الشيعة جعلتهم يتصيدون الأخطاء وينسبون المواقف ويثيرون الشبهات حول الفاطميين. وقد أعماهم الحقد على الشيعة عن معرفة الحقيقة ووضع الأمور في نصابها والفحص والتحقق في الروايات التي تنسب للفاطميين ما لا يعقل وما يخرج عن حدود الخلق العلمي..
ولا يزال البعض إلى اليوم يتناقل الفرية التاريخية التي تقول إن الشيعة يقدمون عليا على محمد. ويقولون إن جبريل أخطأ في الرسالة وبدلا من أن يهبط على علي هبط على محمد.. (كان عليا حين بعث الرسول عمره لا يتجاوز ثمانية سنوات. فهل يعقل أن جبريل يهبط على طفل..؟ ثم إن الحكم بخطأ جبريل يعني أن مرسله أخطأ أيضا. سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا. وهذا كفر صريح. فكيف تقوم دعوة على أساس فكرة واهية كهذه تخطئ الله بطريق غير مباشر. هل من الممكن أن يقبلها أحد من المسلمين..؟ ثم إن الشيعة يعتقدون في قدسية آل البيت وعلى رأسهم الإمام علي. وهذه القدسية إنما هي مستمدة من الرسول الذي ينسب إليه هذا البيت. فكيف يمكن أن يقدم علي على الرسول وهو يستمد قدسيته منه..؟)
إن التاريخ يقص علينا مواقف خالدة ومشرفة للفاطميين في مواجهة الصليبيين من قبل ظهور آل زنكي وصلاح الدين..
يروي ابن الأثير عن أحداث عام 387 هـ . أنه قد وقعت فيها معركة كبيرة بين جيش برجوان الفاطمي قائد جيوش الحاكم بأمر الله وجيش الدوقس الرومي وانهزم فيها الدوقس ودخل جيش الفاطميين أنطاكية..
وفي هذا العام يروي ابن الأثير أن الخليفة الفاطمي العزيز بالله برز لغزو الروم إلا أنه توفي في الطريق بمدينة بلبيس..
وفي عام 491 هـ استولى الفرنج على بيت المقدس في عهد الخليفة المستعلي بالله وسير الأفضل بن بدر الجمالي وزير الآمر بأحكام الله ابن المستعلي الجيوش إلى الفرنج عام 498 هـ فقهرهم وأخذ الرملة ودارت بينهم معارك طاحنة لكنه لم ينجح في إخراجهم من القدس وعكا ويافا وعاد إلى عسقلان. وكان مع الفرنج جماعة من المسلمين منهم بكتاش بن تتش..
وفي عام 503 هـ ملك الفرنجة طرابلس وانطلق الأسطول المصري محملا بالرجال والغلال والمال وغيره ما يكفي لسنة وفرقت المؤن هذه والذخائر في الجهات المنفذة إليها صور وصيدا وبيروت..
وفي عام 504 هـ قام والي عسقلان من قبل الفاطميين بمراسلة الفرنج وهادنهم وتحصن بهم في مواجهة دولته. وجهز الأفضل جيشا وسيره نحو عسقلان. ووثب أهل عسقلان على الوالي وقتلوه وبذلك انتهت الفتنة وأنقذت عسقلان..
وفي عام 508 هـ حاصر الفرنج صور فجهز الأفضل أسطولا وسيره إلى صور فاستقام أحوال أهلها وصمدوا في مواجهة الفرنجة..
هذا هو حال الفاطميين مع الصليبيين حتى ظهر آل زنكي وتصدوا لهم وملكوا الشام وبدأت الدولة الفاطمية تضعف في مصر حتى سقطت في قبضة الأيوبيين عام 568 هـ ..
في عام 558 هـ وبعد مصرع الصالح طلائع الرجل القوي في جهاز الحكم الفاطمي في عهد الخليفة العاضد آخر خلفاء الفاطميين. تولى الوزارة من بعده ولده زريك الذي لقب بالعادل وسار على نفس سيرة والده الحازمة في مواجهة الانحرافات والفساد داخل جهاز الدولة. وكان أن تصدى العادل لنفوذ شاور الذي كان واليا على الصعيد وأراد عزله فسار شاور بجيشه نحو القاهرة وفر العادل من أمامه وظفر به شاور وقتله وأصبح مكانه في الوزارة ولقب نفسه بأمير الجيوش وكان سافكا للدماء مكروها. إلا أن الجو لم يصفو لشاور فقد ظهر في مواجهته رجل قوي وهو الأمير ضرغام من أتباع زريك ونازع شاور ودارت بينهما معارك انهزم فيها شاور وفر إلى الشام. وهناك أطمع نور الدين محمود في غزو مصر فجهز معه شيركوه وصلاح الدين والعساكر عام 558 هـ .
ودارت معارك بينهم وبين ضرغام انتهت بهزيمته ومقتله. ودخل شاور القاهرة ثانية تحت راية الأيوبيين آل زنكي. ثم حدث خلاف وصدام بين شاور وشيركوه قام شاور على أثره بالاتصال بالإفرنج التي قدمت وحاصرت القاهرة وفر منها أسد الدين شيركوه وصلاح الدين وعاد شاور إلى القاهرة للمرة الثالثة تحت راية الصليبيين. وأقام بها على عادته بظلم الناس وقتلهم ومصادرة أموالهم ولم يبق للعاضد معه أمر ولا نهي.
وهنا لجأ العاضد إلى نور الدين محمود وأرسل إليه يستنجده فعاد شيركوه إلى مصر وانهزم الفرنج وقتل شاور بعد أن أحرق الفسطاط ونقض العهد مع شيركوه..
هذه هي قصة تعاون الفاطميين مع الصليبيين التي ضخمها المؤرخون واعتمدوا عليها في تشويه الفاطميين. وهي على ما تبدو مسألة صراع سياسي لا صلة له بالعقيدة تزعمها مارق لا دين له هو شاور الذي كان يتحرك من خلال مصلحته الخاصة وليس من خلال الشيعة أو الدولة الفاطمية..
وها هو الخليفة العاضد ممثل الدولة يستنجد بنور الدين السني لينقذ بلاده من شاور والإفرنج الصليبيين. ثم إنه بعد أن تم له التخلص من خطر الإفرنج وشاور خلع على شيركوه الوزارة مع أنه سني وتوفي شيركوه بعد فترة قصيرة فنصب الخليفة من بعده صلاح الدين وزيرا. إلا أن صلاح الدين تآمر على العاضد حتى قضى عليه وعلى عائلته وبذلك انتهى حكم الفاطميين في مصر. مما دفع ببقايا الفاطميين إلى التآمر عليه ومحاولة الاتصال بالإفرنج لدفعه إلى الخروج من القاهرة بجنده والاستيلاء على المدينة إلا أن هذه المؤامرة تم كشفها.. (إذا صح هذا القياس فيجب محاسبة خلفاء بني أمية وبني العباس وغيرهم على كثير من المواقف والانحرافات الخطيرة على المستوى السياسي والاقتصادي والعقائدي مما امتلات به كتب التاريخ. وهو ليس موضوعنا هنا.)
وهذه الحادثة الثانية ليست إلا رد فعل لمؤامرة صلاح الدين على الفاطميين وبطشه بالشيعة في مصر على ما سوف نبين..
ومثل هذه المواقف وغيرها مما ينسب للفاطميين إنما هي مواقف سياسية بحتة لا صلة لها بالمذهب الشيعي ولا يجوز تحميلها على أساس عقائدي. فإن السياسة كثيرا ما تتمرد على الدين وإذا ما حاولنا ضبط مواقف الخلفاء - سنة وشيعة - بضوابط الإسلام فسوف نجد تناقضا كبيرا. خاصة خلفاء بني أمية وبني العباس..
والفاطميين على الرغم من نجاحهم في تحويل المصريين من السنة إلى الشيعة ليتحول الشيعة إلى أغلبية في مصر. رغم ذلك لم يضطهدوا المذهب السني. بل كان له وجوده ونشاطه. حتى إن بعض فقهاء المالكية والشافعية تولوا مناصب في الدولة مثل القاضي أبي عبد الله القضاعي الشافعي.. (8)
لعل هذا ما دفع بالقلقشندي أن يقول: إن مذهبي مالك والشافعي ظاهري الشعار في زمن الفاطميين.. (9)
ولو كان الفاطميون باطنية وزنادقة ويضمرون العداء للإسلام والمسلمين كما يدعون فلما ذا تسامحوا مع المذاهب الأخرى وهي واقعة في دائرة نفوذهم..؟
يقول الدكتور عبد المنعم الماجد: لا بد لنا أن نقر أن الدعوة - الشيعية - أيام المستنصر نجحت إلى حد لم يسبق لها. وأن المسلمين من غير الشيعة والقبط. كانوا يتمتعون بحريتهم المذهبية والعقيدية إلى حد كبير..

شهادة المؤرخين للفاطميين:

إن القارئ المتتبع لتاريخ الفاطميين يظهر له التناقض الواضح في مواقف المؤرخين من خلفائهم.. ففي الوقت الذي يتهمهم فيه المؤرخون بالزيغ والضلال وفساد العقيدة وينفون نسبهم لآل البيت وينعتونهم بالعبيديين نسبة إلى عبيد الله المهدي مؤسس الدولة في بلاد المغرب.
هذا الموقف العدائي نجد أمامه موقف آخر يحمل المدح والثناء على لسان نفس المؤرخين لخلفاء الفاطميين..
يقول ابن الأثير: وكان المعز عالما فاضلا جوادا شجاعا جاريا على منهاج أبيه من حسن السيرة وإنصاف الرعية. وستر ما يدعون إليه إلا عن الخاصة. ثم أظهره وأمر الدعاة بإظهاره إلا أنه لم يخرج فيه إلى حد يذم به.. (10)
ويقول ابن إياس: وكان المعز رجلا عادلا عاقلا حازما لبيبا فصيحا شاعرا وله شعر جيد. فمن ذلك قوله:
ما با من عذري فيك حتى عذرا * وبدا البنفسج فوق ورد أحمرا
همت بقبلته عقارب صدغه * فاستل ناظره عليها خنجرا
ويقول ابن الأثير عن العزيز بالله: كان يحب العفو ويستعمله. وكان حليما كريما شجاعا وفيه رفق بالرعية.. (11)
ويقول ابن إياس: وكان العزيز يحب العدل في الرعية. وينصف المظلوم من الظالم. وكان كريما جوادا ممدوحا. فأحبته الرعية وصفا له الوقت بالديار المصرية. وكان خيار بني عبيد قاطبة.. (12)
أما الحاكم بأمر الله الخليفة الثالث فقد قال عنه ابن إياس: فلما تولى الخلافة أظهر العدل بين الرعية وسار في الناس سيرة حسنة..
ويقول ابن الأثير عن الخليفة الظاهر لدين الله: وكان جميل السيرة حسن السياسة منصفا للرعية..
وتولى من بعد الظاهر المستنصر بالله وكان الحاكم في دولته بدر بن عبد الله الجمالي الملقب بالأفضل أمير الجيوش وكان عادلا حسن السيرة.. (13)
ويقول ابن إياس عن الخليفة الثامن الحافظ لدين الله: وكان الحافظ لدين الله رجلا حليما لين الجانب. قليل الأذى.. (14)
ويقول ابن كثير عن آخر الخلفاء الفاطميين العاضد: وكان العاضد كريما جوادا سامحه الله.. (15)
ويقول ابن إياس عنه: وبه انقرضت دولتهم. ولم يكن لها من المساوئ سوى أنهم كانوا رافضة يسبون الصحابة كل يوم جمعة على المنابر.. (16)
وكان لموت العاضد بمصر يوم عظيم إلى الغاية وعظم مصابه على المصريين إلى الغاية ووجدوا عليها وجدانا عظيما لا سيما الرافضة فإن نفوسهم كادت تزهق حزنا لانقضاء دولتهم من ديار مصر وأعمالها..
وكما أن المؤرخين أثنوا على الخلفاء الفاطميين. أثنوا أيضا على وزرائهم وقادة جيوشهم.
يقول ابن الأثير عن جوهر الصقلي فاتح مصر وباني القاهرة وكان يظهر الإحسان إلى الناس ويجلس بنفسه في كل يوم سبت للمظالم بحضرة الوزير والقاضي وجماعة من أكابر الفقهاء. ولم يبق بمصر شاعر إلا رثاه وذكر مآثره حين موته..
ويقول أيضا عن الأفضل بن أمير الجيوش كان حسن السيرة عادلا. وقد قتل في عام 515 هـ من قبل الإسماعيلية لتبنيه المذهب الشيعي الإمامي وتضييقه على الخليفة الآمر بأحكام الله وتوسعته على أهل السنة والنهي عن معارضتهم وإذنه للناس في إظهار معتقداتهم والمناظرة عليها.. (17)
ويقول ابن تغري بردي عن طلائع بن زريك وزير الفائز: وساس الأمور وتلقب بالملك الصالح وسار في الناس أحسن سيرة وفخم أمره وكان أديبا مائلا للإمامية.. (18)
ويقول المقريزي عنه: كان شجاعا كريما جوادا فاضلا محبا لأهل الأدب جيد الشعر رجل وقته فضلا وعلما وسياسة وعقلا وتدبيرا. كان مهابا في شكله عظيما في سطوته وكان محافظا على الصلوات فرائضها ونوافلها شديد المغالاة في التشيع..
ويقول ابن إياس عنه أيضا: وكانت له حرمة وافرة في القاهرة وهو الذي بنى الجامع المنسوب إليه المشهور بجامع الصالح الذي هو خارج باب زويلة.. (19)
ويبدو لنا من خلال تتبع مواقف المؤرخين تجاه الفاطميين أنها مواقف تشوبها الحيرة بسبب موقفهم المعادي للشيعة عقيدة الفاطميين. وتيقنهم من عده فساد الأحوال في زمانهم. فهم لا يريدون إخفاء عدائهم للشيعة ولا يسطيعون إخفاء منجزات الفاطميين.
المصادر :
1- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزية ج‍ 2
2- المرجع السابق ج‍ 1 وانظر أيضا النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة..
3- أنظر تفاصيل هذا الاتفاق في الخطط. ج‍ 3 ص 265..
4- أنظر الخطط ج‍ 3 ص 270 / 271..
5- الخطط ج‍ 3 ص 270 / 271
6- الخطط ج‍ 2 ص 21 وما بعدها.. فصل ذكر ما قيل في نسب الخلفاء الفاطميين بناة القاهرة..
7- عيد الغدير في عهد الفاطميين. الأستاذ محمد هادي الأميني. ط النجف عام 62..
8- الكامل في التاريخ ج‍ 7 ص 176. و ج‍ 8. ص 259و ص 260.و ص 315.. وج‍ 9 ص 91 وما بعدها.
9- صبح الأعشى. ج‍ 3 ص 524.
10- الكامل ج‍ 8 ص 74. وبدائع الزهور..
11- الكامل ج‍ 8 ص 176 / 177.
12- بدائع الزهور ج‍ 1. ق 1.
13- الكامل ج‍ 8 ص 10 / 11.
14- بدائع الزهور ج‍ 1 ق 1
15- البداية والنهاية ج‍ 12 ص 265.
16- بدائع الزهور ج‍ 1 ق 1 النجوم الزاهرة ج‍ 5 ص 357.
17- الكامل ج‍ 7 ص 155. ج‍ 8 ص 303
18- النجوم الزاهرة ج‍ 5 ص 311.
19- بدائع الزهور ج‍ 1 ق 1. و. ج‍ 3 / 85: 86 رقم الترجمة 455. كما يترجم على المستنصر أيضا. انظر ج‍ 4 / 318 رقم الترجمة 699.. كذلك أثنى على الصالح طلائع. انظر ج‍ 2 ص 208 رقم الترجمة 288..



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.